الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً)

قال ابن عباس : وذلك أنّ الناس سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكثروا ، حتى شقّوا عليه وأحفوه بالمسألة فأدّبهم الله سبحانه وفطّنهم عن ذلك بهذه الآية ، وأمرهم أن لا يناجوه حتى يقدّموا صدقة.

وقال مقاتل بن حيّان : نزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على [المجالس] حتى كره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم فأمر الله تعالى بالصدقة عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن المناجاة ، فأمّا أهل العسرة فلم يجدوا شيئا ، وأمّا أهل الميسرة فبخلوا ومنعوا ، فاشتدّ ذلك على أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الرخصة (١) ، قال مجاهد : نهوا عن مناجاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يتصدّقوا ، فلم يناجه إلّا عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قدّم دينارا فتصدّق به ثمّ نزلت الرخصة.

وقال عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها

__________________

(١) الحديث في تحفة الأحوذي : ٩ / ١٣٧ ، وتفسير الدر المنثور : ٦ / ١٨٥.

٢٦١

أحد بعدي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فإنّها فرضت ثم نسخت (١).

أخبرني عبد الله بن حامد ـ إجازة ـ قال : أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه قال : أخبرنا علي بن صقر بن نصر قال : حدّثنا يحيى بن عبد الحميد قال : حدّثنا أبو عبد الرحمن (٢) الأشجعي ، عن سفيان عن عثمان بن المغيرة ، عن [سالم] بن أبي الجعد ، عن عليّ بن علقمة الأنماري ، عن علىّ بن أبي طالب قال : لمّا نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما ترى بذي دينار»؟. قلت : لا يطيقونه.

قال : «كم»؟. قلت : حبّة أو شعيرة. قال : «إنك لزهيد» [٢٣٩]. فنزلت (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية.

قال عليّ رضي‌الله‌عنه : فيّ خفّف الله سبحانه عن هذه الأمّة ، ولم تنزل في أحد قبلي ولن تنزل في أحد بعدي [٢٤٠] (٣).

قال ابن عمر : كان لعليّ بن أبي طالب ثلاث لو كان لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى [٢٤١] (٤).

(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني للفقراء. (أَأَشْفَقْتُمْ) أبخلتم وخفتم بالصدقة الفاقة (أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) فتجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة ، وقيل : الواو صلة. مجازه (وإذ لم تفعلوا تاب الله عليكم) تجاوز عنكم وخفّف ونسخ الصدقة.

قال مقاتل بن حيّان : إنّما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ.

وقال الكلبي : ما كانت إلّا ساعة من النهار.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) نزلت في المنافقين تولّوا اليهود وناصحوهم ونقلوا إليهم أسرار المسلمين (ما هُمْ مِنْكُمْ) يا معشر المسلمين (وَلا مِنْهُمْ) يعني اليهود والكافرين. نظيره (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) (٥).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٣٠٢.

(٢) في المصادر : يحيى بن آدم عن عبيد الله بن عبد الرحمن.

(٣) مناقب ابن المغازلي : ٣٢٥ ، وذخائر العقبى : ١٠٩ ، وسنن الترمذي : ٥ / ٨٠ ح ٣٣٥٥.

(٤) بتمامه في تفسير فرات الكوفي : ٤٦٩ ، وكنز العمال : ١٣ / ١١٦ ح ٣٧٣٧٦٢ بتفاوت عن عمر.

(٥) النساء : ١٤٣.

٢٦٢

(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

قال السدّي ومقاتل : خاصّة في عبد الله بن نبتل المنافق ، كان يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجرة من حجره إذ قال : «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار وينظر بعيني شيطان» فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على ما تشتمني أنت وأصحابك»؟ فحلف بالله ما فعل ، وقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فعلت» [٢٤٢] (١).

وانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبّوه ، فأنزل الله سبحانه ذكر هذه الآية.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) الكاذبة ، وقرأ الحسن بكسر الألف ، أي إقرارهم (جُنَّةً) يستجنّون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) يوم القيامة (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ) كارهين ، ما كانوا كاذبين (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) ، قال قتادة : إنّ المنافق يحلف له يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، أخبرنا الحسن بن محمّد قال : حدّثنا أحمد بن يعقوب الأنباري قال : حدّثنا أبو حنيفة محمّد بن حنيفة بن ماهان الواسطي قال : حدّثنا إبراهيم بن سليم الهجمي قال : حدّثنا ابراهيم بن سليمان الدبّاس قال : حدّثنا ابن أخي روّاد ، عن الحكم عن عيينة عن مقسم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينادي مناد يوم القيامة : أين خصماء الله؟ فيقوم القدرية وجوههم مسودّة ، مزرقّة أعينهم ، مائل شدقهم ، يسيل لعابهم ، فيقولون : والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا ولا اتّخذنا من دونك إلها» [٢٤٣] (٢).

فقال ابن عباس : صدقوا والله ، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا ابن عباس هذه الآية (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، هم والله القدريون ، هم والله القدريون.

(اسْتَحْوَذَ) : غلب واستولى (عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٣٠٤.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ٣٠٥.

٢٦٣

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) : الأسفلين.

(كَتَبَ اللهُ) : قضى الله سبحانه (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) ، وذلك أنّ المؤمنين قالوا : لئن فتح الله لنا مكّة وخيبر وما حولها فإنّا لنرجو أن يظفرنا الله على الروم وفارس. فقال عبد الله بن أبىّ : أتظنّون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله لهم أكثر عددا وأشدّ بطشا من ذلك. فأنزل الله سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) نظيره قوله سبحانه : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١).

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ـ الآية ـ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة. وسنذكر القصة في سورة الامتحان إن شاء الله.

وقال السدّي : نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبي ، وذلك أنّه كان جالسا إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشرب رسول الله عليه‌السلام الماء ، فقال عبد الله : يا رسول الله ، أبق فضلة من شرابك. قال : «وما تصنع بها»؟ قال : أسقيها أبي لعلّ الله يطهّر قلبه.

ففعل فأتى بها أباه ، فقال : ما هذا؟ قال من شراب رسول الله عليه‌السلام جئتك بها لتشربها لعلّ الله سبحانه وتعالى يطهّر قلبك. فقال أبوه : هلّا جئتني ببول أمّك. فرجع إلى النبي عليه‌السلام ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في قتل أبي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل ترفّق به وتحسّن إليه» (٢).

وقال ابن جريح : حدّثت أنّ أبا قحافة سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصكّه أبو بكر صكّة سقط منها ، ثم ذكر ذلك للنبيّ عليه‌السلام فقال : «أو فعلته؟». فقال : نعم. قال : «فلا تعد إليه» [٢٤٤] (٣) فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : والله لو كان السيف منّي قريبا لقتلته ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية : (يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ).

وروى مقاتل بن حيّان ، عن مرّة الهمذاني ، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد (أَوْ أَبْناءَهُمْ) يعني أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال : يا رسول الله : دعني أكرّ في الرعلة (٤) الأولى. فقال له رسول الله : «متّعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنّك عندي بمنزلة سمعي وبصري؟» [٢٤٥] (٥).

__________________

(١) سورة الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ٣٠٧.

(٣) زاد المسير : ٧ / ٣٢٨.

(٤) الرعلة : الخيل. هامش المخطوط. الصحاح ٤ : ١٧١٠ ـ رعل.

(٥) أسباب نزول الآيات : ٢٧٨.

٢٦٤

و (إِخْوانَهُمْ) يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وعليّا وحمزة وعبيدة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر. (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) قراءة العامّة بفتح الكاف والنون ، وروى المفضّل عن عاصم بضمّهما على المجهول ، والأوّل أجود ؛ لقوله : (وَأَيَّدَهُمْ) وندخلهم.

قال الربيع بن أنس : يعني أثبت الإيمان في قلوبهم فهي موقنة مخلصة.

وقيل : معناه (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، كقوله : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ).

وقيل : حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنّها موضعه.

(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) : وقوّاهم بنصر منه ، قاله الحسن ، وقال السدّي : يعني بالإيمان. ربيع ، بالقرآن وحجّته ، نظيره : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا). ابن جرير : بنور وبرهان وهدى. وقيل : برحمة. وقيل : أمدّهم بجبريل عليه‌السلام.

(وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا محمّد بن حمدان بن سفيان قال : حدّثنا محمّد بن يزيد بن عبد الله بن سلمان قال : حدّثنا المرداس أبو بلال قال : حدّثنا إسماعيل ، عن سعد بن سعيد الجرجاني ، عن بعض مشيخته قال : قال داود عليه‌السلام : «إلهي ، من حزبك وحول عرشك؟».

فأوحى الله سبحانه إليه : «يا داود ، الغاضّة أبصارهم ، النقيّة قلوبهم ، السليمة أكفّهم ، أولئك حزبي وحول عرشي» [٢٤٦] (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٣٠٩.

٢٦٥

سورة الحشر

مدنية ، وهي أربع وعشرون آية ، وأربعمائة

وخمس وأربعون كلمة ، وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا

أخبرنا أبو العبّاس سهل بن محمّد بن سعيد المروزي قال : حدّثني أبو الحسن المحمودي قراءة : حدثنا تميم بن محمود عن العبّاس بن [...] (١) عن رجاله : قال : حدّثنا محمّد بن صالح عن زيد العجمي عن ابن عباس قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه‌السلام : «من قرأ سورة (الحشر) لم يبق جنّة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا حجاب ولا السماوات السبع والأرضون السبع والهوام والريح والطير والشجر والدواب والجبال والشمس والقمر والملائكة إلّا صلّوا عليه ، واستغفروا له ، فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا» [٢٤٧] (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الآيات ، قال المفسرون : نزلت هذه الآيات بأسرها في بني النضير ، وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على ألّا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ذلك ، فلمّا غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا وظهر على المشركين قالت بنو النضير : والله إنّه للنبيّ الذي وجدنا نعته في التوراة : لا تردّ لهم راية. فلما

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤٢٣.

٢٦٦

غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا وهزم المسلمون ارتابوا ونافقوا وأظهروا العداوة لرسول الله عليه‌السلام والمؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكّة ، فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمّد عليه‌السلام. ثم دخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ، ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة ، فنزل جبريل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان ، وأمر عليه‌السلام بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمّد بن مسلمة الأنصاري ، وكان أخاه من الرضاعة.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اطّلع منهم على خيانة ونقض عهد ، حتى أتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعليّ رضي‌الله‌عنهم يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أميّة الضمري في منصرفه من بئر معونة حين أغربا إلى بني عامر ، فأجابوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذلك ، وأجلسوه وهمّوا بالفتك به وطرح حجر عليه من فوق الحصن ، فأخبره الله سبحانه بذلك وعصمه.

وقد مضت هذه القصة وقصة مقتل كعب بن الأشرف ، فلمّا قتل كعب أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر الناس بالسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية لهم يقال لها : زهرة ، فلمّا سار إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجدهم ينوحون على كعب ، وكان سيّدهم ، فقالوا : يا محمّد ، واعية على إثر واعية ، وباكية على إثر باكية؟ قال : «نعم». قالوا : ذرنا نبكي بشجونا ثم ائتمرنا أمرك. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اخرجوا من المدينة» [٢٤٨] (١).

قالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك.

فتنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال ، ودسّ المنافقون : عبد الله بن أبيّ وأصحابه إليهم ألّا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ، و (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) فدربوا على الأزقة وحصونها. ثم أجمعوا الغدر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسلوا إليه : اخرج في ثلاثين رجلا من أصحابك ، وليخرج منا ثلاثون رجلا حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينكم ، فيسمعوا منك ، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنّا كلّنا.

فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود ، حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلّهم يحبّ أن يموت قبله؟ فأرسلوا إليه : كيف نفهم ونحن ستون رجلا ، اخرج في ثلاثة من أصحابك ، ونخرج لك ثلاثة من علمائنا فيسمعوا منك ، فإن آمنوا بك آمنّا كلّنا وصدّقناك.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ٤ ، بتفاوت.

٢٦٧

فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثة من أصحابه ، وخرج ثلاثة من اليهود ، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله عليه‌السلام ، فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن يصل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه‌السلام.

فلمّا كان الغد عدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فلمّا قذف الله سبحانه (فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ، وأيسوا من نصر المنافقين سألوا نبي الله عليه‌السلام الصلح فأبى عليهم [إلّا] (١) أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقبلوا ذلك ، وصالحهم على الإجلاء ، وعلى أنّ لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم إلّا الحلقة وهي السلاح ، وعلى أن يخلوا له ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.

وقال ابن عباس : صالحهم على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم ، وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بقي.

وقال الضحاك : أعطى كلّ ثلاثة نفر بعيرا وسقاء ، ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحا إلّا أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فإنّهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني بني النضير (مِنْ دِيارِهِمْ) التي كانت بيثرب.

قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد وكان فتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان.

(لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله سبحانه قد كتب عليهم الجلاء ، ولو لا ذلك (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) وكانوا أول حشر في الدنيا حشروا إلى الشام.

قال ابن عباس : من شكّ أنّ المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية ؛ وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه‌السلام قال لهم يومئذ : «اخرجوا». قالوا : إلى أين؟ فقال : «إلى أرض المحشر» [٢٤٩] (٢) ، فأنزل الله سبحانه (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).

وقال الكلبي : إنّما قال : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) ؛ لأنّهم أوّل من حشروا من أهل الكتاب ونفوا من الحجاز.

وقال مرّة الهمداني : كان هذا أوّل الحشر من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع

__________________

(١) في المخطوط (ان لا)

(٢) زاد المسير : ٣٣٢.

٢٦٨

جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وعلى بدنه (١).

وقال قتادة : كان هذا أوّل الحشر ، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، وتأكل منهم من تخلّف.

قال يمان بن رباب : إنّما قال : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) ؛ لأنّ الله سبحانه فتح على نبيّه عليه‌السلام في أول ما قاتلهم.

(ما ظَنَنْتُمْ) أيّها المؤمنون (أَنْ يَخْرُجُوا) من المدينة (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) حيث درّبوها وحصّنوها (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي أمر الله وعدله (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) بقتل سيّدهم كعب بن الأشرف.

(يُخْرِبُونَ) قراءة العامّة بالتخفيف ، من الإخراب ، أي يهدمون ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وأبو عمرو بن العلاء بالتشديد ، من التخريب ، وقال أبو عمرو : إنّما اخترت التشديد ؛ لأنّ الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن ، وأنّ بني النضير لم يتركوا منازلهم فيرتحلوا عنها ولكنّهم خرّبوها بالنقض والهدم.

وقال الآخرون : التخريب والإخراب بمعنى واحد.

قال الزهري : ذلك أنّهم لمّا صالحهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنّ لهم ما أقلّت الإبل ، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم ممّا يستحسنونه ، أو العمود أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها منها ويحملونها على إبلهم ويخرّب المؤمنون باقيها.

وقال ابن زيد : كانوا يقتلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد يخربونها لئلّا يسكنها المؤمنون ، حسدا منهم وبغضا.

وقال الضحاك : جعل المسلمون كلّما هدموا شيئا من حصونهم جعلوا هم ينقضون بيوتهم بأيديهم ويخربونها ثم يبغون ما خرب المسلمون.

وقال ابن عباس : كلّما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتّسع لهم المقاتل ، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارهم فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصّنون فيها ويكسرون ما يليهم منها ، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ، ويخربها اليهود من داخلها فذلك قوله سبحانه (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا).

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) راجع تاريخ الإسلام للذهبي : قسم المغازي ص : ١٢٢.

٢٦٩

: فاتّعظوا (يا أُولِي الْأَبْصارِ) يا ذوي العقول.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) : الخروج عن الوطن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) وقرأ طلحة بن مصرف : (ومن يشاقق الله) (كالتي في الأنفال) (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) الآية ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل ببني النضير وتحصّنوا في حصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها ، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا : يا محمّد ، زعمت أنّك تريد الصلاح ، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل؟ فهل وجدت فيما زعمت أنّه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشقّ ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم ، وخشوا أن يكون ذلك فسادا ، واختلف المسلمون في ذلك ، فقال بعضهم : لا تقطعوا ؛ فإنّه ممّا أفاء الله علينا ، وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعها ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم ، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله سبحانه.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمّد بن الحسن قال : حدّثنا محمّد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر وأبو الأزهر وحمدان وعلي قالوا : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريح قال : أخبرني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر أنّ النبي عليه‌السلام قطع نخل بني النضير وحرق ، ولها يقول حسان :

وهان على سراة بني لؤي

حريق بالبويرة مستطير (١)

أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عبد الله وأبو محمّد إسحاق بن إبراهيم وأبو علي الحسن بن محمّد وأبو القاسم الحسن بن محمّد قالوا : حدّثنا أبو العباس الأصمّ قال : أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بإحراق نخل بني النضير ، فقال فيه حسان بن ثابت :

وهان على سراة بني لؤي

حريق بالبويرة مستطير (٢)

وفي ذلك نزل قوله سبحانه : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ).

اختلفوا فيها فقال قوم : هي ما دون العجوة من النخل ، فالنخل كلّه لينة ما خلا العجوة ، وهو قول عكرمة ويزيد بن رويان وقتادة.

ورواية باذان عن ابن عباس قال : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقطع نخلهم إلّا العجوة ، وأهل المدينة يسمّون ما خلا العجوة من التمر : الألوان ، واحدها لون ولينة ، وأصلها لونة فقلبت الواو بالكسرة ما قبلها.

__________________

(١) لسان العرب : ٤ / ٥١٣.

(٢) لسان العرب : ٤ / ٥١٣.

٢٧٠

وقال الزهري : اللينة ألوان النخل كلّها إلّا العجوة والبرنيّة ، وقال مجاهد وعطية وابن زيد : هي النخل كلّه من غير استثناء.

العوفي عن ابن عباس : هي لون من النخل.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا جعفر بن محمّد قال : حدّثنا عبد الله بن مبارك ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال : النخلة والشجرة.

قال سفيان : هي كرام النخل.

وقال مقاتل : هي ضرب من النخل يقال لثمرتها : اللون ، وهو شديد الصفرة ترى نواه من خارج يغيب فيه الضرس. وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم ، وكانت النخلة الواحدة منها ثمن وصيف ، وأحبّ إليهم من وصيف ، فلما رأوا ذلك الضرب يقطع شقّ عليهم مشقّة شديدة ، وقالوا للمؤمنين : تزعمون أنّكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون وتخربون وتقطعون الشجر ، دعوا هذا النخل ، فإنّما هي لمن غلب عليها.

وقيل : هي النخلة القريبة من الأرض.

وأنشد الأخفش :

قد شجاني الحمام حين تغنّى

بفراق الأحباب من فوق لينه (١)

والعرب تسمّي ألوان النخل كلّها لينة ، قال ذو الرمّة :

كأنّ قتودي فوقها عش طائر

على لينة فرواء (٢) تهفو جنوبها

وقال أيضا :

طراق الخوافي واقعا فوق لينة

لدى ليلة في ريشه يترقرق (٣)

وجمع اللينة لين ، وقيل : ليان ، قال امرؤ القيس يصف عنق فرس.

وسالفة كسحوق الليان

أضرم فيها الغوي السعر

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ٩.

(٢) في ديوانه : سوقاء. انظر ديوان ذي الرمّة ٢ : ٣٣٩.

(٣) لسان العرب : ٨ / ١٣٩.

٢٧١

(أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) : سوقها فلم تقطعوها ولم تحرقوها ، وقرأ عبد الله (ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوما على أصولها إلّا بإذن الله). وقرأ الأعمش : (ما قطعتم من لينة أو تركتم قوّما على أصولها).

(فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي وليذلّ اليهود ، ويحزنهم ويغيظهم.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

(وَما أَفاءَ اللهُ) : ردّ الله (عَلى رَسُولِهِ) ورجع إليه ، ومنه فيء الظل (مِنْهُمْ) من بني النضير من الأموال (فَما أَوْجَفْتُمْ) : أوضعتم (عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) وهي الإبل ، يقول : لم يقطعوا إليها شقة ، ولم ينالوا فيها مشقّة ولم يكلّفوا مؤونة ولم يلقوا حربا وإنّما كانت بالمدينة فمشوا إليها مشيا ، ولم يركبوا خيلا ولا إبلا إلّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّه ركب جملا فافتتحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلحا وأجلاهم عنها وأحرز أموالهم ، فسأل المؤمنون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القسمة ، فأنزل الله سبحانه (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فجعل أموال بني النضير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله عليه‌السلام بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلّا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة ، ولم يسلم من بني النضير إلّا رجلان : أحدهما سفيان بن عمير بن وهب ، والثاني سعيد بن وهب وسلما على أموالهما فأحرزاها.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا حامد بن محمّد قال : أخبرنا بشر بن موسى قال : حدّثنا الحميد قال : حدّثنا سفيان قال : حدّثنا عمرو بن دينار ومعمر بن راشد ، عن ابن شهاب الزهري أنّه سمع مالك بن أوس بن الحدثان البصري يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يقول : إنّ أموال بني النضير كانت مما (أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) ممّا لم يوجف المسلمون عليه ب (خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) ، فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالصا ، فكان رسول الله عليه‌السلام ينفق على أهله منه نفقة سنة ، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدّة في سبيل الله.

أخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا أحمد بن محمّد بن الحسن قال : حدّثنا محمّد ابن يحيى قال : حدّثنا محمّد بن يوسف قال : حدّثنا ابن عيينة ، عن معمر ، عن الزهري

٢٧٢

قال : وأخبرت (١) عن محمّد بن جرير قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عبد الأعلى قال : حدّثنا أبو ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : أرسل إليّ عمر بن الخطاب فدخلت عليه ، فقال : إنّه قد حضر أهل ثبات من قومك ، وأنّا قد أمرنا لهم برضخ فاقسمه بينهم.

فقلت : يا أمير المؤمنين ، مر بذلك غيري. قال : اقبضه أيّها المرء.

فبينا أنا كذلك إذ جاء مولاه يرفأ فقال : عبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان وسعد يستأذنون. فقال : ايذن لهم. ثم مكث ساعة ، ثم جاء فقال : هذا علي والعباس يستأذنان.

فقال : ايذن لهما. فلمّا دخل العباس قال : يا أمير المؤمنين ، اقض بيني وبين هذا الغادر الفاجر الخائن!!! (٢). وهما حينئذ يختصمان في (ما أَفاءَ اللهُ) عزوجل (عَلى رَسُولِهِ) من أموال بني النضير. فقال القوم : اقض بينهما يا أمير المؤمنين وأرح كلّ واحد منهما من صاحبه ، فقد طالت خصومتهما. فقال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض ، أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا نورّث ، ما تركناه صدقه» [٢٥٠] (٣).

قالوا : قد قال ذلك. ثم قال لهما : أتعلمان أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك؟ قالا : نعم.

قال : فسأخبركم بهذا الفيء ، إنّ الله سبحانه خصّ نبيّه عليه‌السلام بشيء لم يعط غيره فقال : عزّ من قائل : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) فكانت هذه لرسول الله عليه‌السلام خاصّة ، فو الله ما اختارها دونكم ولا استأثرها دونكم ، ولقد قسّمها عليكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفق على أهله منها سنتهم ثم يجعل ما بقي في مال الله ، عزوجل.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يعني من أموال الكفار أهل القرى.

قال ابن عباس : هي قريظة والنضير وهما بالمدينة ، وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال ، وخيبر ، وقرى عرينة ، وينبع جعلها الله تعالى لرسوله يحكم فيها ما أراد فاحتواها كلّها. فقال ناس : هلّا قسّمها؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى).

__________________

(١) بداية سند ثان إلى الزهري.

(٢) إن ما نسب العبّاس يدلّ على سوء أدب من قبله إذ لا ينبغي لمسلم أن ينكر فضل على بن أبي طالب في الإسلام فضلا عن العباس عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا إن دلّ فلا يدلّ إلا على وضع هذا الحديث ، ومن تلك الأحاديث المبنية لذلك : وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أم سلمة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أحبّ عليا فقد أحبّني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغض عليا فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله».يراجع تاريخ دمشق : ٤٢ / ٢٦٦ ـ ٢٧٠ وذكر طرقه.

(٣) مسند أحمد : ١ / ٦.

٢٧٣

(فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهم بنو هاشم وبنو المطلب.

واختلف الفقهاء في وجه استحقاقهم سهمهم من مال الفيء والغنيمة.

فقال قوم : إنّهم يستحقّون ذلك بالقرابة ولا تعتبر فيهم الحاجة وعدم الحاجة ، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه.

وقال آخرون : إنّهم يستحقون ذلك بالحاجة لا القرابة ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه ، فإذا قسم ذلك بينهم فضل الذكور على الإناث كالحكم في الميراث ، فيكون للذكر سهمان ، وللأنثى سهم.

وقال محمّد بن الحسن : سوّى بينهم ، ولا يفضل الذكران على الإناث.

ذكر حكم هاتين الآيتين

اختلف العلماء فيه ، فقال بعضهم : أراد بقوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) : الغنائم التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة وقهرا ، وكانت الغنائم في بدء الإسلام لهؤلاء الذين سمّاهم الله سبحانه في سورة الحشر ، دون الغانمين والموجفين عليها ، ثم نسخ ذلك بقوله في سورة الأنفال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) الآية.

وهذا قول يزيد بن رويان وقتادة.

وقال بعضهم : الآية الأولى بيان حكم أموال بني النضير خاصّة لقوله سبحانه : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) ، والآية الثانية بيان حكم سائر الأموال التي أصيبت بغير قتال ، ولم يوجف عليها بالخيل والجمال.

وقال الآخرون : هما واحد ، والآية الثانية بيان قسمة المال الذي ذكر الله سبحانه في الآية الأولى.

واعلم أنّ جملة الأموال التي للأئمّة والولاة فيها مدخل على ثلاثة أوجه :

أحدها : ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم كالصدقات.

والثاني : الغنائم وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والعهد.

والثالث : الفيء وهو ما رجع الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال الكافرين عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب مثل مال الصلح والجزية والخراج والعشور التي تؤخذ من تجّار الكفّار إذا دخلوا دار الإسلام ، ومثل أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم أو يموت منهم في دار الإسلام أحد ، ولا يكون له وارث.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤١.

٢٧٤

وأمّا الصدقات ، فمصرفها ما ذكر الله سبحانه وتعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) (١) ـ الآية ـ وقد مضى البيان عن أهل السهمين.

وأمّا الغنائم فإنّها كانت في بدء الإسلام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع بها ما يشاء ، كما قال عزوجل : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (٢) ثم نسخ ذلك بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية : فجعل أربعة أخماسها للغانمين تقسّم بينهم.

فأما ما كان من النقود والعروض والأمتعة والثياب والدواب والكراع فإنّه يقسّم بينهم ، ولا يحبس منهم.

وأمّا العقار ، فاختلف الفقهاء فيه ، فقال مالك رحمه‌الله : للإمام أن يحبس الأراضي عنهم ويجعلها وقفا على مصالح المسلمين.

وقال أبو حنيفة : الإمام مخيّر بين أن يقسّمها بينهم وبين أن يحبسها عنهم ويجعلها وقفا على مصالح المسلمين.

وقال الشافعي رضي‌الله‌عنه : ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، وحكمها حكم سائر الأموال.

وهو الاختيار ؛ لأنّ الله سبحانه أخرج الخمس منها بعد ما أضاف الجميع إليهم بقوله : (غَنِمْتُمْ) فدلّ أنّ الباقي لهم وحقّهم. وأما الخمس الباقي فيقسّم على خمسه أسهم : سهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل.

وأمّا الفيء فإنّه كان يقسّم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خمسة وعشرين سهما : أربعة أخماسها ، وهي عشرون سهما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل بها ما شاء ويحكم فيها ما أراد ، والخمس الباقي يقسّم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة.

وأما بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد اختلف الفقهاء في الأربعة الأخماس التي كانت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفيء.

فقال قوم : إنّها تصرف الى المجاهدين المتصدّين للقتال في الثغور ، وهو أحد قولي الشافعي رضي‌الله‌عنه.

وقال آخرون : تصرف إلى مصالح المسلمين ؛ من سد الثغور وحفر الآبار وبناء القناطر ونحوها بدءا بالأهمّ فالأهمّ ، وهو القول الآخر للشافعي رضي‌الله‌عنه.

وأمّا السهم الذي كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خمس الفيء وخمس الغنيمة فإنّه يصرف بعده

__________________

(١) سورة التوبة : ٦٠.

(٢) سورة الأنفال : ١.

٢٧٥

الى مصالح المسلمين بلا خلاف ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخمس مردود فيكم» [٢٥١] (١).

وهكذا ما خلّفه من مال غير موروث عنه ، بل هو صدقة تصرف عنه إلى مصالح المسلمين كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّا لا نورّث ، ما تركناه صدقة» [٢٥٢] (٢).

فكانت صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مال الفيء الذي خصّه الله سبحانه بها له ، ينفق منها على أهله نفقة سنة ، فما فضل جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله كما ذكر. فلمّا توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليها أبو بكر رضي‌الله‌عنه فجعل يفعل بها ما كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم وليها عمر رضي‌الله‌عنه على ما ولي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ، فلما استخلف عثمان ولّاها عليّ بن أبي طالب على سبيل التولية وجعله القسيم فيها ، يليها على ما وليها رسول الله عليه‌السلام وصاحباه ، وبالله التوفيق.

أخبرنا عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن أبي جعفر الطبري قال : حدّثنا ابن عبد الأعلى قال : حدّثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر رضي‌الله‌عنه. (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) حتى بلغ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٣) ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) (٤) ـ الآية ـ ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) حتى بلغ (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) (... وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) (... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامّة ، فليس أحد إلّا له فيها حقّ. ثم قال : لئن عشت ليأتينّ الراعي وهو يسير حمره نصيبه (٥) منها لم يعرق فيها جبينه.

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) قراءة العامة (يَكُونَ) ـ بالياء ـ (دُولَةً) بالنصب على معنى كي لا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر بالتاء والرفع ، أي كي لا تكون الغنيمة أو الأموال ، ورفع دُولَةٌ فاعلا لـ (كان) ، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع ، وحينئذ لا خبر له. والقرّاء كلهم على ضمّ الدال من ال (دُولَةً) إلّا أبا عبد الرحمن السلمي فإنّه فتح دالها.

قال عيسى بن عمر : الحالتان بمعنى واحد. وفرّق الآخرون بينهما ، فقالوا : الدولة ـ بالفتح ـ الظفر والغلبة في الحرب وغيرها وهي مصدر ، والدولة ـ بالضمّ ـ اسم الشيء الذي يتداوله الناس بينهم مثل العارية ، ومعنى الآية : كي لا يكون الفيء دولة بين الرؤساء والأقوياء والأغنياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء ؛ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها

__________________

(١) كنز العمال : ٤ / ٣٧٢ ح ١٠٩٦٧.

(٢) صحيح مسلم : ٥ / ١٥٢.

(٣) سورة التوبة : ٦٠.

(٤) سورة الأنفال : ٤١.

(٥) من تفسير الطبري ٢٨ : ٣٧ ، وفي المخطوط : وحمير يصيبه.

٢٧٦

لنفسه وهو المرباع ، ثم يصطفي منها أيضا ـ يعني (١) المرباع ـ ما شاء ، وفيه يقول شاعرهم :

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول (٢)

فجعل الله سبحانه أمر الرسول عليه‌السلام بقسمته في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس ، فإذا خمس رفع عن المسلمين جميعا.

(وَما آتاكُمُ) : أعطاكم (الرَّسُولُ) من الفيء والغنيمة (فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) من الغلول (٣) وغيره (فَانْتَهُوا).

قال الحسن في هذه الآية : يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ قال : حدّثنا أبو محمّد عبيد بن أحمد بن عبيد الصفّار الحمصي قال : حدّثنا عطية بن بقيّة بن الوليد قال : حدّثنا عيسى ابن أبي عيسى قال : حدّثنا موسى بن أبي حبيب قال : سمعت الحكم بن عمير الثمالي ـ وكانت له صحبة ـ يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه ، يسير لمن تبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم ، فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وبحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي ، فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ، ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن. قال الله سبحانه : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)» [٢٥٣] (٤).

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفريابي وعبيد الله بن أحمد الكناني قالا : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدّثنا معاوية بن هشام قال : حدّثنا سفيان الثوري ، عن الأشتر ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : لقي عبد الله بن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه ، فقال : انزع عنك. فقال الرجل : أتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله؟ قال : نعم (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [٢٥٤].

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ

__________________

(١) كذا في المخطوط ، والظاهر أنه (عدا)

(٢) لسان العرب : ٧ / ٤١٥.

(٣) الغلول : الخيانة في الغنيمة خاصّة. الصحاح ٥ : ١٧٨٤ ـ غل.

(٤) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٧.

٢٧٧

نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

(لِلْفُقَراءِ) يعني كي لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الأغنياء منكم ، ولكن يكون للفقراء (الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في إيمانهم. قال قتادة : هؤلاء المهاجرون الذي تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر وخرجوا حبا لله ولرسوله ، واختاروا الإسلام على ما كانت فيهم من شديدة ، حتى ذكر لنا أنّ الرجل يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتّخذ الحفرة في الشتاء ماله دثار غيرها.

وروى جعفر بن المغيرة ، عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا : كان أناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو فنسبهم الله أنّهم فقراء ، وجعل لهم سهما في الزكاة.

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) : توطّنوا (الدَّارَ) اي اتّخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة ، وهم الأنصار أسلموا في ديارهم وبنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنتين فأخر الله عليهم البناء.

ونظم الآية : والذين تبوّءوا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) حزازة وغيظا وحسدا (مِمَّا أُوتُوا) أي ممّا أعطوا المهاجرين من الفيء. وذلك

أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلّا ثلاثة نفر كما ذكرناهم ، فطابت أنفس الأنصار بذلك.

(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) إخوانهم من المهاجرين بأموالهم وديارهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) : فاقة وحاجة إلى ما هو يزول ؛ وذلك أنّهم قاسموهم ديارهم وأموالهم.

وأخبرنا أبو محمّد الحسن بن أحمد بن محمّد السيستاني قال : حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن إبراهيم الثقفي قال : أخبرنا محمود بن خداش ـ وسمعته يقول : ما أخذت شيئا أشتري قط (١) ـ قال : حدّثنا محمّد بن الحسن السيستاني قال : حدّثنا الفضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أصابه الجهد فقال : يا رسول الله ، إني جائع فأطعمني.

فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه‌السلام إلى أزواجه : «هل عندكنّ شيء؟». فكلّهنّ قلن : والذي بعثك بالحقّ نبيّا ما عندنا إلّا الماء. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما عند رسول الله ما يطعمك هذه الليلة».

ثم قال : «من يضف هذا هذه الليلة يرحمه‌الله» (٢) [٢٥٥].

__________________

(١) كذا عبارته في المخطوط ، والمنقول عنه في كتب الرجال قوله : ما اشتريت شيئا قط ولا بعت. انظر تهذيب التهذيب ١٠ : ٥٦ / ١٠٢ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٩١ / ٧٠٧٤.

(٢) زاد المسير : ٧ / ٣٣٨.

٢٧٨

فقام رجل من الأنصار قال : أنا يا رسول الله. فأتى به منزله ، فقال لأهله : هذا ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكرميه ولا تدّخري عنه شيئا. فقالت : ما عندنا إلّا قوت الصبية. قال : قومي فعلّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئا ، ثم أسرجي فأبرزي ، فإذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنّك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يشبع ضيف رسول الله. قال : فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئا ، ثم قامت فأبرزت وأسرجت فلمّا أخذ الضيف ليأكل قامت كأنّها تصلح السراج فأطفأته ، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله عليه‌السلام فظنّ الضيف أنّهما يأكلان معه ، حتى شبع ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وباتا طاويين. فلمّا أصبحا عدوا إلى رسول الله عليه‌السلام ، فلمّا نظر إليهما تبسّم ثم قال : «لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة» [٢٥٦]. فأنزل الله سبحانه : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الآية.

قال أنس بن مالك : أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي وكان مجهودا ، فوجّهه إلى جار له فتناوله تسعة أنفس ثم عاد إلى الأوّل ، فأنزل الله سبحانه : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

ويحكى عن أبي الحسن الأنطاكي أنّه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لم تسع جميعهم ونشروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام ، فلمّا رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثارا لصاحبه.

ويحكى عن حذيفة العدوي قال : انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه ، فإذا أنا به ، قلت : أسقيك؟ فأشار أي نعم ، فإذا رجل يقول : آه ، فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت : أسقيك؟ فسمع به آخر قال : آه ، فأشار هشام أن انطلق به إليه ، فجئته فإذا هو قد مات ، ثم رجعت الى هشام فإذا هو قد مات ، ثم رجعت الى ابن عمي فإذا قد مات رحمه‌الله.

سمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد النيسابوري يقول : سمعت أبا عبد الله محمّد بن عبيد الله الجرجاني يقول : سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يحكي عن أبي يزيد البسطامي قال : ما غلبني أحد مثل ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجّا ، فقال لي : يا أبا يزيد ، ما حدّ الزهد عندكم؟ قلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا. فقال هكذا عندنا كلاب بلخ. فقلت : ما حدّ الزهد عندكم؟ فقال : إذا فقدنا صبرنا ، وإذا وجدنا آثرنا.

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا محمّد أحمد بن محمّد بن إبراهيم البلاذري يقول : سمعت بكر بن عبد الرحمن يقول : سئل ذو النون المصري عن علامة الزاهد المشروح صدره فقال : ثلاث : تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند القوت.

٢٧٩

قال ابن عباس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النضير للأنصار : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة» [٢٥٧] (١).

فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها.

فأنزل الله سبحانه : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)والشح في كلام العرب : البخل ومنع الفضل ، يقال : فلان شحيح من الشّح والشّحّ والشحّة والشحاحة ، قال عمرو بن كلثوم :

ترى اللحز الشحيح إذا أمرّت

عليه لماله فيها مهينا (٢)

وفرّق العلماء من السلف بينهما.

فأخبرني الحسن بن محمّد قال : حدّثنا موسى بن محمّد بن علي قال : حدّثنا إدريس بن عبد الكريم الحدّاد قال : حدّثنا عاصم بن علي بن عاصم ، وأخبرنا عبد الخالق قال : حدّثنا ابن حبيب قال : حدّثنا ابن شاكر قال : حدّثنا عاصم بن علي قال : حدّثنا المعادي ، عن جامع بن شداد ، عن أبي الشعثاء قال : قال رجل لعبد الله بن مسعود : يا أبا عبد الرحمن ، إني أخاف أن أكون قد هلكت. قال :وما ذاك؟ قال : سمعت الله سبحانه يقول : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء. فقال : ليس ذاك الشحّ الذي ذكر الله سبحانه في القرآن ، ولكن الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل.

الوالبي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) قال : يقول : هوى نفسه يتبع هواه فلم يقبل الإيمان.

وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله سبحانه ولم يدعه الشحّ الى أن يمنع شيئا من شيء أمره الله تعالى به فقد وقاه شحّ نفسه.

وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه ، والشحّ أن يبخل بما في أيدي الناس.

وأخبرني أبي قال : أخبرنا محمّد بن أحمد بن عبد الله النحوي قال : أخبرنا محمّد بن حمدون ابن خالد قال : حدّثنا محمّد بن عبد الوهاب بن أبي تمام العسقلاني قال : حدّثنا سليمان

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤٣٠.

(٢) لسان العرب : ٥ / ٤٠٤.

٢٨٠