الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

بمعنى تفعلونه تحيّة من عند الله (مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) يجمعهم من حرب أو صلاة في جمعة أو جماعة أو تشاور في أمر نزل (لَمْ يَذْهَبُوا) لم يتفرّقوا عنه ولم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) يا محمد (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي عن أبي حمزة الثمالي في هذه الآية قال : هو يوم الجمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يقضي الحاجة ، والرجل به العلّة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يراه ، فيعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه إنّما قام ليستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم.

(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أمرهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) في الانصراف (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً).

قال ابن عباس : يقول : احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإنّ دعاءه موجب ليس كدعاء غيره.

وقال مجاهد وقتادة : لا تدعوه كما يدعو بعضكم بعضا : يا محمد ، ولكن فخّموه وشرّفوه وقولوا : يا نبيّ الله ، يا رسول الله ، في لين وتواضع.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) أي يخرجون ، ومنه : تسلّل القطا (مِنْكُمْ) أيّها المنصرفون عن نبيّكم بغير إذنه (لِواذاً) أي يستتر بعضكم ببعض ويروغ في خفّة فيذهب ، واللواذ مصدر لاوذ بفلان يلاوذ ملاوذة ولواذا ، ولو كان مصدرا للذت لقال : لياذا مثل القيام والصيام.

وقيل : إنّ هذا في حفر الخندق ، كان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لواذا مختفين.

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي أمره وعن صلة ، وقيل : معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي قتل عن ابن عباس ، عطاء : الزلازل والأهوال ، جعفر بن محمد : سلطان جائر يسلّط عليهم، الحسن : بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع عاجل في الدنيا. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عبيدا وملكا وملكا وخلقا ودلالة على وجوده وتوحيده وكمال قدرته وحكمته.

(قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

١٢١

سورة الفرقان

مكيّة ، وهي ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا ،

وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة ، وسبع وسبعون آية

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة قال : حدّثنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي والحافظ أبو الشيخ عبد الله بن محمد الاصفهاني قالا : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة وهو يؤمن (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ، ودخل الجنة بغير حساب» (١) [٧٦].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠))

(تَبارَكَ) تفاعل ، من البركة ، عن ابن عباس ، كأنّ معناه : جاء بكل بركة ، دليله قول

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٧ / ٢٧٨.

١٢٢

الحسن : تجيء البركة من قبله ، الضحّاك : تعظّم ، الخليل : تمجّد ، وأصل البركة النّماء والزيادة.

وقال المحققون : معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال ، وأصل البركة الثبوت يقال : برك الطير على الماء وبرك البعير ، ويقال : تبارك الله ولا يقال لله متبارك أو مبارك لأنّه ينتهى في صفاته وأسمائه الى حيث ورد التوقيف.

(الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) القرآن (عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ) الجنّ والإنس (نَذِيراً).

قال بعضهم : النذير هو القرآن ، وقيل : هو محمد.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ممّا يطلق له صفة المخلوق (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) فسوّاه وهيّأه لما يصلح له ، فلا خلل فيه ولا تفاوت.

(وَاتَّخَذُوا) يعني عبدة الأوثان (مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني النضر بن الحرث وأصحابه (إِنْ هَذا) ما هذا القرآن (إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) اختلقه محمد (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) يعني اليهود عن مجاهد ، وقال الحسن بن عبيد بن الحضر : الحبشي الكاهن ، وقيل : جبر ويسار وعدّاس مولى حويطب بن عبد العزى ، قال الله سبحانه وتعالى (فَقَدْ جاؤُ) يعني ما يلي هذه المقالة (ظُلْماً وَزُوراً) بنسبتهم كلام الله سبحانه الى الإفك والافتراء (وَقالُوا) أيضا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) تقرأ عليه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

ثمّ قال سبحانه وتعالى ردّا عليهم وتكذيبا لهم (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) يلتمس المعاش (١) (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) يصدّقه (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) داعيا (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) ينفقه فلا يحتاج الى التصرّف في طلب المعاش. (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) بستان (يَأْكُلُ مِنْها) هو ، هذه قراءة العامة ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالنون أي نأكل نحن.

(وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) نزلت هذه الآية في قصة ابن أبي أميّة وقد مرّ ذكرها في بني إسرائيل.

(انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إلى الهدى

__________________

(١) في النسخة الثانية زيادة : كما نمشي.

١٢٣

ومخرجا من الضلالة فأخبر الله أنّهم متمسّكون بالجهل والضلال عادلون عن الرشد والصواب وهم مع ذلك كانوا مكلّفين بقبول الحق فثبت أنّ الاستطاعة التي بها الضلال غير الاستطاعة التي يحصل بها الهدى والإيمان.

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي ممّا قالوا ، عن مجاهد ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : يعني خيرا من المشي في الأسواق والتماس المعاش ، ثمّ بيّن ذلك الخير ما هو فقال سبحانه وتعالى (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي بيوتا مشيّدة ، وسمّي قصرا لأنّه قصر أي حبس ومنع من الوصول إليه. واختلف القرّاء في قوله (وَيَجْعَلْ) فرفع لامه ابن كثير وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل ، وجزمه الآخرون على محلّ الجزاء في : قوله (إِنْ شاءَ جَعَلَ).

[أخبرنا] (١) أبو عمرو أحمد بن أبي أحمد بن حمدون النيسابوري قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن يعقوب البخاري قال : حدّثنا محمد بن حميد بن فروة البخاري قال : حدّثنا أبو حذيفة إسحاق بن بشر البخاري قال : حدّثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما عيّر المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفاقة فقالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، حزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك ونزل عليه جبرئيل من عند ربه معزّيا له فقال : السلام عليك يا رسول الله ، ربّ العزة يقرئك السلام ويقول لك : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) ويتّبعون المعاش في الدنيا.

قال : فبينا جبرئيل عليه‌السلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحدّثان إذ ذاب جبرئيل حتى صار مثل الهردة ، قيل : يا رسول الله وما الهردة؟ قال : «العدسة» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا جبرئيل مالك ذبت حتى صرت مثل الهردة؟ قال : يا محمد فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك ، فتحوّل الملك وأنّه إذا فتح باب من السماء لم يكن فتح قبل ذلك فتحوّل الملك ، إمّا ان يكون رحمة أو عذابا وإنّي أخاف أن يعذب قومك عند تعييرهم إياك بالفاقة ، فأقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجبرئيل عليه‌السلام يبكيان إذ عاد جبرئيل فقال : يا محمد أبشر ، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربّك ، فأقبل رضوان حتى سلّم ، ثم قال : يا محمد ، ربّ العزة يقرئك السلام ـ ومعه سفط من نور يتلألأ. ويقول لك ربّك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عندي في الآخرة مثل جناح بعوضة ، فنظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جبرئيل عليه‌السلام كالمستشير له فضرب جبرئيل بيده الأرض وقال : تواضع لله. فقال : «يا رضوان لا حاجة لي فيها ، الفقر أحبّ اليّ ، وأن أكون عبدا صابرا شكورا» فقال رضوان : أصبت أصاب الله بك.

وجاء نداء من السماء فرفع جبرئيل رأسه فإذا السموات قد فتحت أبوابها الى العرش ،

__________________

(١) ليست في المخطوط.

١٢٤

وأوحى الله سبحانه وتعالى الى جنة عدن أن تدلي غصنا من أغصانها عليه عذق عليه غرقة من زبرجدة خضراء لها سبعون ألف من ياقوتة حمراء ، فقال جبرئيل : يا محمد ارفع بصرك فرفع فرأى منازل الأنبياء وغرفهم وإذا منازله فوق منازل الأنبياء فضلا له خاصة ومناد ينادي : أرضيت يا محمد؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رضيت ، فاجعل ما أردت أن تعطيني في الدنيا ذخيرة عندك في الشفاعة يوم القيامة» (١) [٧٧].

ويروون أنّ هذه الآية أنزلها رضوان (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً).

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) أي غليانا وفورانا كالغضبان إذا غلا صدره من الغضب (وَزَفِيراً) ومعنى قوله : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) أي صوت التغيّظ من التلهّب والتوقّد ، وقال قطرب : التغيظ لا يسمع وإنّما المعنى : رأوا لها تغيّظا وسمعوا لها زفيرا. قال الشاعر :

ورأيت زوجك في الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا (٢)

أي حاملا رمحا.

أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال : حدّثنا أبو جعفر بن أبي شيبة قال : حدّثني عمي أبو بكر قال : حدّثنا محمد بن يزيد عن الأصبغ بن زيد الورّاق عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك عن رجل من أصحاب رسول الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) أسباب نزول الآيات ـ الواحدي النيسابوري : ٢٢٥.

(٢) جامع البيان للطبري : ١ / ٩٢.

١٢٥

«من كذب عليّ متعمّدا فليتبّوأ بين عيني جهنم مقعدا فقال : يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال : نعم ألم تسمع إلى قول الله سبحانه (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)» (١) [٧٨].

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) قال ابن عباس : يضيق عليهم كما يضيق الزجّ في الرمح.

وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي حاتم قال : قرئ على يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني نافع عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه سئل عن قول الله سبحانه (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) قال : «والذي نفسي بيده إنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ، مقرّنين مصفّدين ، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال» (٢) [٧٩].

ومنه قيل للحبل قرن ، وقيل : مع الشياطين في السلاسل والأغلال.

(دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) ويلا عن ابن عباس ، هلاكا عن الضحّاك.

روى حمّاد عن علي بن زيد عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أوّل من يكسى حلّة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه ، وذريته من خلفه وهو يقول : يا ثبوره وهم ينادون يا ثبورهم حتى يصفّوا (٣) على النار فيقال لهم (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذلِكَ) الذي ذكرت من صفة النار وأهلها (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) وذلك أنّ المؤمنين سألوا ربّهم ذلك في الدنيا حين قالوا (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) (٤) فقال الله سبحانه كان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد وعدا وعدهم على طاعته إيّاه في الدنيا ومسألتهم إيّاه ذلك (٥).

وقال بعض أهل العربية : يعني وعدا واجبا وذلك أنّ المسؤول واجب وإن لم يسئل كالّذين قال : ونظير ذلك قول : العرب لأعطينّك ألفا وعدا مسؤولا بمعنى أنه واجب لك فتسأله.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو علي بن حنش (٦) المقري قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل المقري قال : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا جعفر بن مسافر قال : حدّثنا يحيى بن حسان قال : حدّثنا رشد بن عمرو بن الحرث ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله سبحانه وتعالى (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٧.

(٢) تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٢٣.

(٣) في النسخة الثانية : يقفوا.

(٤) سورة آل عمران : ١٩٤.

(٥) مسند أحمد : ٣ / ١٥٢.

(٦) في النسخة الثانية : حبيش.

١٢٦

قال : الملائكة تسأل لهم ذلك قولهم (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) (١).

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) بالياء أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وأيوب وأبو عبيد وأبو حاتم وحفص ، والباقون بالنون (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الملائكة والإنس والجنّ عن مجاهد ، وقال عكرمة والضحّاك : يعني الأصنام. (فَيَقُولُ) بالنون ابن عامر ، غيره : بالياء ، لهؤلاء المعبودين من دون الله (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك بل (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) ، وقرأ الحسن وأبو جعفر : أَنْ نَتَّخَذَ بضم النون وفتح الخاء.

قال أبو عبيد : هذا لا يجوز لأنّ الله سبحانه ذكر (من) مرّتين ، ولو كان كما قالوا لقال : أن نتّخذ من دونك أولياء. وقال غيره : (من) الثاني صلة.

(وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) في الدنيا بالصحة والنعمة (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي تركوا القرآن فلم يعملوا بما فيه ، وقيل : الرسول ، وقيل : الإسلام ، وقيل : التوحيد ، وقيل : ذكر الله سبحانه وتعالى.

(وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي هلكى قد غلب عليهم الشقاية والخذلان ، وقال الحسن وابن زيد : البور : الذي ليس فيه من الخير شيء ، قال أبو عبيد : وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ومنه بوار الأيم وبوار السلعة ، وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر. قال ابن الزبعرى :

يا رسول المليك إنّ لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور (٢)

وقيل : هو جمع البائر ، ويقال : أصبحت منازلهم بورا أي خالية لا شيء فيها ، فيقول الله سبحانه لهم عند تبرّي المعبودين منهم (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) أنّهم كانوا آلهة (فَما تَسْتَطِيعُونَ) قرأه العامة بالياء يعني الآلهة ، وقرأ حفص بالتاء يعني العابدين (صَرْفاً وَلا نَصْراً) أي صرف العذاب عنهم ولا نصر أنفسهم.

وقال يونس : الصرف : الحيلة ومنه قول العرب : إنه ليتصرف أي يحتال.

وقال الأصمعي : الصرف : التوبة والعدل : الفدية.

(وَمَنْ يَظْلِمْ) أي يشرك (مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) يا محمد (مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ) قال أهل المعاني : إلّا قيل أنّهم (لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ)

__________________

(١) سورة غافر : ٨.

(٢) تاج العروس : ٣ / ٦٠.

١٢٧

دليله قوله سبحانه (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) وقيل : معناه إلّا من أنّهم ، وهذا جواب لقول المشركين (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ).

(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) فالمريض فتنة للصحيح ، والمبتلى فتنة للمعافى ، والفقير فتنة للغني ، فيقول السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان ، ويقول الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيّا مثل فلان ، وقال ابن عباس : إنّي جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ، ولكن قدّرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.

أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف ببخارى قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن جمعان قال : حدّثنا محمد بن موسى قال : حدّثنا القاسم بن يحيى عن الحسن بن دينار عن الحسن عن أبي الدرداء أنّه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ويل للعالم من الجاهل ، ويل للجاهل من العالم ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للمملوك من المالك ، وويل للشديد من الضعيف ، وويل للضعيف من الشديد ، وويل للسلطان من الرعية ، وويل للرعية من السلطان ، بعضهم لبعض فتنة فهو قوله سبحانه (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً)» [٨٠].

(أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (١) قال مقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل والنضر بن الحرث وذلك أنّهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة ومهجع مولى عمر وجبر غلام ابن الحضرمي ودونهم قالوا : أنسلم فنكون مثل هؤلاء فانزل الله سبحانه يخاطب هؤلاء المؤمنين (أَتَصْبِرُونَ) يعني على هذه الحال من الشدّة والفقر ، (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بمن يصبر ويجزع ، وبمن يؤمن وبمن لا يؤمن.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ١٨.

١٢٨

عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فتخبرنا أنّ محمدا صادق محقّ (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا بذلك نظيرها قوله سبحانه (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) الى قوله (وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً).

قال الله تعالى (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) بهذه المقالة (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) قال مقاتل : غلوّا في القول ، والعتو : أشدّ الكفر وأفحش الظلم.

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) عند الموت وفي القيامة (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) للكافرين (وَيَقُولُونَ) يعني الملائكة للمجرمين (حِجْراً مَحْجُوراً) أي حراما محرما عليكم البشرى بخير ، وقيل : حرام عليكم الجنة ، وقال بعضهم : هذا قول الكفار للملائكة ، قال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شديدة أو رأوا ما يكرهون قالوا : حجرا محجورا ، فقالوا حين عاينوا الملائكة هذا ، وقال مجاهد : يعني عوذا معاذا ، يستعيذون من الملائكة.

(وَقَدِمْنا) وعمدنا (إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) باطلا لا ثواب له لأنّهم لم يعملوه لله سبحانه وإنّما عملوه للشيطان ، واختلف المفسّرون في الهباء فقال بعضهم : هو الذي يرى في الكوى من شعاع الشمس كالغبار ولا يمسّ بالأيدي ولا يرى في الظلّ ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد.

وقال قتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر ، وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس ، وقال ابن زيد : هو الغبار ، والوالبي عن ابن عباس : هو الماء المهراق ، مقاتل : ما يسطع من حوافر الدواب ، والمنثور : المتفرق.

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) من هؤلاء المشركين المتكبرين المفتخرين بأموالهم (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) موضع قائلة وهذا على التقدير ، قال المفسرون : يعني أنّ أهل الجنة لا يمر بهم في الآخرة إلّا قدر ميقات النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة.

قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار وقرأ : ثم ان مقيلهم لإلى الجحيم ، هكذا كان يقرأها ، وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب من ذلك اليوم في أوّله ، وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة.

وروى ابن وهب عن عمرو بن الحرث أنّ سعيدا الصوّاف أو الصراف حدّثه أنّه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنّهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، وقرأ هذه الآية.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) قرأ أبو عمر وأهل الكوفة بتخفيف الشين على الحذف

١٢٩

والتخفيف هاهنا وفي سورة ق ، وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما على معنى تنشق السماء بالغمام أي عن الغمام ، والباء وعن يتعاقبان كما يقال : رميت عن القوس وبالقوس بمعنى واحد.

وقال المفسّرون : وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم ، وهو الذي قال الله سبحانه وتعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) (١).

(وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) هكذا قراءة العامة ، وقرأ ابن كثير وننزل بنونين الملائكة نصب (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) خالصا وبطلت ممالك غيره (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) صعبا شديدا نظيرها قوله سبحانه (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (٢) والخطاب يدلّ على أنّه على المؤمنين يسير.

وفي الحديث : إنّه ليهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة صلّاها في دار الدنيا.

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) الآية.

نزلت في عقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف وكانا متحابّين وذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما فدعا الناس ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى طعامه ، فلمّا قرّب الطعام ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله» فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، فأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طعامه وكان أبىّ بن خلف غائبا ، فلمّا أخبر بالقصة قال : صبأت يا عقبة : قال : لا والله ما أصبأت ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي ألّا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم.

فقال أبىّ : ما أنا بالذي أرضى منك أبدا إلّا أن تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ عنقه ، ففعل ذلك عقبة وأخد رحم دابّة فألقاها بين كتفيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ألقاك خارجا من مكّة إلّا علوت رأسك بالسيف» [٨١]. فقتل عقبة يوم بدر صبرا ، وأما أبىّ بن خلف فقتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده يوم أحد في المنابزة ، وأنزل الله فيهما هذه الآية (٣).

وقال الضحّاك : لمّا بزق عقبة في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاد بزاقه في وجهه وانشعب شعبتين فأحرق خدّيه ، فكان أثر ذلك فيه حتّى الموت.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢١٠.

(٢) المدّثّر : ٩ ـ ١٠.

(٣) الدرّ المنثور : ٥ / ٦٨.

١٣٠

وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال : كان أبي بن خلف يحضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجالسه ويسمع إلى كلامه من غير أن يؤمن له فزجره عقبة بن أبي معيط عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، وقال الشعبي : كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأميّة بن خلف فأسلم عقبة فقال أميّة : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا ، فكفر وارتدّ لرضا أميّة فأنزل الله سبحانه (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) يعني الكافر عقبة بن أبي معيط (١) لأجل طاعة خليله الذي صدّه عن سبيل ربّه (يَقُولُ يا لَيْتَنِي) وفتح تاءه أبو عمرو (اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يعني أبي بن خلف الجمحي (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) يعني القرآن والرسول (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ) وهو كلّ متمرّد عات من الجانّ ، وكلّ من صدّ عن سبيل الله وأطيع في معصيته فهو شيطان (لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) عند نزول البلاء والعذاب به.

وحكم هذه الآيات عامّ في كلّ متحابّين اجتمعا على معصية الله ، لذلك قال بعض العلماء : أنشدنيه أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر قال : أنشدني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق قال : أنشدنا أبو وائلة عبد الرحمن بن الحسين :

تجنّب قرين السوء واصرم حباله

فإن لم تجد عنه محيصا فداره

وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه

تنل منه صفو الودّ ما لم تماره

وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا

إذا اشتعلت نيرانه في عذاره (٢)

وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو بكر محمد بن عبد الله الحامدي :

اصحب خيار الناس حيث لقيتهم

خير الصحابة من يكون عفيفا

والناس مثل دراهم ميّزتها

فوجدت فيها فضّة وزيوفا (٣)

وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر المفسّر قال : حدّثنا أبو سعيد عبد الرّحمن ابن محمد بن حسكا قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدّثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدّثنا عاصم عن أبي كبشة قال :سمعت أبا موسى يقول على المنبر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم ينلك يعبق بك من ريحه ، ومثل الجليس السوء مثل القين إن لم يحرق ثيابك يعبق بك من ريحه.

وحدّثنا أبو القاسم بن حبيب لفظا سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو حاتم محمد

__________________

(١) في النسخة الثانية زيادة : بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف على يديه أسفا وندما على ما فرّط في جنب الله وأوبق نفسه بالمعصية والكفر بالله.

(٢) تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٦.

(٣) تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٦.

١٣١

ابن حيان بن أحمد قال : أخبرنا محمد بن أبي علي الخلادي قال : حدّثنا عبد الله بن الصقر السكري قال : حدّثنا وهب بن محمد النباتي قال : سمعت الحرث بن وجيه يقول : سمعت مالك ابن دينار يقول : إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجّار.

(وَقالَ الرَّسُولُ) يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أي قالوا فيه غير الحق فزعموا أنّه سحر وشعر وسمر من الهجر ، وهو القول السيّئ ، عن النخعي ومجاهد.

وقال الآخرون : هو من الهجران أي أعرضوا عنه وتركوه فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه.

أخبرنا أبو الطيب الربيع بن محمد الحاتمي وأبو نصر محمد بن علي بن الفضل الخزاعي قالا : حدّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال : حدّثنا أبو القاسم الخضر بن أبان القرشي قال : حدّثنا أبو هدية إبراهيم بن هدية قال : حدّثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعلّم القرآن وعلّمه وعلّق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلّقا به يقول : يا ربّ العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه».

(كَذلِكَ) أي وكما جعلنا لك يا محمد أعداء ومن مشركي قومك كذلك (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي من مشركي قومه ، فاصبر لأمري كما صبروا فإني هاد بك وناصرك على من ناواك.

(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) على الحال والتمييز (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ) على محمد (الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) كما أنزلت التوراة على موسى ، والزبور على داود ، والإنجيل على عيسى جملة واحدة قال الله سبحانه (كَذلِكَ) فعلنا (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) لنقوّي بها قلبك فتعيه وتحفظه ، فإنّ الكتب نزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون ، والقرآن أنزل على نبيّ أمّي ولأنّ من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ، ففرّقناه ليكون أوعى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيسر على العالم به.

(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) قال ابن عباس : ورسّلناه ترسيلا ، وقال النخعي والحسن : فرّقناه تفريقا آية بعد آية وشيئا بعد شيء ، وكان بين أوله وآخره نحو ثلاث وعشرين سنة ، وقال ابن زيد : وفسّرناه تفسيرا ، والترتيل : التبيين في ترسّل وتثبّت.

(وَلا يَأْتُونَكَ) يا محمد يعني هؤلاء المشركين (بِمَثَلٍ) في إبطال أمرك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) أي بما تردّ به ما جاءوا به من المثل وتبطله. (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) بيانا وتفصيلا ، ثمّ وصف حال المشركين وبيّن حالهم يوم القيامة فقال (الَّذِينَ) يعني هم الذين (يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) فيساقون ويجرّون (إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

١٣٢

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خرجة قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا بشر بن المفضل عن علي بن يزيد عن أوس بن أوس عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث : ثلث على الدوابّ ، وثلث على وجوههم ، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا» (١) [٨٢].

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) أي معينا وظهيرا (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يعني القبط ، وفي الآية متروك استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها : فكذّبوهما.

(فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) فأهلكناهم إهلاكا (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) عبرة (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) في الآخرة (عَذاباً أَلِيماً) سوى ما حلّ بهم من عاجل العذاب.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ) اختلفوا فيهم ، فقال ابن عباس : كانوا أصحاب آبار ، وقال وهب بن منبه : كانوا أهل بئر قعودا عليها وأصحاب مواشي ، وكانوا يعبدون الأصنام فوجّه الله إليهم شعيبا يدعوهم الى الإسلام فأتاهم ودعاهم ، فتمادوا في طغيانهم وفي أذى شعيب

__________________

(١) مسند ابن راهويه : ١ / ١٨٠.

١٣٣

فحذّرهم الله عقابه ، فبينا هم حول البئر في منازلهم انهارت البئر فانخسفت بهم وبديارهم ورباعهم فهلكوا جميعا.

قتادة : الرس : قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله ، وقال بعضهم : هم بقية هود قوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكرها الله سبحانه في قوله تعالى (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (١).

قال سعيد بن جبير وابن الكلبي والخليل : كان لهم نبيّ يقال له حنظلة بن صفوان ، وكان بأرضهم جبل يقال له فتح ، مصعده في السماء ميل ، وكانت العنقاء تنتابه وهي أعظم ما تكون من الطير وفيها من كل لون ، وسمّوها العنقاء لطول عنقها ، وكانت تكون في ذلك الجبل تنقضّ على الطير تأكلها ، فجاعت ذات يوم فأعوزتها الطير فانقضّت على صبي فذهبت ، فسمّيت عنقاء مغرب لأنها تغرب بما تأخذه وتذهب به ، ثم إنّها انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين ، فطارت بها فشكوا الى نبيّهم فقال : اللهم خذها واقطع نسلها ، فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم ير لها أثر ، فضربتها العرب في أشعارهم ، ثم إنهم قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله.

وقال كعب ومقاتل والسدي : هم أصحاب يس ، والرسّ بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النّجار ، فنسبوا لها وهم الرسّ ، ذكرهم الله سبحانه في سورة يس ، وقيل : هم أصحاب الأخدود والرسّ هو الأخدود الذي حفروه ، وقال عكرمة : هم قوم رسّوا نبيهم في بئر ، دليله ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة لعبد أسود وذلك أن الله سبحانه بعث نبيّا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلّا ذلك الأسود ، ثمّ إنّ أهل القرية عدوا على ذلك النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها ، ثم أطبق عليه بحجر ضخم ، وكان ذلك العبد الأسود يذهب فيحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه فيشري به طعاما وشرابا ، ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة يعينه الله عليها فيدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردّها كما كانت.

قال : وكان كذلك ما شاء الله أن يكون ثم إنّه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها ، فلمّا أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع فنام فضرب الله على أذنه سبع سنين ، ثم إنه هبّ فتمطّى فتحوّل لشقّه الآخر فاضطجع ، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ، ثم إنّه هبّ فاحتمل حزمته ولا يحسب إلّا أنه نام ساعة من نهار ، فجاء الى القرية فباع حزمته ، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع ، ثم ذهب الى الحفرة في موضعها التي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه فآمنوا به وصدّقوه.

__________________

(١) سورة الحجّ : ٤٥.

١٣٤

قال : وكان النبي يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون له : ما ندري ، حتى قبض الله ذلك النبي فأهب الله الأسود من نومته بعد ذلك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة» (١) [٨٣].

قلت : قد ذكر في هذا الحديث انهم آمنوا بنبيهم واستخرجوه من حفرته فلا ينبغي ان يكونوا المعنيين بقوله (وَأَصْحابَ الرَّسِ) لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أصحاب الرسّ أنهم دمّرهم تدميرا إلّا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وأمنوا به فيكون ذلك وجها.

وقد ذكر عن أمير المؤمنين (٢) علي رضي‌الله‌عنه في قصة أصحاب الرس ما يصدّق قول عكرمة وتفسيره ، وهو ما روى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنّ رجلا من أشراف بني تميم يقال له عمرو أتاه فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب الرسّ في أيّ عصر كانوا؟ وأين كانت منازلهم؟ ومن كان ملكهم؟ وهل بعث الله سبحانه إليهم رسولا؟ وبما ذا أهلكوا؟ فإنّي أجد في كتاب الله سبحانه ذكرهم ولا أجد خبرهم ، فقال له علي رضي‌الله‌عنه : لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك ولا يحدّثك به أحد بعدي.

وكان من قصتهم يا أخا تميم أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت ، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها دوشاب كانت أنبتت لنوح عليه‌السلام بعد الطوفان ، وإنّما سمّوا أصحاب الرسّ لأنهم رسّوا نبيهم في الأرض وذلك قبل سليمان بن داود ، وكان له اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق ، وبهم سمّي ذلك النهر ، ولم يكن يومئذ في الأرض أغزر منه ولا أعذب ، ولا قرى أكثر سكانا ولا أعمر منها ، وكانت ، أعظم مداينهم اسفندماه وهي التي ينزلها ملكهم ، وكان يسمّى نركوز بن عانور بن ناوش بن سارن ابن نمرود بن كنعان ، وبها العين والصنوبرة وقد غرسوا في كل قرية منها حبة من طلع تلك الصنوبرة فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة ، وحرموا ماء العين والأنهار فلا يشربون منها هم ولا أنعامهم ، ومن فعل ذلك قتلوه ، ويقولون : هي حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن يقطف من حباتها ، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرس الذي عليه قراهم ، وقد جعلوا في كل شهر من السنة في كل قرية عيدا تجتمع إليه أهلها ويضربون على الشجرة التي بها كلّة من حرير فيها أنواع الصور ، ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قربانا للشجرة ويشعلون فيها النيران بالحطب ، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتاره في الهواء ، وحال بينهم وبين النظر الى السماء ، خرّوا للشجرة سجّدا يبكون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم.

__________________

(١) فتح القدير ـ الشوكاني. : ٤ / ٧٨.

(٢) بحار الأنوار : ١٤ / ١٤٩.

١٣٥

وكان الشيطان يجيئ فيحرّك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي : إني قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفسا وقرّوا عينا ، فيرفعون عند ذلك رؤوسهم ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم ، ثم ينصرفون حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقا ، ويقرّبون لها الذبائح أضعاف ما قرّبوا للشجرة التي في قراهم ، فيجيء إبليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكا شديدا ويتكلم من جوفها كلاما جهوريا يعدهم ويمنيهم بأكثر مما وعد بهم الشياطين كلّها ، فيرفعون رؤوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون من الشرب والعزف ، فيكونون على ذلك اثنا عشر يوما ولياليها بعدد أعيادهم سائر السنة ثم ينصرفون.

فلمّا طال كفرهم بالله سبحانه وعبادتهم غيره بعث الله سبحانه إليهم نبيا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم الى عبادة الله سبحانه وتعالى ومعرفة ربوبيته فلا يتبعونه ، فلمّا رأى شدّة تماديهم في الغي والضلال ، وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح وحضر عند قريتهم العظمى قال : يا ربّ إنّ عبادك أبوا إلّا أن يكذّبوني ويكفروا بك وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضر ، فأيبس شجرهم اجمع وأرهم قدرتك وسلطانك ، فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كلّه ، فهالهم ذلك وقطعوا بها وصاروا فرقتين : فرقة قالت سحر آلهتكم هذا الرجل الذي زعم أنه رسول ربّ السماء والأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه.

وفرقة قالت : لا بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيه ويدعوكم الى عبادة غيرها ، فحجبت حسنها وبهاءها لكي تضبوا لها فينتصروا منه ، فأجمع رأيهم على قتله فاتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه ، ثم أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الأخرى مثل البرابخ ، ونزحوا ما فيها من الماء ثم حفروا في قرارها بئرا ضيقة المدخل عميقة ، وأرسلوا فيها نبيّهم وألقموا فاها صخرة عظيمة ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا : نرجو الآن أن ترضى عنّا آلهتنا إذ رأت أنّا قد قتلنا من كان يقع فيها ويصد عن عبادتها ودفنّاه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لها نورها ونضرتها كما كان ، فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيّهم عليه‌السلام وهو يقول : سيّدي قد ترى ضيق مكاني وشدّة كربي فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي ، وعجّل قبض روحي ولا تؤخّر إجابة دعوتي حتى مات عليه‌السلام.

فقال الله تعالى لجبرئيل : إنّ عبادي هؤلاء غرّهم حلمي وآمنوا مكري وعبدوا غيري وقتلوا رسولي ، وأنا المنتقم ممّن عصاني ولم يخش عقابي ، وإنّي حلفت لأجعلنهم عبرة ونكالا للعالمين ، فلم يرعهم وهم في عيدهم إلّا ريح عاصف شديدة الحمرة قد عروا عنها وتحيروا فيها ، وانضم بعضهم إلى بعض ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت تتوقد وأظلّتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبّة حمراء تلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار نعوّذ بالله من غضبه ودرك نقمته.

١٣٦

وقال بعض أهل العلم بأخبار الماضين وسير المتقدمين : بلغني أنّه كان رسّان : أمّا أحدهما فكان أهله أهل بدو وعمود وأصحاب مواشي فبعث الله إليهم رسولا فقتلوه ، ثم بعث إليهم رسولا آخر وعضده بولي فقتل الرسول وجاهدهم الولي حتى أفحمهم وكانوا يقولون إلهنا في البحر وكانوا على شفيره ، وأنّه كان يخرج إليهم من البحر شيطان في كل شهر خرجة فيذبحون عنده ويجعلونه عيدا فقال لهم الولي : أرأيتكم إن خرج إلهكم الذي تعبدونه فدعوته فأجابني وأمرته فأطاعني أتجيبونني الى ما دعوتكم إليه؟ قالوا : بلى فأعطوه عهودهم ومواثيقهم على ذلك فانتظروا حتى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا أربعة أحوات وله عنق مستعلية ، وعلى رأسه مثل التاج ، فلمّا نظروا إليه خرّوا سجّدا وخرج الولي إليه فقال : ائتني طوعا أو كرها باسم الله الكريم فنزل عند ذلك عن أحواته فقال له الولي : ائتني عليهن لئلّا يكون من القوم في أمره شك ، فأتى الحوت وأتين به حتى أفضن الى البر يجرّونه ويجرّهم ، فكذبوه بعد ذلك فأرسل الله عليهم ريحا فقذفهم في البحر وقذف في البحر مواشيهم وما كانوا يملكون من ذهب وفضة وآنية ، فأتى الولي الصالح الى البحر حتى أخذ الذهب والفضة والأواني فقسمها على أصحابه بالسويّة ، وانقطع نسل هؤلاء القوم.

وأما الآخر فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ ينسبون إليه فكان فيهم أنبياء كثيرة قل يوم يقوم فيهم نبيّ إلّا قتل ، وذلك النهر بمنقطع أذربيجان بينهما وبين أرمينية فإذا قطعته مدبرا ذاهبا دخلت في حدّ أرمينية ، وإذا قطعته مقبلا دخلت حدّ أذربيجان وكان من حولهم من أهل أرمينية يعبدون الأوثان ومن قدّامهم من أهل أذربيجان يعبدون النيران ، وهم كانوا يعبدون الحواري العذارى فإذا تمّت لإحداهن ثلاثون سنة قتلوها واستبدلوا غيرها.

وكان عرض نهرهم ثلاث فراسخ وكان يرتفع في كل يوم وليلة حتى بلغ أنصاف الجبال التي حوله ، وكان لا ينصب في بر ولا بحر ، إذا خرج من حدّهم يقف ويدور ثم يرجع ، إليهم فبعث الله سبحانه إليهم ثلاثين نبيّا في شهر واحد فقتلوهم جميعا ، فبعث الله إليهم نبيّا وأيّده بنصره وبعث معه وليّا فجاهدهم في الله حقّ جهاده ونابذوه على سواء ، فبعث الله ميكائيل وكان ذلك في أوان وقوع الحب في الزرع وكانوا إذ ذاك أحوج ما كانوا إلى الماء ففجر نهرهم في البحر ، فانصبّ ما في أسفله وأتى عيونها من فوق فسدّها.

وبعث الله أعوانه من الملائكة خمسمائة ألف ففرّقوا ما بقي في وسط النهر ، ثم أمر الله سبحانه جبرئيل ، فنزل فلم يدع في أرضهم عينا لا ماء ولا نهر إلّا أيبسه بإذن الله تعالى ، وأمر ملك الموت فانطلق إلى المواشي فأماتها ربضة واحدة ، وأمر الرياح الأربع الجنوب والشمال والصبا والدبور فقصمت ما كان لهم من متاع ، وألقى الله عليهم السبات ثم خفقت الرياح الأربع بما كان من ذلك المتاع أجمع ، فنهبته في رؤوس الجبال وبطون الأودية.

١٣٧

فأما ما كان من حليّ أو تبر أو آنية فإن الله سبحانه أمر الأرض فابتلعته فأصبحوا ولا ماشية عندهم ولا مال يعودون إليه ولا ماء يشربونه ، وأصبحت زروعهم يابسة فآمن بالله عند ذلك قليل منهم وهداهم الله سبحانه إلى غار في جبل له طريق الى خلفه ، فنجوا وكانوا أحد وعشرين رجلا وأربع نسوة وصبيّين ، وكان عدّة الباقين من الرجال والنساء والذراري ستمائة ألف فماتوا عطشا وجوعا ، ولم يبق منهم باقية ، ثم عاد القوم المؤمنون الى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها فدعوا الله عند ذلك مخلصين أن يجيئهم بزرع وماشية وماء ويجعله قليلا لئلّا يطغوا ، فأجابهم الله سبحانه الى ذلك لما علم من صدقهم ، وأطلق لهم نهرهم وزادهم على ما سألوا.

فقام أولئك بطاعة الله ظاهرة وباطنة حتى مضى أولئك القوم وحدث من نسلهم بعدهم قوم أطاعوا الله في الظاهر ونافقوا في الباطن فأملى الله لهم ، ثم كثرت معاصيهم فبعث الله سبحانه عليهم عدوّهم فأسرع فيهم القتل فبقيت شرذمة منهم ، فسلّط الله عليهم الطاعون فلم يبق منهم أحدا ، وبقي نهرهم ومنازلهم مائتي عام لا يسكنها أحد.

ثم أتى الله سبحانه بقرن بعد ذلك فنزلوها فكانوا صالحين سنين ثم أحدثوا بعد ذلك فاحشة جعل الرجل يدعو ابنته وأخته وزوجته فينيكها جاره وصديقه وأخوه يلتمس بذلك البر والصلة ، ثم ارتفعوا من ذلك الى نوع آخر استغنى الرجل بالرجل وتركوا النساء حتى شبقن فجاءتهن شيطانة في صورة امرأة وهي الدلهاث بنت إبليس وهي أخت الشيطان ، كانا في بيضة واحدة فشبهت الى النساء ركوب بعضها الى بعض وعلّمتهن كيف يصنعن ، فأصل ركوب النساء بعضهن بعضا من الدلهاث ، فسلّط الله سبحانه على ذلك القرن صاعقة من أول الليل وخسفا في آخر الليل وصيحة مع الشمس ، فلم يبق منهم باقية وبادت مساكنهم.

ويشهد بصحّة بعض هذه القصة ما أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو الطيب بن حفصويه قال : حدّثنا عبد الله بن جامع قال : حدّثنا عثمان بن خرزاذ قال : حدّثنا سلمان بن عبد الرّحمن قال : حدّثنا الحكم بن يعلى بن عطاء قال : حدّثنا معاوية بن عمار الدهني عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله (وَأَصْحابَ الرَّسِ) قال : السحاقات.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال : حدّثنا الحسن بن إسماعيل الدينوري قال : حدّثنا أحمد بن يحيى بن مالك السوسي قال : حدّثنا نصر بن حماد قال : حدّثنا عمر بن عبد الرّحمن عن مكحول عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أشراط الساعة أن يستكفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق» (١) [٨٤].

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٣٣.

١٣٨

والرسّ في كلام العرب : كل محفور مثل البئر والمعدن والقبر ونحوها وجمعه رساس ، قال الشاعر :

سبقت إلى فرط بأهل تنابلة

يحفرون الرساسا (١)

وقال أبو عبيد : الرسّ : كلّ ركية لم تطو بالحجارة والآجر والخشب.

(وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) في إقامة الحجّة فلم نهلكهم إلّا بعد الإعذار والإنذار (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أهلكنا إهلاكا ، وقال المؤرخ : قال الأخفش : كسّرنا تكسيرا.

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) يعني الحجارة وهي قرية قوم لوط وكانت خمس قرى فأهلك الله سبحانه أربعا وبقيت الخامسة ، واسمها صغر وكان أهلها لا يعملون ذلك العمل الخبيث.

(أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) إذا مرّوا بها في أسفارهم فيعتبرون ويتذكروا. قال الله سبحانه (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ) يخافون (نُشُوراً) بعثا (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) نزلت في أبي جهل كان إذا مرّ بأصحابه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال مستهزئا (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) قد كاد يصدّنا عن عبادتها (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) لصرفنا عنها (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) وهذا وعيد لهم (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) وذلك أنّ الرجل من المشركين كان يعبد الحجر أو الصنم ، فإن رأى أحسن منه رمى به وأخذ الآخر فعبده ، قال ابن عباس : الهوى إله يعبد من دون الله.

(أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) حفيظا من الخروج إلى هذا الفساد ، نسختها آية الجهاد (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) ما يقول : سماع طالب للإفهام (أَوْ يَعْقِلُونَ) ما يعاينون من الحجج والأعلام (إِنْ هُمْ) ما هم (إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) لأنّ البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها التي تعلفها وتعهدها ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربّهم الذي خلقهم ورزقهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) معناه ألم تر إلى مدّ ربك الظل ، وهو ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس وإنّما جعله ممدودا لأنه لا شمس معه ، كما قال في ظل الجنة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) إذ لم يكن معه شمس ، (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس.

قال أبو عبيد : الظلّ ما نسخته الشمس وهو بالغداة والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال ، سمّي فيئا لأنه من جانب المشرق الى جانب المغرب (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ) أي على

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١٩ / ٢٠.

١٣٩

الظل (دَلِيلاً) ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل إذ الأشياء تعرف بأضدادها ، والظل يتبع الشمس في طوله وقصره كما يتبع السائر الدليل ، فإذا ارتفعت الشمس قصر الظل وان انحطّت طال (ثُمَّ قَبَضْناهُ) يعني الظل (إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) بالشمس التي يأتي بها فتنسخه ، ومعنى قوله (يَسِيراً) أي خفيفا سريعا ، والقبض : جمع الأجزاء المنبسطة ، وأراد هاهنا النقل اللطيف.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) أي سترا تستترون وتسكنون فيه (وَالنَّوْمَ سُباتاً) راحة لأبدانكم وقطعا لعملكم ، وأصل السبت القطع ومنه يوم السبت والنّعال السبتية (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) أي يقظة وحياة تنشرون فيه وتنتشرون لأشغالكم (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) وهو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) ولم يقل ميتة لأنّه رجع به الى المكان والموضع ، قال كعب : المطر روح الأرض (وَنُسْقِيَهُ) قرأه العامة بضم النون ، وروى المفضل والبرجمي عن عاصم بفتح النون وهي قراءة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه (مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) والأناسي جمع الإنسان ، وأصله أناسين مثل بستان وبساتين فجعل الباء عوضا من النون ، وإن قيل : هو أيضا مذهب صحيح كما يجمع القرقور قراقير وقراقر.

أخبرني الحسن بن محمد الفنجوي قال : حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي ، حدّثنا الحسن ابن علوي ، حدّثنا إسحاق بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل كلّهم قالوا وبلّغوا به ابن مسعود : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكنّ الله قسّم هذه الأرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ، ينزل منه كلّ سنة بكيل معلوم ووزن معلوم ، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك الى الفيافي والبحار» (١) [٨٥].

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) يعني المطر (بَيْنَهُمْ) عاما بعد عام وفي بلدة دون بلدة ، وقيل : (صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) وابلا وطشّا ورهاما ورذاذا ، وقيل : التصريف راجع الى الريح.

(لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أى جحودا ، وقيل : هو قولهم مطر كذا وكذا (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) رسولا ولقسّمنا النذير بينهم كما قسّمنا المطر ، فحينئذ يخفّ عليك أعباء النبوّة ، ولكنّا حمّلناك ثقل نذارة جميع القرى لتستوجب بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة والهيبة والدرجة الرفيعة.

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يدعونك إليه من عبادة آلهتهم ومقاربتهم ومداهنتهم (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي بالقرآن (جِهاداً كَبِيراً).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٥٧. بتفاوت.

١٤٠