الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

منهم إلّا لمعصيتي ، وهذا معنى قول زيد بن أسلم ، قال : ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة ، وقال الحسين بن الفضل : هو الاستعباد الظاهر.

وليس على هذا القدر ؛ لأنّه لو قدر عليهم عبادته لما عصوه ولما عبدوا غيره وإنمّا هو كقوله : (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ثم قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ * وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

ووجه الآية في الجملة أنّ الله تعالى لم يخلقهم للعبادة خلق جبلة وإجبار وإنّما خلقه لهم خلق تكليف واختيار ، فمن وفّقه وسدّده أقام العبادة التي خلق لها ، ومن خذله وطرده حرمها وعمل بما خلق لها.

كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» [٩٨] (١) والله أعلم.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي رزقا (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) قراءة العامّة برفع النون على نعت الله سبحانه وتعالى ، وهو القوي المقتدر المبالغ في القوّة والقدرة.

قال ابن عباس : المتين الصلب الشديد ، وقرأ يحيى والأعمش الْمَتِينِ خفضا على نعت القوّة. قال الفرّاء : كان حقّه التأنيث (٢) فذكّره ؛ لأنّه ذهب به إلى الشيء المبرم المحكم الفتل ، كما يقال : حبل متين ، وأنشد الفرّاء :

لكلّ دهر قد لبست أثوبا

حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا (٣)

من ريطة واليمنة المعصّبا (٤)

فذكّر المعصب ؛ لأنّ اليمنة صنف من الثياب.

ومن هذا الباب قوله سبحانه : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) أي وعظ ، وقوله : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) أي الصياح والصوت.

وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، قال : حدّثنا القطيفي ، قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي كثير قالا : حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرّحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّي أنا الرزاق ذو القوة المتين.

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا من أهل مكة (ذَنُوباً) قال ابن عباس وسعيد بن جبير : سجّلا.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٨٢.

(٢) في المخطوط : التثنية.

(٣) غريب الحديث : ٢ / ٢٠٦.

(٤) تفسير القرطبي : ١٧ / ٥٧.

١٢١

مجاهد : سبيلا. النخعي : طرفا. عطاء وقتادة : عذابا. الحسن : دولة. الكسائي : حظا.

الأخفش : نصيبا.

وأصل الذّنوب في اللغة الدلو الكبيرة العظيمة المملوءة ماء.

قال الراجز :

لها ذنوب ولكم ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب (١)

ثم يستعمل في الحظ والنصيب كقول علقمة بن عبيدة.

وفي كل قوم قد خبطت بنعمة

فحق لشأس من نداك ذنوب (٢)

لعمرك والمنايا طارقات

لكل بني أب منهم ذنوب (٣)

(مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) من كفار الأمم الخالية (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) بالعذاب ، فإنّما أمهلوا مع ذنوبهم لأجل ذنوبهم.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم بدر ، وقيل : يوم القيامة.

__________________

(١) لسان العرب : ١ / ٣٩٢.

(٢) جامع البيان للطبري : ٢٧ / ١٨ ، وفي لسان العرب (كل حي) بدل (كل قوم) لسان العرب : ١ / ٢٧٧.

(٣) تفسير القرطبي : ١٧ / ٥٧.

١٢٢

سورة الطور

مكية ، وهي ألف وخمسمائة حرف ،

وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة ، وتسع وأربعون آية

أخبرني أبو الحسن الفارسي قال : حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الصبهاني ، قال : حدّثنا المؤمل بن إسماعيل ، قال : حدّثنا سفيان الثوري ، قال : حدّثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن ايزي عن أبيه عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الطور كان حقّا على الله عزوجل أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنته» [٩٩] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨))

(وَالطُّورِ) كل جبل طور ، لكنّه سبحانه عنى بالطور هاهنا الجبل الذي كلّم عليه موسى بالأرض المقدّسة ، وهي بمدين واسمه زبير ، وقال مقاتل بن حيان : هما طوران يقال لأحدهما : طور تينا ، وللآخر طور زيتونا ؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) مكتوب.

(فِي رَقٍ) جلد (مَنْشُورٍ) وهو الصحيفة ، واختلفوا في هذا الكتاب ما هو؟ فقال الكلبي : هو كتاب الله سبحانه بيد موسى عليه‌السلام من التوراة ، وموسى يسمع صرير القلم ، وكان كلّما مرّ القلم بمكان خرقه إلى الجانب الآخر ، فكان كتابا له وجهان ، وقيل : اللوح المحفوظ [وهو] (٢) دواوين الحفظة ، تخرج إليهم يوم القيامة منشورة ؛ فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ، دليله ونظيره قوله سبحانه : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) وقوله سبحانه : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) ،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٢٧٠.

(٢) زيادة اقتضاها السياق.

١٢٣

وقيل : هو ما كتب الله تعالى في قلوب أوليائه من الإيمان ، بيانه : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، وقيل : هو ما كتب الله تعالى للخلق من السابقة والعاقبة.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) بكثرة الحاشية والأهل ، وهو بيت في السماء السابعة ، حذاء العرش ، حيال الكعبة ، يقال له : الضراح ، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض ، يدخله كل يوم سبعون ألف من الملائكة ، يطوفون به ويصلون فيه ، ثم لا يعودون إليه أبدا (١) ، وخازنه ملك يقال له : [الجن].

وقيل : كان البيت المعمور من الجنّة ، حمل إلى الأرض لأجل آدم عليه‌السلام ، ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان.

أخبرنا الحسين بن محمد ، قال : حدّثنا هارون بن محمد بن هارون ، قال : حدّثنا إبراهيم ابن الحسين بن دربل ، قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدّثني سفيان بن نسيط عن أبي محمد عن الزبير عن عائشة أنّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم مكة فأرادت عائشة أن تدخل البيت ـ يعني ليلا ـ فقال لها بنو شيبة : أنّ أحدا لا يدخله ليلا ولكنا نخليه لك نهارا ، فدخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكت إليه أنّهم منعوها أن تدخل البيت ، فقال : «إنّه ليس لأحد أن يدخل البيت ليلا ، إن هذه الكعبة بحيال البيت المعمور الذي في السماء ، يدخل ذاك المعمور سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه أبدا الى يوم القيامة ، لو وقع حجر منه لوقع على ظهر الكعبة ، ولكن انطلقي أنت وصواحبك فصلّين في الحجر» [١٠٠] (٢) ففعلت فأصبحت وهي تقول : قد دخلت البيت على رغم من رغم.

وأخبرنا الحسين بن محمد ، قال : حدّثنا هارون بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز ، قال : حدّثنا كثير بن يحيى بن كثير ، قال : حدّثنا أبي عن عمرو عن الحسن في قوله سبحانه : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) قال : هو الكعبة البيت الحرام الذي هو معمور من الناس ، يعمره الله كلّ سنة ، أوّل مسجد وضع للعبادة في الأرض.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء ، سمّاها سقفا ؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت ، دليله ونظيره قوله سبحانه : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً).

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قال مجاهد والضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش : يعني الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور ، ومنه قيل للمسعر مسجر ، ودليل هذا التأويل ما

__________________

(١) الى هنا في فتح الباري : ٦ / ٢١٩ ، وتفسير الطبري : ٢٧ / ٢٣ مورد الآية.

(٢) الدر المنثور : ٦ / ١١٧.

١٢٤

روي أنّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يركبنّ البحر إلّا حاجّ أو معتمر أو مجاهد في سبيل الله ، فإنّ تحت البحر نارا وتحت النار بحرا ، وتحت البحر نارا [١٠١] (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البحر نار في نار» [١٠٢] (٢) ، وروى سعيد بن المسيب أنّ عليا كرم الله وجهه قال لرجل من اليهود : أين جهنم؟ فقال : البحر. فقال : ما أراه إلّا صادقا ثم قرأ (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِرَتْ مخفّفة.

وتفسير هذه الأخبار ما روي في الحديث : «إنّ الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلّها نارا فيسجر بها نار جهنم» [١٠٣] (٣).

وقال قتادة : المسجور : المملوء. ابن كيسان : المجموع ماؤه بضعه إلى بعض ، ومنه قول لبيد :

فتوسّطا عرض السرى وصدّعا

مسجورة متجاور أقلامها (٤)

وقال النمر بن تولب :

إذا شاء طالع مسجورة

ترى حولها النبع والسماسما

وقال أبو العالية : هو اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب ، وفي رواية عطية وذي الرمّة الشاعر : أخبرنيه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن الدينوري. قال : حدّثنا عبيد الله بن أبي سمرة ، قال : حدّثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث ، قال : حدّثنا السدوسي أبو جعفر ، قال : حدّثنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمّة عن ابن عباس (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) الفارغ. قال : خرجت أمة تسقي فرجعت فقالت : إنّ الحوض مسجور. تعني فارغا.

قال ابن أبي داود : ليس لذي الرمّة حديث غير هذا.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : المسجور : المحبوس ، وقال الربيع بن أنس : المختلط العذب بالملح.

وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا مخلد بن جعفر ، قال : حدّثنا الحسن بن علوية ، قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، قال : حدّثنا إسحاق بن بسر ، قال : أخبرني جويبر عن الضحاك ، ومقاتل بن سليمان عن الضحاك عن النزال بن سبرة ، عن علي بن أبي طالب أنّه قال في (الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) : «هو بحر تحت العرش ، غمره كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين ، وهو ماء

__________________

(١) كنز العمال : ٥ / ١٨ ح ١١٨٦١ باختصار ، والسنن الكبرى : ٦ / ١٨ بتفاوت.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٣٠.

(٣) تفسير القرطبي : ١٧ / ٦١.

(٤) تاج العروس : ٥ / ٤٦.

١٢٥

غليظ يقال له : بحر الحيوان ، يمطر العباد بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون من قبورهم» [١٠٤] (١).

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) نازل (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) مانع.

قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول الله في أسارى بدر [فذهبت] (٢) إليه وهو يصلّي بأصحابه المغرب ، وصوته يخرج من المسجد ، فسمعته يقرأ (وَالطُّورِ) الى قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فكأنما صدع قلبي ، وكان أوّل ما دخل قلبي الإسلام ، فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب.

وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك ، قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : أخبرت عن [محمد] بن الحرث المكي ، عن عبد الله بن رجاء المكي ، عن هشام بن حسان ، قال : انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن فانتهينا إليه وعنده رجل يقرأ ، فلمّا بلغ هذه الآية (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) بكى الحسن وبكى أصحابه ، وجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤))

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي تدور كدوران الرحى ، وتتكفّأ بأهلها تكفّأ السفينة ، ويموج بعضها في بعض.

واختلفت عبارات المفسرين فيها : قال ابن عباس : تدور دورانا. قتادة : تتحرك.

الضحاك : تحرك. عطاء الخراساني : تختلف إحداها بعضها في بعض. قطرب : تضطرب.

عطية : تختلف. المؤرخ : يتحول بعضهم تحولا. الأخفش : تتكفّأ ، وكلّها متقاربة.

__________________

(١) زاد المسير لابن الجوزي : ٧ / ٢١٦ ، تفسير القرطبي : ١٧ / ٦٢ بتفاوت.

(٢) ما أثبتناه منا وفي المخطوط (فدفعت)

١٢٦

وأصل المور الاختلاف والاضطراب ، قال رؤبة :

مسودّة الأعضاد من وشم العرق

مائرة الضبعين مصلات العنق

أي مضطربة العضدين.

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) فتزول عن أماكنها وتصير هباء منبثّا.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وإنّما أدخل الفاء في قوله (فَوَيْلٌ) ؛ لأن في الكلام معنى المجاراة مجازه : إذا كان هذا (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

(الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ) باطل (يَلْعَبُونَ) غافلين جاهلين ساهين لاهين.

(يَوْمَ يُدَعُّونَ) يدفعون (إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) دفعا ويزعجون إليها إزعاجا ، وذلك أنّ خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم ، وتجافى أقفيتهم حتى يردوا النار.

وقرأ أبو رجاء العطاردي يوم يدعون إلى النار دعاء بالتخفيف من الدعاء. قالوا : فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها) ادخلوها (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فاكِهِينَ) ذوي (١) فاكهة كثيرة ، وفكهين : معجبين ناعمين.

(بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ثم يقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) قد صفّ بعضها إلى بعض ، وقوبل بعضها ببعض (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ) قرأ أبو عمرو «وأتبعناهم» بالنون والألف «ذرياتهم» بالألف فيهما ، وكسر التائين لقوله : (أَلْحَقْنا) (... وَما أَلَتْناهُمْ) ليكون الكلام على نسق واحد ، وقرأ الآخرون (وَاتَّبَعَتْهُمْ) بالتاء من غير ألف ثم اختلفوا في قوله : (ذُرِّيَّتُهُمْ) ، وقرأ أهل المدينة الأولى بغير ألف وضم التاء ، والثانية بالألف وكسر التاء ، وقرأ أهل الشام بالألف فيهما وكسر تاء الثانية ، وهو اختيار يعقوب وأبي حاتم ، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما وفتح تاء الثانية ، وهو اختيار أبي عبيد.

واختلف المفسّرون في معنى الآية ، فقال قوم : معناها (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) التي بلغت الإيمان (بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان ، وهو قول الضحّاك ورواية العوفي عن ابن عباس. فأخبر الله سبحانه وتعالى أنّه يجمع لعبده المؤمن ذرّيته في الجنة

__________________

(١) في المخطوط : ذوو.

١٢٧

كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا له ، ويدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته ، بعمل الأب (١) من غير أن ينقص الآباء من أجور أعمالهم شيئا فذلك قوله سبحانه : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يعني الآباء ، والهاء والميم راجعان إلى قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ، والألت : النقص والبخس.

أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله الحديثي ، قال : حدّثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي قال : حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال : حدّثنا جنادة بن المفلس ، قال : حدّثنا قيس بن الربيع ، قال : حدّثنا عمرو بن المسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه» (٢) [١٠٥] ثم قرأ والذين آمنوا واتّبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء قال : «ما نقصنا الآباء بما أعطينا [البنين]» [١٠٦] (٣).

وأخبرنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسن الهمداني ، قال : حدّثنا أبو عبد الله عمر بن نصر البغدادي ببردعة ، قال : حدّثنا محمد بن عبد الرّحمن بن غزوان ، قال : حدّثنا شريك بن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : أظنّه ذكره عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة فسأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال : إنّهم لم يدركوا ما أدركت ، فيقول : عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به» (٤) [١٠٧] وتلا ابن عباس : والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم.

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدّثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال : سألت خديجة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ولدين ماتا في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما في النار» قال : فلمّا رأى الكراهية في وجهها قال : «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت : يا رسول الله فولداي منك؟ قال : «في الجنة».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار» (٥) [١٠٨] ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّاتهم

__________________

(١) في المخطوط : أبيه.

(٢) المستدرك : ٢ / ٤٦٨.

(٣) مجمع الزوائد : ٧ / ١١٤.

(٤) المعجم الصغير : ١ / ٢٢٩ ، وتفسير ابن كثير : ٣ / ٣٤ ، وفي سند الحديث محمد بن عثمان قال الذهبي في الميزان خبره منكر.

(٥) مسند احمد : ١ / ١٣٤.

١٢٨

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ) من الخير والشر (رَهِينٌ) مرهون فيؤخذ بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره.

(وَأَمْدَدْناهُمْ) وأعطيناهم (بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من أنواع اللحمان (يَتَنازَعُونَ) يتعاطون فيتناولون ويتداولون (فِيها كَأْساً) إناء فيها خمر (لا لَغْوٌ فِيها) وهو الباطل. عن قتادة. مقاتل بن حيان : لا فضول فيها. سعيد بن المسيّب : لا رفث فيها. ابن زيد : لا سباب ولا تخاصم فيها. القتيبي : لا يذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا ، وقال ابن عطاء : أي لغو يكون في مجلس محلّه جنة عدن ، والساقي فيه الملائكة ، وشربهم على ذكر الله ، وريحانهم تحية من عند الله مباركة طيبة ، والقوم أضياف الله (وَلا تَأْثِيمٌ) أي فعل يؤثمهم ، وهو تفعيل من الإثم ، يعني : إنّهم لا يأثمون في شربها.

وقال ابن عباس : يعني ولا كذب ، وقال الضحّاك : يعني لا يكذب بعضهم بعضا (١).

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) بالخدمة (غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ) من بياضهم وصفاء لونهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) مخزون مصون ، قال سعيد بن جبير : يعني في الصدف.

أخبرني الحسن بن محمد ، قال : حدّثنا أحمد بن علي بن عمر بن خنيس ، قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن عصام ، قال : حدّثنا عمر بن عبد العزيز المصري ، قال : حدّثنا يوسف بن أبي طيبة عن وكيع بن الجراح عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف ، يناديه كلّهم : لبيك» (٢) [١٠٩].

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو علي المقرئ ، قال : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا هاني بن المسري ، قال : حدّثنا عبيده بن سعيد عن قتادة بن عبد الله بن عمر قال : ما من أحد من أهل الجنة إلّا سعى له ألف غلام ، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب المنوي قال : حدّثنا الحسن ابن الكميت الموصلي قال : حدّثنا المعلى بن مهدي ، قال : أخبرنا مسكين عن حوشب عن الحسن أنّه كان إذا تلا هذه الآية (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) قالوا : يا رسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ قال «ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب» (٣) [١١٠].

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٦٩.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ٦٩.

(٣) تفسير القرطبي : ١٧ / ٦٩.

١٢٩

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا قال ابن عباس : إذا بعثوا من قبورهم ، وقال غيره : في الجنة وهو الأصوب لقوله سبحانه (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) خائفين من عذاب الله (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) قال الحسن : السّموم : اسم من أسماء جهنم.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك ، قال : حدّثنا عبد الله ، قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أنس بن عياض ، قال : حدّثني شيبة بن نصاح عن القاسم بن محمد قال : غدوت يوما وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي‌الله‌عنها أسلّم عليها ، فوجدتها ذات يوم تصلّي السبحة (١) وهي تقرأ (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) وتردّدها وتبكي ، فقمت حتى مللت ثم ذهبت إلى السوق بحاجتي ثم رجعت فإذا هي تقرأ وترددها وتبكي وتدعو.

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا (نَدْعُوهُ) نخلص له العبادة (إِنَّهُ) قرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي بفتح الألف ، أي لأنّه ، وهو اختيار أبي حاتم ، وقرأ الآخرون بالكسر على الابتداء ، وهو اختيار أبي عبيدة (هُوَ الْبَرُّ) قال ابن عباس : اللطيف ، وقال الضحاك : الصادق فيما وعد (الرَّحِيمُ).

(فَذَكِّرْ) يا محمد (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي برحمته وعصمته (بِكاهِنٍ) يبتدع القول ويخبر بما في غد من غير وحي ، والكاهن : الذي يقول : إنّ معي قرينا من الجن.

__________________

(١) السبحة : صلاة التطوع والنافلة.

١٣٠

(وَلا مَجْنُونٍ) نزلت هذه الآية في الخرّاصين الذين اقتسموا عقاب مكة ، يصدون الناس عن الإيمان ، ويرمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكهانة والجنون والسحر والشعر. فذلك قوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ) يعني هؤلاء المقتسمين الخرّاصين (شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) حوادث الدهر فيكفينا أمره بموت أو حادثة متلفة فيموت ويتفرق أصحابه ، وذلك أنهم قالوا : ننتظر به ملك الموت فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة وفلان وفلان ، إنّما هو كأحدهم ، وإنّ أباه توفي شابا ، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه.

والمنون يكون بمعنى الدهر ، ويكون بمعنى الموت ، سمّيا بذلك لأنّهما ينقصان ويقطعان الأجل ، قال الأخفش : لأنّهما يمنيان قوى الإنسان ومنيه أي ينقصان ، وأنشد ابن عباس :

تربّص بها ريب المنون لعلّها

تطلّق يوما أو يموت حليلها (١)

(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) حتى يأتي أمر الله فيكم.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) عقولهم (بِهذا) وأنّهم كانوا يعدون في الجاهلية أهل الأحلام ويوصفون بالعقل ، وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله سبحانه بالعقول؟. فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصحبها التوفيق. (أَمْ هُمْ) بل هم (قَوْمٌ طاغُونَ).

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) استكبارا.

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي مثل هذا القرآن يشبهه (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أنّ محمدا تقوّله من تلقاء نفسه ، فإنّ اللسان لسانهم ، وهم مستوون في البشرية واللغة والقوة.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) قال ابن عباس : من غير ربّ ، وقيل : من غير أب ولا أم ، فهم كالجماد لا يعقلون ، ولا يقوم لله عليهم حجة ، أليسوا خلقوا من نطفة ثم علقة ثم مضغة؟ قاله ابن عطاء ، وقال ابن كيسان : أم خلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون ، وهذا كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء يعني لغير شيء. (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) لأنفسهم.

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) قال ابن عباس : المطر والرزق ، وقال عكرمة : يعني النبوّة ، وقيل : علم ما يكون (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) المسلطون الجبّارون. قاله أكثر المفسّرين ، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس ، وقال عطاء : أرباب قاهرون ، وقال أبو عبيدة : يقال : خولا تسيطرت عليّ : اتّخذتني ، وروى العوفي عن ابن عباس :أم هم المنزلون.

__________________

(١) لسان العرب : ٧ / ٤٠.

١٣١

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) [يدّعون أن لهم] مصعدا ومرقاة يرتقون به إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) الوحي فيدّعون أنّهم سمعوا هناك أنّ الذي هم عليه حق ، فهم مستمسكون به لذلك. (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) إن ادّعوا ذلك (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجة بيّنة.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) جعلا على ما جئتهم به ودعوتهم إليه (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) غرم (مُثْقَلُونَ) مجهودون.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أنّ ما يخبرهم الرسول من أمر القيامة والبعث والحساب والثواب والعقاب باطل غير كائن ، وقال قتادة : لمّا قالوا (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أنزل الله سبحانه (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) فهم يعلمون حتى بموت محمد ، وإلى ماذا يؤول أمره؟ وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ما فيه ، ويخبرون الناس به ، وقال القتيبي (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي يحكمون.

والكتاب : الحكم ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجلين اللذين تخاصما «لأقضين بينكم بكتاب الله» [١١١] (١). أي بحكم الله.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) مكرا في دار الندوة (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) الممكور بهم يعود الضرر عليهم ، ويحيق المكر بهم ، وكل ذلك أنّهم قتلوا ببدر.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) قال الخليل بن أحمد : ما في سورة الطور من ذكر (أَمْ) كلّه استفهام وليس بعطف.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) كسفا قطعة وقيل : قطعا واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر (مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) ذكره على لفظ الكسف (يَقُولُوا) بمعاندتهم وفرط غباوتهم ودرك شقاوتهم هذا (سَحابٌ مَرْكُومٌ) موضوع بعضه على بعض.

هذا جواب لقولهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) وقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) فقال : لو فعلنا هذا لقالوا : (سَحابٌ مَرْكُومٌ).

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ) يَصْعُقُونَ أي يموتون ، وقرأ الأعمش وعاصم وابن عامر (يُصْعَقُونَ) بضم الياء وفتح العين ، أي يهلكون ، وقال الفرّاء : هما لغتان مثل سعد وسعد.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) قال البراء بن عازب : هو عذاب القبر ، وقال ابن عباس : هو القتل ببدر ، وقال مجاهد :

__________________

(١) السنن الكبرى : ٣ / ٤٧٨.

١٣٢

الجوع والقحط سبع سنين ، وقال ابن زيد : المصائب التي تصيبهم من الأوجاع وذهاب الأموال والأولاد. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إن العذاب نازل بهم.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) بمرأى ومنظر منا (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) قال أبو الأحوص عوف بن مالك وعطاء وسعيد بن جبير : قل سبحانك اللهم وبحمدك حين تقوم من مجلسك ، فإن كان المجلس خيرا ازددت احتسابا ، وإن كان غير ذلك كان كفارة له.

ودليل هذا التأويل ما أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب ، قال : حدّثنا ابن الحسن أحمد بن عيسى بن حمدون الناقد بطرطوس. قال : حدّثنا أبو أمية ، قال : حدّثنا حجاج ، قال : حدّثنا ابن جريج ، قال : أخبرني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من جلس في مجلس كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر له ما كان في مجلسه ذلك» [١١٢] (١).

وقال ابن زيد : [سبّح] بأمر ربّك (حِينَ تَقُومُ) من منامك ، وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك : ولا إله غيرك ، وعن الضحاك أيضا يعني : قل (حِينَ تَقُومُ) إلى الصلاة : (الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا) ، وقال الكلبي : يعني ذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة ، وقيل : هي صلاة الفجر.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي وصلّ له ، يعني صلاتي العشاء ، (وَإِدْبارَ النُّجُومِ).

قال علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك يعني : ركعتي الفجر.

انبأني عقيل ، قال : أخبرنا المقابي ، قال : أخبرنا ابن جرير ، قال : أخبرنا بسر قال : حدّثنا سعيد بن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في ركعتي الفجر «هما خير من الدنيا جميعا» [١١٣] (٢).

وقال الضحاك وابن زيد : هي صلاة الصبح الفريضة.

قرأ سالم بن أبي الجعد (وَأَدْبارِ) بفتح الألف ، ومثله روى زيد عن يعقوب يعني : بعد غروب النجوم.

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٤٩٤.

(٢) مسند أحمد : ٦ / ١٤٩.

١٣٣

سورة النجم

مكية ، وهي ألف وأربعمائة وخمسة أحرف ،

وثلاثمائة وستون كلمة ، واثنتان وستون آية.

أخبرني أبو الحسن بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه ، قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر ، قال : أخبرنا أبو عمرو الحيري وعمر بن عبد الله البصري ، قالا : حدّثنا محمد ابن عبد الوهاب قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة النجم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمد ومن جحد به» [١١٤] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢))

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) قال ابن عباس ـ في رواية الوالبي والعوفي ومجاهد برواية ابن أبي نجح ـ : يعني والثريّا إذا سقطت وغابت ، والعرب تسمّي الثريّا نجما ، وإن كانت في العدد نجوما.

قال أبو بكر محمد بن الحسن الدربندي : هي سبعة أنجم ، ستة منها ظاهرة ، وواحد منها خفي ، يختبر الناس به أبصارهم ، ومنه قول العرب إذا طلع النجم عشاء : ابتغى الراعي كساء ـ وعن مجاهد أيضا : يعني نجوم السماء كلها حتى تغرب ، لفظه واحد ومعناه الجمع ، كقول الراعي :

فباتت تعدّ النجم في مستحيره

سريع بأيدي الآكلين جمودها (٢)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٢٨٤.

(٢) لسان العرب : ١٢ / ٥٧٠.

١٣٤

وسمّي الكوكب نجما لطلوعه ، وكلّ طالع نجم ، ويقال : نجم السر والقرب والندب إذا طلع.

وروى عكرمة عن ابن عباس أنّه الرجم من النجوم ، يعني ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع ، وقال الضحاك : يعني القرآن إذا نزل ثلاث آيات وأربع وسورة ، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة ، وهي رواية الأعمش عن مجاهد وحيان عن الكلبي ، والعرب تسمّي التفريق تنجيما والمفرق نجوما ومنه نجوم الدّين.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي ، قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي بن علي قال : حدّثني أبو حمزة الثمالي (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) قال : يقال : هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة ، وقال الأخفش هي النبت ، ومنه قوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) وهويّه : سقوطه على الأرض ، لأنه ما ليس له ساق ، وقال جعفر الصادق : يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل من السماء ليلة المعراج.

فالهويّ : النزول والسقوط ، يقال : هوى يهوى هويّا : مضى يمضي مضيّا ، قال زهير :

يشج بها الأماعز وهي تهوي

هوي الدلو أسلمها الرشاء (١)

وروى عروة بن الزبير عن رجال من أهل بيته قالوا : كانت بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند عتبة بن أبي لهب فأراد الخروج إلى الشام فقال : الأبتر محمد فلأوذينّه في جابنتهج؟؟؟ فأتاه فقال : يا محمد هو يكفر بـ (النَّجْمِ إِذا هَوى) وبالذي (دَنا فَتَدَلَّى) ، ثم تفل في وجهه ورد عليه ابنته وطلّقها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» (٢) [١١٥] قال : وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة.

فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره بذلك ثم خرجوا إلى الشام ، فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : هذه أرض مسبعة ، فقال أبو لهب لأصحابه : أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد ، فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتبة في أعلاها وناموا حوله ، فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب وضرب عتبة بيده ضربة ، وأخذه فخدشه ، فقال : قتلني ومات مكانه. فقال في ذلك حسان بن ثابت :

سائل بني الأصغر إن جئتهم

ما كان أنباء أبي واسع

لا وسّع الله له قبره

بل ضيّق الله على القاطع

رمى رسول الله من بينهم

دون قريش رمية القاذع

__________________

(١) لسان العرب : ٢ / ٣٠٤.

(٢) السنن الكبرى : ٥ / ٢١١.

١٣٥

واستوجب الدعوة منه بما

بيّن للنّاظر والسامع

فسلّط الله به كلبه

يمشي الهوينا مشية الخادع

حتى أتاه وسط أصحابه

وقد عليهم سمة الهاجع

فالتقم الرأس بيافوخه

والنحر منه قفرة الجائع

ثم علا بعد بأسنانه

منعفرا وسط دم ناقع

قد كان هذا لكم عبرة

للسيّد المتبوع والتابع

من يرجع العام إلى أهله

فما أكيل السبع بالراجع (١)

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) محمد (وَما غَوى) وهذا جواب القسم.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي بالهوى يعاقب بين عن وبين الباء ، فيقيم أحدهما مكان الآخر.

(إِنْ هُوَ) ما ينطقه في الدّين (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) إليه.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) وهو جبريل.

(ذُو مِرَّةٍ) قوة وشدّة ، ورجل ممرّ أي قوي ، قال الشاعر :

ترى الرجل النحيف فتزدريه

وفي أثوابه رجل مزير (٢)

وأصله من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله ، ومنه قول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سويّ» [١١٦] (٣).

قال الكلبي : وكانت شدّته أنّه اقتلع قريات قوم لوط من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وكانت شدّته أيضا أنّه أبصر إبليس وهو يكلّم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه في أقصى جبل بالهند ، وكانت شدّته أيضا صيحته بثمود فأصبحوا جاثمين خامدين ، وكانت شدّته أيضا هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف ، وقال قطرب : يقول العرب لكل حرك الرأي حصف العقل :ذو مرة ، قال الشاعر :

قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة

عندي لكل مخاصم ميزانه (٤)

__________________

(١) دلائل النبوة : ٢٢٠ بتفاوت وكذلك في مجمع البيان : ٩ / ٢٨٧.

(٢) الصحاح : ٢ / ٨١٥.

(٣) كنز العمال : ٦ / ٤٥٣ ح ١٦٥٠١.

(٤) لسان العرب : ١٣ / ٤٤٧.

١٣٦

وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على تبليغ وحيه إلى جميع رسله.

وقال ابن عباس : (ذُو مِرَّةٍ) ، أي ذو منظر حسن ، وقال قتادة : ذو خلق طويل حسن.

(فَاسْتَوى) يعني جبريل (وَهُوَ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن يظهروا كناية المعطوف عليه فيقولون : استوى هو وفلان ، ما يقولون : استوى وفلان ، وأنشد الفرّاء :

ألم تر أنّ النبع يصلب عوده

ولا يستوي والخروع المتقصف (١)

والمعنى : لا يستوي هو والخروع.

ونظير هذه الآية قوله سبحانه : (إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) فعطف بالآباء على الكنى في (كُنَّا) من غير إظهار نحن ، ومعنى الآية : استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس في السماء ، وقيل : استويا في القوة والصعود إلى السماء ، وقيل : استويا في العلم بالوحي ، وقال بعضهم : معنى الآية : استوى جبريل أي ارتفع وعلا في السماء بعد أن علّم محمدا ، عن سعيد بن المسيب ، وقيل : (فَاسْتَوى) أي قام في صورته التي خلقه الله سبحانه عليها ، وذلك أنه كان يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها ، وأراه نفسه مرّتين : مرة في الأرض ، ومرّة في السماء فأمّا في الأرض ففي الأفق الأعلى ، وذلك أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب ، فخرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغشيا عليه ، ونزل جبريل في صورة الآدميين وضمّه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه [١١٧] (٢).

يدل عليه قوله سبحانه : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) ، وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلّا محمد المصطفى صلوات الله عليه.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال بعضهم : معناها (ثُمَّ دَنا) جبرئيل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض ، (فَتَدَلَّى) فنزل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي وهوى عليه (فَكانَ) منه (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي : بل أدنى ، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع.

قال أهل المعاني : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : ثم تدلّى فدنا ؛ لأن التدلّي : الدنوّ ، ولكنه سامع حسن ؛ لأن التدلّي يدل على الدنوّ ، والدنو يدل على التدلّي ، وإنمّا تدلى للدنوّ ودنا للتدلّي ، وقال آخرون : معناه (ثُمَّ دَنا) الرب سبحانه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَتَدَلَّى) فقرب منه حتى كان (قابَ

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٧ / ٥٨.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ٨٧.

١٣٧

قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وأصل التدلي : النزول إلى الشيء حتى يقرب منه ، فوضع موضع القرب ، قال لبيد :

فتدلّيت عليه قافلا

وعلى الأرض غيابات الطفل (١)

وهذا معنى قول أنس ورواية أبي سلمة عن ابن عباس.

وأخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج البغدادي ، أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا الربيع قال : حدّثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر قال : سمعت أنس بن مالك يحدّثنا عن ليلة المسرى أنّه عرج جبريل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السماء السابعة ، ثم علا به بما لا يعلمه إلّا الله (عزوجل) حتى جاء سدرة المنتهى ، و (دَنا) الجبار ربّ العزة (فَتَدَلَّى) ، حتى كان منه (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى) إليه ما شاء ، ودنوّ الله من العبد ودنوّ العبد منه بالرتبة والمكانة والمنزلة وإجابة الدعوة وإعطاء المنية ، لا بالمكان والمسافة والنقلة ، كقوله سبحانه : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ).

وقال بعضهم : معناه : (ثُمَّ دَنا) جبريل من ربّه عزوجل (فَكانَ) منه (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وهذا قول مجاهد ، يدلّ عليه ما روي في الحديث : «إنه أقرب الملائكة من جبرائيل الى الله سبحانه» (٢) [١١٨].

وقال الضحاك : (ثُمَّ دَنا) محمد من ربّه عزوجل (فَتَدَلَّى) فأهوى للسجود ، (فَكانَ) منه (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وقيل : (ثُمَّ دَنا) محمد من ساق العرش (فَتَدَلَّى) ، أي : جاور الحجب والسرادقات ، لا نقلة مكان ، وهو قائم بإذن الله كالمتعلق بالشيء لا يثبت قدمه على مكان ، وهذا معنى قول الحسين بن الفضل.

ومعنى قوله (قابَ قَوْسَيْنِ) قدر قوسين عربيتين عن ابن عباس وعطاء ، والقاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء ، ونظيره من الكلام زير وزار.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها» [١١٩] (٣).

وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس ، وقال سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية حيث يشدّ عليه السير الذي يتنكّبه صاحبه ، ولكل قوس قاب واحد ، فأخبر أنّ قرب جبرئيل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الوحي كقرب قاب قوسين.

وقال أهل المعاني : هذا إشارة إلى تأكيد المحبة والقربة ورفع المنزلة والرتبة ، وأصله أنّ

__________________

(١) لسان العرب : ١٥ / ١٤٤.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ٩٠.

(٣) فتح الباري : ٤ / ٨٥.

١٣٨

الحليفين والمحبّين في الجاهلية كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد والوفاء خرجا بقوسيهما ـ والصفا بينهما ـ يريدان بذلك أنّهما متظاهران متحاميان يحامي كل واحد منهما عن صاحبه.

وقيل : هذا تمثيل في تقريب الشيء من الشيء ، وهو مستعمل في أمثال العرب وأشعارهم ، وقال سفيان بن سلمة وسعيد بن جبير وعطاء وابن إسحاق الهمداني : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) قدر ذراعين ، والقوس : الذراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض أهل الحجاز. (أَوْ أَدْنى) بل أقرب.

وقال بعض : إنّما قال (أَوْ أَدْنى) ؛ لأنه لم يرد أن يجعل لذلك حدّا محصورا.

وسئل أبو العباس بن عطاء عن هذه الآية فقال : كيف أصف لكم مقاما انقطع عنه جبريل وميكائيل وإسرافيل ، ولم يكن إلّا محمد وربّه؟ وقال الكسائي : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أراد قوسا واحدا كقول الشاعر :

ومهمهين قذقين مرتين

قطعته بالسّمت لا بالسّمتين (١)

أراد مهمها واحدا.

وقال بعض أهل المعاني : معنى قوله : (فَتَدَلَّى) فتدلّل من الدلال كقولهم : [تظني بمعنى تظنن] وأملى وأملل بمعنى واحد.

(فَأَوْحى) يعني فأوحى الله سبحانه وتعالى (إِلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما أَوْحى) قال الحسن والربيع وابن زيد : معناه (فَأَوْحى) جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما أَوْحى) إليه ربّه ، قال سعيد : أوحى إليه (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) إلى قوله (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) ، وقيل : أوحى إليه أن الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمّتك ، وسئل أبو الحسن الثوري عنه فقال :أوحى إليه سرّا بسرّ من سرّ في سرّ وفي ذلك يقول القائل :

بين المحبين سر ليس يفشيه

قول ولا قلم للخلق يحكيه (٢)

سرّ يمازجه أنس يقابله

نور تحيّر في بحر من التّيه

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) قرأ الحسن وأبو جعفر [والجحدري] وقتادة (كَذَّبَ) بتشديد الذال ، أي : ما كذّب قلب محمد (ما رَأى) بعينه تلك الليلة ، بل صدّقه وحقّقه ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، أي (ما كَذَبَ) فؤاد محمد محمدا الذي رأى بل صدّقه ، ومجاز الآية : ما كذب الفؤاد فيما رأى ، فأسقط الصفة ، كقول الشاعر :

__________________

(١) لسان العرب : ٢ / ٤٦.

(٢) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٢٨٩.

١٣٩

لو كنت صادقة الذي حدثتني

لنجوت منجى الحارث بن هشام (١)

أي : في التي حدّثتني ، وقال بندار بن الحسن : الفؤاد وعاء القلب فيما ارتاب الفؤاد فيما أرى الأصل وهو القلب.

واختلفوا في الذي رآه. فقال قوم : رأى جبريل ، وإليه ذهب ابن مسعود ، وقال آخرون : هو الله سبحانه ، ثم اختلفوا في معنى الرؤية ، فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده ، فرآه في فؤاده ولم يره بعينه ، وقال قوم : بل رآه بعينه.

ذكر من قال : إنّه رآه بعينه

أخبرني الحسن بن الحسين قال : حدّثنا الفضل بن الفضل ، قال : حدّثنا أبو يعلى محمد بن زهير الأبلي ، قال : حدّثنا بن نحويه ، قال : حدّثنا سلمة ، قال : حدّثنا عبد الرزاق ، قال : حدّثنا ابن التيمي عن المبرك بن فضالة ، قال : كان الحسن يحلف بالله عزوجل لقد رأى محمد ربّه.

وانبأني عقيل بن محمد قال : أخبرنا المعافي بن زكريا قال : حدّثنا محمد بن جرير قال : حدّثنا ابن حميد قال : حدّثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عمّن سمع ابن عباس يقول : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) قال : رأى محمد ربّه.

وبإسناده عن ابن حميد قال : حدّثنا يحيى بن واضح قال : حدّثنا عيسى بن عبيد سمعت عكرمة و [قد] سئل : هل رأى محمد ربّه؟ فقال : نعم ، قد رأى ربّه.

وبه عن ابن حميد قال : حدّثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) قال : رأى ربّه عزوجل.

ذكر من قال : لم يره

أخبرنا أبو عبيد الله الحسين بن محمد الحافظ ـ بقراءتي عليه في داري ـ قال : حدّثنا موسى ابن محمد بن علي ، قال : حدّثنا إبراهيم بن زهير ، قال : حدّثنا مكي بن إبراهيم ، قال : حدّثنا موسى بن عبيده عن محمد بن كعب قال : قال بعض أصحاب رسول الله : يا رسول الله ، أرأيت ربّك؟ قال : «رأيته مرّتين ، بفؤادي ولم أره بعيني» (٢) [١٢٠] ثم تلا هذه الآية (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ومثله روي عن ابن الحنفية عن أبيه ، وأبو العالية عن ابن عباس.

وأخبرني الحسن ، قال : حدّثنا أبو القاسم عن بن محمد بن عبد الله بن حاتم الترمذي ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٩٣.

(٢) جامع البيان للطبري : ٢٧ / ٦٢ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٦٨ والموجود في الكتب (لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرّتين)

١٤٠