الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

سورة الصف

مكية ، وهي تسعمائة حرف ، ومائتان

وأحدى وعشرون كلمة ، وأربع عشرة آية

أخبرنا أبو الحسن الحيازي قال : حدّثنا ابن حبش قال : حدّثني أبو عباس محمد بن موسى الرازي قال : حدّثنا عبد الله بن روح المدائني قال : حدّثني شبابة بن سواد الغزاري قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد وعن عطاء بن أبي ميمونة عن بن حبش عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة عيسى عليه‌السلام كان عيسى مصليا عليه مستغفرا له مادام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه» [٢٨٣] (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤٥٩.

٣٠١

قال مقاتلان : قال المؤمنون قبل أن يؤمروا بالقتال : لو نعلم أحب الأعمال الى الله سبحانه لعلمناه وبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فدلّهم الله على أحب الأعمال اليه فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) فبيّن لهم فابتلوا يوم أحد بذلك ، فولّوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدبرين فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

وقال : الكلبي : قال : المؤمنون : يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال لفعلنا ونزل (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ثم انقطع الكلام ولم يبين لهم شيئا فمكثوا بعد ذلك ما شاء الله أن يمكثوا وهم يقولون : ليتنا نعلم ما هي أما والله إذن لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ، فدلّهم الله سبحانه فقال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ، فابتلوا بذلك يوم أحد ففرّوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صرع وشج في وجهه وكسرت رباعيته ، فنزلت هذه الآية يعيّرهم ترك الوفاء.

وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة : لئن لقينا بعده قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيّرهم الله بهذه الآية ، وقال ابن عباس : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : وددنا لو أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبرهم الله تعالى أن أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه والجهاد ، فكره ذلك ناس منه وشق عليهم الجهاد وتباطؤوا عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وقال : قتادة والضحاك : نزلتا في شأن القتال ، كان الرجل يقول : قتلت ولم يقاتل ، وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم يضرب ، وصبرت ولم يصبر.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مقلاب قال : حدّثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بدمشق قال : حدّثنا يعقوب بن محمد الزهري قال : أخبرنا حصين بن حذيف الصهري قال : حدّثني عمي عن سعيد بن المسيب عن مهيب قال : كان رجل يوم بدر قد آذى المسلمين ونهاهم فقتله صهيب في القتال ، فقال رجل : يا رسول الله قتلت فلانا ففرح بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمرو بن عبد الرحمن لصهيب : أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنك قتلته فأن فلانا ينتحله ، فقال صهيب : إنما قتلته لله تعالى ولرسوله ، فقال عمرو بن عبد الرحمن : يا رسول الله قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى؟ قال : نعم يا رسول الله ، فأنزل الله سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) والآية الأخرى.

وقال الحسن : هؤلاء المنافقون ندبهم الله سبحانه ونسبهم الى الاقرار الذي أعلنوه للمسلمين فأنزل الله فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) كذبا وزورا ، وقال : ابن زيد : نزلت في المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون ، وقال : مجاهد : نزلت في نفر من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة قال : في مجلس لهم : لو علمنا أي الأعمال أحب الى الله لعملنا بها حتى نموت ، فأنزل الله سبحانه هذه السورة فقال عبد الله بن رواحة : لا أبرح

٣٠٢

حبيسا في سبيل الله حتى أموت أو أقتل فقتل بمؤته شهيدا رحمة الله عليه ورضوانه ، وقال : ميمون بن مهران : نزلت في الرجل يقرض نفسه بما لم يفعله نظيره ويحبون أن يحمدوا عما لم يفعلوا.

حدّثنا أبو القاسم الحسيني لفظا قال : حدّثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال : حدّثنا عمي سعيد الدارمي قال : حدّثنا محبوب بن موسى الأنطاكي قال : حدّثنا أبو إسحاق الفراري عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سلام قال : خرجنا نتذاكر فقلنا : أيكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أي الأعمال أحب الى الله ، ثم تفرقنا وهبنا أن يأتيه أحدنا ، فأرسل إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجمعنا فجعل يومي بعضنا الى بعض فقرأ علينا (سَبَّحَ لِلَّهِ) الى آخرها.

قال أبو سلمة : فقرأها علينا عبد الله بن سلام الى آخرها قال يحيى بن أبي كثير : فقرأ علينا أبو سلمة الى آخرها ، قال الأوزاعي : فقرأ علينا يحيى بن إسحاق الى آخرها ، قال أبو إسحاق الفزاري : فقرأها علينا الأوزاعي الى آخرها ، قال محبوب بن موسى : قرأها علينا الفزاري الى آخرها ، قال عثمان بن سعيد : فقرأها علينا محبوب الى آخرها ، قال الطرائفي : فقرأها علينا عثمان بن سعيد الى آخرها ، قال القاسم : وقرأها علينا أبو الحسن الطرائفي الى آخره ، وقرأها علينا الأستاذ أبو القاسم الى آخرها وسألنا أحمد الثعلبي أن يقرأ فقرأ علينا إلى آخرها.

(كَبُرَ مَقْتاً) نصب على الحال وأن شئت على التمييز.

وقال الكسائي : (أَنْ تَقُولُوا) في موضع رفع لان (كَبُرَ) بمنزلة قولك بئس رجلا أخوك ، وأضمر القراء فيه اسما مرفوعا ، والمقت والمقاتة مصدر واحد يقال : رجل ممقوت ومقيت إذا لم تحبّه الناس (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) ولا يزولون عن أماكنهم (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) قد رصّ بعضه الى بعض أي أحكم وأيقن وأدقّ فليس فيه فرجه ولا خلل ، وأصله من الرصاص ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تراصوا بينكم في الصفوف لا يتخللنكم الشياطين كأنها بنات حذف» [٢٨٤] (١).

(وَإِذْ قالَ : مُوسى لِقَوْمِهِ) من بني إسرائيل (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) وذلك حين رموه بالادرة (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) والرسول يحترم ويعظم (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ) عن الحق (قُلُوبَهُمْ) عن الدين (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) وهو الذي لا يذم ، وفي وجهه قولان :

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٥ / ٣٨٧ بتفاوت.

٣٠٣

أحدهما : أن الأنبياء كلّهم حمّادون لله سبحانه ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحمد ، أي أكثر حمدا لله منهم.

والثاني : أنّ الأنبياء كلّهم محمودون ونبيّنا أحمد أي أكثر مناقب وأجمع للفضائل.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ) قراءة العامة بالتخفيف من الإنجاء وقرأ ابن عامر بالتشديد من [التنجية] (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) بيّن ما هي فقال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني ابن حرجة قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان قال : حدّثنا محمد بن الفرح البغدادي قال : حدّثنا حجاج بن محمد بن جبير القصاب عن الحسن قال : سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها فقال : «قصر من لؤلؤة في الجنّة وذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون ، على كلّ فراش امرأة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من كل الطعام ، في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة ، قال : فيعطي الله المؤمن من القوة في غذاءه وحده ما يأتي على ذلك كله» [٢٨٥] (١).

(فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرى) قال : نحاة البصرة : هي في محل الخفض (٢) مجازه : وتجارة أخرى ، وقال نحاة الكوفة : محلها رفع أي ولكم أخرى في العاجل مع ثواب الآجل.

(تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ثم حثهم على نصرة الدين وجهاد المخالفين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) أعوانا بالسيف على أعدائه ، قرأ أبو عمرو وقرأ أهل الحجاز أنصارا بالتنوين وهو اختيار أيوب ، وقرأ الباقون بالإضافة وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد قال : لقوله (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ولم يقل : أنصارا لله.

(كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ : الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ).

__________________

(١) مجمع الزوائد : ١٠ / ٤٢٠ ، تفسير القرطبي : ١٨ / ٨٨.

(٢) أي معطوفة على تجارة.

٣٠٤

سورة الجمعة

مدنية ، وهي سبعمائة وعشرون حرفا ،

ومائة وثمانون كلمة ، وأحدى عشر آية

أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا موسى قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا سليمان قال : حدّثنا أبو معاذ عن أبي عصمة عن زيد العمي عن أبي نصرة عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الجمعة كتب له عشر حسنات بعدد من ذهب الى الجمعة من مصر من أمصار المسلمين ومن لم يذهب» [٢٨٦] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧))

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) قال أهل اللغة : كل أسم على فعّول بتشديد للعين فالفاء منه منصوبة ، نحو سفّود وكلّوب وسمّور وشبّوط ـ وهو ضرب من السمك إلّا أحرف : سبّوح وقدّوس ، ومردوح لواحد المراديح (٢) ، وحكى الفراء عن الكسائي قال : سمعت أبا الدنيا وكان أعرابيا فصيحا يقرأ القدوس بفتح القاف ولعلها لغة.

(الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) وقرأ أبو وائل الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ بالرفع على معنى هو الملك القدوس.

أخبرني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا محمد بن عبد الله

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٥ بتفاوت.

(٢) المراديح : كل ما بسط ومد على الأرض.

٣٠٥

ابن سليمان قال : حدّثنا محمد بن إسحاق الرازي قال : حدّثنا إسحاق بن سليمان قال : سمعت عمرو بن أبي قيس عن عطاء بن السائب عن ميسرة قال : هذه الآية (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) في التوراة سبعمائة آية.

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) يعني العرب (رَسُولاً مِنْهُمْ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) في (آخَرِينَ) وجهان من الأعراب : أحدهما الخفض على الرد الى الأميين ، مجازه : وفي آخرين ، والثاني : النصب على الردّ الى الهاء والميم من قوله (يُعَلِّمُهُمُ) أي ويعلم آخرين منهم أي من المؤمنين الذين يدينون بدينه.

(لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي لم يدركوهم ولكنهم يكونون بعدهم.

وأختلف العلماء فيهم فقال ابن عمرو سعيد بن جبير : هم العجم ، وهي رواية ليث عن مجاهد يدلّ عليه كما

روى ثور بن يزيد عن أبي العتب عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) كلّمه فيها الناس فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سلمان فقال : «لو كان (الدين) (١) عند الثريا لناله رجال من هؤلاء» [٢٨٧] (٢).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي بن علي قال : حدّثني أبو حمزة الثمالي قال : حدّثني حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيتني تبعني غنم سود ثم أتبعتها غنم سود ثم أتبعتها غنم عفر» أوّلها أبا بكر قال : أمّا السود فالعرب ، وأما العفر فالعجم تبايعك بعد العرب ، قال : «كذلك عبّرها الملك سحر» [٢٨٨] (٣) يعني وقت السحر.

وبه عن أبي حمزة قال : حدّثني السدي قال : كان عبد الرحمن بن أبي ليلى إذا قال : رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنه يعني به عليا ، وإذا قال : رجل من أهل بدر فإنما يعني به عليا ، فكان أصحابه لا يسألونه عن أسمه ، وقال : عكرمة ومقاتل : هم التابعون ، وقال ابن زيد وابن حيان : هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى يوم القيامة وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.

وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وأن في أصلاب أصلاب أصلاب

__________________

(١) في المصدر : الإيمان.

(٢) صحيح مسلم : ٧ / ١٩٢.

(٣) المصنّف : ٧ / ٢٣٤ ، وبتفاوت في كنز العمال : ١١ / ٤٤٩ ، ح ٣٢١١٣.

٣٠٦

رجال (أمتي) (١) رجالا ونساء (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) (... بِغَيْرِ حِسابٍ)» [٢٨٩] (٢) ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي كلّفوا العمل بها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) ولم يعملوا بما فيها ولم يؤدّوا حقّها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) كتبا من العلم والحكمة.

قال الفراء : هي الكتب العظام واحدها سفر ، ونظيرها في الكلام شبر وأشبار وجلد وأجلاد فكما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرءون التوراة ولا ينتفعون به ، لأنهم خالفوا ما فيه.

أنشدنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتب قال : أنشدنا أبو بكر محمد بن المنذر قال : أنشدنا أبو محمد العشائي المؤدب قال : أنشدنا أبو سعيد الضرير :

زوامل للأسفار لا علم عندهم

بجيّدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري المطي إذا غدا

بأسفاره إذ راح ما في الغرائز (٣)

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) محمد وأصحابه (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فادعوا على أنفسكم بالموت (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنكم أبناء الله وأحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه. (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

أخبرنا الحسن قال :حدّثنا السني قال : حدّثنا النسائي قال : أخبرني عمرو بن عثمان قال : حدّثنا بقية بن الوليد قال : حدّثنا الزبيدي قال : حدّثني الزهري عن أبي عبيد أنه سمع أبا هريرة يقول قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتمن أحدكم الموت أما محسن فإن يعش يزدد خيرا فهو خير له وأما مسيئا فلعلّه أن يستعتب» [٢٩٠] (٤).

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩))

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

__________________

(١) في المصدر : من أصحابي رجالا.

(٢) كنز العمّال : ١٢ / ٣٤٥٧٢.

(٣) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٨ ، لسان العرب : ١١ / ٣١٠ ، وفيه : للأشعار ، بدل : للأسفار ـ والبعير ، بدل :المطي ، وبأوساقه بدل : بأسفاره.

(٤) مسند أحمد : ٢ / ٣٠٩ ، وفي كنز العمّال : ٤ / ٢٥٤ ، ح ١٠٤٠٨ ، بتفاوت يسير.

٣٠٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أي في يوم الجمعة كقوله سبحانه (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) (١) أي في الأرض وأراد بهذا النداء الآذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة ، يدل عليه ما أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا أحمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا أحمد بن خالد الوهبي قال : حدّثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذن واحد ـ بلال ـ لم يكن له مؤذن آخر غيره ، فكان إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر أذّن على باب المسجد فإذا نزل أقام الصلاة ، ثم كان أبو بكر كذلك وعمر كذلك حتى إذا كان عثمان فكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذانا فأمر بالتأذين الأوّل على دار له بالسوق يقال لها الزوراء ، فكان يؤذن له عليها ، فإذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه الأوّل ، فإذا نزل أقام للصلاة فلم يعب ذلك عليه.

وقراءة العامة (الْجُمُعَةِ) بالضم الميم ، وقرأ الأعمش مخففة بجزم الميم وهما لغتان وجمعها : جمع وجمعات.

أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا أبا الحسن بن أيوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : أخبرنا القاسم بن سلام قال : سمعت الكسائي يخبر عن سليمان عن الزهري قال : قال ابن عباس : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم قال الفرّاء وأبو عبيد : التخفيف حسن وهو [........] (٢) في مذهب العربية مثل غرفة وغرف وطرفة وطرف وحجرة وحجر. وقال الفراء : وفيها لغة أخرى ثالثة : جمعة بالفتح كقولك رجل ضحكة وهمزة ولمزة وهي لغة بني عقيل ، وقيل : هي لغة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما سمي هذا اليوم جمعة لما أخبرنا الحسن قال : حدّثنا الكندي قال : حدّثنا محمد بن مخلد العطّار قال : حدّثنا محمد بن عيسى بن أبي موسى قال : حدّثنا عبد الله بن عمرو بن أبي أمية قال : حدّثنا قيس الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن قرثع الضبي عن سليمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما سميت الجمعة لأن آدم جمع فيها خلقه» [٢٩١] (٣). وقيل : لأنّ الله سبحانه فرغ فيه من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات.

وقيل : يجمع الجماعات فيها ، وقيل : لاجتماع الناس فيه للصلاة ، وقيل : أوّل من سماها جمعة كعب بن لؤي.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حفصويه قال : حدّثنا الحسن بن أحمد بن حفص الحلواني قال : حدّثنا إبراهيم بن إسحاق قال : حدّثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدّثنا عبد العزيز عن محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة قال : أول من قال : أما بعد كعب بن لؤي ، وكان

__________________

(١) سورة فاطر : ٤٠.

(٢) كلمة غير مقروءة.

(٣) صدر الحديث في كنز العمّال : ٧ / ٧٠٩ ، ح ٢١٠٣٩ ، والذيل غير موجود.

٣٠٨

أول من سمى الجمعة الجمعة وكان يقال للجمعة : العروبة ، وقيل : أوّل من سماها جمعة الأنصار.

أخبرني الحسين قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا سلمة ابن شيب قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وقبل أن ينزل الجمعة وهم الذين سمّوها الجمعة ، قالت الأنصار : لليهود يوم يجمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم أيضا مثل ذلك ، فهلموا فلنجعل يوما يجمع فيه فيذكر الله عزوجل ونصلّي ونشكره ـ أو كما قالوا ـ.

فقالوا : يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ، وكانوا يسمّون يوم الجمعة يوم العروبة واجتمعوا الى أسعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسمّوه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة فتغدوا وتعشوا من شاة واحده وذلك لقلتهم ، فأنزل الله سبحانه في ذلك بعد (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) الآية ، فهذه أول جمعة جمعت في الإسلام.

فأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه فقال أهل السير والتواريخ : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا حتى نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين أشتد الضحى فأقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقباء يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجد وكانت هذه الجمعة أول جمعة.

وقال : الحسن هي مستحبة وليست بفرض ، وقال سعيد : جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله أحمده وأستعينه واستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى والنور والموعظة (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) وقلّة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة ، وقرب من الأجل ، (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فقد رشد ومن يعصيهما فقد غوى وفرط و (ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) ، وأوصيكم بتقوى الله فأنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وان يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه وأن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربّه عون وصدق على ما تبغون من أمر الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السرّ والعلانية لا ينوي بذلك إلّا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره ، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء الى ما قدم ، وما كان (مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ

٣٠٩

بِالْعِبادِ) ، والذي صدق قوله ونجز وعده لا خلق لذلك فأنه يقول (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السرّ والعلانية فإنه (مَنْ يَتَّقِ اللهَ) كفر (عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) ، ومن يتق الله (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) ، وان تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه ، وأن تقوى الله تبيض الوجوه وترضي الرب وترفع الدرجة خذوا بحظّكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علّمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين ، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم ، وعادوا أعداءه ، (وَجاهِدُوا فِي) سبيل (اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ، هُوَ اجْتَباكُمْ) و (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، وأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم ، فأنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفيه الله ما بينه وبين الناس ، وذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ، ويملك الناس ولا يملكون منه ، الله أكبر ولا قوّة إلّا بالله العظيم» [٢٩٢] (١).

فلهذا صارت الخطبة شرطا في انعقاد الجمعة وهو قول جمهور العلماء ، وقال الحسن : هي مستحبة وليست بفرض ، وقال سعيد بن جبير : هي بمنزلة الركعتين من الظهر فإذا تركها وصلّى الجمعة فقد صلى الركعتين من الظهر ، وأقلّ ما يجزي من الخطبة أن يحمد الله ويصلّي على نبيّه ويوصي بتقوى الله سبحانه ويقرأ آية من القرآن في الخطبة الأولى ويجب في الثانية أربع كالأولى إلّا إن الواجب بدل قراءة الآية الدعاء ، هذا قول أكثر العلماء والفقهاء ، وقال أبو حنيفة : لو أقتصر على التحميد أو التسبيح أو التكبير أجزاه ، وقال أبو يوسف ومحمد : الواجب ما يتناوله أسم الخطبة.

ثم القيام شرط في صحة الخطبة مع القدرة عليه في قول عامّة الفقهاء إلّا أبا حنيفة فأنه لم يشرطه فيها ، والدليل على أن القيام شرط في الخطبة قوله سبحانه : (وَتَرَكُوكَ قائِماً).

وحديث ابن عمر : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب خطبتين إلّا وهو قائم.

وللشافعي قولان في الطهارة في حال الخطبة فقال في الجديد : هي شرط في الخطبة ، وقال في القديم : ليست بشرط ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمة الله.

فهذا بيان القول في أول جمعه جمعت في الإسلام ، وأول جمعه جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأول خطبة خطبها فيها في المدينة ، فأمّا أول جمعة جمعت بعدها بالمدينة فقال ابن عباس : أول جمعة جمعت في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة بقرية يقال لها جواثا من قرى البحرين.

قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي أمضوا إليه واعملوا له.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ١١٥ ، تفسير مجمع البيان : ١٠ / ١١.

٣١٠

يحيى بن حنظلة قال : سمعت سالما قال : قال ابن عمر : سمعت صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فامضوا الى ذكر الله.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ في آخرين قالوا : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : أخبرنا الربيع ابن سليمان قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : ما سمعت عمر قط يقرأها إلّا وأمضوا الى ذكر الله.

وأخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر الكلمواني قال : حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن حفص قال : حدثنا السري بن خزيمة قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا سفيان عن حنظلة عن سالم عن عمر أنه كان يقرأها فامضوا الى ذكر الله ، وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان عبد الله يقرأها فامضوا الى ذكر الله ويقول : لو قرأها (فَاسْعَوْا) لسعيت حتى يسقط ردائي ، وهي قراءة أبي العالية أيضا ، وقال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلّا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنيّة والخشوع.

وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا عبد الوهاب قال : سئل سعيد عن فضل الجمعة فأخبرنا عن قتادة أنه كان يقول في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها قال : وكان يتأوّل هذه الآية (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) (١) يقول فلما مشى معه ، وقال : الكلبي فلما عمل مثله عمله.

وأخبرنا محمد بن حمدويه قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : أخبرنا الربيع قال : قال الشافعي : السعي في هذا الموضع هو العمل ، قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٢) وقال سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣) وقال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) (٤) وقال زهر : سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم فلم يدركوهم ولم يلاقوا ولم يألوا الى ذكر الله يعني الصلاة.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا علي بن حرب وليع قال : حدّثنا منصور بن دينار عن موسى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال : موعظة الإمام (وَذَرُوا الْبَيْعَ) يعني البيع والشراء لأنّ البيع يتناول المعنيان جميعا ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» [٢٩٣] (٥) أراد البائع والمشتري ، وقال الأخطل :

__________________

(١) سورة الصافات : ١٠٢.

(٢) سورة الليل : ٤.

(٣) سورة النجم : ٣٩.

(٤) سورة البقرة : ٢٠٥.

(٥) كتاب المسند للشافعي : ١٣٨ ، مسند أحمد : ٢ / ٩.

٣١١

وباع بنيه بعضهم بخشارة

وبعت لذبيان العلاء بمالكا (١)

يريد بالأول البيع وبالآخر الابتياع ، وإنّما يحرم البيع عند الأذان الثاني ، وقال الزهري : عند خروج الإمام ، وقال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشرى ، وروى السدي عن أبي مالك قال : كان قوم يجلسون في بقيع الزبير ويشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ولا يقومون فنزلت هذه الآية.

(ذلِكُمْ) الذي ذكرت من حضور الجمعة والاستماع الى الجمعة وأداء الفريضة (خَيْرٌ لَكُمْ) من المبايعة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) مصالح أنفسكم ومضارها.

ذكر تلكم الآية

أعلم أن صلاة الجمعة واجب على كل مسلم إلّا خمسة نفر : النساء والصبيان والعبيد والمسافر والمرضى. يدل عليه ماأخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن إسحاق الأزهري [باسفرائين] قال : أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ قال : أخبرنا المزني قال : قال الشافعي : أخبرنا إبراهيم بن محمد قال : حدّثني سلمة بن عبد الله الحطمي عن محمد ابن كعب القرطي أنه سمع رجلا من بني وائل يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تجب الجمعة على كلّ مسلم إلا امرأة أو صبي أو مملوك» [٢٩٤] (٢).

وأخبرنا أن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدّثنا الربيع بن سليمان الحبري قال : حدّثنا عبد الملك بن سلمة القرشي قال : حدّثنا أبو المثنى سلمان بن يزيد الكعبي عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحرم التجارة عند الأذان يوم الجمعة ويحرم الكلام عند الخطبة وتحل التجارة بعد صلاة الجمعة ولا تجب الجمعة على أربعة : المريض والعبد والصبي والمرأة ، فمن سعى بلهو أو تجارة (اسْتَغْنَى اللهُ) عنه (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)» [٢٩٥].

وتجب الجمعة على أهل القرى إذا سمعوا النداء من المصر ، ووقت اعتبار سماع الأذان يكون المؤذّن صيّتا والأصوات هادئة والريح ساكنة ، وموقف المؤذن عند سور البلد ، ويعتبر كل قرية بالسور الذي يليها ، هذا مذهب الشافعي ، وقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس : تجب الجمعة على من كان على عشرة أميال من المصر ، وقال سعيد بن المسيب : يجب على من آواه المبيت ، وقال الزهري : تجب على من كان على ستة أميال ، ربيعة أربع أميال ، مالك والليث : ثلاثة أميال.

__________________

(١) الصحاح : ٢ / ٦٤٥ ، لسان العرب : ٤ / ٢٤٠ ، وفي المصادر هو للحطيئة وليس للأخطل.

(٢) كتاب المسند للشافعي : ٦١.

٣١٢

وقال أبو حنيفة ، لا تجب الجمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة من البلد أو بعيدة ، حتى حكي أن محمد بن الحسن سأله هل تجب الجمعة على أهل دياره وبينها وبين الكوفة مجرى نهر ، فقال : لا.

واختلف الفقهاء في عدد من ينعقد بهم الجمعة ، فقال الحسن : ينعقد باثنين ، وقال الليث ابن سعد وأبو يوسف : بثلاثة ، وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة : بأربعة ، وقال ربيعة : الرأي باثني عشر ، وقال الشافعي : لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين نفسا ، قال : فكل قرية جمعت فيها أربعين بالغين عاقلين أحرار مقيمين لا يظعنون عنها شتاء وصيفا الا ظعن حاجة وجبت عليهم الجمعة ، وقال مالك : إذا كانت قرية فيها سوق ومسجد فعليهم الجمعة من غير اعتبار عدد ، وقال أبو حنيفة : لا تجب الجمعة على أهل السواد والقرى ولا يجوز لهم أقامتها فيها ، وأشترط في وجوب الجمعة وانعقادها : المصر الجامع للسلطان القاهر والسوق القائمة والنهر الجاري ، واحتج بحديث علي كرم الله وجهه : لا جمعة ولا تسويق إلا في مصر جامع ، وفي بعض الأخبار إلا على أهل مصر جامع وضعّفه بعضهم.

والدليل على أبي حنيفة حديث ابن عباس قال : أول جمعة جمعت بعد جمعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة في قرية من قرى البحرين يقال لها جواثا ، وروى أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه كتب الى أهل البحرين صلّوا

الجمعة حيث ما كنتم ، وتصح إقامة الجمعة بغير إذن السلطان وحضوره ، وقال أبو حنيفة : من شرطها الإمام أو خليفة.

والدليل على أن السلطان ليس بشرط في انعقاد الجمعة ، ما روي أن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما في حضور الجمعة فتقدّم عبد الله بن مسعود وصلى الجمعة بالناس من غير إذنه ، وروي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه صلى الجمعة بالناس ، يوم حصر عثمان ولم ينقل أنه استأذنه ، وروى أن سعيد بن العاص والي المدينة لما أخرج من المدينة صلى أبو موسى الأشعري الجمعة بالناس من غير استئذان.

ولا يجوز أن يصلي في بلد واحد إلّا جمعة واحدة فأن صليت ثانية بطلت ، وقال أبو يوسف : فإن كان للبلد جانبان جاز أن يصلي كل جانب منه جمعة ، وقال محمد بن الحسن يجوز أن يصلي في بلد واحد جمعتان استحسانا.

فأما الوعيد الوارد لمن ترك صلاة الجمعة من غير عذر ، فأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : حدّثنا أبو العباس الأحمر قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم قال : أخبرنا ابن أبي فديك قال : أخبرنا ابن أبي ذئب عن أسيد بن أسيد البرّاد عن عبد الله بن قتادة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه» [٢٩٦] (١).

__________________

(١) المستدرك للحاكم : ١ / ٢٩٢.

٣١٣

وروى عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة ثم لا يشهدونها أو ليطبعن الله على قلوبهم أو ليكونن من الغافلين أو ليكونن من أهل النار» [٢٩٧] (١).

وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب فقال : «إن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا ، في يومي هذا ، [في شهري هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة] فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر من غير عذر فلا بارك الله له ولا جمع الله شمله ألا فلا حج له ألا ولا صوم له ، ومن تاب تاب الله عليه» [٢٩٨] (٢).

أخبرنا أبو عبد الله الفتحوي قال : حدّثنا أبو بكر القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حسن بن علي عن الحسن بن الحر عن ميمون بن أبي المسيّب قال : أردت الجمعة زمن الحجاج ، قال : فتهيأت للذهاب ثم قلت : أين أذهب أصلي خلف هذا فقلت مرة : أذهب ، وقلت مرة : لا أذهب قال : فاجمع رأي على الذهاب ، فناداني مناد من جانب البيت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال : وجلست اكتب كتابا فعرض لي شيء إن أنا كتبته في كتابي زين كتابي وكنت قد كذبت ، فأن أنزلته كان في كتابي بعض القبح وكنت قد صدقت ، فقلت مرة : اكتب ، وقلت مرة : لا أكتب ، فأجمع رأي على تركه فتركته ، فناداني مناد من جانب البيت (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٣).

فأما ثواب من شهد الجمعة

وأخبرنا أحمد بن أبي قال : حدّثنا الهيثم بن كليب قال : حدّثنا عيسى بن أحمد قال :حدّثنا بقية قال : حدّثني الضحاك بن حمزة عن أبي نصرة عن أبي رجاء العطار عن أبي بكر الصديق وعمر بن حصين قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اغتسل يوم الجمعة كفّرت عنه ذنوبه وخطاياه فإذا أخذ في المشي [إلى الجمعة] كتب له بكل خطوة عمل عشرين سنة فإذا (فرغ) (٤) من (الجمعة) (٥) أجيز بعمل مائتي سنة» [٢٩٩].

وأخبرنا أحمد بن أبي في آخرين قالوا : حدّثنا أبو العباس الأصم قال : أخبرنا الربيع قال :

__________________

(١) مسند الشاميين للطبراني : ٢ / ٢٨٥ ، ح ١٣٥٢.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٣٤٣ ، كنز العمّال : ٧ / ٧٢١ ، ح ٢١٠٩٢.

(٣) سورة إبراهيم : ٢٧.

(٤) في المصدر : انصرف.

(٥) في المصدر : الصلاة.

٣١٤

أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن سمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرة الملائكة يستمعون الذكر» [٣٠٠] (١).

وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا أبو القاسم عمر بن أحمد بن الحسن البصري قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن شودب قال : حدّثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي قال : حدّثنا الحسن بن عرفة قال : حدّثنا بن يزيد بن هارون عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليلة أسري بي الى السماء رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدّسونه ويقولون في تسبيحهم : اللهم أغفر لمن شهد الجمعة ، اللهم أغفر لمن اغتسل في الجمعة» [٣٠١] (٢).

فأما فضل يوم الجمعة

فأخبرنا أبو عمرو الفراتي وأبو عبد الله الحافظ وأبو محمد الكناني وأبو علي الثوري قالوا : حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف قال : أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن يزيد بن عبد الله بن السهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحرث عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه [تيب] عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلّا وهي مسبحة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلّا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلّا أعطاه إياه» [٣٠٢] (٣).

قال أبو هريرة : قال عبد الله بن سلام : هي آخر ساعة في يوم الجمعة ، فقلت له : كيف يكون آخر ساعة وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيه فقال ابن سلام ألم يقل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جلس مجلسا ينتظر فيه الصلاة فهو في الصلاة حتى يصلّي» فقلت بلى قال : «فهو ذلك» [٣٠٣] (٤).

وأخبرنا عبد الخالق قال : أخبرنا ابن هند قال : حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال حدّثنا أبو

__________________

(١) كتاب المسند للشافعي : ٦٢.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ١١٩.

(٣) كتاب المسند : ٧٢.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ٤٥١.

٣١٥

بدر شجاع بن الوليد السكوني قال حدّثنا زياد بن خيثمة عن عثمان بن أبي مسلم عن أنس بن مالك قال : أبطأ علينا رسول الله عليه‌السلام ذات يوم فلمّا خرج قلنا : أحبست قال : ذلك أنّ جبرئيل عليه‌السلام أتاني بهيئة المرأة البيضاء فيها نكتة سوداء فقال إنّ هذه الجمعة فيها خير لك ولأمّتك وقد أرادها والنصارى فأخطئوها ، قلت : يا جبرائيل ما هذه النكتة السوداء؟ قال : هذه السّاعة الّتي في يوم الجمعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلّا أعطاه إيّاه أو ذخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله وإنّه خير الأيّام عند الله ، وإنّ أهل الجنّة يسمّونه يوم المرند ، قلت : يا رسول الله وما يوم المرند؟

قال : إنّ في الجنّة واديا ، رائحة نبته مسك أبيض ، يتنزل الله سبحانه وتعالى كل يوم جمعة ويضع كرسيّه فيه ، ثم يجاء بمنابر من نور وتوضع خلفه فتحفّ منه الملائكة ثم يجاء بكرسي من ذهب فيوضع ، ثمّ يجيئ النبيّون والصدّيقون والشهداء والمؤمنون أهل الغرف فيجلسون ثمّ يقسم الله سبحانه وتعالى فيقول : أي عبادي سلوا ، فيقولون : نسألك رضوانك؟ فيقول : قد رضيت عنكم ، فسلوا ، فيسألون مناهم فيعطيهم الله ما شاءوا وأضعافها فيعطيهم ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر ، ثم يقول : ألم أنجزكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي ، وهذا محل كرامتي ، ثم ينصرفون إلى غرفهم ويعودون كلّ يوم جمعة قلت : يا جبرائيل ما غرفهم؟ قال : من لؤلؤة بيضاء أو ياقوتة حمراء أو زبر جدة خضراء مفرزة منها أبوابها فيها أزواجها ، مطردة فيها أنهارها.

وأخبرنا عبد الخالق قال : أخبرنا أبو العبّاس عبد الوهّاب بن عبد الجليل ذكر قال حدّثنا أبو محمّد أحمد بن محمّد بن إسحاق السني قال حدّثنا أحمد بن غالب البصري الزاهد بعد إذ قال حدّثنا دينار مولى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ ليلة الجمعه ويوم الجمعة أربعة وعشرون ساعة ، لله سبحانه في كل ساعة ستّمائة ألف عتيق من النّار» [٣٠٤] (١).

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي فرغ منها.

(فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) للتجارة والتصرف في حوائجكم.

(وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي الرزق وهما أمر إباحة وتخيير كقوله سبحانه (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (٢).

__________________

(١) مسند أبي يعلى : ٦ / ٢٠١ بتفاوت.

(٢) سورة المائدة : ٢.

٣١٦

وقد أخبر عقيل أنّ أبا الفرح أخبرهم عن أبي جعفر الطبري قال : حدّثني العبّاس بن أبي طالب قال حدّثنا علي بن المعافي بن يعقوب الموصلي قال : حدّثنا أبو علي الضائع عن أبي خلف عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله سبحانه (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) قال : ليس بطلب دنيا ولكن عيادة مريض ، وحضور جنازة ، وزيارة أخ في الله (١).

قال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) هو طلب العلم.

وقال جعفر بن محمّد الصّادق (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) هو يوم السبت.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) الآية أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن جعفر قال حدّثنا علي بن حرب قال حدّثنا ابن فضيل قال حدّثنا حصين عن سالم بن الجعد عن جابر ابن عبد الله قال : أقبلت عير ونحن نصلّي مع النبيّ عليه‌السلام الجمعة فانفضّ الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) الآية.

وقال الحسن وأبو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة ، فلمّا رأوه قاموا إليه بالبقيع ، خشوا أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا رهط منهم أبو بكر وعمر ، فنزلت هذه الآية فقال رسول الله عليه‌السلام : «والّذي نفس محمّد بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا» [٣٠٥] (٢).

قال المقاتلان : بينا رسول الله عليه‌السلام يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة بن عامر من الشام بتجارة ، وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلّا أتاه وكان يقدّم إذا قدم كل ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيره ، فينزل عند أحجار الزيت ، وهو مكان في سوق المدينة ، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ، ورسول الله عليه‌السلام قائما على المنبر يخطب ، فخرج النّاس فلم يبق في المسجد إلّا إثنا عشر رجلا وامرأة فقال النبي عليه‌السلام : «لو لا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء» [٣٠٦] (٣) وأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وقال ابن عباس في رواية الكلبي لم يبق في المسجد إلّا ثمانية رهط ، وقال ابن كيسان : خرجوا إلّا أحد عشر رجلا وامرأة.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ١٤.

(٢) مسند أبي يعلى : ٣ / ٤٦٨.

(٣) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ١١.

٣١٧

قال قتادة ومقاتل : بلغنا أنّهم فعلوا ذلك ثلاث مرات ، وكل مرّة بعير تقدم من الشام ، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.

وقال مجاهد : كانوا يقومون إلى نواضحهم وإلى السفر ، يقدّمون يتبعون التجارة واللهو ، فأنزل الله سبحانه (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) قال المفسّرون : يعني الطبل وذلك أنّ العير كانت إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفير.

وقال جابر بن عبد الله : كان الجواري إذا نكحوا يمرّون بالمزامير والطبل فانفضّوا إليها ، فنزلت هذه الآية ، وقوله (انْفَضُّوا إِلَيْها) ردّ الكناية إلى التجارة لأنّها أهم وأفضل ، وقد مضت هذه المسألة.

وقرأ طلحه بن مصرف وإذا رأوا لهوا أو تجارة انفضّوا إليها.

(وَتَرَكُوكَ قائِماً) على المنبر.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو عمرو بن الحسن قال حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حصين عن مسعر وأبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن حسان عن عبيدة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أنّه سئل : أكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟

قال أما تقرأ (وَتَرَكُوكَ قائِماً).

(قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) قرأ أبو رجاء العطاردي خير من اللهو والتجارة للّذين آمنوا.

(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنّه موجد الأرزاق فإيّاه فاسألوا ومنه فاطلبوا.

٣١٨

سورة المنافقون

مدنيّة ، وهي سبعمائة وستة وسبعون حرفا ، ومائة وثمانون كلمة ، وإحدى عشرة آية أخبرنا الهادي قال : حدّثنا طغران قال : حدّثنا ابن أبي داود قال : حدّثنا محمّد بن عاصم قال : حدّثنا شبابة قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن يزيد عن ذرّ بن حبيش عن أبي ابن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة المنافقين بري من النفاق» [٣٠٧] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧))

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فيما أظهروا لأنّهم أضمروا خلافه.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) سترة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لاستواء خلقها ، وحسن صورتها ، وطول قامتها.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ١٦.

٣١٩

قال ابن عبّاس : وكان عبد الله بن أبيّ جسيما صحيحا فصيحا ذلق اللسان ، فإذا قال يسمع النبي عليه‌السلام قوله.

(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام.

قرأ الأعمش والكسائي وأبو عمرو عن عابس وقيل عبّاس : خُشْبٌ مخفف بجزم الشين ، وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد قال : [المدّ مذهبها] (١) في العربية ، وذلك أنّ واحدتها خشبة ولم تجد في كلامهم اسما على مثل فعلة تجمع فعل بضم الفاء والعين ، ويلزم من فعلها أن ينقل البدن أيضا فيقرأ (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ) لأن واحدتها بدنة أيضا.

وقرأ الآخرون بالتثقيل وهي اختيار أبي حاتم واختلف فيه عن ابن كثير وعاصم.

أخبرنا أبو بكر بن أبي محمّد الحمشاذي قال : أخبرنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدّثنا محمّد بن يونس بن موسى قال : حدّثنا الأصمعي قال : حدّثنا سليم العاملاني قال : جاء رجل إلى ابن سيرين فقال : رأيت حالي محتضن خشبة ، فقال أحسبك من أهل هذه الآية وتلا (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).

(يَحْسَبُونَ) من جبنهم وسوء ظنهم وقلّة يقينهم.

(كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) قال مقاتل : يقول إن نادى مناد في العسكر وانقلبت دابّة ، ونشدت ضالة ظنّوا أنّهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب.

وقال بعضهم : إنّما قال ذلك لأنّهم على وجل من أن ينزل الله فيهم ، يهتك أستارهم وتبيح دماءهم وأموالهم وقال الشاعر في هذا المعنى :

ولو أنها عصفورة لحسبتها

مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما (٢)

ثمّ قال (هُمُ الْعَدُوُّ) ابتداء وخبر.

(فَاحْذَرْهُمْ) ولا تأمنهم.

(قاتَلَهُمُ اللهُ) لعنهم الله.

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الحق.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي أمالوها وأظهروا بوجوهم إظهارا للكراهية.

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) الصحاح : ٥ / ١٩٤٦.

٣٢٠