الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

فقال : السائق يسوقها إلى الله سبحانه ، والشاهد يشهد عليه بما عملت ، وقال الضحّاك : السائق الملائكة ، والشاهد من أنفسهم الأيدي ، والأرجل. وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس ، وقال أبو هريرة : السائق الملك ، والشهيد العمل ، وقال الباقون : هما جميعا من الملائكة ، فيقول الله سبحانه لها : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) ورفعنا عنك عماك ، وخلّينا عنك سترك ، حتّى عاينته. (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) قوي ، نافذ ، ثابت ، ترى ما كان محجوبا عنك.

وروى عبد الوهاب ، عن مجاهد ، عن أبيه (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) قال : نظرك إليّ لبيان ميزانك حين توزن حسناتك ، وسيّئاتك.

وقيل : أراد بالبصر العلم ، علم حين لم ينفعه العلم ، وأبصر حين لم ينفعه البصر. وقرأ عاصم الجحدري (لَقَدْ كُنْتَ) بكسر (التاء) ، وبكسر (الكاف) ، رد الكتابة إلى النفس. (وَقالَ قَرِينُهُ) الملك الموكّل به (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) معد محفوظ محضر ، قال مجاهد : هذا الذي وكّلني به من بني آدم ، قد أحضرته ، وأحضرت ديوان أعماله ، فيقول الله سبحانه لقرينه : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) قال الخليل ، والأخفش : هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين ، وهو جيد حسن ، فيقول : ويلك أرحلاها ، وازجراها ، وخذاه واطلقاه للواحد. قال الفراء : وأصل ذلك إذا دنا أعوان الرجل في إبله ، وغنمه ، وبقره ، اثنان ، فجرى كلام الواحد على صاحبيه ، ومنه قولهم للواحد في الشعر : خليلي [ثم يقول : يا صاح]. قال امرؤ القيس :

خليلي مرّا بي على أمّ جندب

نقض لبانات الفؤاد المعذّب

وقال :

فا نبك عن ذكرى حبيب ومنزل

وقال :

قفا نبك من ذكرى حبيب وعروان (١).

قال الآخر :

فقلت لصاحبي لا تعجلانا

بنزع أصوله واجتز شيحا

وأنشد أبو ثروان :

فإن تزجرني يا ابن عفان أنزجر

وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا (٢)

وقيل : يشبه أن يكون عني به تكرار القول فيه ، فكأنّه يقول : الق الق ، فناب ألقيا مناب التكرار ، ويجوز أن تكون ألقيا تثنية على الحقيقة ، ويكون الخطاب للمتلقيين معا أو السائق والشاهد جميعا ، وقرأ الحسن (ألقين) بنون التأكيد الخفيفة ، كقوله : (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ

__________________

(١) كذا بالأصل.

(٢) تفسير الطبري : ١١ / ٢٠٨.

١٠١

... كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) عاص معرض عن الحقّ ، قال مجاهد وعكرمة : مجانب للحقّ معاند لله.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي للزكاة المفروضة ، وكلّ حقّ واجب في ماله.

(مُعْتَدٍ) ظالم. (مُرِيبٍ) مشكّك ، وقال قتادة : شاك ومعناه : إنّه داخل في الريب (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) والنار وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، فأراد بقوله : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أنّه كان يمنع بني أخيه عن الإسلام ، ويقول : لئن دخل أحدكم في دين محمّد لا أنفعه بخير ما عشت.

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

(قالَ قَرِينُهُ) يعني الشيطان الذي قيّض لهذا الكافر العنيد (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) ما أضللته ، وما أغويته.

وقال القرظي : ما أكرهته على الطغيان. (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحقّ فتبرأ شيطانه عنه ، وقال ابن عبّاس ، ومقاتل : (قالَ قَرِينُهُ) يعني الملك ، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب السيئات : ربّ إنّه أعجلني ، فيقول الملك (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) ، ما أعجلته ، وقال سعيد بن جبير : يقول الكافر : ربّ إنّ الملك زاد عليّ في الكتابة ، فيقول الملك : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) ، يعني ما زدت عليه ، وما كتبت إلّا ما قال وعمل ، فحينئذ يقول الله سبحانه : (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) فقد قضيت ما أنا قاض. (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) في القرآن حذّرتكم ، وأنذرتكم ، فلا تبديل لقولي ولوعيدي. قال ابن عبّاس : إنّهم اعتذروا بغير عذر ، فأبطل الله حجّتهم ، ورد عليهم قولهم (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) وهو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١) ، وقال الفرّاء : معناه ما يكذب عندي لعلمي بالغيب (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فأعاقبهم بغير جرم أو أجزي بالحسن سيّئا. (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ) قرأ قتادة ، والأعرج ، وشيبة ، ونافع (تقول) (بالتاء) ، ومثله روى أبو بكر عن عاصم ، اعتبارا بقوله ، (قالَ : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) ،

__________________

(١) سورة هود : ١١٩.

١٠٢

وقرأ الحسن يوم يقال وقرأ الباقون (يَوْمَ نَقُولُ) (بالنون) (لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) لما سبق من وعده إيّاها أنّه يملأها (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وهذا السؤال منه على طريق التصديق بخبره ، والتحقيق لوعده والتقريع لأهل عذابه ، والتنبيه لجميع عباده. (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) يحتمل أن يكون جحدا مجازه ما من مزيد ، ويحتمل أن يكون استفهاما ، بمعنى (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ، فأزاده وإنّما صلح (هل) للوجهين جميعا ، لأنّ في الاستفهام ضربا من الجحد ، وطرفا من النفي ، قال ابن عبّاس : إنّ الله سبحانه وتعالى ، قد سبقت كلمته (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فلمّا بعث للنّاس ، وسبق أعداء الله إلى النار زمرا ، جعلوا يقحمون في جهنّم فوجا فوجا ، لا يلقى في جهنّم شيء إلّا ذهب فيها ، ولا يملأها شيء.

فقالت : ألست قد أقمت لتملأني؟ فوضع قدمه عليها ، ثمّ يقول لها : هل امتلأت؟ فتقول : قط قط ، قد امتلأت ، فليس من مزيد. قال ابن عبّاس : ولم يكن يملأها شيء حتّى مس قدم الله فتضايقت فما فيها موضع إبرة ، ودليل هذا التأويل ما أنبأني عقيل ، قال : أخبرنا المعافى ، قال : أخبرنا ابن جرير ، قال : حدّثنا بشر ، قال : حدّثنا يزيد ، قال : حدّثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال جهنّم يلقى فيها ، (وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؟ حتّى يضع ربّ العالمين فيها قدمه ، فتتزاوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قد قد بعزّتك ، وكرمك ، ولا يزال في الجنّة فضل ، حتّى ينشئ الله سبحانه لها خلقا ، فيسكنهم فضل الجنّة» [٩١] (١).

وأخبرنا ابن حمدون ، قال : أخبرنا ابن الشرقي ، قال : حدّثنا محمّد بن يحيى ، وعبد الرّحمن بن بشر ، وأحمد بن يوسف ، قالوا : حدّثنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن همام ابن منبه ، قال : هذا ما حدّثنا أبو هريرة ، عن محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تحاجت الجنّة والنّار ، فقالت النّار : أوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين ، وقالت الجنّة : فما لي لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسقطهم؟ فقال الله سبحانه للجنّة : إنّما أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنّار : إنّما أنت عذابي ، أعذّب بك من أشاء من عبادي ، ولكلّ واحدة منكما ملأها ، فأمّا النار ، فإنّهم يلقون فيها (وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؟ فلا تمتلئ حتّى يضع الله سبحانه وتعالى فيها رجله فتقول : قط قط ، فهناك تمتلأ وتزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأمّا الجنّة ، فإنّ الله عزوجل ينشئ لها خلقا» [٩٢] (٢).

قلت : هذان الحديثان في ذكر القدم ، والرجل ، صحيحان مشهوران ، ولهما طرق من حديث أبي هريرة ، وأنس ، تركت ذكرهما كراهة الإطالة ، ومعنى القدم المذكور في هذا الحديث المأثور قوم يقدمهم الله إلى جهنّم ، يملأها بهم ، قد سبق في عمله إنّهم صائرون إليها وخالدون

__________________

(١) صحيح البخاري : ٨ / ١٦٧ ؛ جامع البيان للطبري : ٢٦ / ٢٢٠ بتفاوت.

(٢) صحيح البخاري : ٦ / ٤٨ ؛ وصحيح مسلم ٨ / ١٥١ بتفاوت يسير.

١٠٣

فيها ، وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن معنى هذا الحديث ، فقال : هم قوم قدمهم الله للنار ، وقال عبد الرّحمن بن المبارك : هم من قد سبق في علمه أنّه من أهل النّار.

وكلّ ما يقدم ، فهو قدم. قال الله سبحانه : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، يعني أعمال صالحة قدّموها ، وقال الشاعر يذمّ رجلا :

قعدت به قدم الفجار وغودرت

وعود ربّ أسبابه من فتنة من خالق

يعني ليس له ما يفتخر بهم.

على انّ الأوزاعي روى هذا الحديث عن حسّان بن عطية ، حتى يضع الجبّار قدمه بكسر القاف ، وكذلك روى وهب بن منبه ، وقال : إنّ الله سبحانه كان قد خلق قوما قبل آدم ، يقال لهم : القدم ، رؤوسهم كرؤوس الكلاب والذباب ، وسائر أعضائهم كأعضاء بني آدم ، فعصوا ربّهم ، وأهلكهم الله ، يملأ الله بهم جهنّم حين تستزيد. وأمّا الرجل فهو العدد الكبير من الناس وغيرهم.

يقال : رأيت رجلا من الناس ، ومرّ بنا رجل من جياد ، وقال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب تقول : ما هلك على رجل نبيّ من الأنبياء ما هلك على رجل موسى ، يعني القبط ، وقال الشاعر :

فمرّ بنا رجل من النّاس وانزوى

إليهم من الحيّ اليمانين أرجل

قبائل من لخم وحمير

على ابني نزار بالعداوة أحفل (١)

ويصدق هذا التأويل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سياق الحديث : «ولا يظلم الله من خلقه أحدا» ، فدلّ أنّ الموضوع الملقى في النّار خلق من خلقه ، وقال بعضهم : أراد قدم بعض ملائكته ورجله ، وأضاف إليه كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). والله أعلم. (وَأُزْلِفَتِ) وأدنيت (الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) حتّى يروها قبل أن يدخلوها. (غَيْرَ بَعِيدٍ) منهم وهو تأكيد ، ويقال لهم : (هذا ما تُوعَدُونَ) في الدنيا على ألسنة الأنبياء.

(لِكُلِّ أَوَّابٍ) توّاب ، عن الضحّاك. وقيل : رجّاع إلى الطاعة عن ابن زيد ، وقال ابن عبّاس وعطاء : الأوّاب المسبّح من قوله سبحانه : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ). الحكم بن عيينة : هو الذاكر لله في الخلاء. الشعبي ومجاهد : الذي يذكر ذنوبه في الخلاء ، فيستغفر منها. قتادة : المصلّي. مقاتل بن حيان : المطيع. عبيد بن عسر : هو الذي لا يقوم من مجلسه حتى يستغفر الله تعالى. أبو بكر الورّاق : المتوكّل على الله سبحانه في السراء والضراء لا يهتدي إلى غير الله. المحاسني : هو الراجع بقلبه إلى ربّه. القاسم : هو الذي لا ينشغل إلّا بالله.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٩.

١٠٤

(حَفِيظٍ) قال ابن عبّاس : هو الذي حفظ ذنوبه حتّى يرجع عنها. قتادة : (حَفِيظٍ) لما استودعه الله سبحانه من حقّه ونعمته. وعن ابن عبّاس أيضا : الحافظ لأمر الله. الضحّاك : المحافظ على نفسه المتعهّد لها. عطاء : هو الذي يذكر الله في الأرض القفر. الشعبي : هو المراقب. أبو بكر الورّاق : الحافظ لأوقاته وهماته وخطواته. سهل : المحافظ على الطاعات والأوامر. (مَنْ خَشِيَ) في محلّ من وجهان من الإعراب : الخفض على نعت الأوّاب ، والرفع على الاستئناف ، وخبره في قوله ادخلوها ، ومعنى الآية من خاف (الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) ولم يره ، وقال الضحّاك والسدّي : يعني في الخلاء حيث لا أحد ، وقال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب.

(وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) مقبل إلى طاعة الله. قال أبو بكر الورّاق : علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ، مواليا له ، متواضعا لحلاله تاركا لهوى نفسه. (ادْخُلُوها) أي يقال لأهل هذه الصفة : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) بسلامة من العذاب وسلام الله وملائكته عليهم ، وقيل : السلامة من زوال النعيم وحلول النقم.

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) يعني الزيادة لهم في النعم ممّا لم يخطر ببالهم ، وقال جابر وأنس : هو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى بلا كيف.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) قال ابن عبّاس : أثروا.

مجاهد : ضربوا. الضحّاك : طافوا. النضر بن شميل : دوحوا. الفرّاء : خرقوا. المؤرخ :

تباعدوا. ومنه قول امرئ القيس :

لقد نقبّت في الأفاق حتّى

رضيت من الغنيمة بالإياب (١)

وقرأ الحسن فَنَقَبُوا بفتح القاف مخفّفة. وقرأ السلمي ويحيى بن معمر بكسر القاف مشدّدا

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٦ / ٢٢٦.

١٠٥

على التهديد والوعيد أي طوّفوا في البلاد ، وسيروا في الأرض ، فانظروا (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) من الموت وأمر الله سبحانه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في القرى التي أهلكت والعبر التي ذكرت (لَذِكْرى) التذكرة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي عقل ، فكنّي عن العقل بالقلب لأنّه موضعه ومتبعه. قال قتادة : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) حيّ ، نظيره (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) ، وقال الشبلي : قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين ، وقال يحيى بن معاذ : القلب قلبان : قلب قد احتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من أمور الآخرة لم يدر ما يصنع من شغل قلبه بالدنيا. وقلب قد احتشى بأهوال الآخرة ، حتّى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سألت أبا الحسن علي بن عبد الرّحمن العباد عن هذه الآية ، فقال : معناها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) مستقرّ لا يتقلّب عن الله في السراء والضراء.

(أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي استمع القرآن ، يقول العرب : ألق إليّ سمعك أي استمع ، وقال الحسين بن الفضل : يعني وجه سامعه وحولها إلى الذكر كما يقال اتبعي إليه.

(وَهُوَ شَهِيدٌ) أي حاضر القلب ، وقال قتادة : وهو شاهد على ما يقرأ ويسمع في كتاب الله سبحانه من حبّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكره. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ * وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) إعياء وتعب.

نزلت في اليهود حيث قالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيّام الستّة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين ، والجبال يوم الثلاثاء والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء ، والسماوات والملائكة يوم الخميس ، إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة وخلق في أوّل الثلاث ساعات الآجال ، وفي الثانية الآفة ، وفي الثالثة آدم».

قال : قالوا : صدقت إن أتممت. فقال : وما ذاك؟ فقالوا : ثمّ استراح يوم السبت واستلقى على العرش فأنزل الله سبحانه هذه الآية [٩٣] (١).

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) فإنّ الله سبحانه لهم بالمرصاد ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) يعني قل : سبحان الله والحمد لله. عن عطاء الخراساني ، وقال الآخرون : وصلّ بأمر ربّك وتوفيقه ، (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني صلاة الصبح ، (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) صلاة العصر ، وروي عن ابن عباس ، (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) : يعني الظهر والعصر ، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) يعني صلاة العشاءين ، وقال مجاهد : من الليل كلّه ، يعني : صلاة الليل ، في أي وقت صلّى ، (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قال

__________________

(١) كنز العمال : ٦ / ١٢٤ ؛ جامع البيان للطبري ٢٦ / ٢٢٩ بتفاوت يسير.

١٠٦

عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي : (أَدْبارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب ، و (إِدْبارَ النُّجُومِ) : الركعتان قبل الفجر ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، وقد روي عنه مرفوعا أخبرنيه عقيل قال : أخبرنا المعافى ، قال حدثنا ابن جرير ، قال : حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن فضيل عن رشيد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس قال : قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بن عباس ركعتان بعد المغرب أدبار السجود».

وقال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلّى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليّين» (١) ، قال أنس : يقرأ في الركعة الأولى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وفي الأخرى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

قال مقاتل : وقتهما ما لم يغب الشفق ، وقال مجاهد : هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات ، ورواه عن ابن عباس. وقال ابن زيد : هو النوافل أدبار المكتوبات.

واختلف القرّاء في قوله : (وَأَدْبارَ) ، فقرأ الحسن والأعرج وخارجة وأبو عمر ويعقوب وعاصم والكسائي : بفتح الألف ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ الآخرون : بالكسر ، وهي قراءة عليّ وابن عباس.

وقال بعض العلماء في قوله سبحانه : (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) قال : ركعتي الفجر ، (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) قال : الركعتين قبل المغرب.

روى عمارة بن زاذان عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك قال : كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّون الركعتين قبل المغرب (٢).

وروى شعبة عن يزيد بن جبير عن خالد بن معدان عن رغبان مولى حبيب بن مسلمة قال : رأيت أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهبّون إليها كما يهبّون إلى المكتوبة ـ يعني الركعتين قبل المغرب (٣).

وقال قتادة : ما أدركت أحدا يصلّي الركعتين قبل المغرب إلّا أنس وأبا برزة.

(وَاسْتَمِعْ) يا محمد صيحة القيامة (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) إسرافيل عليهم‌السلام تأتيه العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة : إن الله [يأمركن] أن تجتمعن بفصل القضاء. (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) صخرة بيت المقدس ، وهي وسط الأرض وأقرب الأرض الى السماء بثمانية عشر ميلا ، (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) وهي النفخة الأخيرة ، (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)

__________________

(١) المنتزع المختار : ١ / ٢٢٥ ، وإعانة الطالبين : ١ / ٢٨٥.

(٢) المصنف لعبد الرزاق : ٢ / ٤٣٥ ح ٣٩٨٢.

(٣) تحفة الأحوذي : ١ / ٤٦٩.

١٠٧

من القبور. (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) جمع سريع ، وهو نصب على الحال ، مجازه : فيخرجون سراعا ، (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) : بمسلط قهّار يجبرهم على الإسلام ، إنما بعثت مذكّرا مجدّدا.

قال ثعلب : قد جاءت أحرف فعّال بمعنى مفعل وهي شاذة ، جبّار بمعنى مجبر ، ودرّاك بمعنى مدرك ، وسرّاع بمعنى مسرع ، وبكّاء بمعنى مبك ، وعدّاء بمعنى معد ، وقد قريء : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (١) بمعنى المرشد ، وسمعت أبا منصور الجمشاذي يقول : سمعت أبا حامد الجازرنجي يقول : [العون] سيف سقّاط ، بمعنى مسقط.

وقال بعضهم : الجبّار من قولهم جبرته على الأمر بمعنى أجبرته ، وهي لغة كنانة وهما لغتان.

وقال الفرّاء : وضع الجبّار في موضع السلطان من الجبرية. قال : وأنشدني المفضّل :

ويوم الحزن إذ حشدت معد

وكان الناس إلا نحن دينا (٢)

عصتنا عزمة الجبّار حتى

صبحنا الجوف ألفا معلمينا (٣)

قال : أراد بالجبّار المنذر بن النعمان لولايته.

(فَذَكِّرْ) يا محمّد (بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) قال ابن عباس : قالوا يا رسول الله لو خوّفتنا؟ فنزلت (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

__________________

(١) سورة غافر : ٢٩.

(٢) الصحاح : ٥ / ٢١١٨.

(٣) تفسير الطبري : ٢٦ / ٢٣٧.

١٠٨

سورة الذاريات

مكية ، وهي ألف ومائتان وسبعة وثمانون حرفا ،

وثلاثمائة وستون كلمة ، وستون آية

أخبرني نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار الناجي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي قال : حدّثنا عمرو بن محمد قال : حدّثنا أسباط بن اليسع قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي قال : حدّثنا نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن خنيس عن أبىّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة والذاريات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ ريح هبت وجرت في الدنيا» [٩٤] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠))

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) الرياح التي تذرو التراب ذروا ، يقال : ذرت الريح التراب وأذرته.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا الحسن بن أيوب ، قال : حدّثنا عبد الله بن أبي زياد قال : حدّثنا سيار بن حاتم قال : حدّثنا أيوب بن خوط قال : حدّثنا عمر الأعرج قال : بلغنا أنّ مساكن الرياح تحت أجنحة الكروبيّين حملة الكرسي ، فتهيج من ثمّ فتقع بعجلة الشمس ، ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع برءوس الجبال ، ثم تهيج من رؤوس الجبال فتقع في البر. فأمّا الشمال فإنّها تمرّ بجنّة عدن ، فتأخذ من عرق طيبها فتمرّ على أرواح

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٢٥٢.

١٠٩

الصدّيقين ، ثمّ تأخذ حدّها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس ، ويأتي الدبور حدّها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل ، ويأتي الجنوب حدّها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس ، ويأتي الصبا حدّها من مطلع الشمس إلى كرسيّ بنات نعش ، فلا تدخل هذه في حدّ هذه ، ولا هذه في حدّ هذه.

أخبرني الحسن قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل ، قال : حدّثنا الحكم (١) سليمان ، قال : حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي رضي‌الله‌عنه (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) ، قال : «الرياح».

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) قال : «السحاب». (فَالْجارِياتِ يُسْراً) قال : «السفن».

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) ، قال : «الملائكة».

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ) من الخير والشر والثواب والعقاب (لَصادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ) الحساب والجزاء (لَواقِعٌ) لنازل كائن.

[ثم] ابتدأ قسما آخر فقال عزوجل : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) قال ابن عباس وقتادة والربيع : ذات الخلق الحسن المستوي ، وإليه ذهب عكرمة ، قال : ألم تر إلى النّسّاج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه ، قيل : ما أحسن حبكه وقال سعيد بن جبير : ذات الزينة ، وقال الحسن : حبكت النجوم.

مجاهد : هو المتقن البنيان ، الضحاك : ذات الطرائق ، ولكنّها بعيد من العباد فلا يرونها ، قال : ومنه حبك الرمل والماء إذا ضربهما الريح ، وحبك الشعر الجعد والدرع ، وهو جمع حباك وحبيكة ، قال الراجز :

كأنما جلّلها الحوّاك

طنفسة في وشيها حباك (٢)

ومنه الحديث في صفة الجبال : «راسية حبك حبك» يعني الجعودة ، وقال ابن زيد : ذات الشدّة ، وقرأ قول الله سبحانه : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) ، وقال عبد الله بن عمرو : هي السماء السابعة.

(إِنَّكُمْ) يا أهل مكة (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) في القرآن ومحمد عليه‌السلام ، فمن مصدّق ومكذّب ، ومقرّ ومنكر ، وقيل : نزلت في المقتسمين.

(يُؤْفَكُ) يصرف (عَنْهُ) أي عن الإيمان بهما (مَنْ أُفِكَ) صرف فنجويه ، وقيل : يصرف

__________________

(١) في المخطوط : ال ، والظاهر ما أثبتناه

(٢) جامع البيان للطبري : ٢٦ / ٢٤٣.

١١٠

عن هذا القول ، أي من أجله وسببه عن الإيمان من صرف ، وذلك أنّهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون له : إنّه ساحر وكاهن ومجنون ، فيصرفونه عن الإيمان ، وهذا معنى قول مجاهد.

وقد يكون (عن) بمعنى (أجل). أنشد العبسي :

عن ذات أولية أساود ربّها

وكأن لون الملح فوق شفارها (١)

أي من أجل ناقة ذات أوليه.

(قُتِلَ) لعن (الْخَرَّاصُونَ) الكذابون.

وقال ابن عباس : المرتابون ، وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب الله ، واقتسموا القول في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصرفوا الناس عن دين الإسلام.

وقال مجاهد : الكهنة.

(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) : شبهة وغفلة (ساهُونَ) : لا هون.

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) متى يوم القيامة استهزاء منهم بذلك وتكذيبا.

قال الله سبحانه وتعالى : (يَوْمَ هُمْ) أي يكون هذا الجزاء في يوم هم (عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) يعذّبون ويحرقون وينضجون بالنار كما يفتن الذهب بالنار. ومجازه بكلمة (عَلَى) هاهنا : أنهم موقوفون على النار ، وقيل : هو بمعنى الباء.

ويقول لهم الخزنة : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا) ولم يقل هذه ؛ لأنّ الفتنة هاهنا بمعنى العذاب ، فردّ الإشارة إلى المعنى (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) من الثواب وأنواع الكرامات.

وقال سعيد بن جبير : تعني آخذين بما أمرهم ربّهم ، عاملين بالفرائض التي أوجبها عليهم.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) قبل دخولهم الجنة (مُحْسِنِينَ) في الدنيا ، وقيل : قبل نزول الفرائض محسنين في أعمالهم.

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) اختلف العلماء في حكم (ما) ، فجعله بعضهم جحدا ، وقال : تمام الكلام عند قوله : (كانُوا قَلِيلاً) أي كانوا قليلا من الناس ، ثم ابتدأ (ما يَهْجَعُونَ) أي لا ينامون بالليل ، بل يقومون للصلاة والعبادة ، وجعله بعضهم بمعنى (الذي) ، والكلام متّصل

__________________

(١) الأولية : الناقة ، وساود ربّها : سارّه ليشتريها منه ، من السواد ، وهو السرار. انظر المخصص في اللغة ، المجلد : ١٤ ص ٦٧ ، الهامش.

١١١

بعضه ببعض ، ومعناه : كانوا قليلا من الليل الذي يهجعون ، أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم ؛ لأنّ (ما) إذا اتصل به الفعل ، صار في تأويل المصدر كقوله : (بِما ظَلَمُوا) أي بظلمهم ، وجعله بعضهم صلة ، أي كانوا قليلا من الليل يهجعون.

قال محمد بن علي : «كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة» ، وقال أنس بن مالك : يصلّون ما بين المغرب والعشاء ، وقال مطرف : قلّ ليلة تأتي عليهم لا يصلّون فيها لله سبحانه ، إما من أوّلها ، وإما من أوسطها ، وقال الحسن : لا ينامون من الليل إلّا أقلّه ، وربما نشطوا فمدّوا إلى السحر.

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ، قال ابن عباس وسعيد بن المسيب : السائل : الذي يسأل الناس ، والمحروم : المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم.

وقال قتادة والزهري : السائل الذي يسألك ، والمحروم : المتعفف الذي لا يسألك ، وقال إبراهيم : هو الذي لا سهم له في الغنيمة ، يدلّ عليه ما روى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسين بن محمد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سريّة فغنموا ، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة ، فنزلت هذه الآية ، وقال عكرمة : المحروم : الذي لا ينمي له مال ، وقال زيد بن أسلم : هو المصاب بثمره أو زرعه أو نسل ماشيته.

أخبرني الحسن بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا الحسن بن علي الفارسي قال : حدّثنا عمرو بن محمد الناقد قال : حدّثنا يزيد بن هارون قال : حدّثنا محمد بن مسلم الطائفي عن أيوب بن موسى عن محمد بن كعب القرظي : المحروم صاحب الحاجة ، ثم قرأ : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (١) ، ونظيره في قصة ضروان (٢) (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٣) ، وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدّثنا عبد [...] (٤) عن شعبة عن عاصم ـ يعني الأحول ـ عن أبي قلابة ، قال : كان رجل من أهل اليمامة له مال ، فجاء سيل فذهب بماله ، فقال رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا المحروم فاقسموا له.

وقال الشعبي : أعناني أن أعلم ما المحروم ، لقد سألت عن المحروم منذ سبعين سنة ، فما أنا اليوم بأعلم مني من يومئذ.

__________________

(١) سورة الواقعة : آية ٦٧.

(٢) ضروان : اسم أرض باليمن فيها الجنة المشار إليها. انظر الدر المنثور ٦ : ٢٥٣

(٣) سورة القلم : ٢٧.

(٤) بياض في الأصل.

١١٢

وأصله في اللغة الممنوع ، من الحرمان ، وهو المنع.

أخبرنا أبو سهيل بن حبيب قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن موسى قال : حدّثنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن خالد قال : حدّثنا علي بن عثمان النفيلي الحراني ، قال : حدّثنا علي بن عباس الحمصي ، قال : حدّثنا سعيد بن عمارة بن صفوان الكلاعي عن الحرث بن النعمان ـ ابن أخت سعيد بن جبير ـ قال : سمعت أنس بن مالك يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أنس ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة ، يقولون : يا ربّ ظلمونا حقوقنا التي فرضتها عليهم. قال : فيقول : وعزّتي وجلالي لأقربنّكم ولأبعدنّهم» [٩٥] (١).

قال : فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه هذه الآية : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)) (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) عبر وعظات إذا ساروا فيها. (لِلْمُوقِنِينَ).

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أيضا آيات (أَفَلا تُبْصِرُونَ).

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب الكلماباذي بقراءتي عليه ، قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص ، قال : حدّثنا السري بن خزيمة الأبيوردي ، قال : حدّثنا أبو نعيم ، قال : حدّثنا سفيان عن ابن جريج عن محمد بن المرتفع عن الزبير (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، قال : سبيل الغائط والبول ، وقال المسيب بن شريك : يأكل ويشرب من مكان واحد ، ويخرج من مكانين ، ولو شرب لبنا محضا خرج ماء ، فتلك الآية في النفس.

وقال أبو بكر الوراق : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) يعني في تحويل الحالات وضعف القوة وقهر المنّة وعجز الأركاب وفسخ الصريمة ونقض العزيمة ، ثم أخبر سبحانه وتعالى أنّه وضع رزقك حيث لا يأكله السوس ولا يناله اللصوص ، فقال سبحانه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) يعني المطر والثلج اللذين بهما تخرج الأرض النبات الذي هو سبب الأقوات ، وقال بعض أهل المعاني : معناه : وفي المطر والنبات سبب رزقكم ، فسمّي المطر سماء ؛ لأنّه عن السماء ينزل ، قال الشاعر :

إذا سقط السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا (٢)

وقال ابن كيسان : يعني وعلى ربّ السماء رزقكم (في) بمعنى (على) كقوله : (فِي جُذُوعِ

__________________

(١) الدر المنثور : ٦ / ١١٤.

(٢) لسان العرب : ١٤ / ٣٩٩.

١١٣

النَّخْلِ) (١) ، وذكر الربّ مختصرا ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) ، ونظيره قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٣).

وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير ، قال : حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا هارون بن المعتز من أهل الري عن سفيان الثوري قال : قرأ واصل الأحدب هذه الآية : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) فقال : ألا أرى رزقي في السماء ، وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلمّا أن كان اليوم الثالث إذا هو يرى جلّة من رطب ، وكان له أخ أحسن نيّة منه فدخل معه [فصارتا جلّتين] (٤) ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرّق بينهما الموت.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خميس قال : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثنا إبراهيم بن هاشم البغوي قال : حدّثنا ابن أبي بزّة ، قال : حدّثنا حسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد عن شبل بن عبّاد عن ابن [أبي نجيح] (٥) أنّه قرأ (وفي السماء رازقكم وما توعدون) بالألف يعني الله.

قال مجاهد : (وَما تُوعَدُونَ) من خير أو شر ، وقال الضحاك (وَما تُوعَدُونَ) من الجنة والنار ، وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علويّة قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب بن شريك قال : قال أبو بكر بن عبد الله : سمعت ابن سيرين يقول : (وَما تُوعَدُونَ) : الساعة.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ) يعني أن الذي ذكرت من أمر الرزق (لَحَقٌّ مِثْلَ) بالرفع قرأه أهل الكوفة بدلا من (الحق) ، وغيرهم بالنصب أي كمثل.

(ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) فتقولون : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وقيل : كما أنّكم ذوو نطق خصصتم بالقوة الناطقة العاقلة فتتكلمون ، هذا حق كما حق أنّ الآدمي ناطق ، وقال بعض الحكماء : كما أنّ كلّ انسان ينطق بلسان نفسه ، ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره ، فكذلك كلّ إنسان يأكل رزقه الذي قسم له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره ، وقال الحسن في هذه الآية : بلغني أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربّهم بنفسه فلم يصدّقوه» [٩٦] (٦).

حدّثنا أبو القاسم بن حبيب قال : أخبرنا أبو الحسن الكائيني وأبو الطيّب الخياط وأبو

__________________

(١) سورة طه : ٧١.

(٢) يوسف : ٨٢.

(٣) سورة هود : ٦.

(٤) في المخطوط : فصارتا ذو.

(٥) في المخطوط : يحص ، والظاهر ما أثبتناه

(٦) جامع البيان للطبري : ٢٦ / ٢٦٧.

١١٤

محمد يحيى بن منصور ـ الحاكم في القسطنطينية ـ قالوا : حدّثنا أبو رجاء محمد بن أحمد القاضي ، قال : حدّثنا أبو الفضل العباس بن الفرج الرياسي البصري ، قال : سمعت الأصمعي يقول : أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع في البصرة فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس ، فدنا وسلّم وقال لي : من الرجل؟ ، قلت : من بني الأصمع ، قال : أنت الأصمعي؟ قلت : نعم ، قال : ومن أين أقبلت؟ ، قلت من موضع مليء بكلام الرّحمن ، قال : وللرّحمن كلام يتلوه [الآدمين].

قلت : نعم ، قال : اتل عليّ شيئا منه ، فقلت له : انزل عن قعودك. فنزل ، وابتدأت بسورة (وَالذَّارِياتِ) ، فلمّا انتهيت إلى قوله سبحانه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ). قال : يا أصمعي هذا كلام الرّحمن؟ ، قلت : أي والذي بعث محمدا بالحق ، إنّه لكلامه أنزله على نبيّه محمد ، فقال لي : حسبك ، ثم قام إلى الناقة فنحرها وقطعها كلّها ، وقال : أعنّي على توزيعها ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرمل وولّى مدبرا نحو البادية وهو يقول : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ).

فأقبلت على نفسي باللوم وقلت : لم تنتبهي لما انتبه له الأعرابي ، فلمّا حججت مع الرشيد دخلت مكة ، فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق فالتفّت فإذا أنا بالأعرابي نحيلا مصفارا فسلّم علىّ وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي : اتل كلام الرّحمن ، فأخذت في سورة (وَالذَّارِياتِ) ، فلمّا انتهيت الى قوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) ، صاح الاعرابي فقال : (وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) ، ثم قال : وهل غير هذا؟ قلت : نعم يقول الله سبحانه (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) ، فصاح الأعرابي وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ ، ألم يصدّقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا وخرجت فيها نفسه (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة ، قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدّثنا أبو حاتم قال : حدّثنا شبانة ، قال حدّثنا صدقة ، قال حدّثنا الوضين بن عطاء عن زيد بن جرير أنّ رجلا جاع في مكان ليس فيه شيء ، فقال : اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به ، قال : فشبع وروى من غير طعام ولا شراب.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن القاسم الخطيب. قال : حدّثنا إسماعيل بن العباس بن محمد الوراق ، قال : حدّثنا الحسين بن سعيد بن محمد المحرمي ، قال : حدّثنا علي ابن يزيد العبداني قال : حدّثنا فضيل بن مسروق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري ، قال :

__________________

(١) كتاب التوابين لعبد الله بن قدامة : ٢٧٥ ح ١١٢.

١١٥

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنّ أحدكم فرّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت»

[٩٧] (١) وأنشدت في معناه :

الرزق في القرب وفي البعد

أطلب للعبد من العبد

لو قصّر الطالب في سعيه

أتاه ما قدّر في قصد

وقال دعبل :

أسعى لأطلب رزقي وهو يطلبني

والرزق أكثر لي مني له طلبا(٢)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥))

(هَلْ أَتاكَ) يا محمد (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) اختلفوا في عددهم فقال ابن عباس ومقاتل : كانوا اثني عشر ملكا ، وقال محمد بن كعب : كان جبريل ومعه سبعة ، وقال عطاء وجماعة : كانوا ثلاثة : جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر (الْمُكْرَمِينَ) قال ابن عباس : سمّاهم مكرمين ؛ لأنّهم كانوا غير مدعوّين.

وأخبرني محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال : حدّثني عبد الله بن أحمد الشعراني ، قال : أخبرنا عبد الواحد بن محمد بن سعيد الأرعيالي قال : سمعت محمد بن عبد الوهاب يقول : قال لي علي بن غنام : عندي هريسة ، ما رأيك فيها؟ قلت : ما أحسن رأيي! ، قال : امض ، فدخلت الدار فجعل ينادي يا غلام يا غلام ، والغلام غائب ، فأدخلني بيتا فجلست فيه ، فما راعني [إلّا معه] (٣) القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل ، فقلت : إنّا لله يا أبا الحسن لو علمت أن الأمر

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٤٢.

(٢) روضة الواعظين : ٥ / ٤٢٦.

(٣) في المخطوط (إلّا به معه)

١١٦

عندك هكذا ما دخلت. قال : هوّن عليك ، حدّثنا أبو أسامة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله سبحانه : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) قال : خدمته إياهم بنفسه ، وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : كانوا مكرمين عند الله ، نظيره في سورة الأنبياء (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ).

قال أبو بكر الوراق وابن عطاء : سمّاهم مكرمين ، لأنّ أضياف الكرام مكرمون ، وكان إبراهيم عليهم‌السلام أكرم الخليقة وأطهرهم فتوة.

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ) أي أنتم قوم (مُنْكَرُونَ) غرباء لا نعرفكم ، وقيل : إنّما أنكر أمرهم ، لأنّهم دخلوا عليه من غير استئذان ، وقال أبو العاليه : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.

(فَراغَ) فعدل ومال إبراهيم (إِلى أَهْلِهِ) قال الفرّاء : لا ينطق بالروغ حتى يكون صاحبه محتفيا لذهابه ومجيئه (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) قال قتادة : كان عامة مال إبراهيم البقر (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي صيحة ، ولم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان وإنّما هو كقول القائل : أقبل يشتمني ، بمعنى أخذ في شتمي.

(فَصَكَّتْ) قال ابن عباس : لطمت (وَجْهَها) وقال الآخرون : ضربت يدها على جبهتها تعجبا ، كعادة النساء إذا أنكرن شيئا أو تعجبن منه ، وأصل الصكّ الضرب (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) مجازه : أتلد عجوز عقيم؟ وكانت سارة لم تلد قبل ذلك وكان بين البشارة والولادة سنة ، فولدت له سارة وهي بنت سبع وتسعين ، وإبراهيم ابن مائة سنة.

(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) حدّثنا أبو بكر بن عبدوس ـ إملاء ـ قال : أخبرنا أبو سهل القطان ببغداد ، قال : حدّثنا يحيى بن جعفر ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف ، قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب ، قال حدّثنا نصر بن علي ، قال : أخبرنا نوح بن قيس ، قال : حدّثنا عون بن أبي شداد أنّ ضيف إبراهيم المكرمين لمّا دخلوا عليه فقرّب إليهم العجل فسحه جبريل عليه‌السلام بجناحه ، فقام العجل يدرج في الدار حتى لحق بأمّه.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) قال الكلبي من سنك ، وكل بيانه قوله سبحانه (مِنْ سِجِّيلٍ).

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

١١٧

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) عبرة (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ).

(وَفِي مُوسى) أي وتركنا في إرسال موسى أيضا عبرة ـ وقال الفرّاء : هو معطوف على قوله : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ ... ، وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى) فأعرض وأدبر عن الإيمان (بِرُكْنِهِ) بقوته وقومه ، نظيره (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) يعني المنعة والعشيرة ، وقال المؤرخ : بجانبه (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) قال أبو عبيدة : (أو) بمعنى (الواو) ؛ لأنهم قد قالوهما جميعا ، وأنشد بيت جرير :

أثعلبة الفوارس أو رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا (١)

وقد يوضع (أو) بمعنى (الواو) كقوله : (آثِماً أَوْ كَفُوراً) و (الواو) بمعنى (أو) كقوله سبحانه : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ).

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) قد أتى بما يلام عليه.

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وهي التي لا تلقّح شجرا ولا تنشئ سحابا ولا رحمة فيها [ولا] (٢) بركة.

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) كالنبت الذي قد يبس وديس.

قال ابن عباس كالشيء الهالك. مقاتل : كالبالي. مجاهد : كالتبن اليابس. قتادة : كرميم الشجر. أبو العالية : كالتراب المدقوق. [قال] يمان : ما رمته الماشية بمرمتها من [الكلأ] (٣) ، ويقال للنسفة : المرمة والمقمة ، وقيل : أصله من العظم البالي.

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) يعني وقت فناء آجالهم.

(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) قال الحسين بن واقد : كلّ صاعقة في القرآن فهي عذاب (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها نهارا.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض به ولا دفاع (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) منتقمين منّا.

قال قتادة : وما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من الله.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ

__________________

(١) لسان العرب : ١٥ / ١٧.

(٢) الكلمة غير موجودة في المخطوط ، وهي زيادة منا.

(٣) في المخطوط (من الكلاب)

١١٨

فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

(وَقَوْمَ نُوحٍ) قرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف (وَقَوْمِ) بجرّ الميم في (قَوْمَ نُوحٍ) ، وقرأ الباقون بالنصب ، وله وجوه : أحدهما : أن يكون مردودا على الهاء والميم في قوله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي وأخذت قوم نوح ، والثاني : وأهلكنا قوم نوح ، والثالث : واذكر قوم نوح (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل عاد وثمود وقوم فرعون (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) بقوة (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) قال ابن عباس قادرون ، وعنه أيضا : (لَمُوسِعُونَ) الرزق على خلقنا. الضحاك : أغنياء ، دليله قوله سبحانه (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) القتيبي : ذوو سعة على خلقنا. الحسين بن الفضل : أحاط علمنا بكل شيء. الحسن : مطبقون.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) بسطنا ومهّدنا لكم (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) الباسطون ، والمعنى في الجمع التعظيم.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، والبر والبحر ، والسهل والجبل ، والشتاء والصيف ، والجن والانس ، والكفر والإيمان ، والشقاوة والسعادة ، والحق والباطل ، والذكر والأنثى ، والجنة والنار.

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أنّ خالق الأزواج فرد.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي : فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان ومجانبة العصيان.

قال ابن عباس : فرّوا منه إليه ، واعملوا بطاعته ، وقال أبو بكر الورّاق : فرّوا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرّحمن ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف قال : حدّثنا محمد بن حمدان بن سفيان ، قال : حدّثنا محمد بن زياد قال : حدّثنا يعقوب بن القاسم ، قال : حدّثنا محمد بن معز عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان في قوله سبحانه (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) قال : اخرجوا إلى مكة. الحسين بن الفضل : احترزوا من كل شيء دونه ، فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع منه.

قال الجنيد : الشيطان داع إلى الباطل ، (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) يمنعكم منه. ذو النون : ففرّوا من الجهل إلى العلم ، ومن الكفر إلى الشكر. عمرو بن عثمان : فرّوا من أنفسكم إلى ربّكم.

١١٩

الواسطي : فرّوا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. سهل بن عبد الله : فرّوا مما سوى الله إلى الله. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ.)

(كَذلِكَ) أي : كما كفر بك قومك ، وقالوا ساحر ومجنون كذلك (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).

(أَتَواصَوْا بِهِ) أوصى بعضهم بعضا بالتكذيب وتواطؤوا عليه ، والألف فيه ألف التوبيخ.

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) عاصون.

(فَتَوَلَ) فأعرض (عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) فقد بلّغت ما أرسلت به وما قصّرت فيما أمرت.

قال المفسرون : فلمّا نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واشتدّ ذلك على أصحابه ، ورأوا أن الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر ، فأنزل الله سبحانه (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قال علي بن أبي طالب : معناه إلّا لآمرهم أن يعبدون ، وأدعوهم إلى عبادتي ، واعتمد الزجاج هذا القول ، ويؤيده قوله (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) وقوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

قال ابن عباس : ليقرّوا لي بالعبودية طوعا أو كرها.

فإن قيل : فكيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلّل لأمره ومشيئته ، وأنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضى عليهم؟ [قلنا :] لأنّ قضاءه جار عليهم ولا يقدرون الامتناع منه إذا نزل بهم ، وإنّما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به ، فأمّا التذلّل لقضائه فإنّه غير ممتنع فيه ، وقال مجاهد : إلّا ليعرفون.

ولقد أحسن في هذا القول لأنّه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده ، ودليل هذا التأويل قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآيات.

وروى حيّان عن الكلبي : إلّا ليوحّدون ، فأمّا المؤمن فيوحّده في الشدّة والرخاء ، وأمّا الكافر فيوحده في الشدّة والبلاء دون النعمة والرخاء ، بيانه قوله سبحانه : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الآية.

وقال عكرمة : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ويطيعون. فأثيب العابد وأعاقب الجاحد ، وقال الضحاك وسفيان : هذا خاص لأهل عبادته وطاعته. يدلّ عليه [ما] قرأه ابن عباس : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) من المؤمنين (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). قال في آية أخرى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وقال بعضهم : معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلّا لعبادتي ، والأشقياء

١٢٠