الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

ويروى أنّ عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : اتقي الله يا فاطمة فقد فتنت الناس ؛ إنّما أخرجك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّك كنت امرأة لسنة فخشي لسانك على [أحمائك].

فأما نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال علي وابن عمر وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى [وسفر] (١) وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.

وقال ابن عباس وعبد الله بن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة : لا ينفق عليها إلّا من نصيبها (٢).

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم منهنّ (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على إرضاعهنّ (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) يقول : وليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف ، وقال الفرّاء : (وَأْتَمِرُوا) همّوا.

الكسائي : شاوروا.

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) في الرّضاع ؛ فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها ، وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه ، ولكنه يستأجر للصبيّ مرضعا غير أمه الباينة منه ، فذلك قوله (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى).

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) على قدر غناه (وَمَنْ قُدِرَ) ضيّق (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) من المال.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) في النفقة (إِلَّا ما آتاها) أعطاها من المال.

(سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ) عصت وطغت وتمردت

__________________

(١) كذا في المخطوط ، ولعلّه سفيان الثوري ، ولم نجده بهذا اللفظ في كتب الفقه نعم في المغني قال : وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري والحسن وأبو حنيفة وأصحابه والبتي والعنبري (المغني : ٩ / ٢٨٩)

(٢) راجع المبسوط للسرخسي : ٥ / ٢٠١.

٣٤١

(عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) أي وأمر رسله (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) بالمناقشة والاستقصاء (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) منكرا فظيعا ، وهو عذاب النّار ، لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال.

وقيل : في الآية تقديم وتأخير مجازها : فعذّبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والنوائب والبلايا والرزايا ، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا.

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) يعني القرآن.

(رَسُولاً) بدل من الذكر. وقيل : مع الرّسول. وقيل : وأرسل رسولا. وقيل : الذّكر هو الرّسول. وقيل : أراد شرفا ثم بيّن ما هو فقال : (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً. اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) في العدد.

(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) بالوحي من السماء السابعة إلى السفلى.

وقال أهل المعاني : هو ما يدبر فيهنّ من عجيب تدبيره ؛ فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنّهار والشتاء والصّيف ويخلق الحيوان على اختلاف هيأتها وأنواعها ، وينقلهم من حال إلى حال.

قال ابن كيسان : وهذا على مجال اللغة واتساعها ، كما يقول للموت أمر الله ، وللرياح والسحاب ونحوها.

وقال قتادة : في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه.

(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) فلا يخفى عليه شيء.

٣٤٢

سورة التحريم

مدنية ، وهي اثنتا عشرة آية ومائتان

وسبعة وأربعون كلمة ، وألف وستون حرفا

أخبرني ابن المقرئ ، أخبرنا ابن مطر ، حدّثنا ابن شويك ، حدّثنا ابن يونس ، حدّثنا سلام ابن سليم ، حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه الباهلي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) أعطاه الله (تَوْبَةً نَصُوحاً)» [٣٣٥] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صلّى الغداة دخل على نسائه امرأة امرأة ، وكان أهديت لحفصة بنت عمر عكّة عسل ، فكان إذا دخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسلّما حبسته وسقته منها ، وإنّ عائشة أنكرت احتباسه عندها ؛ فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها : حصن : إذا دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حفصة فادخلي عليها وانظري ماذا يصنع ، فأخبرتها الخبر وشأن العسل ، فغارت عائشة وأرسلت إلى صواحبها فأخبرتهن وقالت : إذا دخل عليكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلن : إنّا نجد منّك ريح مغافير ، وهو صمغ العرفط ، كريه الرائحة ، وكان رسول الله يكرهه.

قال : فدخل رسول الله على سودة ، قالت : فما أردت أن أقول ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أنّي فرقت من عائشة فقلت : يا رسول الله ما هذه الريح التي أجدها منك؟ أكلت المغافير؟ فقال : «لا ، ولكن حفصة سقتني عسلا». ثمّ دخل رسول على امرأة امرأة وهنّ يقولنّ له ذلك ، ثمّ دخل على عائشة فأخذت بأنفها. فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما شأنك؟»

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٥٢.

٣٤٣

قالت : أجد ريح المغافير ، أكلتها يا رسول الله؟ قال : «لا ؛ بل سقتني حفصة عسلا».

قالت : حرست إذا نحلها العرفط ، فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله لا أطعمه أبدا» فحرّمه على نفسه [٣٣٦] (١).

وقال عطاء بن أبي مسلم : إنّ التي كانت تسقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم سلمة.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن الحسن ، حدّثنا علي بن الحسن ، حدّثنا علي ابن عبد الله ، حدّثنا حجّاج بن محمد الأعور عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنّه سمع عبيد بن عمير قال : سمعت عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنها تخبر أنّ رسول الله كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا ، قالت : فتواطأت أنا وحفصة أيّتنا دخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلنقل : إني أجد منك ريح مغافير ، فدخل على إحداهما ، فقالت له ذلك ، فقال : «لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له». فنزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) ... الآيات [٣٣٧] (٢).

قالوا : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسّم الأيام بين نسائه فلمّا كان يوم حفصة قالت : يا رسول الله ، إنّ لي إلى أبي حاجة نفقة لي عنده ، فأذن لي أن أزوره وآتي ، فأذن لها ، فلمّا خرجت أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جاريته مارية القبطية أم إبراهيم ـ وكان قد أهداها المقوقس ـ فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها ، فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا فحبست عند الباب ، فخرج رسول الله عليه‌السلام ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي ، فقال : ما يبكيك؟ قالت : إنّما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أمتك بيتي ، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي حرمة وحقا؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهنّ؟ فقال رسول الله عليه‌السلام : «أليس هي جاريتي قد أحلّها الله لي؟ اسكتي فهي حرام عليّ ألتمس بذلك رضاك ، فلا تخبري بهذا امرأة منهن هو عندك أمانة» [٣٣٨] (٣).

فلمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت : ألا أبشرك أنّ رسول الله قد حرّم عليه أمته مارية ، فقد أراحنا الله منها ، فأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين ، متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى حلف أن لا يقربها ؛ فأنزل الله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) يعني العسل ومارية.

وقال عكرمة : نزلت في المرأة التي (وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) عليه والسلام ، ويقال لها أم شريك ؛ فأبى النبي عليه‌السلام أن يصلها لأجل امرأته (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٧٨ ، تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٥٥.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٧٧.

(٣) مجمع الزوائد : ٥ / ٩.

٣٤٤

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أن تكفروها إذا حنثتم ، وهي قوله في سورة المائدة.

(وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فأمره أن يكفّر حنثه ، ويراجع أمته.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) وهو تحريمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتاته على نفسه ، وقوله لحفصة : لا تخبري بذلك أحدا.

وقال الكلبي : أسرّ إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي.

أخبرنا عبد الله بن حامد قراءة عليه ، أخبرنا عمر بن الحسن ، حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد ، حدّثنا أبي ، حدّثنا حصين عن الحر المسلي عن خلف بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال : أسرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الخلافة بعده ؛ فحدّثت به حفصة.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا نصر بن محمد بن شيرزاد ، حدّثنا الحسن بن سعيد البزار ، حدّثنا خالد بن العوام البزار ، حدّثني فرات بن السائب عن ميمون بن مهران في قول الله تعالى (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال : أسرّ إليها أنّ أبا بكر خليفتي من بعدي.

(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) خبّرت بالحديث الذي أسرّ إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحبتها.

(وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) اي وأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنّها قد نبّأت به.

وقرأ طلحة بن مصرف : فلمّا أنبأت به بالألف.

(عَرَّفَ بَعْضَهُ) قرأ علي وأبو عبد الرّحمن والحسن البصري وقتادة والكسائي : عرف بالتخفيف.

أخبرنا محمد بن عبدوس ، حدّثنا محمد بن يعقوب ، حدّثنا محمد بن الجهم ، حدّثنا الفرّاء ، حدّثني شيخ من بني أسد يعني الكسائي عن نعيم بن عمرو عن عطاء عن أبي عبد الرّحمن قال : كان إذا قرأ عليه الرجل عرّف بالتشديد حصبه بالحصباء ، ومعناه على هذه القراءة : عرف بعض ذلك ما فعلت الفعل الذي فعلته من إفشاء سرّه أي غضب من ذلك عليها وجازاها به ، من قول القائل لمن أساء إليه : لأعرفنّ لك بمعنى لأجازينّك عليه.

قالوا وجازاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنّ طلّقها ، فلمّا بلغ ذلك عمر قال : لو كان في آل عمر خير لما طلقك رسول الله شهرا ، فجاءه جبرائيل عليه‌السلام وأمره بمراجعتها ، واعتزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه شهرا ، وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية حتى نزلت آية التخيير ، فقال مقاتل بن حيّان : لم يطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة وإنّما همّ بطلاقها فأتاه جبرائيل عليه‌السلام فقال : لا تطلّقها ؛ فإنّها صوّامة قوّامة ، وإنّها من أحدى نسائك في الجنة ، فلم يطلقها.

وقرأ الباقون : عرّف بالتشديد يعني : إنّه عرّف حفصة بعض ذلك الحديث وأخبرها به ،

٣٤٥

واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة قال : لأنّه في التفسير أنّه أخبرها ببعض القول الذي كان منها ، ومما يحقق ذلك قوله : (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) يعني : إنّه لم يعرّفها إياه ولم يخبرها به.

ولو كانت (عَرَّفَ بَعْضَهُ) مخففة لكان ضدّه وأنكر بعضا ، ولم يقل أعرض عنه.

قال الحسن : ما استقصى كريم قط ، قال الله تعالى (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).

قال مقاتل : يعني أخبرها ببعض ما قال لعائشة ، فلم يخبرها بقولها أجمع ، عرّف حفصة بعضه وأعرض عن بعض الحديث بأنّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي.

(فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه.

(قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ).

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤))

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي زاغت ومالت واستوجبتما التوبة.

وقال ابن زيد : مالت قلوبهما بأن سرّهما ان يجتنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاريته ، وذلك لهما موافق فسّرهما ما كره رسول الله.

أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قراءة عليه ، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا عبد الرّزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال : لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضي‌الله‌عنه عن المرأتين من أزواج رسول الله اللّتين قال الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) حتى حج عمر وحججت معه ، فلمّا كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالأداوة فتبرّد ثم أتاني فسكبت على يديه ، فتوضّأ فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللّتان قال الله تعالى (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما). فقال عمر : وا عجبا لك يا ابن عبّاس.

قال الزّهري : كره والله ما سأله ولم يكتمه ثمّ قال : هي حفصة وعائشة ، ثمّ أخذ يسوق الحديث فقال : كنّا معاشر قريش قوما نغلب النساء ، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم.

قال : وكان منزلي في بني أميّة بن زيد بالغوالي قال : فتعصّبت يوما على امرأتي ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني فقالت : وما ينكر أن أراجعك؟ فو الله إنّ أزواج النّبي صلّى الله عليه ليراجعنه ، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل قال : فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت :

٣٤٦

أتراجعن رسول الله صلّى الله عليه؟ قالت : نعم ، قلت : وتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل؟ قالت : نعم. فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر ، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلّى الله عليه فإذا هي قد هلكت.

لا تراجعي رسول الله صلّى الله عليه ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ولا يغرنّك إن كانت جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منك ـ يريد عائشة رضي‌الله‌عنها.

قال : وكان لي جار من الأنصار ، قال : كنّا نتناوب النزول إلى رسول الله عليه‌السلام فينزل يوما وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك ، قال : وكنّا نتحدّث أنّ غسّان تفعل الحيل لتغزونا ، فنزل صاحبي يوما ثم أتاني غشيان فضرب بابي ، ثم ناداني فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم.

قلت : ماذا ، أجاءت غسّان؟ قال : بل أعظم من ذلك! طلق الرسول نساءه. فقلت : قد خابت حفصة وخسرت ، قد كنت أظنّ هذا كائنا ، حتّى إذا صليت الصبح شددت عليّ ثيابي ، ثمّ نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت : أطلّقكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : لا أدري هو معتزل في هذه المشربة ، فأتيت غلاما له أسود ، فقلت : استأذن لعمر ، فدخل الغلام ثمّ خرج إليّ فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فانطلقت حتّى أتيت المنبر فإذا حوله رهط جلوس بعضهم ، فجلست قليلا ثمّ غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر فدخل ثمّ خرج إليّ فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فخرجت فجلست إلى المنبر ثمّ غلبني ما أجد فأتيت ـ يعني الغلام ـ فقلت : استأذن لعمر ، فدخل ثمّ خرج إليّ فقال : قد ذكرتك له فصمت ، قال : فولّيت مدبرا ، فإذا الغلام يدعوني فقال : أدخل فقد أذن لك ، فدخلت فسلّمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثّر في جنبه ، فقلت : أطلّقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إليّ وقال : لا.

فقلت : الله أكبر ، ثم ذكر له ما قال لامرأته وما قالت له امرأته ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله قد دخلت عليّ حفصة وذكرت ما قلت لها. فتبسّم أخرى ، فقلت : أستأنس يا رسول الله؟ قال : نعم. فجلست فرفعت رأسي في البيت ، فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلّا أهن ثلاثة ، فقلت : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يوسّع على أمتك فقد وسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالسا ثم قال : «أفي شكّ أنت يا ابن الخطاب ، أولئك عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» [٣٣٩]. فقلت : استغفر لي يا رسول الله ، وكان أقسم ألّا يدخل عليهنّ شهرا من شدة موجدته عليهنّ حتى عاتبه الله تعالى.

قال الزهري : فأخبرني عروة عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : فلمّا مضى تسع وعشرون ليلة على رسول الله بدأني ، فقلت : يا رسول الله إنّك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا ، وإنّك قد

٣٤٧

دخلت عن تسع وعشرين ، أعدّهن ، قال : إن الشهر تسع وعشرون ، ثم قال : يا عائشة إنّي ذاكر لك أمرا فلا عليك ألّا تعجلي فيه حتى تسامري أبويك ، قالت : ثم قرأ عليّ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) حتى بلغ (أَجْراً عَظِيماً) قالت عائشة : قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني ـ وقيل : ليأمراني بفراقه ـ فقلت : أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإنّي أريد الله ورسوله والدار الآخرة.

قالت عائشة : فقلت له يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما بعثني الله مبلّغا ولم يبعثني متعنتا [٣٤٠] (١).

(وَإِنْ تَظاهَرا) تعاونا على أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء على الحذف واختاره أبو عبيد ، وقرأ الباقون بالتشديد على الإدغام واختاره أبو حاتم.

(فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) وليّه وحافظه وناصره.

(وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال المسيب بن شريك : هو أبو بكر رضي‌الله‌عنه.

وقال سعيد بن جبير : عمر (رض) ، عكرمة : أبو بكر وعمر ، يدلّ عليه ما أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه ، حدّثنا أبو الحسن علي بن الحسن بن سليمان الباقلاني ، حدّثنا أبو عمار الحسين بن الحرث ، حدّثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سقيق عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله عزوجل (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال : «إنّ صالح المؤمنين أبو بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما [٣٤١] (٢).

أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا أبو علي المقري ، حدّثنا أبو القاسم بن الفضل ، حدّثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر ، حدّثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب ، حدّثني رجل ثقة يرفعه إلى علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله الله تعالى : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) هو علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه» [٣٤٢] (٣).

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، أخبرنا عمر بن الحسن ، حدّثنا أحمد بن الحسن ، حدّثنا أبي ، حدّثنا حصين عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن أسماء بنت عميس قالت : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «وصالح المؤمنين هو علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه» [٣٤٣] (٤).

وقال الكلبي : هم المخلصون الذين ليسوا بمنافقين.

وقال قتادة والعلاء بن زياد العدوي : هم الأنبياء.

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٩٦ ح ٣٣٧٤.

(٢) مجمع الزوائد : ٧ / ١٢٧.

(٣) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٨٩ ، شواهد التنزيل : ٢ / ٣٤١.

(٤) فتح الباري : ١٠ / ٣٥٣.

٣٤٨

(وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي أعوان ، فلم يقل : صالحو ولا ظهرا ، لأن لفظهما وأن كان واحدا فهو في معنى الجمع كقول الرجل : لا يقرئني إلّا قارئ القرآن ، فهو واحد ومعناه الجمع ؛ لأنّه قد أذن لكل قارئ القرآن ان يقرئه.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ) داعيات ، وقيل : مصليات.

(تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ) يسحن معه حيث ما ساح ، وقيل : صائمات.

وقال زيد بن أسلم وأبنه ويمان : مهاجرات.

(ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) والآية واردة في الإخبار ، عن القدرة لا عن الكون في الوقت ؛ لأنه تعالى قال : (إِنْ طَلَّقَكُنَ) وقد علم أنّه لا يطلقهنّ ، وهذا قوله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) فهذا إخبار عن القدرة وتخويف لهم ، لا أن في الوجود من هو خير من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) يعني : مروهم بالخير ، وانهوهم عن الشر وعلّموهم وأدنوهم تقوهم بذلك (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ) فظاظ (شِدادٌ) أقوياء لم يخلق الله فيهم الرّحمة ، وهم الزبانية التسعة عشر وأعوانهم من خزنه النّار.

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قراءة العامة بفتح النون على نعت التوبة.

٣٤٩

وروى حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بضمّه على المصدر ، وهي قراءة الحسن.

قال المبرّد : أراد توبة ذات نصح ، واختلف المفسّرون في معنى التوبة النّصوح.

وقال عمر وأبي ومعاذ : التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ورفعه معاذ.

وقال الحسن : هي أن يكون العبد نادما على ما مضى ، مجمعا على أن لا يعود فيه.

الكلبي : أن يستغفر باللسان ، ويندم بالقلب ، ويمسك بالبدن.

قال قتادة : هي الصادقة الناصحة.

سعيد بن جبير : هي توبة مقبولة ، ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاث : خوف أن لا تقبل ، ورجاء أن تقبل ، وإدمان الطاعات.

سعيد بن المسيّب : توبة تنصحون بها أنفسكم.

القرظي : تجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والإقلاع بالأبدان ، وإظهار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيّئ الخلّان.

سفيان الثوري : علامة التوبة النّصوح أربع : القلّة ، والعلة ، والذلة ، والغربة.

فضيل بن عياض : هي أن يكون الذنب نصب عينيه ، ولا يزال كأنّه ينظر إليه.

أبو بكر محمد بن موسى الواسطي : هي توبة لا لعقد عوض ؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهيّة نفسه ، ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة فتوبته على حظ نفسه لا لله.

أبو بكر الورّاق : هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت ، وتضيق عليك نفسك كتوبة (الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا).

أبو بكر الرقاق المصري : ردّ المظالم واستحلال الخصوم ، وإدمان الطاعات. رويم الرّاعي : هو أن تكون لله وجها بلا قفا كما كنت له عند المعصية قفا بلا.

رابعة : توبة لابيات منها. ذو النون : علامتها ثلاث : قلة الكلام وقلة الطعام وقلة المنام.

سقيق : هي أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة ، ولا ينفك من النّدامة ، لينجو من آفاتها بالسّلامة.

سري السقطي : لا تصح التوبة النصوح إلّا بنصحة النفس من المؤمنين ؛ لأن من صحة توبته أحب أن يكون النّاس مثله.

٣٥٠

الجنيد : هي أن بنسى الذنب فلا يذكره أبدا ؛ لأن من صحة توبته صار محبّا لله ، ومن أحب الله نسي ما دون الله.

سهل : هي توبة أهل السنّة والجماعة لأنّ المبتدع لا توبة له ، بدليل قوله صلّى الله عليه : «حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب» [٣٤٤] (١).

أبو الأديان : هي أن يكون لصاحبها دمع سفوح ، وقلب عن المعاصي جموع ، فإذا كان ذلك فإنّ توبته نصوح ، وأمارات التوبة منه تلوح.

فتح الموصلي : علامتها ثلاث : مخالفة الهوى ، وكثرة البكاء ، ومكابدة الجوع والظماء.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) على الصراط.

(يَقُولُونَ) إذا طفئ نور المنافقين.

(رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ثمّ ضرب مثلا للصالحات ، والصالحات من النساء فقال عزّ من قائل : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ) واسمها واغلة وامرأة لوط واسمها واهلة. وقال مقاتل : والعدو والهة.

(كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) في الدين ، وما بغت امرأة النّبي قط.

قال ابن عبّاس : ليس بخيانة الزّنا وهما [امرأتا] نوح ولوط عليهما‌السلام وإنّما خيانتهما أنّهما كانتا على غير دينهما ، فكانت امرأة نوح تخبر النّاس أنّه مجنون وتطلع على سرّه ، فإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به. وأمّا امرأة لوط فكانت تدلّ قومه على أضيافه.

(فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما) مع توبتهما (مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) يخوّف عائشة وحفصة رضي‌الله‌عنهما.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وهي آسية بنت مزاحم.

قال المفسرون : لمّا غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون فلمّا تبيّن إسلامها وثبتت عليه أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس وأمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها ، فلمّا أتوها بالصخرة (إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) وأبصرت بيتها في الجنّة من درّة ، وانتزع الله روحها ، فألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح ، فلم تجد ألما من عذاب فرعون.

وقال الحسن وابن كيسان : رفع الله امرأة فرعون إلى الجنّة فهي فيها تأكل وتشرب.

__________________

(١) كنز العمال : ١ / ٢٢١ بتفاوت ، وبتمامه في تفسير القرطبي : ١٨ / ١٩٩.

٣٥١

أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون ، أخبرنا علي بن عبدان ، حدّثنا أبو الأزهر ، حدّثنا أسباط عن سليمان عن أبي عثمان عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس ، وإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنّة.

(وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أي دينه.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد ، حدّثنا علي بن حرث ، حدّثنا أبو المنذر هشام بن محمد عن أبي صالح عن ابن عبّاس في قول الله تعالى (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الكافرين ، قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره ، وأخبر أنّ معصية الغير لا تضرّه إذا كان مطيعا.

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) أي في درعها ، لذلك ذكر الكناية.

(وَصَدَّقَتْ) قراءة العامّة بالتشديد ، وقرأ لاحق بن حميد بالتخفيف.

(بِكَلِماتِ رَبِّها) قراءة العامّة بالجمع.

وقرأ الحسن وعيسى والجحدري : الكلمة على الواحد يعنون عيسى عليه‌السلام (وَكُتُبِهِ) قرأ أبو عمر ويعقوب : (وَكُتُبِهِ) ، على الجمع ، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم قال : لأنّها أعم.

وقرأ الباقون : وكتابه ، على الواحد وهي اختيار أبي عبيد.

(وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) المطيعين ، مجازه : من القوم العابدين ، ولذلك لم يقل قانتات ، نظيره (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ).

أخبرنا الحسن بن محمد ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني ومحمد بن المظفّر قالا : حدّثنا علي بن أحمد بن سليمان ، حدّثنا موسى بن سابق ، حدّثنا ابن وهب أخبرني الماضي ابن محمد عن بردة عن مكحول عن معاذ بن جبل : أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فقال : «أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكره خيرا كثيرا ، فإذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منّي السلام» [٣٤٥] (١).

قالت : يا رسول الله من هنّ؟

قال : «مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو حليمة أخت موسى» [٣٤٦] (٢). شكّ الراوي ، فقالت : بالرفاه والبنين.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٠٤.

(٢) نفس المصدر السابق.

٣٥٢

أخبرنا الحسن بن محمد ، حدّثنا عبد الله بن محمد بن شيبة ، حدّثنا عبيد الله أحمد بن منصور الكسائي ، حدّثنا محمد بن عبد الجبار المعروف بسندول الهمداني ، حدّثنا أبو أسامة عن شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلّا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم أبنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وفضل عائشة على النّساء كفضل الثريد على سائر الطعام» [٣٤٧] (١).

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٣ / ٣٥٨ صدر الحديث والذيل موجود في مسند أحمد : ٤ / ٣٩٤.

٣٥٣

سورة الملك

مكية ، وهي ثلاثون آية ، وثلاثمائة

وثلاثون كلمة وألف وثلاثمائة حرفا

حدّثنا أبو محمد المخلدي أخبرنا أبو العباس السراج ، حدّثنا العباس بن عبد الله الترمذي ، حدّثنا حفص بن عمر ، حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وددت أنّ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) في قلب كل مؤمن» [٣٤٨] (١).

أخبرني أبو الحسن الفارسي ، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد ، حدّثنا أبو يحيى البزار ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا أبو داود ، حدّثنا عمران عن قتادة عن عباس الجشمي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ سورة من كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية شفعت لرجل وأخرجته يوم القيامة من النّار وأدخلته الجنّة وهي سورة تبارك» [٣٤٩] (٢).

أخبرنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المزكي ، وأبو الحسن بن أبي الفضل العدل قالا : حدّثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصّفار ، حدّثنا سعدان بن نصر ، حدّثنا معمّر بن سليمان عن الخليل بن مرّة عن عاصم بن أبي النّجود رواه عن زرّ بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال : إذا وضع الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال : ليس لكم عليه سبيل قد كان يقوم بسورة الملك ، ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه : ليس لك عليّ سبيل كان يقرأ بي سورة الملك ، ثم قال : هي المانعة من عذاب القبر ، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد اكثر وأطيب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩))

__________________

(١) كنز العمال : ١ / ٥٨٤ ح ٢٦٤٨.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٠٥.

٣٥٤

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قدّم الموت على الحياة لأنّه إلى القهر أقرب ، كما قدّم البنات على البنين في قوله : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ).

قال قتادة : أذلّ الله ابن آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء ، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء. وقيل : قدّمه لأنّه أقدم ، وذلك أنّ الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموات كالنطفة والتراب ونحوها ، ثم اعترصت عليها الحياة.

قال ابن عباس : خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمرّ بشيء ولا يجد ريحه شيء إلّا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء ، وهي التي كان جبرئيل والأنبياء عليهم‌السلام يركبونها ، خطوها مد البصر ، وهي فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء ، ولا تطأ شيئا ولا يجد ريحها شيء إلّا حيّ ، وهي التي أخذ السامري من أثرها ؛ فألقاها على العجل فحيي.

(لِيَبْلُوَكُمْ) فيما بين الحياة إلى الموت ، (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

أخبرنا الحسن بن محمد بن فنجويه ، حدّثنا محمد بن عبد الله بن برزة ، حدّثنا الحرث بن أسامة ، حدّثنا داود بن المحر ، حدّثنا عبد الواحد بن زياد العبدي عن كليب بن وائل عن ابن عمر عن النبي (صلّى الله عليه) أنّه تلا (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) حتى بلغ إلى قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). ثم قال : أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله ، وأسرعكم في طاعة الله.

وبإسناده عن داود بن المحر ، حدّثنا ميسر عن محمد بن زيد عن أبي سلمة عن أبي قتادة قال : قلت : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ما عني به؟ قال : «يقول أيّكم أحسن عقلا» [٣٥٠] (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتمّكم عقلا وأشدّكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله تعالى به ونهى عنه نظرا وإن كان أقلكم تطوعا» [٣٥١] (٢).

أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل ، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد ، حدّثنا أبو بكر بن أبي الدّنيا القرشي ، حدّثنا محمد بن علي بن الحسن بن سقيق عن إبراهيم عن

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١٢ / ٩.

(٢) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٦٩.

٣٥٥

الأشعث عن فضيل بن عياض (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال : أخلصه وأصوبة ، قلت : ما أخلصه وأصوبه؟ قال : إنّ العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتّى يكون خالصا صوابا ، والخالص : إذا كان لله ، والصّواب : إذا كان على السنّة.

وقال الحسن : يعني أيّكم أزهد في الدنيا زهدا ، وأترك لها تركا.

وقال سهل : أيّكم أحسن توكّلا على الله.

قال الفرّاء : لم يرفع البلوى على أي ؛ لأنّ فيما بين أي والبلوى إضمارا وهو كما يقول في الكلام : بلوتكم لأنظر أيّكم أطوع ، ومثله (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) (١) أي سلهم وانظر أيّهم.

فأيّ رفع على الابتداء وأحسن خبره.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) طبقا على طبق ، بعضها فوق بعض ، يقال : أطبقت الشيء إذا وضعت بعضه فوق بعض.

قال أبان بن تغلب : سمعت بعض الأعراب يذمّ رجلا فقال : شرّه طباق ، وخيره غير باق.

قال سيبويه : ونصب (طِباقاً) لأنّه مفعول ثان.

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وحمزة والكسائي : من تفوّت بغير ألف ، وهي اختيار أبي عبيد وقراءة عبد الله وأصحابه.

أخبرنا عبد الله بن حامد الورّاق ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدّثنا عبد الله بن هاشم ، حدّثنا يحيى بن سعيد القّطان عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أنّه كان يقرأ : من تفوّت.

قال الأعمش : فذكرت لأبي رزين فقال : لقد سمعتها من عبد الله فيما قبلتها وأخذتها ، وقرأ (تَفاوُتٍ) ، وهي قراءة الباقين واختيار أبي حاتم وهما لغتان مثل التّعهد والتّعاهد ، والتحمّل والتحامل ، والتطهر والتطاهر. ومعناه : ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض وتباين ، بل هي مستوية مستقيمة ، وأصله من الفوت ، وهي أن يفوت بعضها بعضا لقلّة استوائها ، يدلّ عليه قول ابن عبّاس : من تفرق (٢).

(فَارْجِعِ) فردّ (الْبَصَرَ) قال الفراء : إنّما قال فارجع وليس قبله فعل مذكور فيكون الرجوع على ذلك الفعل ؛ لأنّ مجاز الكلام : أنظر ثمّ ارجع البصر.

__________________

(١) سورة القلم : ٤٠.

(٢) راجع زاد المسير لابن الجوزي : ٨ / ٥٨.

٣٥٦

(هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) فتوق وشقوق وخروق.

الضحّاك : اختلاف وشطور ، عطية : عيب ، ابن كيسان : تباعد ، القرظي : قروح ، أبو عبيدة : صدوع (١) قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود :

شققت القلب ثم ذررت فيه

هواك فليم فالتأم الفطور (٢)

وقال آخر :

تغلغل حيث لم يبلغ شراب

ولا سكر ولم يبلغ سرور (٣)

وقال آخر :

بنى لكم بلا عمد سماء

وزيّنها فما فيها فطور (٤)

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ) ردّ البصر وكرّر النظر (كَرَّتَيْنِ) مرتين ، (يَنْقَلِبْ) ينصرف ويرجع (إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) خاشعا ، ذليلا ، مبعدا (وَهُوَ حَسِيرٌ) يعني كليل ، منقطع لم يدرك ما طلب قال الشاعر :

نظرت إليها بالمحصب من منى

فعاد إليّ الطرف وهو حسير (٥)

أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا موسى بن محمد ، حدّثنا الحسن بن علويه ، حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، حدّثنا المسيب ، حدّثنا إبراهيم البكري عن صالح بن جبار عن عبد الله بن يزيد عن أبيه ، قال المسيب : وحدّثنا أبو جعفر عن الرّبيع عن كعب قالا : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية مرمرة بيضاء ، والثالثة حديد ، والرابعة صفر ـ وقال نحاس ـ والخامسة فضة ، والسادسة ذهب والسّابعة ياقوتة حمراء ، وبين السّماء السّابعة إلى الحجب السبعة صحاري من نور ، واسم صاحب الحجب «فنطاطروس».

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي الكواكب ، واحدها مصباح وهو السراج.

(وَجَعَلْناها رُجُوماً) مرمى (لِلشَّياطِينِ) إذا اخترقوا السّمع ، (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) في الآخرة (عَذابَ السَّعِيرِ) ما جعلنا لهم في الدنيا من الشهب ، (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أيضا (عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) صوتا كصوت الحمار (وَهِيَ تَفُورُ) تزفر وتغلي بهم كما يغلي القدر.

__________________

(١) راجع تفسير الطبري : ٢٩ / ٥ ـ ٦ ، وفتح القدير : ٥ / ٢٥٩.

(٢) لسان العرب : ٤ / ٣٠٣.

(٣) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٠٩.

(٤) الأبيات في تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٠٩.

(٥) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢١٠.

٣٥٧

وقال مجاهد : تفور بهم كما يفور الحبّ القليل في الماء الكثير.

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يتفرق بعضها من بعض على أهلها غيظا وانتقاما لله تعالى (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) قوم (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) رسول في الدنيا (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا) للرسل (ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

(وَقالُوا) وهم في النّار (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) النذر من الرسل ، وما جاءونا به (أَوْ نَعْقِلُ) عنهم. قال ابن عباس : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) الهدى أو نعقله فنعمل به.

(ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً) بعدا ، وقال سعيد بن جبير : هو واد في جهنم (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) ونقله أبو جعفر والكسائي بروايتيه الدوري وقتيبة الخلاف عنهما ، وحققه الآخرون : وهما لغتان مثل الرّعب والرّعب ، السّحت والسّحت ، أخبرنا عبد الله ابن حامد ، أخبرنا محمد بن خالد حدّثنا داود بن سليمان ، حدّثنا عبد بن حميد ، حدّثنا عبيد الله ابن موسى عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال : إنّ الرجل ليجرّ إلى النار فتنزوي ، وتنقبض بعضها إلى بعض ، فيقول لها الرحمن : ما لك؟ قالت : إنّه كان يستجير منّي فيقول : أرسلوا عبدي. وإنّ الرجل ليجرّ إلى النار ، فيقول : يا ربّ ما كان هذا الظنّ بك! قال :فما كان ظنّك؟ قال : كان ظنّي أن تسعني رحمتك ، فيقول : أرسلوا عبدي. وإنّ الرجل ليجرّ إلى

٣٥٨

النار فتشهق إليه النار شهيق البغلة إلى الشعير ، ثمّ تزفر زفرة لا يبقى أحد إلّا خاف.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

قال ابن عباس : نزلت في المشركين ، كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيخبره جبرائيل ما قالوا فيه ونالوا منه ، فيقول بعضهم لبعض : أسرّوا قولكم كي لا يسمع إله محمد.

وقال أهل المعاني : إن شئت جعلت «من» في قوله : (مَنْ خَلَقَ) اسما للخالق؟ فقلت : ألا يعلم الخالق ما في الصدور (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وإن شئت جعلته اسما ، فقلت : ألا يعلم الله مخلوقه.

أخبرنا الفنجوي حدّثنا موسى بن الحسن بن علويّة حدّثنا عيسى بن إسماعيل بن عيسى بن المسيّب ، قال : بينا رجل واقف بالليل في شجر كثير وقصفت الريح فوقع في نفس الرجل فقال : أترى الله يعلم ما يسقط من هذه الورق؟ فنودي من خلفه : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟! وروى محمد بن فضيل عن زرين عن ابن أبي أسماء أنّ رجلا دخل غيضة فقال : لو خلوت هاهنا للمعصية من كان يراني؟ قال : فسمع صوتا ملأ ما بين لابتي الغيضة ، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟! (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) سهلا مسخّرة لا تمتنع (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) قال ابن عباس وقتادة : في جبالها ، ضحاك : في آكامها ، مجاهد : طرقها وفجاجها ، وقال الكلبي : أطرافها ، الفرّاء : في جوانبها ، مقاتل : نواحيها ، الحسن : سهلها حيث أردتم فقد جعلها لكم ذلولا لا تمتنع ، وأصل المنكب الجانب ومنه منكب الرجل ، والريح النكاب ، وتنكب فلان.

(وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الحلال (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) وقال ابن عباس : أمنتم عذاب من في السماء أن عصيتموه. وقيل : معنى (أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) : قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته ، وقيل : إنّما قال : (مَنْ فِي السَّماءِ) لأنّهم كانوا يعترفون بأنّه إله السماء ، ويزعمون إنّ الأصنام آلهة الأرض ، وكانوا يدعون الله من جهة السماء ، وينتظرون نزول أمره بالرحمة والسطوة منها.

وقال المحقّقون (١) : معنى قوله : (فِي السَّماءِ) أي فوق السماء كقوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) (٢) ، أي فوقها لا بالمماسة والتحيز ولكن بالقهر والتدبير (٣).

__________________

(١) في المخطوط : المتحقّقون.

(٢) سورة التوبة : ٢.

(٣) راجع تفسير القرطبي : ١٨ / ٢١٦.

٣٥٩

وقيل : معناه على السماء كقوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ) (١) ومعناه : إنّه مالكها ومدبّرها والقائم عليها ، كما يقال : فلان على العراق والحجاز ، وفلان على خراسان وسجستان يعنون أنّه واليها وأميرها.

وأعلم أنّ الآيات والأخبار الصحاح في هذا الباب كثيرة وكلّها إلى العلو مشيرة ، ولا يدفعها إلّا ملحد جاحد أو جاهل معاند ، والمراد بها ـ والله أعلم ـ توقيره وتعظيمه وتنزيهه عن السفل والتحت ، ووصفه بالعلو والعظمة دون أن يكون موصوفا بالأماكن والجهات والحدود والحالات ؛ لأنّها صفات الأجسام وأمارات الحدث والله سبحانه وتعالى كان ولا مكان فخلق الأمكنة غير محتاج إليها ، وهو على ما لا يزل ، ألا يرى أنّ الناس يرفعون أيديهم في حال الدعاء إلى السماء مع إحاطة علمه وقدرته ومملكته بالأرض وغيرها أحاطتها بالسماء ، إلّا أنّ السماء مهبط الوحي ومنزل القطر ومحلّ القدس ومعدن المطهرين المقرّبين من ملائكته ، وإليها ترفع أعمال عباده وفوقها عرشه وجنّته وبالله التوفيق.

(أَنْ يَخْسِفَ) يغور (بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) قال الحسن : تحرّك بأهلها ، وقال الضحّاك : تدور بهم وهم في قعرها ، وقال ابن كيسان : تهوى بهم.

(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) ريحا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط وأصحاب الفيل (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي إنذاري بالعذاب.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) إنكاري ، وأثبت بعض القرّاء الياء في هذه الحروف وجوابها على الأصل وحذفها بعضهم على الخط.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) أجنحتها وهي تطير ، (وَيَقْبِضْنَ) أجنحتها بعد انبساطها ، (ما يُمْسِكُهُنَ) يحبسهنّ في حال القبض والبسط أن يسقطن ، (إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) قال ابن عباس : منعه لكم (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) فيدفع عنكم ما أراد بكم (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ) في الضلال (وَنُفُورٍ) تباعد من الحقّ (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) راكبا رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يمينا ولا شمالا ، وهو الكافر.

وقال قتادة : هو الكافر أكبّ على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه ، (أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو المؤمن ، وقوله (مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) فعل غريب! لأنّ أكثر اللغة في التعدّي واللزوم أن يكون أفعلت يفعّل ، وهذا على ضدّه يقال :

__________________

(١) سورة طه : ٧١.

٣٦٠