الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) أي رجال من رجال ، والقوم اسم يجمع الرجال والنساء (١) ، وقد يختص بجمع الرجال ، كقول زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء (٢)

(عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ)نزلت في امرأتين من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سخرتا من أمّ سلمة ، وذلك أنّها ربطت خصريها بسبيبة ـ وهي ثوب أبيض ومثلها السب ـ وسدلت طرفيها خلفها. فكانت تجرها.

فقالت عائشة لحفصة : انظري ما تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب. فهذا كان سخريتهما (٣).

وقال أنس : نزلت في نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيّرن أمّ سلمة بالقصر. ويقال : نزلت في عائشة ، أشارت بيدها في أمّ سلمة أنّها قصيرة، وروى عكرمة ، عن ابن عبّاس أنّ صفية بنت حي بن أخطب أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إنّ النساء يعيّرني فيقلن : يا يهودية بنت يهوديين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلّا قلت : إنّ أبي هارون ، وابن عمّي موسى ، وإنّ زوجي محمّد» [٧٠] (٤) ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يعيب بعضكم بعضا ، ولا يطعن بعضكم على بعض. وقيل : اللمز العيب في المشهد ، والهمز في المغيب ، وقال محمّد بن يزيد : اللمز باللسان ، والعين ، والإشارة ، والهمز لا يكون إلّا باللسان ، قال الشاعر :

إذا لقيتك عن شحط تكاشرني

وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة (٥)

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قال أبو جبير بن الضحّاك : فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة ، قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وما منّا رجل إلّا له اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا الرجل الرجل باسم ، قلنا : يا رسول الله ، إنّه يغضب من هذا. فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ).

قال قتادة ، وعكرمة : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا منافق ، يا كافر ، وقال الحسن : كان اليهودي ، والنصراني يسلم ، فيقال له بعد إسلامه : يا يهودي ، يا نصراني ، فنهوا عن ذلك ، وقال ابن عبّاس : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيّئات ، ثمّ تاب منها ، وراجع الحقّ ، فنهى الله أن يعيّر بما سلف من عمله.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٢٥ مورد الآية.

(٢) كتاب العين : ٥ / ٢٣١.

(٣) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٢٦.

(٤) أسباب نزول الآيات للواحدي : ٢٦٤ ؛ تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٢٦.

(٥) لسان العرب : ٥ / ٤٢٦ ؛ تاج العروس : ٤ / ٩٤.

٨١

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) يقول : من فعل ما نهيت عنه من السخرية ، واللمز والنبز ، فهو فاسق ، و (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) فلا تفعلوا ذلك ، فتستحقّوا (اسم الفسوق) وقيل : معناه بئس الاسم الذي تسميه ، بقولك فاسق ، بعد أن علمت أنّه آمن.

(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) ... الآية نزلت في رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اغتابا رفيقيهما ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا غزا أو سافر ، ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسورين يخدمهما ، ويحقب حوائجهما ، ويتقدّم لهما إلى المنزل ، فيهيّئ لهما ما يصلحهما من الطعام ، والشراب ، فضم سلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدّم سلمان ، فغلبته عيناه ، فلم يهيّئ لهما شيئا ، فلمّا قدما ، قالا له : ما صنعت شيئا؟ قال : لا. قالا : ولم؟ قال : غلبتني عيناي ، فقالا له : انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واطلب لنا منه طعاما وإداما ، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله طعاما ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عنده فضل من طعام ، وإدام ، فليعطك».

وكان أسامة خازن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى رحله ، فأتاه ، فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما ، وأخبرهما بذلك ، فقالا : كان عند أسامة ، ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئا ، فلمّا رجع سلمان ، قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثمّ انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلمّا جاءا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهما : «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما» قالا : يا رسول الله ، والله ما تناولنا يومنا هذا لحما ، فقال : «ظللتم تأكلون لحم سلمان ، وأسامة» [٧١] (١).

فأنزل الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا) قرأه العامّة (بالجيم) وقرأ ابن عبّاس ، وأبو رجاء العطاردي (ولا تحسّسوا) (بالحاء) ، قال الأخفش : ليس يبعد أحدهما عن الآخر. إلّا أنّ التجسّس لما يكتم ، ويوارى ، ومنه الجاسوس ، والتحسس (بالحاء) تخبر الأخبار ، والبحث عنها ، ومعنى الآية خذوا ما ظهر ، ودعوا ما ستر الله ، ولا تتّبعوا عورات المسلمين.

أخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن شنبه ، قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا قتيبة بن سعد ، عن مالك ، عن أبي الزياد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إيّاكم

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٣١.

٨٢

والظنّ ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث ، (وَلا تَجَسَّسُوا) ، ولا تحسّسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا» [٧٢] (١).

وأخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن حبش ، قال : أخبرنا علي بن زنجويه. قال : حدّثنا سلمة ، قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن زرارة بن مصعب بن عبد الرّحمن بن عوف ، عن المسوّر بن مخرمة ، عن عبد الرّحمن بن عوف ، أنّه حرس ليلة عمر بن الخطّاب بالمدينة ، فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت ، فانطلقوا يؤمّونه ، فلمّا دنوا منه ، إذا باب يجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ، ولغط ، فقال عمر ، وأخذ بيد عبد الرّحمن : أتدري بيت من هذا؟ قال : قلت : لا.

قال : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف ، وهم الآن بيثرب ، فما ترى؟ قال عبد الرّحمن : أرى أنّا قد أتينا ما قد نهى الله سبحانه ، فقال : (وَلا تَجَسَّسُوا) فقد تجسسنا ، فانصرف عمر عنهم ، وتركهم.

وبه عن معمر ، قال : أخبرني أيّوب ، عن أبي قلابة أنّ عمر بن الخطّاب ، حدّث أنّ أبا محجن الثقفي شرب الخمر في بيته هو وأصحابه ، فانطلق عمر حتّى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلّا رجل ، فقال أبو محجن : يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك ، فقد نهاك الله عزوجل عن التجسّس ، فقال عمر : ما يقول هذا؟ فقال زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الأرقم : صدق يا أمير المؤمنين ، هذا التجسّس ، قال : فخرج عمر رضي‌الله‌عنه ، وتركه. وروى زيد بن أسلم أنّ عمر بن الخطّاب خرج ذات ليلة ، ومعه عبد الرّحمن بن عوف رضي‌الله‌عنهما يعسّان إذ شبّ لهما نار ، فأتيا الباب ، فاستأذنا ، ففتح الباب ، فدخلا ، فإذا رجل ، وامرأة تغنّي ، وعلى يد الرجل قدح ، وقال عمر للرجل : وأنت بهذا يا فلان؟ فقال : وأنت بهذا يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر : فمن هذه منك؟ قال : امرأتي. قال : وما في القدح؟ قال : ماء زلال. فقال للمرأة : وما الّذي تغنّين؟ فقالت :أقول :

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه

وأرّقني ألّا حبيب ألاعبه (٢)

فو الله لو لا خشية الله والتقى

لزعزع من هذا السرير جوانبه

ولكن عقلي والحياء يكفني

وأكرم بعلي أن تنال مراكبه

ثمّ قال الرجل : ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين ، قال الله : (وَلا تَجَسَّسُوا) فقال عمر : صدقت ، وانصرف. وأخبرنا الحسين ، قال : حدّثنا موسى بن محمّد بن علي. قال : حدّثنا

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٤٧٠ بتفاوت يسير. صحيح البخاري : ٧ / ٨٨.

(٢) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٣٤ ؛ ولسان العرب : ٨ / ١٤٢ ، بتفاوت فيهما بالبيت الثاني.

٨٣

الحسين بن علوية. قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، قال : حدّثنا المسيب ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، قال : قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال : إنّا قد نهينا عن التجسّس ، فإن يظهر لنا شيئا نأخذه به.

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أخبرنا الحسين ، قال : حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري. قال : حدّثنا أحمد بن محمّد بن زيد أبو بكر السطوي ، قال : حدّثنا علي بن إشكاب ، قال : حدّثنا عمر بن يونس اليمامي ، قال : حدّثنا جهضم بن عبد الله ، عن العلاء بن عبد الرّحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الغيبة فقال : «أن يذكر أخاك بما يكره ، فإمّا إن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» [٧٣] (١).

وقال معاذ بن جبل : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر القوم رجلا ، فقالوا : ما يأكل إلّا ما أطعم ، ولا يرحل إلّا ما رحّل ، فما أضعفه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اغتبتم أخاكم».

قالوا : يا رسول الله وغيبة أن نحدّث بما فيه؟ فقال : «بحسبكم أن تحدّثوا عن أخيكم بما فيه» [٧٤] (٢).

وروى موسى بن وردان عن أبي هريرة أنّ رجلا قام من عند رسول الله ، فرأوا في قيامه عجزا ، فقالوا : يا رسول الله ما أعجز فلانا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أكلتم أخاكم واغتبتموه» [٧٥] (٣).

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) ، قال قتادة : يقول : كما أنت كاره أن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها ، فكذلك فاكره لحم أخيك وهو حيّ ، (فَكَرِهْتُمُوهُ) قال الكسائي ، والفراء : معناه ، فقد كرهتموه. وقرأ أبو سعيد الخدري (فَكُرِّهْتُمُوهُ) بالتشديد على غير تسمية الفاعل.

أخبرني الحسن ، قال : حدّثنا عمر بن نوح البجلي ، قال : حدّثنا أبو صالح عبد الوهاب بن أبي عصمة. قال : حدّثنا إسماعيل بن يزيد الأصفهاني. قال : حدّثنا يحيى بن سليم ، عن كهمس ، عن ميمون بن سباه ، وكان يفضل على الحسن ، ويقال : قد لقي من لم يلق ، قال : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي : كل ، قلت : يا عبد الله ، ولم آكل؟ قال : بما اغتبت عبد فلان ، قلت : والله ما ذكرت منه خيرا ، ولا شرّا ، قال : لكنّك استمعت ، ورضيت ، فكان

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٣٨٤ ؛ صحيح مسلم : ٨ / ٢١ بتفاوت.

(٢) الدر المنثور : ٦ / ٩٧.

(٣) مجمع الزوائد : ٨ / ٩٤ ؛ جامع البيان للطبري : ٢٦ / ١٧٧.

٨٤

ميمون بعد ذلك لا يغتاب أحدا ، ولا يدع أن يغتاب عنده أحد ، وحكي عن بعض الصالحين أنّه قال : كنت قاعدا في المقبرة الفلانية ، فاجتازني شاب جلد ، فقلت : هذا ، وأمثاله ، وبال على الناس ، فلمّا كانت تلك الليلة رأيت في المنام أنّه قدّم إليّ جنازة عليها ميّت ، وقيل لي كل من لحم هذا ، وكشف عن وجهه ، فإذا ذلك الشاب ، فقلت : أنا لم آكل من لحم الحيوان الحلال منذ سنين ، فكيف آكل هذا؟ فقيل : فلم اغتبته إذا؟ فانتبهت حزينا ، فكنت آوي إلى تلك المقبرة سنة واحدة ، فرأيت الرجل ، فقمت إليه لأستحلّ منه ، فنظر إليّ من بعيد ، فقال : تبت. قلت : نعم ، قال : ارجع إلى مكانك.

وقد أخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال : حدّثنا عبد الله بن الفضل.

قال : أخبرنا علي بن محمّد. قال : حدّثنا يحيى بن آدم. قال : حدّثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن ابن عمر ، لأبي هريرة ، قال : جاء ماعز إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إنّه زنى ، فأعرض عنه ، حتّى أقرّ أربع مرّات ، فأمر برجمه ، فمرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجلين يذكران ماعزا ، فقال أحدهما : هذا الذي ستر عليه ، فلم تدعه نفسه حتّى رجم برجم الكلب.

قال : فسكت عنهما حتّى مرّا معه على جيفة حمار شائل رجله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما : «انزلا فأصيبا منه». فقالا : يا رسول الله غفر الله لك ، وتؤكل هذه الجيفة؟ قال : «ما أصبتما من لحم أخيكما آنفا أعظم عليكما ، أما إنّه الآن في أنهار الجنّة منغمس فيها» [٧٦].

وأخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن شيبة قال : حدّثنا الفريابي ، قال : حدّثنا محمّد بن المصفى ، قال : حدّثنا أبو المغيرة ، حدّثنا عبد القدوس بن الحجّاج ، قال : حدّثني صفوان بن عمرو ، قال : حدّثنا راشد بن سعد ، وعبد الرّحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ، وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم النّاس ، ويقعون في أعراضهم» [٧٧] (١).

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أخبرني الحسين ، قال : حدّثنا موسى بن محمّد بن علي ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى الحلواني ، قال : حدّثنا يحيى بن أيّوب ، قال : حدّثنا أسباط ، عن أبي رجاء الخراساني ، عن عبّاد بن كثير ، عن الحريري ، عن أبي نصرة ، عن جابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري ، قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الغيبة أشدّ من الزنا». قيل : وكيف؟ قال : «إنّ الرجل يزني ، ثمّ يتوب ، فيتوب الله عليه ، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه» [٧٨] (٢).

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٢٢٤ ؛ وسنن أبي داود : ٢ / ٤٥١.

(٢) الجامع الصغير : ١ / ٤٥٠ ؛ العهود المحمدية للشعراني : ٨٥٦ ؛ كنز العمال : ٣ / ٥٨٦.

٨٥

وأخبرني الحسين ، قال : حدّثنا الفضل. قال : حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر البزاز البغدادي ، قال : حدّثنا محمّد بن علي الورّاق. قال : حدّثنا هارون بن معروق ، قال : حدّثنا ضمرة ، عن ابن شوذي ، قال : قال رجل لابن سيرين : إنّي قد اغتبتك ، فاجعلني في حلّ ، قال : إنّي أكره أن أحلّ ما حرّم الله.

وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا أبو الطيب بن حفصويه ، قال : حدّثنا عبد الله بن جامع.

قال : قرأت على أحمد بن سعيد ، حدّثنا سعيد ، قال : حدّثنا يزيد بن هارون ، عن هشام بن حسّان عن خالد الربعي ، قال : قال عيسى ابن مريم لأصحابه : أرأيتم لو أنّ أحدكم رأى أخاه المسلم قد كشف الريح عن ثيابه؟ قالوا : سبحان الله إذا كنّا نردّه. قال : لا ، بل كنتم تكشفون ما بقي ، مثلا ضربه لهم يسمعون للرجل سيئة أو حسنة ، فيذكرون أكثر من ذلك.

[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٣ الى ١٨]

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ) الآية.

قال ابن عبّاس : نزلت في ثابت بن قيس وقوله للرجل الذي لم يفسح له : ابن فلانة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من الذاكر فلانة؟». فقام ثابت ، فقال : أنا يا رسول الله. فقال : «انظر في وجوه القوم». فنظر إليهم ، فقال : «ما رأيت يا ثابت؟».

قال : رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال : «فإنّك لا تفضلهم إلّا في الدّين والتقوى» [٧٩] (١) ، فأنزل الله سبحانه في ثابت هذه الآية وبالّذي لم يفسح له : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ ، فَافْسَحُوا) ... (٢) الآية.

وقال مقاتل : لمّا كان يوم فتح مكّة ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا حتّى علا على ظهر الكعبة وأذّن ، فقال عتاب بن أسد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم ، وقال الحرث بن هاشم : أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذّنا؟ وقال سهيل بن عمرو :

__________________

(١) أسباب نزول الآيات للواحدي : ٢٦٤.

(٢) سورة المجادلة : ١١.

٨٦

إن يرد الله شيئا يغيره ، وقال أبو سفيان بن حرب : إنّي لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به ربّ السماء.

فأتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسألهم عمّا قالوا ، فأقرّوا ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وزجرهم ، عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء للفقراء ، وقال يزيد بن سخرة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم يمرّ ببعض أسواق المدينة ، فإذا غلام أسود قائم ، ينادى عليه ليباع ، فمن يريد.

وكان الغلام قال : من اشتراني فعلي شرط ، قيل : ما هو ، قال : ألا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاشتراه رجل على هذا الشرط ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراه عند كلّ صلاة مكتوبة ، ففقده ذات يوم ، فقال لصاحبه : «أين الغلام؟». فقال : محموم يا رسول الله ، فقال لأصحابه : «قوموا بنا نعوده». فقاموا معه فعادوه ، فلما كان بعد أيّام قال لصاحبه : «ما حال الغلام؟» [٨٠] (١).

قال : يا رسول الله ، إنّ الغلام لما به ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل عليه وهو في ذهابه ، فقبض على تلك الحال ، فتولّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غسله ، وتكفينه ، ودفنه ، فدخل على المهاجرين ، والأنصار من ذلك أمر عظيم ، فقال المهاجرون : هاجرنا ديارنا ، وأموالنا ، وأهالينا ، فلم ير أحد منّا في حياته ومرضه وموته ما لقي منه هذا الغلام ، وقال الأنصار : آويناه ، ونصرناه ، وواسيناه فآثر علينا عبدا حبشيّا ، فعذر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما تعاطاه من أمر الغلام ، وأراهم فضل التقوى ، فأنزل الله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً) وهي رؤوس القبائل وجمهورها مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج. واحدها شعب بفتح الشين ، سمّوا بذلك لتشعّبهم واجتماعهم ، كتشعّب أغصان الشجر ، والشعب من الأضداد يقال : شعبته إذا جمعته ، وشعبته إذا فرّقته ، ومنه قيل للموت : شعوب.

(وَقَبائِلَ) وهي دون الشعوب ، واحدها قبيلة ، وهم كندة من ربيعة ، وتميم من مضر ، ودون القبائل العمائر ، واحدها عمارة بفتح العين كشيبان من بكر ، ودارم من تميم ، ودون العمائر البطون ، واحدها بطن ، وهم كبني غالب ولؤي من قريش ، ودون البطون الأفخاذ ، واحدها فخذ ، وهم كبني هاشم ، وأمية من بني لؤي ، ثمّ الفصائل ، والعشائر ، واحدتها فصيلة ، وعشيرة ، وقيل : الشعوب من العجم ، والقبائل من العرب ، والأسباط من بني إسرائيل ، وقال أبو رزين وأبو روق : الشعوب الذين لا يصيرون إلى أحد ، بل ينسبون إلى المدائن ، والقرى ، والأرضين ، والقبائل العرب الذين ينسبون إلى آبائهم.

__________________

(١) أسباب نزول الآيات ـ الواحدي النيسابوري : ٢٦٥.

٨٧

(لِتَعارَفُوا) يعرف بعضكم بعضا في قرب النسب ، وبعده لا لتفاخروا. وقرأ الأعمش (ليتعارفوا) ، وقرأ ابن عبّاس (ليعرفوا) بغير (ألف).

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) بفتح (الألف) ، وقرأه العامة (إِنَّ) بكسر (الألف) على الاستئناف ، والوقوف على قوله (لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) قال قتادة : في هذه الآية أكرم الكرم التقوى. وألأم اللوم الفجور ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّه أن يكون أكرم الناس ، فليتّق الله» (١).

وقال : «كرم الرجل دينه ، وتقواه ، وأصله عقله ، وحسبه خلقه» (٢) ، وقال ابن عبّاس : كرم الدنيا الغنى ، وكرم الآخرة التقوى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

أخبرنا الحسن ، قال : حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي ، قال : حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي ، قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله المقري ، قال : حدّثنا ابن رجاء ، عن موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته القصواء يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه ، فما وجد لها مناخ في المسجد ، حتّى أخرجنا إلى بطن الوادي ، فأناخت فيه ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «أمّا بعد أيّها الناس ، قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية ، وفخرها بالآباء ـ وفي بعض الألفاظ : وتعظمها بآبائها ـ إنّما الناس رجلان ، برّ تقي كريم على الله ، وفاجر شقيّ هيّن على الله». ثمّ تلا هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) ... الآية ، وقال : «أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» [٨١] (٣).

وأخبرني الحسين ، قال : حدّثنا محمّد بن علي بن الحسين الصوفي. قال : حدّثنا أبو شعيب الحراني. قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله الكابلي. قال : حدّثنا الأوزاعي ، قال : حدّثني يحيى بن أبي كثير ، إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، وأعمالكم ، وإنّما أنتم بنو آدم (أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)» [٨٢] (٤).

وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن حفصويه ، قال : حدّثنا عبد الله بن جامع المقري ، قال : حدّثنا أحمد بن خادم. قال : حدّثنا أبو نعيم ، قال : حدّثنا طلحة ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، قال : الله سبحانه يقول يوم القيامة : إنّي جعلت نسبا ، وجعلتم نسبا ، فجعلت (أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فأنتم تقولون : فلان بن فلان ، وأنا اليوم أرفع نسبي ، وأضع أنسابكم ، أين المتّقون؟ أين المتّقون؟ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٥).

__________________

(١) تفسير الثعالبي : ٥ / ٢٧٧.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٣١٩ ؛ مسند أحمد : ٢ / ٣٦٥ ؛ مجمع الزوائد : ١٠ / ٢٥١ بتفاوت.

(٣) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٣٣ ؛ ومسند أحمد : ٢ / ٥٢٤.

(٤) مسند أحمد : ٢ / ٢٨٥ ؛ صحيح مسلم : ٨ / ١١.

(٥) كنز العمال : ٣ / ٩١ ح ٥٦٤٣ ؛ وتفسير الدر المنثور : ٦ / ٩٨.

٨٨

وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيّوب. قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب. قال : حدّثنا محمّد بن أبي بكر. قال : حدّثني يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن عمر ، قال : حدّثني سعيد بن أبي سعيد المقري ، عن أبي هريرة ، قال : قيل : يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال : «أتقاهم».

وأنشدني ابن حبيب ، قال : أنشدنا ابن رميح ، قال : أنشدنا عمر بن الفرحان :

ما يصنع العبد بعزّ الغنى

والعزّ كلّ العزّ للمتّقي

من عرف الله فلم تغنه

معرفة الله فذاك الشقي (١)

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة ، ثمّ من بني الحلاف بن الحارث بن سعيد ، قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة في سنة جدبة ، وأظهروا شهادة أن لا إله إلّا الله ، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ ، وأفسدوا طرق المدينة بالعدوان ، وأغلوا أسعارها ، وكانوا يغدون ، ويروحون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأفعال ، والعيال والذراري ، يمنون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، وبنو فلان ، ويريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية.

وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح ، وهم أعراب مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، وغفار ، كانوا يقولون : آمنّا بالله ، ليأمنوا على أنفسهم ، وأموالهم ، فلمّا استنفروا إلى الحديبية تخلّفوا ، فأنزل الله سبحانه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي. (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فأخبر أنّ حقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، وأنّ الإقرار به باللسان ، وإظهار شرائعه بالأبدان ، لا يكون إيمانا دون الإخلاص الذي محلّه القلب ، وأنّ الإسلام غير الإيمان.

يدلّ عليه ما أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي ، قرأه عليه محمّد بن زكريا في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ، قال : أخبرنا أبو العبّاس محمد بن الدغولي ، قال : حدّثنا محمّد بن الليث المروزي ، قال : حدّثنا عبد الله بن عثمان بن عبدان ، قال : حدّثنا عبد الله ابن المبارك ، قال : أخبرنا يونس ، عن الزهري. قال : أخبرني عامر ، عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطي رهطا ، وسعد جالس فيهم ، فقال سعد : فترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا منهم ، فلم يعطه ، وهو أعجبهم إليّ. فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فو الله إنّي لأراه مؤمنا ، فقال رسول الله : «أو مسلما».

فسكت قليلا ، ثمّ غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ، فو الله إنّي لأراه مؤمنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو مسلما».

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٤٦.

٨٩

فسكت قليلا ، ثمّ غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ، فو الله إنّي لأراه مؤمنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو مسلما ، فإنّي لأعطي الرجل ، وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النار على وجهه» [٨٣] (١).

فاعلم أنّ الإسلام الدخول في السلم ، وهو الطاعة والانقياد ، والمتابعة ، يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم وهو الطاعة والانقياد والمتابعة.

يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم ، كما يقال : أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء ، وأصاف إذا دخل في الصيف ، وأربع إذا دخل في الربيع ، وأقحط إذا دخل في القحط ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان فالجنان ، كقوله عزوجل لإبراهيم : (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ) (٢) ، وقوله : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣).

ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) بيانه قوله سبحانه : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ظاهرا وباطنا ، سرّا وعلانيّة (لا يَلِتْكُمْ) (بالألف) أبو عمر ، ويعقوب ، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله : (وَما أَلَتْناهُمْ) (٤) يقال ألت يألت ألتا ، قال الشاعر :

أبلغ بني ثعل عني مغلغلة

جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا (٥)

وقرأ الآخرون (يَلَتْكَمْ) من لات يليت ليتا ، كقول رؤبة :

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها ليت (٦)

ومعناهما جميعا لا ينقصكم ، ولا يظلمكم. (مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثمّ بيّن حقيقة الإيمان ، فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) لم يشكّوا في وحدانية الله ، ولا بنبوّة أنبيائه ولا فيما آمنوا به ، بل أيقنوا وأخلصوا (٧).

(وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في إيمانهم ، لا من أسلم خوف السيف ورجاء الكسب ، فلمّا نزلت هاتان الآيتان ، أتت الأعراب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ١٠٤.

(٢) سورة البقرة : ١٣١.

(٣) سورة الذاريات : ٣٦٣٥.

(٤) سورة الطور : ٢١.

(٥) لسان العرب : ٢ / ٤ ؛ تاج العروس : ١ / ٥٢٢.

(٦) زاد المسير : ٧ / ١٨٧ ؛ وتاج العروس : ١ / ٥٨٢.

(٧) تفسير الطبري : ٢٦ / ١٨٦ بتفاوت.

٩٠

فحلفوا بالله إنّهم مؤمنون في السرّ ، والعلانية ، وعرف الله غير ذلك منهم (١) ، فأنزل الله سبحانه (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) الذي أنتم عليه.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي بإسلامكم. (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) وفي مصحف عبد الله (إذ هداكم للإيمان) (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّكم مؤمنون. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قرأ ابن كثير ، والأعمش ، وطلحة ، وعيسى (بالياء) ، غيرهم (بالتاء).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٤٩.

٩١

سورة ق

مكّية ، وهي ألف وأربعمائة وأربع وتسعون حرفا ،

وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة ، وخمسة وأربعون آية

أخبرنا أبو الحسين محمد بن القاسم بن أحمد الماوردي ، قال : أخبرنا أبو الحسين محمد ابن محمد بن سادة الكرابيسي ، قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين ، قال : حدّثنا محمد بن يحيى ، قال : حدّثنا مسلم بن قتيبة ، عن سعيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حش ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة ق ، هوّن الله عليه تارات الموت ، وسكراته» [٨٤] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

(ق) قال ابن عبّاس : هو اسم من أسماء الله سبحانه ، أقسم به. قتادة : اسم من أسماء القرآن ، القرظي : افتتاح أسماء الله ، قدير ، وقادر ، وقاهر ، وقاضي ، وقابض. الشعبي : فاتحة السّورة. بريد ، وعكرمة ، والضحّاك : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء ، خضرة السماء منه ، وعليه كتفا السماء ، وما أصاب الناس من زمرد ، فهو ما يسقط من الجبل ، وهي رواية أبي

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٢٣٣.

٩٢

الحوراء ، عن ابن عبّاس. قال وهب بن منبه : إنّ ذا القرنين أتى على جبل قاف ، فرأى حوله جبالا صغارا ، فقال له : ما أنت؟ قال : أنا قاف ، قال : وما هذه الجبال حولك؟ قال : هي عروقي ، وليست مدينة من المدائن إلّا وفيها عرق منها ، فإذا أراد الله أن يزلزل تلك الأرض أمرني ، فحرّكت عرقي ذلك ، فتزلزلت تلك الأرض ، فقال له : يا قاف ، فأخبرني بشيء من عظمة الله ، قال : إنّ شأن ربّنا لعظيم ، تقصر عنه الصفات ، وتنقضي دونه الأوهام.

قال : فأخبرني بأدنى ما يوصف منها. قال : إنّ ورائي لأرضا مسيرة خمسمائة عام في عرض خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضه بعضا ، لو لا ذاك الثلج لاحترقت من حرّ جهنّم.

قال : زدني ، قال : إنّ جبريل عليه‌السلام واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه ، يخلق الله من كلّ رعدة مائة ألف ملك ، وأولئك الملائكة صفوف بين يدي الله سبحانه ، منكّسو رؤوسهم ، فإذا أذن الله لهم في الكلام ، قالوا : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وهو قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ ، وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (١) يعني لا إله إلّا الله.

وقال الفرّاء : وسمعت من يقول : (ق) : قضي ما هو كائن ، وقال أبو بكر الورّاق : معناه قف عند أمرنا ، ونهينا ، ولا تعدهما. وقيل : معناه قل يا محمّد.

أحمد بن عاصم الأنطاكي ، هو قرب الله سبحانه من عباده ، بيانه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢) وقال ابن عطاء : أقسم بقوّة قلب حبيبه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث حمل الخطاب ، ولم يؤثر ذلك فيه لعلوّ حاله. (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) الشريف ، الكريم على الله الكبير ، الخبير.

واختلف العلماء في جواب هذا القسم ، فقال أهل الكوفة : (بَلْ عَجِبُوا) ، وقال الأخفش : جوابه محذوف مجازه (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) لتبعثن ، وقال ابن كيسان : جوابه قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) الآية ، وقيل : قد علمنا ، وجوابات القسم سبعة : (إن) الشديدة ، كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (٣) و (ما) النفي كقوله : (وَالضُّحى) (... ما وَدَّعَكَ) (٤) و (اللام) المفتوحة ، كقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥) و (إن) الخفيفة كقوله سبحانه : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي) (٦) ، و (لا) كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) (٧) ، لا يبعث الله من يموت ، وقد

__________________

(١) سورة النبأ : ٣٨.

(٢) سورة ق : ١٦.

(٣) سورة الفجر : ١٤.

(٤) سورة الضحى : ٣١.

(٥) سورة الحجر : ٩٢.

(٦) سورة الشعراء : ٩٧.

(٧) سورة الأنعام : ١٠٩.

٩٣

كقوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها .. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (١) وبل كقوله : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) يعرفون حسبه ، ونسبه ، وصدقه ، وأمانته. (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) غريب.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) نبعث ، فترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه. (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) يقال : رجعته رجعا ، فرجع هو رجوعا ، قال الله سبحانه : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) (٢) قال الله سبحانه : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) ما تأكله من عظامهم ، وأجسامهم ، وقيل : معناه قد علمنا ما يبلى منهم ، وما يبقى لأنّ العصعص لا تأكله الأرض كما جاء في الحديث : «كلّ ابن آدم يبلى ، إلّا عجب الذنب ، منه خلق ومنه يركب» [٨٥] (٣) وأبدان الأنبياء والشهداء أيضا لا تبلى.

وقال السدي : والموت يقول : قد علمنا من يموت منهم ، ومن يبقى. (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) محفوظ من الشياطين ، ومن أن يدرس ، ويبعثر ، وهو اللوح المحفوظ ، المكتوب فيه جميع الأشياء المقدّرة.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) بالقرآن. (لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال أبو حمزة : سئل ابن عبّاس عن المريج ، فقال : هو الشيء المكر ، أما سمعت قول الشاعر :

فجالت فالتمست به حشاها

فخر كأنه خوط مريج (٤)

الوالبي عنه : أمر مختلف. العوفي عنه : أمر ضلالة. سعيد بن جبير ، ومجاهد : ملتبس ، قال قتادة : في هذه الآية من نزل الحقّ مرج أمره عليه ، والتبس دينه عليه. ابن زيد : مختلط ، وقيل : فاسد ، وقيل : متغير. وكلّ هذه الأقاويل متقاربة ، وأصل المرج الاضطراب ، والقلق ، يقال : مرج أمر الناس ، ومرج الدّين ، ومرج الخاتم في إصبعي وخرج إذا قلق من الهزال ، قال الشاعر :

مرج الدّين فأعددت له

مشرف الحارك محبوك الكتد (٥)

وفي الحديث : «مرجت عهودهم ، وأمانيهم».

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي شقوق ، وفتوق ، واحدها فرج ، وقال ابن زيد : الفروج الشيء المتفرّق المتبري بعضه من بعض ، وقال

__________________

(١) سورة الشمس : ٩١.

(٢) سورة التوبة : ٨٣.

(٣) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٥١ ؛ ومسند أحمد : ٢ / ٤٩٩.

(٤) تاج العروس : ٢ / ١٠٠.

(٥) لسان العرب : ١٠ / ٤٠٨ ؛ وتفسير القرطبي : ١٧ / ١٥ ؛ والحارك : الكاهل ، والكتد : مجمع الكتفين.

٩٤

الكسائي : ليس فيها تفاوت ، ولا اختلاف (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها على وجه الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) لون (بَهِيجٍ) حسن كريم يبهج به أي يسر. (تَبْصِرَةً) أي جعلنا ذلك تبصرة ، وقال أبو حاتم : نصبت على المصدر. (وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) يعني تبصر أو تذكّر إنابتها له ، لأنّ من قدر على خلق السماوات ، والأرض ، والنبات ، قدر على بعثهم ، ونظير التبصرة من المصادر التكملة ، والتفضلة ، ومن المضاعف النخلة ، والبعرة.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) يعني البر ، والشعير ، وسائر الحبوب التي تحصد وتدّخر وتقتات ، وأضاف الحبّ إلى الحصيد ، وهما واحد ، لاختلاف اللفظين ، كما يقال : مسجد الجامع ، وربيع الأوّل ، و (حَقُّ الْيَقِينِ) ، و (حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، ونحوها.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة : طوالا ، وقال عبد الله بن شداد بن الهاد : سوقها لاستقامتها في الطول. سعيد بن جبير : مستويات. الحسن والفرّاء : مواقير حوامل ، يقال للشاة إذا ولدت : أبسقت ، ومحلّها نصب على الحال ، والقطع.

أخبرني الحسن ، قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، قال : حدّثنا عبيد بن محمد بن صبح الكناني. قال : حدّثنا هشام بن يونس النهشلي ، قال : حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن زياد بن علاقة ، عن قطبة بن مالك. قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ : (والنّخل باصقات) بالصاد (١).

(لَها طَلْعٌ) تمر ، وحمل سمّي بذلك لأنّه يطلع. (نَضِيدٌ) متراكب متراكم ، قد نضد بعضه على بعض. قال بن الأجدع : نخل الجنّة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال [القلال] (٢) والدلاء ، وأنهارها تجري في [عبر] (٣) أخدود (رِزْقاً) أي جعلناه رزقا (لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً).

أخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن صقلاب. قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب ، قال : حدّثني ابن أبي الجوادي ، قال : حدّثنا [عتيق] بن يعقوب ، عن إبراهيم بن قدامة ، عن أبي عبد الله الأغر ، عن أبي هريرة ، قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاءهم المطر ، فسالت الميازيب ، قال : «لا محل عليكم العام» [٨٦] (٤) أي الجدب.

(كَذلِكَ الْخُرُوجُ) من القبور.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ * وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو ملك اليمن ، ويسمّى تبّعا لكثرة أتباعه ، وكان يعبد النار فأسلم ، ودعا

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٧.

(٢) القلال : خشب ترفع بها الكروم من الأرض ، والأخدود : الشقوق المستطيلة في الأرض.

(٣) في تفسير الطبري (١ / ٢٤٦) : غير أخدود.

(٤) المعجم الأوسط : ١ / ٢٥٨.

٩٥

قومه إلى الإسلام ، وهم من حمير ، فكذّبوه ، وكان خبره وخبر قومه ما أخبرنا عبد الله بن حامد ، قال : أخبرني أبو علي إسماعيل بن سعدان ، قال : أخبرني علي بن أحمد ، قال : حدّثنا محمد ابن جرير ، وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير ، قال : حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا سلمة ، قال : حدّثنا محمد بن إسحاق ، قال : كان تبّع الآخر ، وهو أسعد أبو كرب بن ملكي كرب ، حين أقبل من المشرق ، جعل طريقه على المدينة ، وكان حين مر بها لم يهيج أهلها ، وخلّف بين أظهرهم ابنا له ، فقتل غيلة ، فقدمها ، وهو مجمع لإخراجها ، واستئصال أهلها ، وقطع نخيلها ، فجمع له هذا الحيّ من الأنصار ، حين سمعوا ذلك من أمره امتنعوا منه ، ورئيسهم يومئذ عمرو بن ظلم أخو بني النجار أحد بني عمرو ، فخرجوا لقتاله ، وكان تبّع نزل بهم قبل ذلك ، فقتل رجل منهم ، من بني عدي بن النجّار ، يقال له : أحمر ، رجلا من صحابة تبّع ، وجده في عذق له بجدة فضربه بنخلة فقتله.

وقال : إنّما التمرة لمن أبره ، ثمّ ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة ، يقال لها : ذات تومان ، فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم ، فبينا تبّع على ذلك من حربهم يقاتلهم ويقاتلونه ، قال : فيزعم الأنصار أنّهم كانوا يقاتلونه بالنهار ، ويقرونه بالليل ، فيعجبه ذلك ، ويقول : والله إنّ قومنا هؤلاء لكرام ، إذ جاءه حبران من أحبار يهود بني قريظة ، عالمان راسخان ، وكانا ابني عمرو ، وكانا أعلم أهل زمانهما ، فجاءا تبّعا حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة ، وأهلها ، فقالا له : أيّها الملك لا تفعل ، فإنّك إن أتيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ، ولم يأمن عليك عاجل العقوبة ، فقال لهما : ولم ذاك؟ قالا : هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحيّ من قريش في آخر الزمان ، تكون داره وقراره ، فتناهى لقولهما عمّا كان يريد بالمدينة ، ورأى أنّ لهما علما ، وأعجبه ما سمع منهما ، أنّهما دعواه إلى دينهما ، فليتبعهما على دينهما ، فقال تبع في ذلك :

ما بال نومك مثل نوم الأرمد

أرقا كأنك لا تزال تسهد

حنقا على سبطين حلّا يثربا

أولى لهم بعقاب يوم مفسد

ولقد هبطنا يثربا وصدورنا

تغلي بلابلها بقتل محصد

ولقد حلفت يمين صبر مؤليا

قسما لعمرك ليس بالتمردد

أن جئت يثرب لا أغادر وسطها

عذقا ولا بسرا بيثرب يخلد

حتى أتاني من قريظة عالم

خبر لعمرك في اليهود مسود

قال ازدجر عن قرية محفوظة

لنبي مكّة من قريش مهتد

فعفوت عنهم عفو غير مثرب

وتركتهم لعقاب يوم سرمد

وتركتهم لله أرجو عفوه

يوم الحساب من الجحيم الموقد

ولقد تركت بها له من قومنا

نفرا أولي حسب وبأس يحمد

٩٦

نفرا يكون النصر في أعقابهم

أرجو بذاك ثواب ربّ محمّد (١)

فلمّا [......] (٢) تبع إلى دينهما أكرمهما وانصرف عن المدينة ، وخرج بهما إلى اليمن ولمّا [دنا من] اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك ، وقالوا : لا تدخلها علينا ، وقد فارقت ديننا ، فدعاهم إلى دينه ، وقال : إنه دين خير من دينكم.

قالوا : فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يقال له : ندا (٣) ، يتحاكمون إليها ، فيما يختلفون فيه ، فتحكم بينهم ، تأكل الظالم ، ولا تضرّ المظلوم ، فلمّا قالوا ذلك لتبّع ، قال : أنصفتم ، فخرج قومه بأوثانهم ، وما يتقرّبون به في دينهم ، وخرج الحبران ، مصاحفهما في أعناقهما متقلّداهما ، حتّى قعدوا للنّار عند مخرجها التي تخرج منه ، فخرجت النار إليهم ، ولمّا أقبلت نحو حمير ، حادوا عنها ، وهابوها فدعاهم من حضرهم من الناس ، وأمروهم بالصبر لها ؛ فصبروا حتّى غشيتهم ، فأكلت الأوثان ، وما قربوا معها ، ومن حمل ذلك من رجال حمير ، وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما ، يتلون التوراة ، تعرق جباههما ، لم تضرّهما ، ونكصت النار حتّى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه ، فأطبقت حمير عند ذلك على دينهما.

فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن (٤).

وكان لهم بيت يعظمونه ، وينحرون عنده ، ويكلّمون منه ، إذا كانوا على شركهم ، فقال الحبران القرظيان ، واسماهما كعب وأسد لتبّع : إنّما هو شيطان [يفنيهم ويلغيهم] (٥) ، فخلّ بيننا وبينه. قال : فشأنكما به. فاستخرجا منه كلبا أسود ، فذبحاه ، ثمّ هدما ذلك البيت ، فبقاياه اليوم باليمن كما ذكر لي.

وروى أبي دريد ، عن أبي حاتم ، عن الرياشي ، قال : كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ، آمن بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة ، وقال في ذلك شعرا :

شهدت على أحمد أنّه

رسول من الله باري النسم

فلو مد عمري إلى عمره

لكنت صهرا له وابن عمّ (٦)

(كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَ) وجب (وَعِيدِ) لهم بالعذاب يخوف كفّار مكّة ، قال قتادة : دمر الله سبحانه وتعالى قوم تبّع ، ولم يدمّره ، وكان من ملوك اليمن ، فسار بالجيوش ، وافتتح البلاد ،

__________________

(١) تاريخ الطبري : ١ / ٥٣٣ وذكر تمام الأبيات.

(٢) كلمة غير مقروءة.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) تفسير الطبري : ٢٦ / ٢٠٠.

(٥) في تفسير الطبري : يعينهم ويلعب بهم (٢٦ / ٢٠٠)

(٦) تفسير القرطبي : ١٦ / ١٤٥.

٩٧

وقصد مكّة ليهدم البيت ، فقيل له : إنّ لهذا البيت ربّا يحميه ، فندم وأحرم ، ودخل مكّة ، وطاف بالبيت ، وكساه ، فهو أوّل من كسا البيت (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي عجزنا عنه ، وتعذر علينا [الأول فهم في شك الإعادة للخلق] الثاني. (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو البعث.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦))

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) يحدّثه قلبه ، فلا يخفى علينا أسراره ، وضمائره (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أي أعلم به ، وأقدر عليه (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) لأنّ أبعاضه ، وأجزاءه يحجب بعضها بعضا ، ولا يحجب علم الله سبحانه عن جميع ذلك شيء ، وحبل الوريد : عرق العنق ، وهو عرق بين الحلقوم ، والعلباوين ، وجمعه أوردة ، والحبل من الوريد وأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين ، قال الشاعر :

فقرت للفجار فجاء سعيا

إذا ما جاش وانتفخ الوريد

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي يتلقّى ، ويأخذ الملكان الموكلان عليك ، وكّل الله سبحانه بالإنسان مع علمه بأحواله ، ملكين بالليل ، وملكين بالنهار يحفظان عمله ، ويكتبان أثره ، إلزاما للحجّة ، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات ، والآخر عن شماله يكتب السيّئات ، فذلك قوله سبحانه : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) ولم يقل : قعيدان. قال أهل البصرة : لأنّه أراد عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، فاكتفى بأحدهما عن الآخر ، كقول الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما عندك

راض والرأي مختلف

وقول الفرزدق :

إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى

وأبى فكان وكنت غير غدور (١)

ولم يقل : غدورين ، والقعيد ، والقاعد كالسميع ، والعليم ، والقدير ، فقال أهل الكوفة : أراد قعودا رده إلى الجنس ، فوضع الواحد موضع الجمع ، كالرسول في الاثنين يجعل للاثنين ، والجمع ، قال الله سبحانه في الاثنين : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقال الشاعر :

ألكني إليها وخير الرسول

أعلمهم بنواحي الخبر (٢)

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٦ / ٢٠٤.

(٢) الصحاح : ٤ / ١٦٠٧.

٩٨

أخبرنا الحسين ، قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن سالم الختلي. قال : حدّثنا أحمد بن أيّوب الرخاني. قال : حدّثنا جميل بن الحسن ، قال : حدّثنا أرطأة بن الأشعث العدوي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت تجري ـ أظنّه قال : ـ فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ، ولا منهما» [٨٧] (١).

وأخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه الدينوري ، قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدّثنا الفضل بن العبّاس بن مهران. قال : حدّثنا طالوت. قال : حدّثنا حمّاد بن سلمة.

قال : أخبرنا جعفر بن الزبير ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيّئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيّئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة ، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر» [٨٨] (٢).

قال الحسن : إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين : عند غائطه ، وعند جماعه ، وقال أبو الجوزاء ، ومجاهد : يكتبان عليه كلّ شيء حتّى أنينه في مرضه ، وقال عكرمة : لا يكتبان عليه إلّا ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه ، وقال الضحّاك : مجلسهما تحت الشعر على الحنك. ومثله روى عوف عن الحسن ، قال : وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته (٣).

وقال عطية ومجاهد : القعيد الرصيد.

أخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثمانين وثلاثمائة ، قال : حدّثنا أبو محمد البلاذري. قال : حدّثنا محمد بن أيّوب الرازي. قال : حدّثنا أبو التقى هشام بن عبد الملك.

قال : حدّثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي ، عن تمام بن نجيح ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، وأنس ، قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من حافظين يرفعان إلى الله سبحانه ما حفظا فيرى الله سبحانه في أوّل الصحيفة خيرا ، وفي آخرها خيرا ، إلّا قال لملائكته : اشهدوا أنّي قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة» [٨٩] (٤).

وأخبرنا أبو سهل بن حبيب بقراءتي عليه ، قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن موسى ، قال : حدّثنا زنجويه بن محمد. قال : حدّثنا إسماعيل بن قتيبة. قال : حدّثنا يحيى بن يحيى. قال : حدّثنا عثمان بن مطر الشيباني ، عن ثابت عن أنس. أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «بأنّ الله سبحانه

__________________

(١) زاد المسير : ٧ / ١٩٣ ؛ تفسير القرطبي : ١٧ / ١٠.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٠.

(٣) العنفقة : الشعر الذي في الشفة السفلى ، وقيل الشعر الذي بينها وبين الذقن (النهاية)

(٤) تفسير القرطبي : ١٧ / ١١.

٩٩

وكّل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله ، فإذا مات ، قال الملكان اللّذان وكّلا به يكتبان عمله : قد مات فلان ، فيأذن لنا ، فنصعد إلى السماء ، فيقول الله سبحانه : سمائي مملوءة من ملائكتي يسبّحون ، فيقولان : نقيم في الأرض. فيقول الله سبحانه : أرضي مملوءة من خلقي يسبّحون.

فيقولان : فأين؟ فيقول : قوما على قبر عبدي. فكبّراني ، وهللاني ، واكتبا ذلك لعبدي ليوم القيامة» [٩٠] (١).

(ما يَلْفِظُ) يتكلّم. (مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ) عنده (رَقِيبٌ) حافظ (عَتِيدٌ) حاضر ، وهو بمعنى المعتد من قوله : (أَعْتَدْنا) والعرب تعاقب بين (التاء) و (الذال) لقرب مخرجهما ، فيقول : اعتددت ، وأعذدت ، وهرذ ، وهرت ، وكبذ ، وكبت ، ونحوهما ، قال الشاعر :

لئن كنت مني في العيان مغيبا

فذكرك عندي في الفؤاد عتيد (٢)

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) أي وجاءت سكرة الحقّ بالموت ؛ لأنّ السكرة هي الحقّ ، فأضيفت إلى نفسه لاختلاف الاسمين وقيل : الحقّ هو الله عزوجل ، مجازه وجاء سكرة أمر الله بالموت. أنبأني عقيل ، قال : أخبرنا المعافى ، قال : أخبرنا جوير. قال : حدّثنا ابن المثنى ، قال : حدّثنا محمد بن جعفر ، قال : حدّثنا شعبة ، عن واصل ، عن أبي وائل قال : لما كان أبو بكر يقضي ، قالت عائشة :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (٣)

فقال أبو بكر : يا بنية لا هو لي ، ولكنّه كما قال الله سبحانه : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تكره ، عن ابن عبّاس ، وقال الحسن : تهرب. الضحّاك : تروغ. عطاء الخراساني : تميل. مقاتل بن حيان : تنكص.

وأصل الحيد الميل ، يقال : حدت عن الشيء أحيد حيدا ، ومحيدا إذا ملت عنه. قال طرفة :

أبا منذر رمت الوفاء فهبته

وحدت كما حاد البعير عن الدحض (٤)

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني نفخة البعث. (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) الذي وعده الله سبحانه للكفّار يلعنهم فيه. (وَجاءَتْ) ذلك اليوم (كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ) يسوقها إلى المحشر (وَشَهِيدٌ) شهد عليه بما عملت في الدّنيا من خير أو شرّ. وروي أنّ عثمان بن عفّان خطب ، وقرأ هذه الآية ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٢ ؛ الدر المنثور : ٦ / ١٠٥.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ١١.

(٣) لسان العرب : ٢ / ٢٣٧.

(٤) تاج العروس : ٥ / ٢٨ ؛ والدحض : الدفع.

١٠٠