الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

وقرأ نافع والمفضل ويعقوب برواية روح وزيد بتخفيف الواو ، وهي اختيار أبي حاتم.

وقرأ الباقون بالتشديد واختاره أبو عبيدة قال : لأنّهم فعلوها مرّة بعد مرّة.

(وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون عمّا دعوا إليه ، (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) لا يستغفرون.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه ، وذلك ما ذكره أهل التفسير وأصحاب السير أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أنّ بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحرث بن أبي ضراب أبو جويرية زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا سمع بهم رسول الله عليه‌السلام خرج إليهم حتّى لقيهم على ماء من مياههم يقال له : المريسيع من ناحية قدموا إلى الساحل ، فتزاحف النّاس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليه ، وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كليب بن عوف بن عامر يقال له : هشام بن صبابة ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنّه من العدو فقتله خطأ.

فبينا النّاس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني عمار يقال له : جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ، وصرخ الغفاري : يا معشر المهاجرين ، فأعان جهجاه الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيرا ، وقال عبد الله بن أبي الجعال : وإنّك لهناك؟ فقال : وما يمنعني أن أفعل ذلك؟ فاشتدّ لسان جعال على عبد الله ، فقال عبد الله : والّذي يحلف به لأذرنّك وبهمك عن هذا ، وغضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلاما حديث السّن ، وقال ابن أبي افعلوا قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما مثلنا ومثلهم إلّا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، أما والله (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) يعني بالأعزّ نفسه وبالأذلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثمّ أقبل على من حضر من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم فيلحقوا بعشائرهم ومواليهم فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد ، فقال زيد بن أرقم : أنت والله الذليل المبغض في قومك ، ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين ، والله لا أحبّك بعد كلامك هذا.

فقال عبد الله : اسكت فإنّما كنت ألعب ، فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال : دعني أضرب عنقه يا رسول الله

٣٢١

فقال : إذا توعد أن خلّ عنه يدخل. فقال : أمّا إذا جاء أمر النبي عليه‌السلام فعمر يرحل ولم يلبث إلّا أياما ولأنك حسبتني أشتكي ومات.

قالوا : فلمّا نزلت هذه الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له : يا أبا حباب إنّه قد نزلت أي شداد ، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك فلوّى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت ، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد ، فأنزل الله سبحانه (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) إلى قوله (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يعذر أحد أن يعطي هنا شيئا إلّا بأذنه ، ولا أن يمنعه شيئا إلّا بمشيئته.

قال رجل لحاتم الأصم : من أين يأكل؟ فقرأ (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ).

وقال الجنيد : خزائن السماء : الغيوب ، وخزائن الأرض : القلوب وهو علّام الغيوب ومقلّب القلوب ، وكان الشبلي يقول : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فأين تذهبون؟.

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) يعني من غزوة بني لحيان ثمّ بني المصطلق ، وهم حي من هذيل (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فعزّة الله سبحانه قهر من دونه ، وعزّ رسوله إظهار دينه على الأديان كلّها ، وعزّ المؤمنين نصره إيّاهم على أعدائهم فهم ظاهرون.

وقيل : عزّة الله : الولاية ، قال الله تعالى (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) وعزّة الرسول : الكفاية قال الله سبحانه : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) وعزّ المؤمنين : الرفعة والرعاية قال الله سبحانه : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقال (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ) رؤفا (رَحِيماً).

وقيل : عزة الله الربوبية ، وعزّة الرسول : النبوّة. وعزّة المؤمنين : العبودية.

وكان جعفر الصّادق يقول : «من مثلي وربّ العرش معبودي ، من مثلي وأنت لي».

وقيل : عزّة الله خمسة : عزّ الملك والبقاء ، وعزّ العظمة والكبرياء ، وعزة البذل والعطاء ،

٣٢٢

وعزّ الرفعة والغناء ، وعزّ الجلال والبهاء ، وعزّ الرسول خمسة : عزّ السبق والابتداء ، وعزّ الأذان والنداء ، وعزّ قدم الصدق على الأنبياء ، وعزّ الاختيار والاصطفاء ، وعزّ الظهور على الأعداء ، وعزّ المؤمنين خمسة : عزّ التأخير بيانه : نحن السابقون الآخرون ، وعزّ التيسير بيانه : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (... يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ، وعزّ التبشير بيانه : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) ، وعزّ التوقير بيانه : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) ، وعزّ التكثير وبيانه : إنهم أكثر الأمم.

(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) قال المفسرون : يعني الصلوات الخمس ، نظيره قوله سبحانه : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) الآية.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) أمهلتني يجوز أن يكون (لا) صلة ، فيكون الكلام بمعنى التمنّي ، ويجوز أن يكون بمعنى هلّا فيكون استفهاما.

(إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) يعني مثل ما أجلت في الدنيا ، (فَأَصَّدَّقَ) فأتصدّق وأزكّي مالي.

(وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) المؤمنين نظيره قوله (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) هذا قول مقاتل وجماعة من المفسرين ، وقالوا : نزلت هذه الآية في المنافقين.

وقيل : الصالح هاهنا : الحج ، والآية نازلة في المؤمنين.

روى الضّحاك وعطية عن ابن عبّاس قال : ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤدّ زكاته وأطاق الحجّ ولم يحجّ إلّا سأل الرجعة عند الموت فقالوا : يا بن عبّاس اتّق الله فإنّما نرى هذا الكافر سأل الرجعة فقال : أنا أقرأ عليكم قرآنا ، ثم قرأ هذه الآية الى قوله (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) قال : أحجّ ، أخبرناه ابن منجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن سهلويه قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثنا عبد الرزّاق قال : أخبرنا الثوري عن يحيى بن أبي حيّة عن الضّحاك عن ابن عبّاس.

واختلف القرّاء في قوله (وَأَكُنْ) فقرأ أبو عمرو وابن محيص : وأكون بالواو ونصب النون على جواب التمنّي أو للاستفهام بالفاء ، قال أبو عمرو : وإنما حذفت الواو من المصحف اختصارا كما حذفوها في (كلّمن) وأصلها الواو.

قال الفرّاء : ورأيت في بعض مصاحف عبد الله (فَقُولا) ـ فقلا ـ بغير واو ، وتصديق هذه

__________________

(١) في المخطوط : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وهو وهم.

٣٢٣

القراءة ما أخبرنا محمّد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيّوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : أخبرنا القاسم بن سلام قال : حدّثنا حجاج عن هارون قال : في حرف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ـ وأكون من الصالحين ، بالواو.

وقرأ الآخرون : بالجزم (وَأَكُنْ) عطفا بها على قوله (فَأَصَّدَّقَ) لو لم يكن فيه الفاء وذلك أنّ قوله (فَأَصَّدَّقَ) لو لم يكن فيه الفاء كان جزما ، واختار أبو عبيد الجزم ، قال : من ثلاث جهات :

أحدها : إنّي رأيتها في مصحف الإمام عثمان ـ (وَأَكُنْ) بحذف الواو ثم اتفقت بذلك المصاحف فلم تختلف.

والثانية : اجتماع أكثر قرّاء الأمصار عليها.

والثالثة : إنّا وجدنا لها مخرجا صحيحا في العربية لا يجهله أهل العلم بها وهو أن يكون نسقا على محل أصّدق قبل دخول الفاء ، وقد وجدنا مثله في أشعارهم القديمة منها قول القائل :

فأبلوني بليتكم لعلّي

أصالحكم واستدرج نويا (١)

فجزم واستدرج عطفا على محل أصالحكم قبل دخول لعلّي.

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) بالياء مختلف عنه غيره بالتاء.

__________________

(١) لسان العرب : ١١ / ٤٧٤.

٣٢٤

سورة التغابن

مكية إلّا قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) الآية وهي ألف وسبعون حرفا ، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة ، وثماني عشرة آية أخبرنا أبو الحسن المحاربي قال : حدّثنا أبو الشيخ الحافظ قال : حدّثنا أبو داود سليمان ابن أحمد بن الوليد قال : حدّثنا سلمة بن شبيب قال : حدّثنا الوليد بن الوليد الدمشقي عن عبد الرحمن بن ثومان عن عطاء بن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود يولد إلّا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التغابن» [٣٠٨] (١).

وأخبرني نافل بن راقم قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمّد قال : حدّثنا عمرو بن محمد قال : حدّثنا أسباط بن اليسع قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي قال : حدّثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن ذر عن أبي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة» [٣٠٩] (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨))

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٣١.

(٢) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٧.

٣٢٥

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : إنّ الله سبحانه خلق الخلق مؤمنين وكافرين.

قال ابن عبّاس : بدأ الله خلق بني (١) آدم مؤمنا وكافرا ثمّ يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا.

واحتجّوا بحديث الصادق المصدّق وقوله : «السعيد من سعد في بطن أمّه والشقي من شقي في بطن أمّه» [٣١٠].

وكما أخبرنا عبد الله بن كامل الأصبهاني قال : أخبرني أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى العبدي بنو شيخ قال : حدّثنا أحمد بن نجدة بن العريان قال : حدّثنا المحاملي قال : حدّثنا ابن المبارك عن أبي لهيعة قال : حدّثني بكر بن سوادة عن أبي تميم الحسائي عن أبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس ، فعرج به إلى الرّب تبارك وتعالى ، فقال : يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله سبحانه ما هو قاض. أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق» وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات» [٣١١] (٢).

وأخبرنا عبد الخالق قال : أخبرنا ابن حبيب قال : حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل السيوطي قال : حدّثنا داود بن المفضل قال : حدّثنا نصر بن طريف قال : أخبرنا قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ناجيه بن كعب عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله سبحانه فرعون في بطن أمّه كافرا ، وخلق يحيى بن زكريّا في بطن أمّه مؤمنا» [٣١٢] (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا [٣١٣] (٤).

وقال الله سبحانه (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً).

إنّ الله سبحانه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا وتمام الكلام عند قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ثم وصفهم (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) وهو مثل قوله : (اللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي [عَلى بَطْنِهِ)] (٥) الآية ، قالوا : فالله خلقهم والمشي فعلهم ، وهذا اختيار الحسن ابن الفضل.

قالوا : أو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفه بفعلهم في قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) الكفر فعل الكافر ، والإيمان فعل المؤمن.

واحتجّوا بقوله سبحانه : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وبقوله : «كل مولود يولد على الفطرة» [٣١٤] (٦) ، وقوله حكاية عن ربّه : «إنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء» [٣١٥] (٧) ونحوها من

__________________

(١) في المخطوط : ابن. (٢) الدر المنثور : ٦ / ٢٢٧.

(٣) كنز العمال : ١١ / ٥٢٢ ح ٣٢٤٣٦.

(٤) سنن الترمذي : ٤ / ٣٧٤. (٦) مسند أحمد : ٢ / ٢٣٣.

(٥) سورة النور : ٤٥. (٧) صحيح مسلم : ٨ / ١٥٩ وفيه : «حنفاء كلّهم».

٣٢٦

الأخبار ، ثم اختلفوا في تأويلها ، فروى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال : «فمنكم مؤمن يكفر ، ومنكم كافر يؤمن».

وقال أبو سعيد الخدري : «(فَمِنْكُمْ كافِرٌ) حياته مؤمن في العاقبة ، (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) حياته كافر في العاقبة» ، وقال الضحاك : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) في السّر مؤمن في العلانية كالمنافق ، (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) في السّر ، كافر في العلانية كعمّار وذويه. (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) بالله مؤمن بالكواكب ، (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) بالله كافر بالكواكب ، يعني في شأن الأنوار.

قال الزجّاج : وأحسن ما قيل فيها (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ) بأنّ الله خلقه ، وهو مذهب أهل الدهر والطبائع. (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) بأنّ الله خلقه.

وجملة القول في حكم هذه الآية ومعناها والّذي عليه جمهور الأمّة والأئمة والمحقّقون من أهل السنّة هي أنّ الله خلق الكافر وكفره فعلا له وكسبا ، وخلق المؤمن وإيمانه فعلا له وكسبا ، فالكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله سبحانه إيّاه ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قدّر عليه ذلك وعلمه منه ، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان بعد خلق الله تعالى إيّاه ؛ لأنّ الله سبحانه أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلمه منه ، ولا يجوز أن يوجد من كلّ واحد منهم غير الذي قدّره الله عليه وعلمه منه ، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز ، وخلاف المعلوم جهل ، وهما لا يليقان بالله تعالى ، ولا يجوزان عليه ، ومن سلك هذا السبيل سلم من الجبر والقدر فأصاب الحقّ كقول القائل :

يا ناظرا في الدّين ما الأمر

لا قدر صحّ ولا جبر (١)

وقد أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد العمدة السرخسي قال : حدّثنا عبد الله بن مبشر الواسطي قال : حدّثنا أحمد بن منصور الزّيادي قال : سمعت سيلان يقول : قدم أعرابي البصرة فقيل له : ما تقول في القدر؟ قال : أمر تغالت فيه الظنون ، واختلف فيه المختلفون ، فالواجب علينا أن نردّ ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) يعني الأمم الخالية (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. ذلِكَ) العذاب. (بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) لأنّ البشر وإن كان لفظه واحد فإنّه في معنى الجمع وهو اسم الجنس وواحده إنسان ولا واحد له من لفظه.

(فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن إيمانهم (وَاللهُ غَنِيٌ) عن خلقه ، (حَمِيدٌ) في أفعاله.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٣٣.

٣٢٧

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ) يا محمّد (بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) قراءة العامّة بالياء لقوله سبحانه (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وقرأ [رويس عن يعقوب (يوم نجمعكم)] بالنون اعتبارا بقوله (أَنْزَلْنا).

(لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد ، وقد ورد في تفسير التغابن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أخبرنا الحسن بن محمّد قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال : حدّثنا كثير بن يحيى قال : حدّثنا أبو آمنة بن معلّى الثقفي قال : حدّثنا سعيد بن أبي سعيد المنقري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلّا أري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النّار إلّا أري مقعده من الجنّة لو أحسن ازداد حسرة» [٣١٦] (١).

قال المفسّرون : من غبن أهله منازله في الجنّة فيظهر يومئذ غبن كلّ كافر ببركة الإيمان ، وغبن كلّ مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيّام.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) قرأ أهل المدينة والشام هاهنا وفي السورة الّتي تليها : نكفّر وندخله بالنون ، والباقون بالياء.

__________________

(١) كنز العمال : ١٤ / ٤٨١ ح ٣٩٣٤٦.

٣٢٨

(ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته وقضائه.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) قصدوا به لا يصيب مصيبة إلّا بإذن الله (يَهْدِ قَلْبَهُ) يوفقه لليقين حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه قاله ابن عبّاس.

وأنبأني عبد الله بن حامد إجازة قال : أخبرنا الحسن بن يعقوب قال : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله قال : حدّثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان قال : كنّا نعرض المصاحف على علقمة بن قيس فمرّ بهذه الآية (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) فسألناه عنها فقال : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنّها من عند الله فيرضى ويسلّم.

وقال أبو بكر الورّاق : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) عند النعمة والرخاء ، فيعلم أنّها من فضل الله (يَهْدِ قَلْبَهُ) للشكر ، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) عند الشدّة والبلاء فيعلم أنّها من عند الله (يَهْدِ قَلْبَهُ) للرضا والصبر.

وقال أبو عثمان الجيري : ومن صحّ إيمانه (يَهْدِ قَلْبَهُ) لاتباع السنّة.

وقد اختلف القرّاء في هذه الآية ، فقراءة العامّة (يَهْدِ قَلْبَهُ) بفتح الياء والباء واختاره أبو عبيده وأبو حاتم ، وقرأ السلمي بضم الياء والباء وفتح الدّال على الفعل المجهول ، وقرأ طلحة ابن مصرف : نهد قلبه بالنون وفتح الباء على التعظيم.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال : حدّثنا أبو عمر المقرئ قال : حدّثنا أبو عمارة قال : حدّثنا سهل بن موسى الأسواري قال :أخبرني من سمع عكرمة يقرأ : ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه ، من الهدوء أي يسكن ويطمئن.

وقرأ مالك بن دينار : يهدا قلبه بألف ليّنة بدلا من الهمزة.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) التبليغ البيّن.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبّطهم عنها أزواجهم وأولادهم.

قال ابن عبّاس : كان الرجل يسلم ، فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا له : ننشدك الله أن تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير بالمدينة بلا أهل ومال ، وإنّا قد صبرنا على إسلامك فلا نصبر على فراقك ، ولا نخرج معك ، فمنهم من يرقّ لهم ويقيم لذلك فلا يهاجر ، فإذا هاجر رأى النّاس قد نقموا في الدّين منهم أن يعاقبهم في تباطئهم به عن الهجرة ، ومنهم من لا يطيعهم ويقولون لهم في خلافهم في الخروج : لئن جمعنا الله وإيّاكم لا تصيبون منّي خيرا ، ولأفعلنّ ، وأفعلنّ فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

٣٢٩

وقال عطاء بن يسار وعطاء الخراساني : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورفّقوه وقالوا : إلى من تكلنا وتدعنا فيرقّ ويقيم ، فأنزل الله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) لحملهم إيّاكم على المعصية وترك الطاعة (فَاحْذَرُوهُمْ) أن تقبلوا منهم.

(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) فلا تعاقبوهم على خلافهم إيّاكم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) بلاء واختبار يحملكم على الكسب من الحرام والمنع عن الحقّ ، وقال القتيبي : إغرام يقال فتن فلان بفلانة أي أغرم بها.

قالت الحكماء : أدخل من التبعيض في ذكر الأزواج والأولاد حيث أخبر عن عداوتهم ، لأنّ كلّهم ليسوا بأعداء ولم يذكر ـ من ـ في قوله (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لأنّها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب بها ، يدلّ عليه قول عبد الله بن مسعود : «لا يقولنّ أحد : اللهم إنّي أعوذ بك من الفتنة ، فإنّه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مضلّات الفتن» (١).

وأخبرنا ابن منجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا عبد الله بن الفضل قال : حدّثنا أبو خثمه قال : حدّثنا زيد بن حباب قال : حدّثنا حسين بن واقد قاضي مرو قال : حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ، فنزل النّبي عليه‌السلام إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر فقال : «صدق الله (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما» ثم أخذ في الخطبة. [٣١٧] (٢)

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ناسخة لقوله (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وقد مرّ ذكره.

(وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) مجازه : يكن الإنفاق خيرا لأنفسكم. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) ومنعها عن الحقّ (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قال ابن عمر : «ليس الشّح أن يمنع الرجل ماله ، وإنّما الشّح أن يطمع الرجل إلى ما ليس له».

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٤٣.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٣٥٤ ، تفسير القرطبي : ١٨ / ١٤٣.

٣٣٠

سورة الطلاق

مدنية ، وهي ألف وستون حرفا ، ومائتان

وسبعة وأربعون كلمة ، واثنتا عشرة آية

أخبرنا ابن المقري قال : أخبرنا ابن مطر قال : حدّثنا ابن شريك قال : حدّثنا ابن يونس قال : حدّثنا سلام قال : حدّثنا شاهرون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي ابن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) مات على سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» [٣١٨] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦))

هذه السورة تسمى سورة النساء القصرى افتتحها الله سبحانه وتعالى بخطاب منه [للنبي] صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ثم جمع الخطاب فقال عزّ من قائل (إِذا طَلَّقْتُمُ) ومجازها : يا أيها النبي

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٦.

٣٣١

قل لأمّتك إذا طلقتم (النِّساءَ) أي أردتم تطليقهن كقوله (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ).

(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وهو أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، يقول : طلّقوهن لطهرهنّ الذي يحصينّه من عدّتهن ، ولا تطلقوهن لحيضهنّ الذي لا يعتددن به من قروئهنّ ، وهذا للمدخول بها ؛ لأنّ من لم يدخل بها لا عدّة عليها.

فإذا طلّقها في طهر لم يجامعها فيه نفذ طلاقه وأصاب السنّة ، وإن طلّقها حائضا وقع الطلاق وأخطأ السنّة (١).

وقال سعيد بن المسيّب في آخرين : لا يقع لأنّه خلاف ما أمروا ، وإليه ذهب الشيعة ، فإن طلقها في طهرها ثلاثا فكرّهه قوم وقالوا ليس بطلاق السنّة ؛ لأنّه لم يدع للإمساك موضعا ، وكان الشافعي والجمهور يبيحونه ولا يكرهونه لأنّ عبد الرحمن بن عوف طلّق امرأته ثلاثا ، وإنّ العجلاني لمّا لاعن قال : كذبت عليها إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثا ، فلم يردّ عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واختلف المفسّرون فيمن نزلت هذه الآية ، قال : فأخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شعبة ، حدّثنا أبو القاسم عمر بن عقبة بن الزبير الأنصاري ، حدّثنا أبو عبد الله محمّد ابن أيّوب بن معيد بن هناد الكوفي ، حدّثنا أسباط بن محمّد ، حدّثنا سعيد بن عروة عن قتادة عن أنس قال : طلّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)

وقيل له : راجعها فإنّها صوّامة قوّامة ، وهي من إحدى أزواجك ونسائك في الجنّة.

وقال السدي : نزلت في عبد الله بن عمر ، وذلك أنّه طلّق امرأته حائضا وأمره النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يراجعها ويمسكها حتّى تطهر ، ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت طلّقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها ، فإنّها العدّة التي أمر الله بها.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، حدّثنا محمد بن يعقوب ، حدّثنا الحسن بن علي بن عفّان ، حدّثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : طلّقت امرأتي على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مره فليراجعها حتى تطهر (٢) ثم تحيض حيضة أخرى ، فإذا طهرت فليطلقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها ، فإنّها العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلّق لها النساء» [٣١٩] (٣).

قال فقلت لنافع ما صنعت التطليقة قال : واحدة اعتدّت بها.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي : ١٨ / ١٥٠.

(٢) في المصدر : «من حيضتها هذه».

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٥٤.

٣٣٢

وقال المقاتلان : نزلت في عبد الله بن عمرو بن العاص وعمرو بن سعيد بن العاص وطفيل بن الحرث وعتبة بن غزوان.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، حدّثنا أحمد بن عبد الله المزني ، حدّثنا الحضرمي ، حدّثنا عثمان ، حدّثنا عبد السلم بن حرب عن يزيد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن قال : بلغ أبا موسى أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجد عليهم فأتاه فذكر ذلك له فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول أحدكم : قد زوجت ، قد طلّقت ، وليس كذلك عدّة المسلمين ، طلّقوا المرأة في قبل عدّتها» [٣٢٠] (١).

وكان ابن عبّاس وابن عمر يقرءان : فطلّقوهنّ قبل عدّتهن ، وفي هذه الآية دليل واضح أنّ السنّة والبدعة اعتبارهما في وقت الطّلاق لا في عدد الطلاق ؛ لأنّ الله تعالى ذكر وقت الطّلاق فقال : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ولم يذكر عدد الطّلاق ، فكذلك في حديث ابن عمر الّذي رويناه دليل أنّ الاعتبار بالوقت لا بالعدد لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّمه الوقت لا العدد [٣٢١] (٢).

فصل في ذكر بعض الأخبار الواردة في الطلاق

أخبرنا الحسن بن فنجويه بقراءتي عليه ، حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي ، حدّثنا أبو محمد يحيى بن إسحاق بن سافرى ببغداد ، حدّثنا أحمد بن حباب ، حدّثنا عيسى بن يونس ، حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطّلاق» [٣٢٢] (٣).

أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا ابن حبيش المقري ، حدّثنا علي بن عبد الحميد العصاري بحلب ، حدّثنا أبو إبراهيم الترجماني ، حدّثنا عمرو بن جميع عن جويبر عن الضّحاك عن النزال بن سمرة عن علي رضي‌الله‌عنه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تزوّجوا ولا تطلّقوا ، فإنّ الطّلاق يهتزّ منه العرش» [٣٢٣] (٤).

أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أبي ، حدّثنا أبو أمامة عن حمّاد بن زيد عن أبي أيّوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء

__________________

(١) المصنف : ٤ / ٣ ، وفي كنز العمال بتفاوت : ٩ / ٦٤٧ / ٢٧٨٠٩.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٥١.

(٣) كنز العمال : ٩ / ٦٦١ ح ٢٧٨٧٢.

(٤) كنز العمال : ٩ / ٦٦١ ح ٢٧٨٧٤.

٣٣٣

الرحبي عن ثوبان رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنّة» [٣٢٤] (١).

أخبرنا الحصين بن محمد بن الحسين أخبرنا موسى بن محمد بن علي ، حدّثنا عبد الله بن ناجية ، حدّثنا وهب بن منبه ، حدّثنا محمد بن عبد الملك الواسطي ، حدّثنا عمرو بن قيس الملائي عن عبد الله بن عيسى عن عمارة بن راشد عن عبادة بن نسي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تطلّقوا النساء إلّا من ريبة فإنّ الله تعالى لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات» [٣٢٥] (٢).

أخبرنا ابن فنجويه أخبرنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي ، حدّثنا عبد الصمد بن سعيد ـ قاضي حمص ـ ، حدّثنا عبد السلم بن العباس بن الوليد الحضرمي ، أخبرنا علي بن خالد بن خليّ ، حدّثنا أبي ، حدّثنا سويد بن حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حلف بالطّلاق (٣) ولا استحلف به إلّا منافق» [٣٢٦] (٤).

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي عدد أقرائها فاحفظوها.

(وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) حتى تنقضي عدّتهنّ.

(وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) وهي الزنا فيخرجن لإقامة الحد عليهنّ ، هذا قول أكثر أهل المفسرين.

وقال قتادة : معناه : له أن يطلّقها على نشوزها ، فلها أن تتحول من بيت زوجها ، والفاحشة : النشوز.

وقال ابن عمر والسدي : أي خروجها قبل انقضاء عدّتها فاحشة.

أنبأني عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن الحسن ، حدّثنا الفضل بن المسيّب ، حدّثنا سعيد ، حدّثنا سفير عن محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن إبراهيم التيمي عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال : إلّا أن تبدو على أهلها ، فإذا بدت عليهم فقد حلّ إخراجها.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي مراجعة في الواحدة والثنتين ما دامت في العدّة.

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٢٧٧.

(٢) كنز العمال : ٩ / ٦٦٢ ح ٢٧٨٧٥ وفيه : لا تطلق.

(٣) في المصدر زيادة : «مؤمن».

(٤) كنز العمال : ١٦ / ٦٨٩ ح ٤٦٣٤٠.

٣٣٤

أخبرنا عبد الله بن حامد قرأه عليه ، حدّثنا محمد بن جعفر المطيري ، حدّثنا الحسن بن عرفة ، حدّثنا هيثم عن مغيرة وحصين عبد الرحمن وأشعث وإسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وشبان ومجالد كلّهم عن الشعبي قال : دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : طلّقني زوجي البتّة ، فخاصمته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقه ، وأمرني أن أعتدّ في بيت ابن أمّ مكتوم.

قال هيثم : قال مجالد في حديثه : إنّما النفقة والسكنى على من كانت له المراجعة.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن الحسين ، حدّثنا أحمد بن يوسف ، حدّثنا عبد الرزّاق ، أخبرنا معمّر قال : أخبرنا عقيل بن محمد الفقيه أنّ أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جهير ، حدّثنا ابن عبد الأعلى ، حدّثنا ابن ثور عن معمّر عن الزهري عن عبيد الله أنّ فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي وأنّه خرج مع علي ابن أبي طالب رضي‌الله‌عنه إلى اليمن حين أمّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعض اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها ، وأمر عباس بن أبي ربيعة والحرث بن هشام أن ينفقا عليها ، فقالا لها : والله ما لك من نفقة إلّا أن تكوني حاملا.

فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له قولهما ، فلم يجعل لها نفقة إلّا أن تكون حاملا ، واستأذنته في الانتقال ، فأذن لها فقالت : أين أنتقل يا رسول الله؟ قال : «عند ابن أمّ مكتوم» [٣٢٧] (١) وكان أعمى ، تضع ثيابها عنده ولا يراها ، فلم تزل هنالك حتى مضت عدّتها ، فأنكحها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامة ابن زيد ، فأرسل إليها مروان بن الحكم قبيصة بن ذؤيب يسألها عن هذا الحديث ، فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلّا من امرأة ، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها قول ابن مروان : بيني وبينكم القرآن ، قال الله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) إلى قوله (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) قالت : هذا لمن كانت له مراجعة ، فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث؟ (٢)

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي أشرفن على انقضاء عدّتهنّ وقربن منه.

(فَأَمْسِكُوهُنَ) برجعة تراجعونهنّ. (بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهن فيكنّ منكم ويكنّ أملك لأنفسهنّ.

(وَلا تُضآرُّوهُنَ) فنزل الضرار هو المعروف.

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الرجعة والفراق.

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٤١٧.

(٢) صحيح مسلم : ٤ / ١٩٧.

٣٣٥

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) قال عكرمة والشعبي والضحاك : من يطلق السنة (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) إلى الرجعة.

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) لا يرجو ولا يتوقع.

قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنّ المشركين أسروا ابنا له يسمّى : سالما ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّ العدوّ أسر ابني وشكا إليه أيضا الفاقة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أمسى عند آل محمد إلّا مد فاتّق الله واصبر وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلّا بالله» [٣٢٨] (١) ففعل الرجل ذلك ، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه وكان فقيرا وقال الكلبي في رواية يوسف بن مالك : قدم ابنه ومعه خمسون بعيرا.

أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن عامر البلخي ، حدّثنا القاسم بن عبّاد ، حدّثنا صالح بن محمد الترمذي ، حدّثنا أبو علي غالب عن سلام بن سليم عن عبد الحميد عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّ ابني أسره العدو وجزعت الأم ، فما تأمرني؟ قال : «[اتّق الله واصبر] وآمرك وإيّاها أن تستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلّا بالله» [٣٢٩]. فانصرف إليها وقالت : ما قال لك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : أمرني وإياك أن نستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلّا بالله ، قالت : نعم ما أمرك به ، فجعلا يقولان فغفل عنه العدو فساق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة ، فنزلت (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ما ساق من الغنيمة (٢).

وقال مقاتل : أصاب غنما ومتاعا ثمّ رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر وسأله الحلّ له وأن يأكل ما أتاه به ابنه ، فقال النبي عليه‌السلام : «نعم» وأنزل الله تعالى هذه الآية.

أخبرنا ابن فنجويه الدينوري ، حدّثنا عبد الله بن محمد بن شيبة ، حدّثنا بن وهب ، أخبرنا عبد الله بن إسحاق ، حدّثنا عمرو بن الأشعث ، حدّثنا سعد بن راشد الحنفي ، حدّثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال : مخرجا من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة» [٣٣٠] (٣).

__________________

(١) إعانة الطالبين : ٤ / ٣٨٩.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٦٠ ، وأسباب النزول للواحدي : ٢٨٩ وما بين معكوفين منهما.

(٣) الدر المنثور : ٦ / ٢٣٢.

٣٣٦

وقال ابن مسعود ومسروق : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) هو أن (١) يعلم أنّه من قبل الله ، وأنّ الله تعالى رازقه وهو معطيه ومانعه. الربيع بن خيثم : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من كلّ شيء ضاق على الناس.

أبو العالية : (مَخْرَجاً) من كلّ شدّة.

الحسن : (مَخْرَجاً) عمّا نهاه عنه.

الحسين بن الفضل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في أداء الفرائض (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من العقوبة ويرزقه الثواب (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).

وقال الصادق : «(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) يعني (٢) يبارك له فيما آتاه» [٣٣١] (٣).

وقال سهل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في اتّباع السّنّة (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من عقوبة أهل البدع ، (وَيَرْزُقْهُ) الجنّة (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).

عمرو بن عثمان الصدفي : ومن يقف عند حدوده ، ويحتسب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال ، ومن الضّيق إلى السعة ، ومن النّار إلى الجنّة.

أبو سعيد الخرّاز : ومن يتبرأ من حوله وقوّته بالرجوع إليه (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ممّا كلّفه بالمعونة له.

علي بن صالح : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) يقنّعه برزقه ، وقيل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في الرزق وغيره بقطع العلائق (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) بالكفاية (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، أخبرنا أبو مكي بن مالك المطيعي ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدّثنا معتمر عن كهمس عن أبي السليل عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي لأعلم آية لو أخذ بها النّاس لكفتهم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) فما يزال يقولها ويعيدها» [٣٣٢] (٤).

ويحكى أنّ رجلا أتى عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه فقال : ولّني مما ولّاك الله! قال أتقرأ القرآن؟ قال : لا. فقال : إنّا لا نولّي من لا يقرأ القرآن ، فانصرف الرجل واجتهد في تعلّم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيولّيه عملا ، فلمّا تعلم القرآن تخلّف عن عمر ، فرآه ذات يوم فقال : يا هذا هجرتنا ، فقال : يا أمير المؤمنين لست ممّن يهجر ، ولكنّي تعلّمت القرآن فأغناني الله تعالى عن

__________________

(١) في المخطوط : أنّه.

(٢) في المصدر : «أي».

(٣) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٣.

(٤) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٦٠.

٣٣٧

عمر وعن باب عمر. فقال : أيّ آية أغنتك ، فقال : قول الله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).

أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عّدوس ، أخبرنا عثمان بن سعيد الرّازي ، حدّثنا مهدي بن جعفر الرّملي ، حدّثنا الوليد بن مسلم عن الحكم بن مصعب عن محمد بن علي عن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجا ، ومن كل ضيق (مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)» [٣٣٣] (١).

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فيثق به ويسكن قلبه إليه في الموجود والمفقود.

(فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) قرأ العامة بالِغٌ بالتنوين أَمْرَهُ النّصب : أي منفّذ أمره ممضى في حلقة قضائه ، وقرأ طلحة بن مضر : (بالِغُ أَمْرِهِ) على الإضافة ، ومثله روى حفص والمفضل عن عاصم.

وقرأ داود بن أبي هند : بالغٌ بالتنوين أمرُهُ : رفعا.

قال الفراء : أي أمره بالغ.

قال عبد الرحمن بن نافع : لما نزلت (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حسبنا الله إذا توكلنا عليه ؛ فنحن ننسى ما كان لنا ولا نحفظه ، فأنزل الله تعالى (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) يعني منكم وعليكم.

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) حدا وأجلا ينتهي إليه.

قال مسروق : في هذه الآية (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) توكل عليه أو لم يتوكل ، غير أنّ المتوكل عليه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).

قال الربيع : إنّ الله تعالى قضى على نفسه أنّ من توكل كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجّاه ، ومن دعاه أجاب له ، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) و (مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) و (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) و (مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) و (إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ...

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) فلا يرجون أن يحضن (إِنِ ارْتَبْتُمْ) قال قوم : إن شككتم أنّ الدم الذي يظهر منها لبكرها من الحيض أو من الاستحاضة.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٢٤٨.

٣٣٨

(فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) هذا قول الزهري وابن زيد وقال آخرون : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) في حلمهنّ ؛ فلم تدروا ما الحلم في عدتهن ، (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ).

أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون ، حدّثنا أبو حاتم مكي بن عيدان ، حدّثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر ، حدّثنا أسباط محمد عن مطرف عن أبي عثمان عمرو بن سالم قال : لمّا نزلت عدّة النساء في سورة البقرة في المطلقة المتوفى عنها زوجها ، قال أبي بن كعب : يا رسول الله إنّ أناسا من أهل المدينة يقولون قد بقي من النساء ما لم يذكر فيهن شيء.

قال : وما هو؟ قال : الصّغار والكبار وذوات الحمل ، فنزلت هذه الآيات (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ...) إلى آخرها.

وقال مقاتل : لما نزلت (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) الآية ، قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري : يا رسول الله فما عدّة من لا تحيض وعدة التي لم تحض وعدّة الحبلى؟ فأنزل الله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) يعني القواعد اللاتي قعدن عن المحيض.

(إِنِ ارْتَبْتُمْ) شككتم في حالها وفي حكمها.

وقال أبو علي الزهري : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن تعنّتّم ، قال : وهو من الأضداد ، يكون شكا ويقينا كالظن ، (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) يعني بهنّ الصّغار.

(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهنّ.

قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون ، أخبرنا محمد بن محمد بن الحسن ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر بن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : أرسل مروان عبد الله بن عتبة إلى سبيعة بنت الحرث يسألها عمّا أنبأها به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبرته أنّها كانت عند سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع ، وكان ثلاثا ، فوضعت حملها قبل أن يمضي لها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجها وخطبها ، قالت : فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ما قال أبو السنابل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد حللت حين وضعت حملك» [٣٣٤] (١) وأمرها أن تتزوج ، فإن أريقت حيضة المرأة وهي شابة ، فإنّها يتأنّى بها أحامل أم لا؟ وإن استبان حملها فأجلها أن تضع حملها ، وإن لم يستبن حملها فاختلف الفقهاء فيه :

فقال بعضهم : يستأنى بها ، فأقصى ذلك سنة ، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٤٣٢ ، كنز العمال : ٩ / ٦٥١ ح ٢٧٨٢١.

٣٣٩

عبيد ، كانوا يرون عدّة المرأة ارتفاع حيضها وهي شابة سنة ، ورووا ذلك عن عمر وغيره.

فأمّا أهل العراق فإنّهم يرون عدتها ثلاث حيضات بعد ما كانت قد حاضت مرّة في عمرها وإن مكثت عشرين سنة إلى أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس من الحيض ، فتكون عدّتها بعد الأياس ثلاثة أشهر ، وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه العلماء ، ورووا ذلك عن ابن مسعود وأصحابه.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أَسْكِنُوهُنَ) يعني مطلّقات نسائكم.

(مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) أي من المواضع التي (١) سكنتم.

وقال الكسائي : (من) صلة مجازة أسكنوهن حيث سكنتم ، مطلقات نسائكم.

(مِنْ وُجْدِكُمْ) سعتكم وطاقتكم ، قراءة العامّة بضم الواو ، وقرأ الأعرج بفتحه ، وروى نوح عن يعقوب بكسر الواو ، وكلّها لغات. حتى تنقضي عدتهن.

(وَلا تُضآرُّوهُنَ) ولا تؤذوهن (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) مساكنهن فيخرجن.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ليخرجن من عدّتهن.

واختلف الفقهاء في هذه المسألة : فذهب مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو عبيدة ومحمد بن جرير إلى أنّ المبتوتة المطلقة ثلاثا لا نفقة لها ، ولها سكنى ، واحتجوا بأنّ الله تعالى عمّ بالسكنى المطلقات كلّهنّ ، وخصّ بالنفقة أولات الأحمال خاصّة قال (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ).

وقال أحمد وأبو ثور : لا سكنى لها ولا نفقة ، واحتجوا بحديث فاطمة بنت قيس أخت الضّحاك بن قيس حين أرسل زوجها المخزومي طلاقها ؛ فلم يجعل لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفقة وقال لها : إنّما النفقة إذا كانت له عليك الرجعة ، وأمرها أن تعتدّ في بيت ابن أم مكتوم ، وقد ذكرناه ، وهذا قول أبي بن كعب وزيد بن ثابت (٢).

وأما [سفيان] وأهل العراق فقالوا : لها السكنى والنفقة حاملا كانت أو حائلا ، وهذا قول [عائشة] رضي‌الله‌عنها.

__________________

(١) في المخطوط : الذي.

(٢) راجع شرح مسلم للنووي : ١٠ / ٩٦.

٣٤٠