الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

من ابتدائه فينبغي أن يكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء. وقال قوم : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ، أي على الخلق ، يصاح بهم صيحة فيقومون ، ويقال لهم : كونوا فيكونون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثمّ علقا ثمّ مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء. وهذا معنى رواية حسان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عبّاس واختيار قطرب.

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الصفة العليا (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ابن عبّاس : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقال قتادة : مثله أنّه لا إله إلّا هو ولا ربّ غيره. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من عبيدكم وإمائكم (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) من المال (فَأَنْتُمْ) وهم (فِيهِ) شرع (سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قال ابن عبّاس : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا ، وقيل : تخافون هؤلاء الشركاء أن يقاسموكم أموالكم كما يقاسم بعضكم بعضا ، وهذا معنى قول أبي محلز ، فإذ لم تخافوا هذا من مماليككم ولم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء؟ وأنتم وهم عبيدي وأنا مالككم جميعا ، فكما لا يجوز استواء المملوك مع سيّده فكذلك لا يجوز استواء المخلوق مع خالقه.

ثمّ قال : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ).

دين الله وهو نصب على المصدر أي فطر فطرة. ومعنى الآية : إنّ الدّين الحنيفية ، (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وقيل : نصب على الإغراء. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) لدين الله ، أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل ، ظاهره نفي ومعناه نهي ، هذا قول أكثر العلماء والمفسّرين.

وقال عكرمة ومجاهد : لا تغيير لخلق الله من البهائم بالخصاء ونحوه.

أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون ، عن أحمد بن محمد بن الحسن ، عن محمد بن

٣٠١

يحيى ، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون (١) فيها من جدعاء؟» [١٧٤] (٢) قال : ثمّ يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) الآية.

وأخبرني عبد الله بن حامد قال : أخبرني أبو بكر محمد بن جعفر المطيري ، عن أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدّب عن عبد الرزاق ، وأخبرنا أبو سعيد التاجر قال : أخبرني أبو حامد الشرقي ، وحدّثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر والسلمي ، قالوا : قال عبد الرزّاق عن معمر عن همام ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلّى الله عليه قال : «ما من مولود إلّا يولد على هذه (٣) الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه كما تنتجون البهيمة فهل تجدون فيها من جدعاء حتّى تكونوا أنتم تجدعونها؟ قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين» [١٧٥] (٤).

وقال الأسود بن سريع : غزوت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع غزوات وأنّ قوما تناولوا الذرّية بالقتل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال أقوام قتلوا المقاتلة ثمّ تناولوا الذرّية؟» ، فقال رجل : يا رسول الله إنّما هم أولاد المشركين ، فقال عليه‌السلام : «إنّ خياركم أولاد المشركين ، والذي نفسي بيده ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فما يزال عليها حتّى يبيّن عنه لسانه فأبواه يهوّدانه وينصّرانه» [١٧٦] (٥).

وروى قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : «إنّ الله (٦) أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا وأنّه قال : إن (٧) كلّ مال نحلته عبادي فهو لهم حلال وإنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا» [١٧٧] (٨). وذكر الحديث.

__________________

(١) في المصدر : ترى.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ١٠٤.

(٣) غير موجودة في المصدر.

(٤) صحيح البخاري : ٧ / ٢١١.

(٥) مسند أحمد : ٤ / ٢٤ ـ والمقطع الآخر من الحديث موجود في مستدرك الحاكم : ٢ / ١٢٣ وكذلك في السنن الكبرى : ٩ / ١٣٠ ، بتفاوت يسير.

(٦) في المصدر : «ربي».

(٧) «وأنّه قال : إن» غير موجودة في المصدر.

(٨) مسند أحمد : ٤ / ١٦٢.

٣٠٢

قال أبو بكر الورّاق : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) هي الفقر والفاقة. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

قوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) (١) (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) فرقا كاليهود والنصارى.

أخبرني (٢) الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري ، عن محمد بن عمر بن إسحاق بن حبيش الكلواذي ، عن عبد الله بن سليمان بن الأشعث ، عن محمد بن مصفى ، عن بقية بن الوليد عن شعبة أو غيره ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن شريح ، عن عمر بن الخطّاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة : «يا عائشة إنّ الّذين فارقوا دينهم (وَكانُوا شِيَعاً) هم أهل البدع والضّلالة من هذه الأمّة ، يا عائشة إنّ لكلّ صاحب ذنب توبة إلّا صاحب البدع والأهواء ليست لهم توبة ، أنا منهم بريء وهم منّي براء» [١٧٨] (٣).

(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) قوله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) ... خصبا ونعمة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وفي مصحف عبد الله وليتمتّعوا (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً). قال ابن عبّاس والضحّاك : حجّة وعذرا. قتادة والربيع : كتابا.

(فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) ينطق (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) يعذرهم على شركهم ويأمرهم به.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) في نسخة أصفهان زيادة : راجعين إليه بالتوبة ، مقبلين إليه بالطاعة وهو نصب على الحال والقطع أي فأقم وجهك أنت وامّتك منيبين إليه.

(٢) في نسخة أصفهان : أخبرني ابن فنجويه.

(٣) الدر المنثور : ٣ / ٦٣ مورد الآية ، وكتاب السنة لأبي عاصم : ٨ ح ٤.

٣٠٣

مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

قوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً). قرأ ابن كثير (ءاتيتم) مقصور غير ممدود (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ). قرأ الحسن وعكرمة وأهل المدينة لتربوا بضمّ التاء وجزم الواو وعلى الخطاب أي لتربوا أنتم ، وهي قراءة ابن عبّاس واختيار يعقوب وأيّوب وأبي حاتم.

وقرأ الآخرون (لّيربوا) بياء مفتوحة ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا. واختاره أبو عبيد لقوله : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) ولم يقل فلا يربى. واختلف المفسّرون في معنى الآية. فقال سعيد ابن جبير ومجاهد وطاوس وقتادة والضحاك : هو الرجل يعطي الرجل العطية ويهدي الهدية ليثاب أكثر منها ، فهذا ربا حلال ليس فيه أجر ولا وزر ، وهذا للناس عامّة ، فأمّا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة فكان هذا عليه حراما لقوله عزوجل (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (١). وقال الشعبي : هو الرجل يلزق بالرجل فيحف له ويخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله ليجزيه وإنّما أعطاه التماس عونه ولم يرد به وجه الله. وقال النخعي : هذا في الرجل يقول للرجل : لأمولنّك فيعطيه مراعاة ، وكان الرجل في الجاهلية يعطي ذا القرابة له المال ليكثر ماله ، وهي رواية أبي حسين (٢) عن ابن عبّاس. وقال السدي : نزلت في ثقيف كانوا يعطون الربا.

(فَلا يَرْبُوا) يزكو (عِنْدَ اللهِ) لأنّه لم يرد به وجه الله. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) قال قتادة : هذا الذي يقبله الله ويضاعفه له (عَشْرُ أَمْثالِها) وأكثر من ذلك. ومعنى قوله : (الْمُضْعِفُونَ). أهل التضعيف. كقول العرب : أصبحتم مسمنين ، إذا

__________________

(١) سورة المدثر : ٦.

(٢) في نسخة أصفهان : أبي حصن.

٣٠٤

سمنت إبلهم ، ومعطشين إذا عطشت. ورجل مقو إذا كانت إبله قويّة ، ومضعف إذا كانت ضعيفة ، ومنه الخبيث المخبّث أي أصحابه خبّثا.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ) أي قحط المطر ونقص الغلّات وذهاب البركة (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) تقول : أجدبت البرّ وانقطعت مادّة البحر (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بشؤم ذنوبهم.

قال قتادة : هذا قبل أن يبعث الله نبيّه عليه‌السلام امتلأت الأرض ظلما وضلالة ، فلمّا بعث الله عزوجل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجع راجعون من الناس. فالبرّ أهل العمود والمفاوز والبراري ، والبحر أهل الرّيف والقرى. قال مجاهد : أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كلّ قرية على ماء جار فهو بحر. وقال عكرمة : العرب تسمّي الأمصار بحرا. وقال عطية وغيره : البرّ ظهر الأرض ، الأمصار وغيرها ، والبحر هو البحر المعروف. وقال عطية : إذا قلّ المطر قلّ الغوص.

وقال ابن عبّاس : إذا مطرت السماء تفتح الأصداف فمها في البحر فما وقع فيها من ماء السماء فهو لؤلؤ. وقال الحسن : البحر القرى على شاطئ البحر. قال ابن عبّاس وعكرمة ومجاهد : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ) بقتل ابن آدم أخاه (وَالْبَحْرِ) بالملك الجائر الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصبا واسمه الجلندا ، رجل من الأزد.

(لِيُذِيقَهُمْ) قرأ السلمي بالنون وهو اختيار أبي حاتم. الباقون بالياء (بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي عقوبة بعض الذي عملوا من ذنوبهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن كفرهم وأعمالهم الخبيثة. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يتفرّقون ، (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) .. (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) يفرشون ويسوّون المضاجع في القبور. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) ثوابه (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

قوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) نعمته المطر. (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) رزقه (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أشركوا (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) في العاقبة ، فكذلك نحن ناصروك ومظفروك على من عاداك وناواك. قال الحسن : يعني أنجاهم مع الرسل من عذاب الأمم.

أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري ، قال أبو العبّاس أحمد بن محمد بن يوسف الصرصري ، عن الحسين بن محمد المطبقي ، عن الربيع بن سليمان ، عن علي

٣٠٥

ابن معبد عن موسى بن أعين ، عن بشير بن أبي سليمان ، عن عمرو بن مرّة عن شهر بن حوشب [عن أمّ الدرداء] عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من امرئ يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّا على الله سبحانه أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة» [١٧٩] (١) ، ثمّ تلا هذه الآية : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) أخبرني ابن فنجويه عن مخلد الباقرحي ، عن الحسن بن علوية ، عن إسماعيل بن عيسى ، عن إسحاق بن بشر ، أخبرنا إدريس أبو الياس ، عن وهب بن منبه : أنّ الأرض شكت إلى الله عزوجل أيّام الطوفان لأنّ الله عزوجل أرسل الماء بغير وزن ولا كيل فخرج الماء غضبا لله عزوجل فخدش الأرض وخدّدها فقالت : يا ربّ إنّ الماء خدّدني وخدشني ، فقال الله عزوجل فيما بلغني ـ والله أعلم ـ إنّي سأجعل للماء غربالا لا يخدّدك ولا يخدشك ، فجعل السّحاب غربال المطر. (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) ردّ الكناية إلى لفظ السحاب لذلك ذكرها. والسحاب جمع كما يقال : هذا تمر جيّد (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) قطعا متفرّقة. (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) وسطه. وقرأ ابن عبّاس من خلله. (فَإِذا أَصابَ بِهِ) أي بالودق (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا) وقد كانوا (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) وقيل : وما كانوا إلّا. قال قطرب والفائدة في تكرار قبل هاهنا أنّ الأولى للإنزال والثّانية للمطر ، وقيل على التأكيد ، كقول الله عزوجل : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) (٢) كرّر تحسبنّ للتأكيد. وقال الشاعر :

إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن

لقاؤك إلّا من وراء وراء (٣)

وفي حرف ابن مسعود لا تحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب غير مكرّر ، وفي حرفه أيضا : وإن كانوا من قبل أن ينزّل عليهم لمبلسين غير مكرّر.

قوله عزوجل : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ) بالألف على الجمع ـ أهل الشام والكوفة. واختلف فيه عن أصم ، غيرهم : أثر على الواحد (رَحْمَتِ اللهِ) يعني المطر (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من البعث وغيره.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) باردة مضرّة فأفسدت ما أنبت الغيث (فَرَأَوْهُ) يعني الزرع والنبات كناية عن غير مذكور (مُصْفَرًّا) يابسا بعد خضرته ونضرته (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) وقد رأوا هذه الآيات الواضحات ، ثمّ ضرب لهم مثلا فقال : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ

__________________

(١) كنز العمال : ٣ / ٤١٨ ـ بتفاوت يسير.

(٢) آل عمران : ١٨٨.

(٣) الصحاح : ٦ / ٢٥٢٣.

٣٠٦

وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) نطفة (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) شبابا (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) هرما (وَشَيْبَةً). قرأ يحيى وعاصم والأعمش وحمزة [بفتح] (١) الضاد من الضعف ، غيرهم بالضمّ فيها كلّها ، واختارها أبو عبيد لأنّها لغة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، عن حامد بن محمد ، عن علي بن عبد العزيز قال أبو نعيم ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي قال : قرأت على ابن عمر (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) يعني بالضم ، ثمّ قال : إنّي قرأتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذها عليّ كما أخذتها عليك، وكان عاصم الجحدري يقرأ الله الّذي خلقكم من ضعف ثمّ جعل من بعد ضعف ـ بالضم ـ (قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) ـ بالفتح ـ أراد أن يجمع بين اللغتين. قال الفرّاء : الضمّ لغة قريش والنصب لغة تميم (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).

وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) يحلف المشركون (ما لَبِثُوا) في الدنيا (غَيْرَ ساعَةٍ) (٢) استقلّ القوم أجل الدنيا لمّا عاينوا الآخرة. وقال مقاتل والكلبي : يعني (ما لَبِثُوا) في قبورهم (غَيْرَ ساعَةٍ) ، استقلّوا ذلك لما استقبلوا من هول يوم القيامة ، نظيرها قوله عزوجل : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) و (مِنْ نَهارٍ ... كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) يكذّبون في الدّنيا.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه. وقيل : في حكم الله ، كقول الشاعر :

__________________

(١) في نسخة أصفهان : بضم.

(٢) سورة يونس : ٤٥.

٣٠٧

ومال الولاء بالبلاء فملتم

وما ذاك قال الله إذ هو يكتب (١)

أي يحكم. وقال قتادة ومقاتل : هذا من مقاديم الكلام تأويلها : وقال الّذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) في الدنيا أنّه يكون وأنّكم مبعوثون ومجزيّون فكنتم به تكذّبون.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يسترجعون.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) ما أنتم إلّا على باطل (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) في نصرك وتمكينك (حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) يستزلنّك ويستخفنّ رأيك عن حكمك (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

__________________

(١) غريب الحديث : ١ / ٧٠ ـ تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٤٣.

٣٠٨

سورة لقمان

مكيّة ، وهي ألفان ومائة وعشرة أحرف ، وخمسمائة

وثمان وأربعون كلمة ، وأربع وثلاثون آية

أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال : أخبرني أبو عبد الله محمد بن يزيد المعدل قال : أخبرني أبو يحيى البزار ، عن محمد بن منصور ، عن محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، حدّثني أبي ، عن مخالد بن عبد الواحد ، عن الحجّاج بن عبد الله ، عن أبي الخليل ، عن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة ، عن زر بن حبيش ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا في يوم القيامة وأعطي من الحسنات عشرا بقدر من عمل المعروف ، وعمل بالمنكر» (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

(الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً وَرَحْمَةً) قرأ العامة بالنصب على الحال والقطع ، وقرأ حمزة (وَرَحْمَةٌ) بالرفع على الابتداء (لِلْمُحْسِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ٤ / ١٩٣ ح ٢ ، وتفسير مجمع البيان : ٨ / ٧٤.

٣٠٩

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ).

قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي ، كان يتجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا ويقول لهم : إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدّثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأعاجم والأكاسرة ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، وقال مجاهد : يعني شراء [القيان] والمغنّين ، ووجه الكلام على هذا التأويل يشتري ذات أو ذا لهو الحديث.

أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى سنة ثلاث وثمانين ، حدّثني جدّي محمد بن إسحاق بن خزيمة] عن علي بن خزيمة] عن علي بن حجرة ، عن مستمغل بن ملجان الطائي ، عن مطرح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زجر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحلّ تعليم المغنيات ولا بيعهن ، وأثمانهن حرام ، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ...» [١٨٠] (١) إلى آخر الآية.

وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلّا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتّى يكون هو الذي يسكت.

وقال آخرون : معناه يستبدل ويختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن وقال : سبيل الله : القرآن.

وقال أبو الصهباء البكري : سألت ابن مسعود عن هذه الآية ، فقال : هو الغناء والله الذي لا إله إلّا هو يردّدها ثلاث مرّات ، ومثله روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. ابن جريج : هو الطبل. عبيد عن الضحّاك : هو الشرك. جويبر عنه : الغناء ، وقال : الغناء مفسدة للمال ، مسخطة للربّ مفسدة للقلب. وقال ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنّيه ليلا ونهارا. وكلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله إلى ما نهى عنه فهو لهو ومنه الغناء وغيره. وقال قتادة : هو كلّ لهو ولعب. قال عطاء : هو الترّهات والبسابس.

وقال مكحول : من اشترى جارية ضرّابة ليمسكها لغناها وضربها مقيما عليه حتّى يموت لم أصلّ عليه ، إنّ الله عزوجل يقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ... إلى آخر الآية.

وروى علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تعالى بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير والأوتار والصّلب وأمر الجاهلية ، وحلف ربّي بعزّته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر متعمّدا (٢) إلّا سقيته من الصديد مثلها

__________________

(١) سنن الترمذي : ٢ / ٣٧٥ بتفاوت ، والسنن الكبرى : ٦ / ١٤ ، وكنز العمال : ٤ / ٣٩.

(٢) غير موجودة في المصدر.

٣١٠

يوم القيامة مغفورا له أو معذّبا ، ولا يسقيها صبيّا صغيرا ضعيفا مسلما إلّا سقيته مثلها من الصديد (١) يوم القيامة مغفورا له أو معذّبا ، ولا يتركها من مخافتي إلّا سقيته من حياض القدس يوم القيامة. لا يحلّ بيعهن ولا شرائهن ولا تعليمهن ولا التجارة بهن وثمنهنّ حرام» [١٨١] (٢).

يعني الضوارب. وروى حمّاد عن إبراهيم قال : الغناء ينبت النفاق في القلب. وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يحرقون الدفوف.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، عن ابن شاذان ، عن جيغويه ، عن صالح بن محمد ، عن إبراهيم ابن محمد ، عن محمد بن المنكدر قال : بلغني أنّ الله عزوجل يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم رياض المسك ، ثمّ يقول للملائكة : أسمعوا عبادي حمدي وثنائي وتمجيدي وأخبروهم أن (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قوله : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب (وَيَتَّخِذَها) بنصب الذال عطفا على قوله : (لِيُضِلَ) وهو اختيار أبي عبيد قال : لقربه من المنصوب ، وقرأ الآخرون بالرفع نسقا على قوله : (يَشْتَرِي).

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ) أخبره (بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي نوعا حسنا (هذا) الذي ذكرت ممّا يعاينون (خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) من آلهتكم التي تعبدونها (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا

__________________

(١) في المصدر : هكذا «من الصديد مثلها».

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٢٦٨.

٣١١

تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) يعني العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور.

قال محمّد بن إسحاق بن يسار : وهو لقمان بن باعور بن باحور بن تارخ وهو آزر ، وقال وهب : كان ابن أخت أيّوب. وقال مقاتل : ذكر أنّ لقمان كان ابن خالة أيّوب.

قال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل ، واتّفق العلماء على أنّه كان حكيما ولم يكن نبيّا إلّا عكرمة فإنّه قال : كان لقمان نبيّا ، تفرّد بهذا القول.

حدّثنا أبو منصور الجمشاذي قال : حدّثني أبو عبد الله محمد بن يوسف ، عن الحسين بن محمد ، عن عبد الله بن هاشم ، عن وكيع عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة قال : كان لقمان نبيّا. وقال بعضهم : خيّر لقمان بين النبوّة والحكمة ، فاختار الحكمة.

وروى عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول : «حقّا أقول لم يكن لقمان نبيّا ولكن عبد صمصامة كثير التفكير ، حسن اليقين (١) ، أحبّ الله فأحبّه وضمن عليه بالحكمة» [١٨٢] (٢).

[وروي أنّ لقمان في ابتداء أمره] (٣) كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء : يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيّرني ربّي قبلت العافية ولم أقبل البلاء ، وإن عزم عليّ فسمعا وطاعة. فإنّي أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان؟ قال : لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كلّ مكان إن [وفي فبالحري] أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا [وفي الآخرة شريفا] خير من أن يكون] في الدنيا] شريفا [وفي الآخرة ذليلا].

ومن تخيّر الدنيا على الآخرة تفته (٤) الدنيا ولا يصيب الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة. فانتبه يتكلّم بها (٥).

__________________

(١) في المصدر : الظن.

(٢) كنز العمال : ١٤ / ٣٤.

(٣) زيادة عن المصدر.

(٤) في المصدر : تفتنه.

(٥) المهذب البارع لابن فهد : ٤ / ٤٥٤ ، وتاريخ دمشق : ١٧ / ٨٥.

٣١٢

ثمّ نودي داود بعده فقبلها ولم يشرط ما شرط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرّة كلّ ذلك يعفو الله عزوجل عنه ، وكان لقمان يؤازره بحكمته ، فقال له داود : طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى. وأعطي داود الخلافة وأبتلي بالبليّة والفتنة.

وحدّثنا الإمام أبو منصور بن الجمشاذي لفظا قال : حدّثني أبو عبد الله بن يوسف عن الحسن بن محمد ، عن عبد الله بن هاشم ، عن وكيع ، عن محمّد بن حسّان ، عن خالد الربعي قال : كان لقمان عبدا حبشيّا نجّارا. وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثني أبو بكر بن مالك القطيعي ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبي عن أسود بن عامر ، عن حمّاد ، عن علي بن يزيد ، عن سعيد بن المسيب أنّ لقمان كان خيّاطا.

(أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) يعني وقلنا له : أن اشكر لله.

(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

قال مجاهد : كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين ، متشقّق القدمين. وروى الأوزاعي عن عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد : لا تحزن من أجل أنّك أسود ، فإنّه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان : بلال ومهجع مولى عمر بن الخطّاب ولقمان الحكيم كان أسود نوبيّا من سودان مصر ذا مشافر.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) واسمه أنعم (وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) قال ابن عبّاس : شدّة بعد شدّة. الضحاك : ضعف على ضعف. قتادة : جهدا على جهد. مجاهد وابن كيسان : مشقّة على مشقّة.

(وَفِصالُهُ) فطامه. وروي عن يعقوب : وفصله (فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني ، عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي قال : أخبرني أبو بكر محمّد بن القاسم البلخي ، عن نصير بن يحيى ، عن سفيان بن عيينة في قول الله عزوجل : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) قال : من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات فقد شكر للوالدين.

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) عشرة جميلة ، وتقديره : بالمعروف.

(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) واسلك طريق محمّد وأصحابه.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقّاص وأمّه ، وقد مضت القصّة.

٣١٣

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) قال بعض النحاة : هذه الكناية راجعة إلى الخطيئة والمعصية ، يعني : إنّ المعصية إن تك. يدلّ عليه قول مقاتل : قال أنعم بن لقمان لأبيه : يا أبة إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال له : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ). وقال آخرون : هذه الهاء عماد ، وإنّما أنّث لأنّه ذهب بها إلى الحبّة ، كقول الشاعر :

ويشرق بالقول الذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدم (١)

ويرفع المثقال وينصب ، فالنّصب على خبر كان والرّفع على اسمها ومجازه : إن تقع وحينئذ لا خبر له : (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) قال قتادة : في جبل ، وقال ابن عبّاس : هي صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجّار ، وخضرة السماء منها ، وقال السدي : خلق الله الأرض على حوت وهو النون الذي ذكره الله عزوجل في القرآن (ن. وَالْقَلَمِ) (٢) والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك والملك ، على صخرة ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض ، والصخرة على الرّيح.

(أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) باستخراجها (خَبِيرٌ) عالم بمكانها. ورأيت في بعض الكتب أنّ لقمان عليه‌السلام قال لابنه : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) ... إلى آخر الآية. فانفطر من هيبة هذه الكلمة فمات فكانت آخر حكمته.

قوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الأمور الواجبة التي أمر الله بها ، وقال ابن عبّاس : حزم الأمور. مقاتل : حقّ الأمور.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) قرأ النخعي ونافع وأبو عمرو وابن محيص ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تصاعر بالألف.

أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال : أخبرني أبو حبش قال أبو القاسم بن الفضل قال أبو زرعة : حدّثني نضر بن علي قال : أخبرني أبي عن معلى الورّاق عن عاصم الجحدري وَلا تُصْعِرْ خَدَّكَ بضم التاء وجزم الصاد من أصعر. الباقون (تُصَعِّرْ) من التّصعير. قال ابن عبّاس : يقول لا تتكبّر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك. مجاهد : هو الرجل يكون بينه وبينك إحنة فتلقاه فيعرض عنك بوجهه. عكرمة : هو الذي إذا سلّم عليه لوى عنقه تكبّرا. الربيع وقتادة : لا تحقّر الفقراء ، ليكن الفقير والغني عندك سواء.

عطاء : هو الذي يلوي شدقه. أخبرنا عبد الله بن حامد ، عن حامد بن محمد ، عن محمد

__________________

(١) الصحاح : ٢ / ٧٠٩.

(٢) سورة القلم : ١. ٢.

٣١٤

ابن صالح ، عن عبد الصمد ، عن خارجة بن مصعب ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) قال : التشديق في الكلام. وقال المؤرّخ : لا تعبس في وجوه الناس.

وأصل هذه الكلمة من الميل ، يقال : رجل أصعر إذا كان مائل العنق. وجمعه صعر ، ومنه ، الصّعر : وهو داء يأخذ الإبل في أعناقها ورؤوسها حتى يلفت أعناقها ، فشبّه الرجل المتكبّر الذي يعرض عن الناس احتقارا لهم بذلك. قال الشاعر يصف إبلا :

وردناه في مجرى سهيل يمانيا

بصعر البري من بين جمع وخادج (١)

أي مائلات البري. وقال آخر :

وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه

أقمنا له من ميله فتقوّما (٢)

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي خيلاء. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) في مشيته (فَخُورٍ) على الناس.

أخبرني عبد الله بن حامد الوزان ، عن أحمد بن محمد بن شاذان ، عن جيغويه ، عن صالح ابن محمد ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خرج رجل يتبختر في الجاهلية عليه حلّة ، فأمر الله عزوجل الأرض فأخذته ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (٣).

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي تواضع ولا تتبختر وليكن مشيك قصدا لا بخيلاء ولا إسراع.

أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرني أبو العبّاس محمد بن إسحاق السرّاج وأبو الوفا ، المؤيّد بن الحسين بن عيسى قالا : قال عبّاس بن محمد الدوري ، عن الوليد بن سلمة قاضي الأردن ، عن عمر بن صهبان ، عن نافع عن ابن عمران أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن» [١٨٣] (٤).

(وَاغْضُضْ) واخفض (مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) قال مجاهد وقتادة والضحاك : أقبح ، أوّله زفير وآخره شهيق ، أمره بالاقتصاد في صوته. عكرمة والحكم بن عيينة : أشدّ. ابن زيد : لو كان رفع الصوت خيرا ما جعله للحمير.

أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحري قال : أخبرني أبو حامد أحمد بن عبدون بن عمارة الأعمش قال : أخبرني أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، عن يحيى بن صالح

__________________

(١) غريب الحديث : ١ / ١٢٦.

(٢) البداية والنهاية : ٢ / ١٤٩.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٢٢٢. كنز العمال : ٣ / ٥٣٧ اختلاف في الحديث.

(٤) كنز العمال : ١٥ / ٤١٢ ح ٤١٦٢٠.

٣١٥

الوحاضي ، عن موسى بن أعين قال : سمعت سفيان يقول في قوله عزوجل : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) يقول : صياح كلّ شيء تسبيح لله عزوجل إلّا الحمار. وقيل : لأنّه ينهق بلا فائدة.

أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن محمد بن الحسين بن بشر قال : أخبرني أبو بكر ابن أبي الخصيب ، عن عبد الله بن جابر ، عن عبد الله بن الوليد الحراني ، عن عثمان بن عبد الرحمن ، عن عنبسة بن عبد الرحمن ، عن محمد بن زادان ، عن أمّ سعد قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله عزوجل يبغض ثلاثة أصوات : نهقة الحمار ، ونباح الكلب ، والداعية بالحرب» [١٨٤].

فصل في ذكر بعض ما روي من حكم لقمان

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان الأصفهاني ، عن أحمد بن شاذان ، عن جيغويه بن محمد [عن صالح بن محمد] عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن محمد بن عجلان قال : قال لقمان : ليس مال كصحّة ، ولا نعيم كطيب نفس.

وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري ، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، عن محمد بن عبد الغفّار الزرقاني ، عن أبو سكين زكريا بن يحيى بن عمر بن [حفص (١)] عن عمّه أبي زجر بن حصن ، عن جدّه حميد بن منهب قال : حدّثني طاوس ، عن أبي هريرة قال : مرّ رجل بلقمان والناس مجتمعون عليه فقال : ألست بالعبد الأسود الذي كنت راعيا بموضع كذا وكذا؟ قال : بلى. قال : فما بلغ بك ما أرى؟ قال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني.

وأخبرني الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو الحسين بكر بن مالك القطيعي ، عن عبد الله ابن أحمد بن حنبل ، عن أبيّ ، عن وكيع قال : أخبرني أبو الأشهب ، عن خالد الربعي قال : كان لقمان عبدا حبشيّا نجّارا ، فقال له سيّده : اذبح لنا شاة ، فذبح له شاة ، فقال له : ائتني بأطيب المضغتين فيها ، فأتاه باللسان والقلب. فقال : ما كان فيها شيء أطيب من هذا؟ قال : لا ، قال : فسكت عنه ما سكت ، ثمّ قال له : اذبح لنا شاة ، فذبح شاة ، فقال : ألق أخبثها مضغتين ، فرمى باللسان والقلب ، فقال : أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللّسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت اللسان والقلب؟! فقال : لأنّه ليس شيء بأطيب منهما إذا طابا وأخبث منهما إذا خبثا.

__________________

(١) في نسخة أصفهان : حصن.

٣١٦

وأخبرني الحسين بن محمد ، عن أحمد بن جعفر بن حمدان ، عن يوسف بن عبد الله عن موسى ابن إسماعيل ، عن حمّاد بن سلمة ، عن أنس أنّ لقمان كان عند داود عليه‌السلام وهو يسرد درعا فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى ، ويريد أن يسأله ، ويمنعه حكمه عن السؤال ، فلمّا فرغ منها وجاء بها وصبها قال : نعم درع الحرب هذه! فقال لقمان : إنّ من الحكم الصمت وقليل فاعله.

[وأخبرني الحسين بن محمد بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي (١)] قال : أخبرني أبو أسامة ووكيع قالا : أخبرنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : كان لقمان من أهون مملوكيه على سيّده. قال : فبعثه مولاه في رقيق له إلى بستان له ليأتوه من ثمره ، فجاؤوا وليس معهم شيء ، وقد أكلوا الثمر ، وأحالوا على لقمان. فقال لقمان لمولاه : إنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله أمينا ، فاسقني وإيّاهم ماء حميما ثمّ أرسلنا فلنعد ، ففعل ، فجعلوا يقيئون تلك الفاكهة وجعل لقمان يقيء ماء ، فعرف صدقه وكذبهم.

قال : أوّل ما روي من حكمته ، أنّه بينا هو مع مولاه ، إذ دخل المخرج فأطال فيه الجلوس ، فناداه لقمان : إنّ طول الجلوس على الحاجة ينجع منه الكبد ، ويورث الباسور ، ويصعد الحرارة إلى الرأس ، فاجلس هونا ، وقم هونا ، قال : فخرج وكتب حكمته على باب [الحش] (٢).

قال : وسكر مولاه يوما فخاطر قوما على أن يشرب ماء بحيرة ، فلمّا أفاق عرف ما وقع فيه فدعا لقمان فقال : لمثل هذا كنت اجتبيتك ، فقال : اخرج كرسيّك وأباريقك ثمّ اجمعهم ، فلمّا اجتمعوا قال : على أيّ شيء خاطرتموه؟ قالوا : على أن يشرب ماء هذه البحيرة ، قال : فإنّ لها موادّ احبسوا موادّها عنها ، قالوا : وكيف نستطيع أن نحبس موادها عنها؟ قال لقمان : وكيف يستطيع شربها ولها موادّ؟! وأخبرني الحسين بن محمد ، عن عبيد الله بن محمد بن شنبه ، عن علي بن محمد بن ماهان ، عن علي بن محمد الطنافسي قال : أخبرني أبو الحسين العكلي [عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن داود بن عمر ، عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار أنّ لقمان قدم من سفر ،] (٣) فلقي غلامه في الطريق ، فقال : ما فعل أبي؟ قال : مات ، قال : الحمد لله ، ملكت

__________________

(١) وفي نسخة أصفهان : أخبرني ابن فنجويه عن ابن شنبه قال : حدّثنا علي بن محمد بن ماهان ، عن علي بن محمد الطنافسي.

(٢) تفسير الدر المنثور : ٥ / ١٦١ مورد الآية.

(٣) ورد في نسخة أصفهان : عن أبي الحسين العكلي ، عن بكر بن عبد الله المرني ، عن أبيه قال : قال لقمان : ضرب الوالد ولده كالسّماد للزرع. وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثنا داود بن عمرو قال : حدّثنا إسماعيل بن عيّاش ، عن عبد الله بن دينار أنّ لقمان قدم من سفر .. الحديث.

٣١٧

أمري. قال : ما فعلت امرأتي؟ قال : ماتت. قال : جدّد فراشي ، قال : ما فعلت أختي؟ قال : ماتت ، قال : ستر عورتي ، قال : ما فعل أخي؟ قال : مات ، قال : انقطع ظهري.

وأخبرني الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو بكر بن مالك ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبي ، عن سفيان قال : قيل للقمان : أيّ الناس شرّ؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. وقيل للقمان : ما أقبح وجهك! قال : تعيب بهذا على النقش أو على النقّاش؟

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ).

قرأ نافع وشيبه وأبو جعفر وأبو رجاء العطاردي وأبو محلز وأبو عمرو والأعرج وأيّوب وحفص نعمه بالجمع والإضافة ، واختاره أبو عبيد وأبو معاذ النحوي وأبو حاتم ، وقرأ الآخرون منوّنة على الواحد ومعناها جمع أيضا ، ودليله قول الله عزوجل : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١) وقال مجاهد وسفيان : هي لا إله إلّا الله ، وتصديقه أيضا ما أخبرني أبو القاسم [الحبيبي] (٢) أنّه رأى في مصحف عبد الله نعمته بالإضافة والتوحيد (ظاهِرَةً وَباطِنَةً) اختلفوا فيها فأكثروا. فقال ابن عبّاس : أمّا الظاهرة فالدين والرياش ، وأمّا الباطنة فما غاب عن العباد وعلمه الله.

مقاتل : الظاهرة تسوية الخلق والرّزق والإسلام ، والباطنة ما ستر من ذنوب بني آدم فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب عليها. الضحّاك : الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء ، والباطنة المغفرة. القرظي : الظاهرة محمّد عليه‌السلام والباطنة المعرفة. ربيع : الظاهرة بالجوارح والباطنة بالقلب. عطاء الخراساني : الظاهرة تخفيف الشرائع ، والباطنة الشفاعة. مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ، والباطنة الإمداد بالملائكة.

أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم النيستاني ، قال : أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم ابن محمش ، قال : أخبرني أبو يحيى زكريا بن يحيى بن الحرب ، عن محمد بن يوسف بن محمد ابن سابق الكوفي قال : أخبرني أبو مالك الجبني ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : سألت ابن عبّاس عن قول الله عزوجل : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) فقال : هذا من محرزي الذي سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت : يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟ قال : أمّا الظاهرة فالإسلام وما حسن من خلقك وما أفضل عليك من الرزق ، وأمّا الباطنة ما ستر من سوء عملك ، يا ابن عبّاس يقول الله تعالى : إنّي جعلت للمؤمن ثلثا صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أكفّر

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٣٤.

(٢) هكذا في الأصل.

٣١٨

به عن خطاياه ، وجعلت له ثلث ماله ليكفّر به عنه من خطاياه وسترت عليه سوء عمله الذي لو قد أبديته للناس لنبذه أهله فما سواهم.

وقال محمّد بن علي الترمذي : النعمة الظاهرة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (١) والباطنة قوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٢).

[الحرث بن أسد المحاسبي] (٣) : الظاهرة نعيم الدنيا ، والباطنة نعيم العقبى. عمرو بن عثمان الصدفي : الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة تضعيف الصنائع.

وقيل : الظاهرة الجزاء ، والباطنة الرضا. سهل بن عبد الله : الظاهرة إتباع الرسول ، والباطنة محبّته. وقيل : الظاهرة تسوية الظواهر والباطنة تصفية السرائر. وقيل : الظاهرة التبيين ، بيانه قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (٤) (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) (٥) والباطنة التزين قوله : (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٦) وقيل : الظاهرة الرزق المكتسب ، والباطنة الرزق (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).

وقيل : الظاهرة المدخل للغذاء ، والباطنة المخرج للأذى. وقيل : الظاهرة الجوارح ، والباطنة المصالح. وقيل : الظاهرة الخلق ، والباطنة الخلق. وقيل الظاهرة التنعيم ، بيانه قوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (٧) والباطنة التعليم. قوله : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٨) وقيل : الظاهرة ما أعطى وحبا من النعماء ، وقيل الباطنة : ما طوي وزوي من أنواع البلاء ، وقيل : الظاهرة الدعوة ، بيانه قوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (٩) والباطنة الهداية. بيانه قوله : (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١٠).

وقيل : الظاهرة الإمداد بالملائكة ، والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفّار ، وقيل : الظاهرة تفصيل الطاعات ، وهو أنّه ذكر طاعتك واحدة فواحدة وأثنى عليك بها وأثابك عليها ، بيانه قوله : (التَّائِبُونَ) (١١) وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢) وقوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) (١٣) إلى آخر الآية. والباطنة إجمال المعاصي وذلك أنّه دعاك منها إلى التوبة باسم الإيمان من غير عدّها وتفصيلها ، بيانه قوله : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) (١٤) وقيل : الظاهرة إنزال الأقطار والأمطار ، والباطنة إحياء الأقطار والأمصار.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣. (٢) سورة المائدة : ٣.

(٣) في نسخة أصفهان : الحرب بن أسد المحاربي.

(٤) سورة المائدة : ١٧٦.

(٥) سورة البقرة : ٢٢١.

(٦) سورة الحجرات : ٧.

(٧) سورة الحمد : ٧.

(٨) سورة البقرة : ١٥١. (١٢) سورة المؤمنون : ١.

(٩) سورة يونس : ٢٥. (١٣) سورة الأحزاب : ٣٥.

(١٠) سورة يونس : ٢٥. (١٤) سورة النور : ٣١.

(١١) سورة التوبة : ١١٢.

٣١٩

وقيل : الظاهرة التوفيق للعبادات ، والباطنة الإخلاص والعصمة من المراءاة ، وقيل : الظاهرة ذكر اللسان ، والباطنة ذكر الجنان ، وقيل : الظاهرة تلاوة القرآن والباطنة معرفته. وقيل :الظاهرة ضياء النهار للتصرّف والمعاش ، والباطنة ظلمة الليل للسكون والقرار. وقيل : الظاهرة النطق ، والباطنة العقل ، وقيل : الظاهرة نعمه عليك بعد ما خرجت من بطن أمّك ، والباطنة : نعمه عليك وأنت في بطن أمّك.

وقيل : الظاهرة الشهادة الناطقة ، والباطنة السعادة السابقة. وقيل : الظاهرة ألوان العطايا ، والباطنة غفران الخطايا. وقيل : الظاهرة وضع الوزر ورفع الذّكر ، والباطنة شرح الصدر.

وقيل : الظاهرة فتح المسالك والباطنة نزع الممالك ممّن خالفك ، وقيل : الظاهرة المال والأولاد ، والباطنة الهدى والإرشاد ، وقيل : الظاهرة القول السديد والباطنة التأييد والتسديد ، وقيل : الظاهرة ما يكفّر الله به الخطايا من الرزايا والبلايا ، والباطنة ما يعفو عنه ولا يؤاخذ به في الدنيا والعقبى ، وقيل : الظاهرة ما بينك وبين خلقه من الأنساب والأصهار ، والباطنة ما بينك وبينه من القرب والأسرار والمناجاة في الأسحار ، وقيل : الظاهرة العلوّ بيانه قوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) (١) والباطنة الدنوّ بيانه قوله : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٢).

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت في النضر بن الحرث حين زعم أنّ الملائكة بنات الله (وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا).

قال الله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ) قال الأخفش : لفظه استفهام ومعناه تقرير ، وقال أبو عبيدة : لو هاهنا متروك الجواب مجازه (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي موجباته فيتبعونه.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٣٩.

(٢) سورة الواقعة : ١١.

٣٢٠