الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَ) وهو أب الجن ، وقال الضحاك : هو إبليس ، وقال أبو عبيدة : الجان واحد الجن (مِنْ مارِجٍ) لهب صاف وخالص لا دخان فيه.

قال ابن عباس : هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت. عكرمة : هو أحسنها. مجاهد : هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت ، وهو من قولهم : مرج القوم إذا اختلطوا ، ومرجت عهودهم وأماناتهم. (مِنْ نارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) مشرق الصيف والشتاء (وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) مغرب الصيف والشتاء.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مَرَجَ) أرسل (الْبَحْرَيْنِ) العذب والملح وخلّاهما وخلقهما (يَلْتَقِيانِ * بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز وحائل من قدرة الله وحكمته (لا يَبْغِيانِ) لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه ، وقال قتادة : (لا يَبْغِيانِ) على الناس بالغرق ، وقال الحسن : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) يعني بحر الروم وبحر الهند واسم الحاجز بينهما ، وعن قتادة أيضا : يعني بحر فارس والروم ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) وهو الجزائر ، وقال مجاهد والضحاك : يعني بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام.

(يَخْرُجُ) قرأ أهل المدينة وأبو عمرو ويعقوب بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون على الضدّ.

(مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ) أي من البحرين ، قال أهل المعاني : إنّما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب ، ولكن هذا جائز في كلام العرب ان يذكر شيئا ثم يخصّ أحدهما بفعل دون الآخر ، كقول الله سبحانه : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) والرسل من الإنس دون الجن ، قاله الكلبي. قال : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) وإنما هو في واحدة منهما ، وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر اللؤلؤ وهو أعظم من الدر ، واحدتها لؤلؤة. (وَالْمَرْجانُ) وهو صغارها ، وقال مرّة : المرجان جيّد اللؤلؤ ، وروى السدّي عن أبي مالك أن المرجان الخرز الأحمر ، وقال عطاء الخراساني هو البسذ (١) ، يدل عليه قول ابن مسعود : المرجان حجر ، والذي حكينا من أن المراد بالبحرين القطر والبحر ، وأن الكناية في قوله : (مِنْهُمَا) راجعة إليهما [وهو] قول الضحاك ، ورواية عطية عن ابن عباس وليث عن مجاهد.

وتصديقهم ما أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا علي بن محمد بن لؤلؤ قال : أخبرنا الهيثم بن خلف قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال : حدّثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قرأ (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) قال : إذا مطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها ، فحيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة.

__________________

(١) البسذ : جوهر أحمر وقيل : صغار اللؤلؤ.

١٨١

ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدف ، فأصابت بعض النواة ولم يصب بعضها فكانت حيث القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة.

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال : قرأ أبي على أبي محمد بن الحسن بن علويه القطان من كتابه وأنا اسمع ، قال : حدّثنا بعض أصحابنا قال : حدّثني رجل من أهل مصر يقال له : طسم قال : حدّثنا أبو حذيفة عن أبيه عن سفيان الثوري في قول الله سبحانه : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) قال : فاطمة وعلي (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) قال : الحسن والحسين (١).

وروي هذا القول أيضا عن سعيد بن جبير ، وقال : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أعلم (٢).

وقال أهل الإشارة (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أحدهما معرفة القلب والثاني معصية النفس ، بينهما برزخ الرحمة والعصمة.

(لا يَبْغِيانِ) لا تؤثر معصية النفس في معرفة القلب ، وقال ابن عطاء : بين العبد وبين الرب بحران : أحدهما بحر النجاة ، وهو القرآن من تعلق به نجا ، والثاني بحر الهلاك وهو الدنيا من تمسك بها وركن إليها هلك ، وقيل : بحر الدنيا والعقبى ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) وهو القبر قال الله سبحانه : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

(لا يَبْغِيانِ) لا يحل أحدهما بالآخر ، وقيل : بحر العقل والهوى (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) لطف الله تعالى. (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) التوفيق والعصمة ، وقيل : بحر الحياة وبحر الوفاة ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) وهو الأجل ، وقيل : بحر الحجة والشبهة ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) وهو النظر والاستدلال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الحق والصواب.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ الْجَوارِ) السفن الكبار (الْمُنْشَآتُ) كسر حمزة سينها ، وهي رواية المفضل عن عاصم تعني المقبلات المبتديات اللاتي أنشأن بجريهن وسيرهن ، وقرأ الآخرون بفتحه أي المخلوقات المرفوعات المسخّرات (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْها) أي على الأرض من حيوان كناية عن غير مذكور كقول الناس : (ما عليها أكرم من فلان) يعنون الأرض ، وما بين لابتيها أفضل منه يريدون جزئي المدينة (فانٍ) هالك ، قال ابن عباس : لمّا أنزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلك أهل الأرض فأنزل الله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فأيقنت الملائكة بالهلاك.

__________________

(١) تفسير الدر المنثور : ٦ / ١٤٣ مورد الآية.

(٢) المصدر السابق.

١٨٢

(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) قراءة العامة بالواو ، وقرأ عبد الله ذي الجلال بالياء نعت الربّ.

أخبرني الحسين احمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن منصور الكناني قال : حدّثنا الحرث بن عبد الله قال : أخبرنا عبد الرّحمن بن عثمان الوقاصي ، قال : حدّثنا محمد بن كعب القرظي قال : قال عبد الله بن سلام : بعث إلي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا بن سلام إنّ الله عزوجل يقول : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فأمّا الإكرام فقد عرفت فما الجلال؟

فقال : بأبي أنت إنّا نجد في الكتب أنّها الجنة المحيطة بالعرش.

قال : فكم بينهما وبين الجنات التي يسكن الله عباده؟ قال : مدى سبعمائة سنة ، قال : فنزل جبرئيل بتصديقه (١).

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا بن ماهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد بن سلمة قال : حدّثنا سعيد الجزيري عمّن سمع اللجلاج يقول : سمعت معاذ بن جبل ـ وكان له أخا وصديقا ـ قال : سمعته يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ برجل يصلّي وهو يقول : يا ذا الجلال والإكرام. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد استجيب لك» [١٦٦] (٢).

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي الخصيب المصيصي قال : حدّثنا هلال بن العلاء قال : حدّثنا أبو الجرار قال : حدّثنا عمار بن زريق عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألظوا بـ (يا ذا الجلال والإكرام)» [١٦٧] (٣).

واخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن صقلاب قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب. قال : حدّثنا محمد بن يونس عن بسر بن عمر قال : حدّثنا وهيب بن خالد عن ابن عجلان عن سعيد المنقري قال : الحح رجل فقعد ينادي : يا ذا الجلال والإكرام. فنودي : إني قد سمعت فما حاجتك؟

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من ملك وإنس وجنّ وغيرهم لا غنى لأحد منهم منه ـ قال ابن عباس : وأهل السموات يسألونه المغفرة ، ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة.

__________________

(١) لا يخفى على القاري اللبيب ما في هذا الحديث من الدس والتوهين والمكيدة على الإسلام ونبيّه ؛ إذ كيف يعقل أن نبي الإسلام يستفهم أمرا قد أشكل عليه من رجل يهودي وهو عبد الله بن سلام دون أن يستعين بجبريل عليه‌السلام ، والله يقول في محكم بيانه (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ).

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٢٣٦.

(٣) مسند أحمد : ٤ / ١٧٧.

١٨٣

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال مقاتل : أنزلت في اليهود حين قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا ، فأنزل الله سبحانه : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).

أخبرني أبو القاسم عبد الرّحمن بن محمد إبراهيم الحوضي قال : أخبرنا أبو أحمد عبد الله ابن عدي الحافظ قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن طويط أبو القاسم البزاز قال : حدّثنا إبراهيم ابن محمد بن يوسف الفريابي قال : حدّثنا عمر بن بكر قال : حدّثنا حارث بن عبيدة بن رياح الغسّاني عن أبيه عن عبدة بن أبي رياح عن مثبت بن عبد الله الأزدي عن أبيه عن عبد الله بن منيب قال : تلا علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فقلنا : يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال : «يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين» [١٦٨] (١).

وحدّثنا أبو بكر محمد بن احمد بن عبدوس إملاء قال : أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد ابن يحيى البزاز ، قال : حدّثنا يحيى بن الربيع المكي قال : حدّثنا سفيان بن عيينة قال : حدّثنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن ممّا خلق الله سبحانه وتعالى لوحا من درّة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله سبحانه فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ، فذلك قوله سبحانه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).

وقال مجاهد وعبيدة بن عمير : من شأنه أن يجيب داعيا ويعطي سائلا ويفكّ غائبا ويشفي سقيما ويغفر ذنبا ويتوب على قوم ، وقال سفيان بن عيينة : الدهر كله عند الله سبحانه يومان : أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة ، والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا ، الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب ، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت.

ويقال : شأنه سبحانه أنّه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر : عسكرا من أصلاب الآباء إلى الأرحام ، وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا ، وعسكرا من الدنيا إلى القبور ، ثم يرحلون جميعا إلى الله سبحانه ، وقال الربيع بن أنس : يخلق خلقا ويميت آخرين ويرزقهم ويكلؤهم. سويد بن جبلة الفراري : يعتق رقابا ويقحم عقابا ويعطي رغابا ، وقال بعضهم : هو الجمع والتفريق. أبو سليمان الداراني : هو إيصاله المنافع إليك ، ودفعه المضار عنك. فلم نغفل عن طاعة من لا يغفل عنا؟ وقال أيضا : في هذه الآية كل يوم له إلى العبيد برّ جديد.

ويحكى أن بعض الأمراء سأل وزيره عن معنى هذه الآية فلم يعرفه واستمهله إلى الغد ، فرجع الوزير إلى داره كئيبا ، فقال له غلام أسود من غلمانه : يا مولاي ما أصابك؟ فزجره.

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٧ / ١١٧.

١٨٤

فقال : يا مولاي ، أخبرني ، فلعلّ الله سبحانه يسهّل لك الفرج على يديّ ، فأخبره بذلك فقال له : عد إلى الأمير وقل له : إن لي غلاما أسود إن أذنت له فسّر لك هذه الآية ، ففعل ذلك ودعا الأمير الغلام وسأله عن ذلك فقال : أيها الأمير شأن الله هو انه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) ، و (يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) و (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعز ذليلا ، ويذل عزيزا ، ويفقر غنيا ويغني فقيرا. فقال الأمير : أحسنت يا غلام ، قد فرّجت عني. ثم أمر الوزير بخلع ثياب الوزارة وكساها الغلام ، فقال : يا مولاي ، هذا شأن الله عزوجل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨))

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ) قرأ عبد الله وأبي (سنفرغ إليكم) ، وقرأ الأعمش بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية ، وقرأ الأعرج بفتح النون والراء. قال الكسائي : هي لغة تميم ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الياء وفتح الراء ، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقوله : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فاتبع الخبر الخبر ، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الراء ، واختاره أبو حاتم.

فإن قيل : إن الفراغ لا يكون إلّا عن شغل والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن. قلنا : اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم : هذا وعيد وتهديد من الله سبحانه وتعالى لهم كقول القائل : لأتفرغنّ لك وما به شغل ، وهذا قول ابن عباس والضحاك ، وقال آخرون : معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم ، وقد يقول القائل للذي لا شغل له : قد فرغت لي وفرغت لشتمي ، أي أخذت فيه وأقبلت عليه. قال جرير بن الخطفي :

ولما التقى القين العراقي بأسته

فرغت إلى القين المقيّد بالحجل (١)

أي قصدته بما يسوؤه ، وهذا القول اختيار الفندي والكسائي.

وقال بعضهم : إن الله سبحانه وعد على التقوى وأوعد على الفجور ، ثم قال : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) مما أوعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم ، وننجز لكم ما وعدناكم ، ونوصل كلا إلى ما عدناه ، فيتمّ ذلك ويفرغ منه ، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل وابن زيد ، وقال ابن كيسان : الفراغ

__________________

(١) تاج العروس : ٦ / ٢٥ ونسبه لجرير يهجو الفرزدق.

١٨٥

للفعل هو التوفر عليه دون غيره. (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي الجن والإنس ، دليله قوله في عقبه (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) سمّيا ثقلين ؛ لأنهما ثقل أحياء وأمواتا ، قال الله سبحانه : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ينافس فيه فهو ثقل ، ومنه قيل لبيض النعام : ثقل ؛ لأن واجده وصائده يفرح إذا ظفر به قال الشاعر :

فتذكّرا ثقلا رثيدا بعد ما

ألقت ذكاء يمينها في كافر (١)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» [١٦٩] (٢) فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما ، وقال جعفر الصادق : سمي الجن والانس ثقلين ؛ لأنهما مثقلان بالذنوب.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) ولم يقل : استطعتما ؛ لأنهما فريقان في حال جمع كقوله سبحانه : (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) وقوله سبحانه : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ).

(أَنْ تَنْفُذُوا) تجوزوا (مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أطرافها (فَانْفُذُوا) ومعنى الآية إن استطعتم ان تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا ، وانما يقال لهم هذا يوم القيامة ، وقال الضحاك : يعني هاربين من الموت ، فأخبر أنه لا يجيرهم من الموت ولا محيص لهم منه ، ولو نفذوا من أقطار السماوات والأرض كانوا في سلطان الله عزوجل وملكه ، وقال ابن عباس : يعني : إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ، ولن تعلموه إلّا بسلطان يعني البيّنة من الله سبحانه. (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي حجة.

قال ابن عباس وعطاء : لا تخرجون من سلطان ، وقيل معناه إلّا إلى سلطاني كقوله (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أي أحسن أليّ ، وقال الشاعر :

أسىء بنا أفأحسني لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت

وفي الخبر «يحاط على الخلق الملائكة وبلسان من نار ثم ينادون : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) ... فذلك قوله تعالى ...» [١٧٠].

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق بكسر الشين ، غيرهما بضمّه ، وهما لغتان مثل صوار من البقر ، وصوار وهو اللهب ، قال حسان بن ثابت يهجو أمية بن أبي الصلت :

هجوتك فاختضعت لها بذلّ

بقافية تأجج كالشواظ (٣)

__________________

(١) الصحاح : ٢ / ٤٧٢.

(٢) مسند احمد : ٣ / ١٨.

(٣) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٧١.

١٨٦

وقال رؤبة :

إن لهم من وقعنا أقياظا

ونار حرب تسعر الشواظا (١)

وقال الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب (وَنُحاسٌ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر السين عطفا على النار ، واختاره أبو حاتم ، وقرأ الباقون بالرفع عطفا على الشواظ ، واختاره أبو عبيد.

قال سعيد بن جبير : النحاس : الدخان ، وهي رواية أبي صالح وابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال النابغة :

يضيء كضوء سراج السليط

لم يجعل الله فيه نحاسا (٢)

قال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول : السليط : دهن السنام ولا دخان له ، وقال مجاهد وقتادة : هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. قال مقاتل : هي خمسة أنهار من صفر ذائب تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار ، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار ، وقال عبد الله بن مسعود : النحاس : المهل. ربيع : القطر.

الضحّاك : درديّ الزيت. الكسائي : هو الذي له ريح شديدة (فَلا تَنْتَصِرانِ) فلا تنتقمان وتمتنعان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * فَإِذَا انْشَقَّتِ) انفرجت (السَّماءُ) فصارت أبوابا لنزول الملائكة ، بيانه قوله سبحانه : (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (فَكانَتْ) صارت (وَرْدَةً) مشرقة ، وقيل : متغيّرة ، وقيل : بلون الورد.

قال قتادة : إنها اليوم خضراء وسيكون لها يومئذ لون آخر (كَالدِّهانِ) اختلفوا فيه. قال ابن عباس والضحاك وقتادة والربيع : يعني كلون غرس الورد ، يكون في الربيع كميتا أصفر ، فإذا ضربه أول الشتاء يكون كميتا أحمر ، فإذا اشتدّ الشتاء يكون كميتا أغبر ، فشبه السماء في تلوّنها عند انشقاقها بهذا الغرس في تلوّنه ، وقال مجاهد وأبو العالية : كالدّهن ، وهي رواية شيبان عن قتادة ، قال : الدهان جمع الدهن ، وللدهن ألوان ، شبّه السماء بألوانه. [وقال :] عطاء بن أبي رياح : كعصير الزيت يتلوّن في الساعة ألوانا.

[وقال :] الحسين بن الفضل : كصبيب الدهن يتلوّن. [وقال :] ابن جريج : تذوب السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم ، [وقال :] مقاتل : كدهن الورد الصافي. [وقال] مؤرخ : كالوردة الحمراء ، [وقال :] الكلبي : كالأديم الأحمر ، وجمعه أدهنة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٤٤٦.

(٢) تاج العروس : ٤ / ٢٥٤.

١٨٧

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة ، قال : حدّثنا ابن أيوب قال : حدّثنا لقمان الحنفي قال أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شاب في جوف الليل وهو يقرأ هذه الآية : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول : ويحي من يوم تنشق فيه السماء ، ويحي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا فتى مثلها أو مثّلها ، فو الذي نفسي بيده لقد بكت الملائكة يا فتى من بكائك» [١٧١] (١).

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩)

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) قال الحسين وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم ، لأن الله سبحانه علمها منهم وحفظها [عليهم] (٢) ، وكتبت الملائكة عليهم ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، وعنه أيضا لا يسأل الملائكة [المجرمين] (٣) ؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم ، دليله ما بعده ، وإلى هذا القول ذهب مجاهد ، وعن ابن عباس أيضا في قوله سبحانه : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) وقوله (٤) : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا؟ ، وقال عكرمة أيضا : مواطن يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها ، وعن ابن عباس أيضا : لا يسألون سؤال شفاء وراحة ، وانما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ ، وقال أبو العالية : لا يسأل غير المذنب عن ذنب المجرم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) وهو سواد الوجه وزرقة العيون (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) فيسحبون إلى النار ويقذفون فيها ثم يقال لهم : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) المشركون. (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قد انتهى خبره ، وقال قتادة : آني طبخه منذ خلق الله السموات الأرض ، ومعنى الآية أنهم يسعون بين الجحيم وبين الحميم.

قال كعب الأحبار : «آن» [وادي] (٥) من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم وهم في الأغلال فيغمسون في ذلك الوادي حتى تخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منها وقد أحدث

__________________

(١) الدر المنثور : ٦ / ١٤٥ بتفاوت يسير

(٢) في المخطوط : عليها.

(٣) في المخطوط : المجرمون.

(٤) في المخطوط : وقال.

(٥) في المخطوط : واديا.

١٨٨

الله سبحانه لهم خلقا جديدا ، فيلقون في النار فذلك قوله سبحانه : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي مقامه بين يدي ربّه ، وقيل : قيامه لربه ، بيانه قوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، وقيل : قيام ربّه عليه ، بيانه قوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) قال إبراهيم ومجاهد : هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافة الله. قال ذو النون : علامة خوف الله أن يؤمنك خوفه من كل خوف ، وقال السدّي : شيئان مفقودان الخوف المزعج والشوق المقلق.

(جَنَّتانِ) بستانان من الياقوت الأحمر ، والزبرجد الأخضر ، ترابهما الكافور والعنبر وحمأتهما المسك الأذفر ، كل بستان منهما مسيرة مائة سنة ، في وسط كلّ بستان دار من نور.

قال محمد بن علي الترمذي : جنة بخوفه ربّه ، وجنّة بتركه شهوته. قال مقاتل : هما جنّة عدن وجنّة النعيم ، وقال أبو موسى الأشعري : (جَنَّتانِ) من ذهب للسابقين ، و (جَنَّتانِ) من فضة للتابعين.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : «هل تدرون ما هاتان الجنتان؟ ، هما بستانان في بساتين ، قرارهما ثابت ، وفرعهما ثابت ، وشجرهما ثابت» [١٧٢].

وأخبرني عقيل إجازة قال : أخبرنا المعافى قراءة قال : أخبرنا محمد بن جرير الطبري قال : حدّثني محمد بن موسى الجرشي قال : حدّثنا عبد الله بن الحرث القرشي قال : حدّثنا شعبة بن الحجاج قال : حدّثنا سعيد الحريري عن محمد بن سعد عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق؟ ، قال : «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء» [١٧٣] (١).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * ذَواتا أَفْنانٍ) قال ابن عباس : ألوان ، وواحدها فن وهو من قولهم : افتنّ فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب ، قال الضحاك : ألوان الفواكه.

مجاهد : أغصان وواحدها فنن. عكرمة : ظل الأغصان على الحيطان. الحسن : ذواتا ظلال ، وهو كقوله : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ). [قال] الضحاك أيضا : ذواتا أغصان وفصول. قال : وغصونها كالمعروشات تمسّ بعضها بعضا ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. [قال] قتادة : ذواتا فضل وسعة على ما سواهما. [قال] ابن كيسان : ذواتا أصول.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) قال ابن عباس : بالكرامة والزيادة على أهل الجنة ، وقال الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل.

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٧ / ١١٨ بتفاوت.

١٨٩

عطية : إحداهما (مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) والأخرى (مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) ، وقيل : إنهما تجريان من جبل من مسك ، وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) لمن كانت له في الدنيا عينان تجريان بالبكاء.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) صنفان.

قال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة أو مرّة إلّا وهي في الجنة حتى الحنظل إلّا أنه حلو.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * مُتَّكِئِينَ) حال (عَلى فُرُشٍ) جمع فراش (بَطائِنُها) جمع بطانة (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وهو ما غلظ من الديباج وحسن ، وقيل : هو إستبر معرب.

قال ابن مسعود وأبو هريرة : هذه البطائن فما ظنّكم بالظهائر؟ ، وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال : هذا مما قال الله سبحانه : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).

وعنه أيضا قال : (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وظواهرها من نور جامد ، وقال الفرّاء : أراد بالبطائن الظواهر.

قال المؤرخ : هو بلغة القبط ، وقد تكون البطانة ظهارة والظهارة بطانة ؛ لأن كل واحد منهما يكون وجها ، تقول العرب : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء للذي يراه ، وقال عبد الله ابن الزبير في قتلة عثمان : قتلهم الله شرّ قتلة ، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب ، يعني هربوا ليلا ، فجعل ظهور الكواكب بطونا.

قال القتيبي : هذا من عجيب التفسير ، وكيف تكون البطانة ظهارة ، والظهارة بطانة؟ والبطانة من بطن من الثوب ، وكان من شأن الناس إخفاؤه ، والظهارة ما ظهر منه ، ومن شأن الناس إبداؤه ، وهل يجوز لأحد ان يقول لوجه المصلي : هذا بطانته ، ولما ولي الأرض : هذا ظهارته ، لا والله لا يجوز هذا ، وانما أراد الله سبحانه وتعالى ان يعرّفنا لطفه من حيث يعلم فضل هذه الفرش ، وأن ما ولي الأرض منها إستبرق ، وإذا كانت البطانة كذلك فالظهارة أعلى وأشرف ، وكذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلّة» [١٧٤] (١). فذكر المناديل دون غيرها ؛ لأنها أحسن ويصدّق قول القتيبي ما حكيناه عن ابن مسعود وأبي هريرة ، والله أعلم.

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) ثمرهما (دانٍ) قريب يناله القائم والقاعد والنائم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما

__________________

(١) كنز العمال : ١١ / ٦٨٦.

١٩٠

تُكَذِّبانِ * فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) غاضات الأعين ، قد قصر طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن الى غيرهم ولا يردن غيرهم ، قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزّة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ، فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك. (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) لم يجامعهنّ ولم يفترعهنّ ، وأصله من الدم ، ومنه قيل للحائض : طامث ، كأنه قال لم يدمهن بالجماع. (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ). قال مجاهد : إذا جامع الرجل ولم يسمّ انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه فذلك قوله سبحانه : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) أي لم يجامعهن ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا امرأة ماتت بجمع لم تطمث دخلت الجنة» (١) [١٧٥] وقال الشاعر :

دفعن اليّ لم يطمثن قبلي

وهن أصح من بيض النعام (٢)

قال سهل : من أمسك طرفه في الدنيا عن اللذات عوّض في الآخرة القاصرات ، وقال ارطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب : هل للجن من ثواب؟ قال : نعم ، وقرأ هذه الآية ، قال : فالإنسيّات للإنس والجنيّات للجنّ.

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) قال قتادة : صفاء الياقوت في بياض المرجان.

أخبرنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال : حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال : حدّثنا سهل بن عثمان العسكري قال : حدّثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المرأة من أهل الجنّة ليرى بياض ساقها من سبعين حلّة حتى يرى مخّها ، إن الله سبحانه وتعالى يقول : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه» [١٧٦] (٣).

وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلّة فيرى مخّ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء (٤).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ، (هل) في كلام العرب على أربعة أوجه :

الأول : بمعنى (قد) كقوله : (هَلْ أَتى) (٥) و (هَلْ أَتاكَ) (٦).

__________________

(١) غريب الحديث : ١ / ١٢٥.

(٢) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٣٤٥ ، تفسير القرطبي : ١٧ / ١٨١ وفيه : وقعن بدل دفعن ، لسان العرب : ٢ / ١٦٦ وفيه : فهنّ بدل وهنّ.

(٣) سنن الترمذي : ٤ / ٨٣ ج ٢٦٥٤.

(٤) المصدر السابق : ح ٢٦٥٧.

(٥) سورة الدهر : ١.

(٦) سورة الغاشية : ١.

١٩١

والثاني : بمعنى الاستفهام ، كقوله سبحانه : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) (١).

والثالث : بمعنى الأمر ، كقوله سبحانه : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٢).

والرابع : بمعنى (ما) الجحد ، كقوله سبحانه : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٣) ، و (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة وابن حمدان والفضل بن الفضل والحسن بن علي ابن الفضل قالوا : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام قال : حدّثنا الحجاج بن يوسف المكتب قال : حدّثنا بشر بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) قال : «هل تدرون ما قال ربكم عزوجل؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلّا الجنّة» [١٧٧] (٤).

وحدّثنا أبو العباس بن سهل بن محمد بن سعيد المروزي لفظا بها قال : حدّثنا جدي أبو الحسن محمد بن محمود بن عبيد الله ، قال : أخبرنا عبد الله بن محمود ، قال : حدّثنا محمّد بن مبشر ، قال : حدثنا إسحاق بن زياد الأبلي قال : حدّثنا بشر بن عبد الله الدارمي ، عن بشر بن عبادة عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران قال : سمعت ابن عمر وابن عباس يقولان : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) يقول الله سبحانه : هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلّا أن أسكنه جنّتي وحظيرة قدسي برحمتي» [١٧٨] (٥).

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عبد الملك بن محمد بن عدي قال : حدّثنا صالح بن شعيب الخواص ببيت المقدس قال : حدّثنا عبيدة بن بكار قال : حدّثنا محمد بن جابر اليمامي عن ابن المكندر (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) قال : هل جزاء من أنعمت عليه بالإسلام إلّا الجنّة ، وقال ابن عباس : هل جزاء من عمل في الدنيا حسنا ، وقال : لا إله إلّا الله ، إلّا الجنّة في الآخرة ، هل جزاء الذين أطاعوني في الدنيا إلّا الكرامة في الآخرة ، وقال الصادق : «هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلّا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد» ، وقال محمد ابن الحنفية والحسن : هي مسجلة للبر والفاجر [للفاجر] (٦) في دنياه وللبرّ في آخرته.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * وَمِنْ دُونِهِما) يعني : ومن دون الجنتين الأولتين (جَنَّتانِ)

__________________

(١) سورة الأعراف : ٤٤.

(٢) سورة المائدة : ٩١.

(٣) سورة النحل : ٣٥.

(٤) زاد المسير : ٧ / ٢٦٩ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٩٩.

(٥) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٨٣.

(٦) غير موجودة في المخطوط.

١٩٢

أخريان ، واختلف العلماء في معنى قوله (وَمِنْ دُونِهِما) ، فقال ابن عباس : (وَمِنْ دُونِهِما) في الدرج ، وقال ابن زيد : (وَمِنْ دُونِهِما) في الفضل ، قال ابن زيد : هي أربع : جنتان للمقرّبين السابقين (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) ، وجنّتان لأصحاب اليمين والتابعين ، (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ، وقال أبو معاذ الفضل بن يحيى : أراد غيرهما ؛ لأنهما دون الأوليين ، وقال الكسائي :يعني أمامهما وقبلهما ، كقول الشاعر :

رب خرق من دونها يخرس السفر

وميل يفضي إلى أميال (١)

أي قبل الفلاة الأولى ، ودليل هذا التأويل قول الضحاك : الجنتان الأوليان من ذهب وفضة ، والأخريان من ياقوت وزمرد ، وهما أفضل من الأوليين.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * مُدْهامَّتانِ) ناعمتان سوداوان من ريّهما وشدّة خضرتهما ؛ لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد ، قال ذو الرمّة :

كسا الأكم بهمي غضة حبشية

تواما ونقعان الظهور الأقارع (٢)

فجعلها حبشية لما اشتدّت خضرتها ، وقيل ملتقيان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) ممتلئتان قبّاضتان فوّارتان بالماء لا ينقطعان ، وقال الحسن بن أبي مسلمد ينبعان ثم يجريان ، وقال ابن عباس : تنضحان بالخير والبركة على أهل الجنة ، [وقال] ابن مسعود : تنضخان على أولياء الله بالمسك والكافور. سعيد ابن جبير : (نَضَّاخَتانِ) بالماء وألوان الفواكه. أنس بن مالك : تنضخ المسك والعنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ طش المطر ، وأصل النضخ الرش ، وهو أكثر من النضخ.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ

__________________

(١) غريب الحديث : ١ / ٣٤٠.

(٢) لسان العرب : ٨ / ٢٦٩ لفظة : قرع.

١٩٣

فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) كأنما أعاد ذكر النخل والرمان وهما من حملة الفاكهة للتخصيص والتفضيل ، كقوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ثم قال : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) وقوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة ، قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا سحاب بن الحرث قال : أخبرنا علي بن مسير عن مسيعر عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة قال : إن نخل الجنّة نضدها ما بين أصله إلى فرعه ، وثمره كأمثال القلال ، كلّما نزعت عادت مكانها أخرى ، العنقود منها اثنا عشر ذراعا ، وأنهارها تجري في غير أخدود.

قال : قلت : من حدّثك؟ قال : أما إنّي لم اخترعه ، حدّثني مسروق.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن ماهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كجلد البعير المقتب ، وإذا طيرها كالبخت ، وإذا فيها جارية ، قلت : يا جارية ، لمن أنت؟

قالت : لزيد بن حارثة ، وإذا في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» [١٧٩] (١).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قال الكسائي : ذكر الله سبحانه وتعالى الجنتين والجنتين ثم جمعهن فقال : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) قرأ العامة بالتخفيف ، وقرأ أبو رجاء العطاردي (خيّرات) بتشديد الياء.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خنيس قال : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثنا الصاغاني قال : حدّثنا عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أنه قرأ (فيهن خيّرات) بالتشديد ، وهما لغتان مثل (هين وهيّن ، ولين وليّن).

وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا أحمد بن عبد الرّحمن

__________________

(١) كنز العمال : ١٤ / ٤٦٠ ج ٣٩٢٦٦

١٩٤

ابن وهب قال : حدّثنا محمد بن الفرج الصدفي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام ابن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قال : قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرني عن قوله سبحانه : (خَيْراتٌ حِسانٌ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» [١٨٠] (١).

وقال الحسن : خيرات فاضلات. إسماعيل بن أبي خالد : عذارى. جرير بن عبد الله : مختارات.

وقال المفسّرون : خيرات لسن بذربات ولا ذفرات ولا نجرات ولا متطلّعات ولا متشوّقات ولا متسلطات ولا طمّاحات ولا طوّافات في الطرق ، ولا يغرن ولا يؤذين.

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا حامد بن شعيب البخلي قال : حدّثنا سريح بن يونس قال : حدّثنا مسلم بن قتيبة عن سلام بن مسكر عن قتادة عن عقبة بن عبد الغفّار قال : نساء أهل الجنة يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها : نحن الراضيات فلا نسخط ، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ، ونحن (خَيْراتٌ حِسانٌ) حبينا لأزواج كرام.

وروى الأسود عن عائشة رضي‌الله‌عنها : أن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا : نحن المصلّيات وما صلّيتن ، ونحن الصائمات وما صمتنّ ، ونحن المتوضّئات وما توضأتنّ ، ونحن المتصدّقات وما تصدقتنّ.

قالت عائشة : فغلبتهنّ والله.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) محبوسات مستورات في الحجال. يقال للمرأة : قصيرة وقصورة ومقصورة إذا كانت مخدّرة مستورة لا تخرج.

قال الشاعر :

وأنت التي حببت كل قصيرة

إليّ وما تدري بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد

قصار الخطى شر النساء البحاتر (٢)

[الراجز] وقيل : قصر بهنّ على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا.

أخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن شاذان ، حدّثنا القطان (٣) ، حدّثنا ابن حسان حدّثني نصر

__________________

(١) المعجم الكبير : ٢٣ / ٣٦٨.

(٢) الصحاح : ٢ / ٧٩٥ ، ولسان العرب : ٤ / ٨٥.

(٣) من هنا إلى بداية سورة الحديد مستدركة من نسخة دمشق لذا سوف تجد عزيزي القارئ بعض الإختلاف في الأسانيد.

١٩٥

العطار ، أخبرنا عمر بن سعد عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن حوراء بزقت في بحر [لجي] لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها» [١٨١] (١).

(فِي الْخِيامِ) جمع الخيم ، قال ابن مسعود : لكل زوجة خيمة طولها ستون ميلا ، وتصديق هذا التفسير ، ما

أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا ابن شنبه ، حدّثنا الفراتي ، حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا يزيد بن هارون ، حدّثنا همام بن يحيى عن أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري ، عبد أبيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون» [١٨٢] (٢).

وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن يحيى بن طلحة اليربوعي ، حدّثنا فضل بن [عياض] (٣) ، عن هشام عن محمد عن ابن عباس في قوله : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) قال : الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب (٤).

أخبرني الحسين ، حدّثنا عبد الله بن [....] (٥) حدّثنا [....] (٦) أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني ، محمد بن موسى القرشي ، حدّثنا حماد بن هلال السكري ، حدّثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مررت ليلة أسري بي بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه : السلام عليك يا رسول الله.

فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء جوار من الحور العين استأذنّ ربهنّ في أن يسلّمن عليك فأذن لهن ، فقلن : نحن الخالدات فلا نموت ، ونحن الناعمات فلا نيأس (٧) [أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا] أزواج رجال كرام ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ).

قال : «محبوسات» [١٨٣] (٨).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. لَمْ يَطْمِثْهُنَ) يمسسهن (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) قرأه العامة بكسر الميم وهي إختيار أبي عبيد وأبي حاتم.

__________________

(١) الدر المنثور : ٦ / ٣٣.

(٢) مسند أحمد : ٤ / ٤٠٠.

(٣) في المصدر : عياش.

(٤) تفسير الطبري : ٢٧ / ٢٠٨.

(٥) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

(٦) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

(٧) في بعض الروايات : لا ينبس.

(٨) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٧٩.

١٩٦

وقرأ أبو يحيى الشامي وطلحة بن مصرف : بالضم فيهما ، وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى مخيّرا في ذلك ، والعلة فيه ما أخبرني أبو محمد شيبة بن محمد المقري ، أخبرني أبو عمرو محمد بن محمد بن عبدوس حدّثني ابن شنبوذ أخبرني عياش بن محمد الجوهري ، حدّثنا أبو عمر الدوري عن الكسائي قال : إذا رفع الأول كسر الآخر ، وإذا رفع الآخر كسر الأول. قال : وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي. قال : قال أبو إسحاق : كنت أصلي خلف أصحاب علي بن أبي طالب فأسمعهم يقرءون (يَطْمِثْهُنَّ) بكسر الميم ، وكان الكسائي يقرأ واحدة برفع الميم والأخرى بكسر الميم ؛ لئلا يخرج من هذين الأثرين ، وهما لغتان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) قال سعيد بن جبير : هي رياض الجنة خضر مخضّبة. وروي ذلك عن ابن عباس. واحدتها رفرفة والرفارف جمع الجمع.

وروى العوفي عن ابن عباس قال : الرفرف : فضول المجالس البسط. عيره عنه : فضول الفرش والمجالس. قتادة والضحّاك : محابس خضر فوق الفرش.

الحسن والقرظي : البسط. ابن عيينة : الزرابي. ابن كيسان : المرافق وهي رواية.

قتادة عن الحسن وأبو عبيدة : حاشية الثوب وغبره : واكل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف.

قال ابن مقبل :

وإنا لنزّالون نغشى نعالنا

سواقط من أصناف ريط ورفرف

(وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) وهي الزرابي والطنافس الثخان وهي جمع ، واحدتها عبقرية. وقد ذكر عن العرب أنها تسمى كل شيء من البسط عبقريا (١).

قال قتادة : العبقري عتاق الزرابي ، وقال مجاهد : هو الديباج.

أبو العالية : الطنافس المخمّلة إلى الرقة [ما هي] (٢).

الحسن : الدرانيك يعني [الثخان] (٣) ، القتيبيّ : كل ثوب موشى عند العرب عبقري.

قال أبو عبيد : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي.

قال ذو الرمّة :

__________________

(١) راجع لسان العرب : ٤ / ٥٣٥.

(٢) كذا في المخطوط ، وفي لسان العرب : ١ / ٤٤٧ الطنافس لها خمل رقيق.

(٣) عن تفسير الطبري : ٢٧ / ٢١٣ ، وفي المخطوط (الثخاخ)

١٩٧

حتى كأن رياض القف ألبسها

من وشي عبقر تجليل وتنجيد (١)

قال : ويقال : إن عبقر أرض يسكنها الجن.

قال الشاعر [زهير] :

بخيل عليها جنة عبقرية

جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا (٢)

وقال قطرب : ليس هذا بمنسوب. وكل جليل فاضل فاخر من الرجال [وغيرهم] عند العرب عبقري ، ومنه الحديث في عمر : فلم أر عبقريا يفري فرّيه.

حدّثنا أبو محمد الحسن بن علي بن المؤمل بقراءتي عليه ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدّثنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصغاني (٣) ، حدّثنا الحسين بن محمد ، ح.

وأخبرني الحسين ، حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي ، حدّثنا محمد بن إبراهيم بن ناصح ، حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب ، حدّثنا أبو أحمد الحسين بن محمد الزوزني الأرطباني وهو ابن عم عبد الله بن عون عن عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (متكئين على رفرف خضر وعباقري حسان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام) بالواو ، شامي وكذلك هو في مصاحفهم.

الباقون : (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

__________________

(١) الصحاح : ٢ / ٥٤٢.

(٢) لسان العرب : ٤ / ٥٣٥.

(٣) هكذا في المخطوط ، وبعض كتب التراجم ومنهم من دونه : الصاغاني ، راجع تهذيب التهذيب : ٩ / ٣٥.

١٩٨

سورة الواقعة

مكية ، وهي ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف وثلاثمائة

وثمان وسبعون كلمة وست وتسعون آية

أخبرنا أبو الحسين الخبازي عن مرة ، عن الشيخ الحافظ ابن أبي عاصم ، حدّثنا عمرو بن عثمان ، حدّثنا أبو بكر العطار ، حدّثنا السدي بن يحيى عن شجاع عن أبي طيبة الجرجاني قال : دخل عثمان بن عفان على عبد الله بن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال : ما تشتكي؟ قال : أشتكي ذنوبي. قال : فما تشتهي؟ قال : أشتهي رحمة ربي. قال : أفلا ندعو الطبيب؟

قال : الطبيب أمرضني. قال : أفلا نأمر بعطائك؟ قال : لا حاجة لي به. قال : أندفعه إلى بناتك؟ قال : لا حاجة لهنّ بها ؛ قد أمرتهنّ أن يقرأن سورة الواقعة ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» [١٨٤] (١).

وأخبرني محمد بن القاسم ، حدّثنا عبد الله بن أحمد الشعراني ، حدّثنا أحمد بن علي بن رزين ، حدّثنا أحمد بن عبد الله العتكي ، حدّثنا جرير عن منصور عن هلال بن سياف عن مسروق قال : من أراد أن يتعلم نبأ الأولين والآخرين ، ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار ، ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة فليقرأ سورة الواقعة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي إذا نزلت صبيحة القيامة وتلك النفخة الأخيرة (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) تكذيب ذكره سيبويه ، وهو اسم كالعافية والنازلة والعاقبة ، عن الفراء. قال الكسائي : هي

__________________

(١) بغية الباحث : ٢٢٦ ، والجامع الصغير : ٢ / ٦٣٤.

١٩٩

بمعنى الكذب كقوله (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي لغوا ، ومنه قول العامة : عائذ بالله أي معاذ الله ، وقم قائما أي قياما.

ولبعض نساء العرب ترقص ابنها :

قم قائما قم قائما

أصبت عبدا نائما

(خافِضَةٌ) أي هي خافضة (رافِعَةٌ) تخفض قوما إلى النار وترفع آخرين إلى الجنة.

وقال عكرمة والسدي ومقاتل : خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني أنها أسمعت القريب والبعيد ، ورفعت قوما كانوا مذللين فرفعتهم إلى أعلى عليين ووضعت قوما كانوا في الدنيا مرتفعين فوضعتهم إلى أسفل سافلين.

ابن عطاء : خفضت قوما بالعدل ورفعت قوما بالفضل.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي رجفت وزلزلت وحركت تحريكا من قولهم : السهم يرتجّ في الغرض ، بمعنى يهتز ويضطرب.

قال الكلبي : وذلك أن الله عزوجل إذا أوحى إليها اضطربت فرقا.

وقال المفسرون : ترجّ كما يرجّ الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها ، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها.

وأصل الرجّ في اللغة التحريك يقال : رججته فارتجّ [فارتضى عنقه] ورجرجته فترجرج.

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي حثّت حثّا وفتت فتا فصارت كالدقيق المبسوس ، وهو المبلول والبسبسة عند العرب الدقيق أو السويق يلتّ ويتخذ زادا.

وذكر عن لصّ من غطفان أنه أراد أن يخبز فخاف أن يعجّل عن الخبز فقال لا تخبزا خبزا وبسّا بسّا ولا تطيلا بمناخ حبسا.

وقال عطاء : أذهبت إذهابا قال سعيد بن المسيب والسدي : كسرت كسرا.

الكلبي : سيّرت عن وجه الأرض تسييرا. مجاهد : لتّت لتّا.

الحسن : قلعت من أصلها فذهبت بعد ما كانت صخرا صماء : نظيرها (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (١).

عطية : بسطت بسطا كالرمل والتراب.

ابن كيسان : جعلت كثيبا مهيلا بعد أن كانت شامخة طويلة.

__________________

(١) سورة طه : ١٠٥.

٢٠٠