الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي خلطهما وحلّى وأفاض أحدهما في الآخر ، وأصل المرج : الخلط والإرسال ، ومنه قوله سبحانه (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (١)

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله ابن عمر : «كيف بك يا عبد الله إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا» (٢) [٨٦] وشبّك بين أصابعه، ويقال : مرجت دابّتي مرجها إذا أرسلتها في المرعى وخلّيتها تذهب حيث شاءت ، ومنه قيل للروضة مرج ، قال العجاج :

رعى بها مرج ربيع ممّرجا

__________________

(١) سورة ق : ٥.

(٢) صحيح ابن حبّان : ١٥ / ١٢٥.

١٤١

قال ابن عباس والضحاك ومقاتل : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي خلع أحدهما على الآخر (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) شديد العذوبة (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) شديد الملوحة (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) حاجزا بقدرته وحكمته لئلّا يختلطا (وَحِجْراً مَحْجُوراً) سترا ممنوعا يمنعهما فـ (لا يَبْغِيانِ) ولا يفسد الملح العذب.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) قال علىّ بن أبي طالب : النسب ما لا يحلّ نكاحه ، والصهر ما يحلّ نكاحه ، وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل : النسب سبعة والصهر خمسة ، وقرءوا هذه الآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) (١) الى آخرها.

أخبرني أبو عبد الله [القسايني] قال : أخبرنا أبو الحسن النصيبي القاضي قال : أخبرنا أبو بكر السبيعي الحلبي قال : حدّثنا علي بن العباس المقانعي قال : حدّثنا جعفر بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا محمد بن عمرو قال : حدّثنا حسين الأشقر قال : حدّثنا أبو قتيبة التيمي قال : سمعت ابن سيرين يقول في قول الله سبحانه وتعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) قال : نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي بن أبي طالب ، زوج فاطمة عليّا وهو ابن عمّه وزوج ابنته فكان نسبا وصهرا (٢).

(وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ) يعني هؤلاء المشركين (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ) إن عبدوه (وَلا يَضُرُّهُمْ) إن تركوه (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي معينا للشيطان على ربّه ، وقيل : معناه وكان الكافر على ربّه هيّنا ذليلا من قول العرب : ظهرت به إذا جعلته خلف ظهرك فلم تتلفّت إليه.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على تبليغ الوحي (مِنْ أَجْرٍ) فيقولون : إنّما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتّبعه كيلا نعطيه من أموالنا شيئا (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

قال أهل المعاني : هذا أمر الاستثناء المنقطع ، مجازه لكن (مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) بإنفاقه ماله في سبيله ، (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي اعبده وصلّ له شكرا منك له على نعمه ، وقيل : احمده منزّها له عمّا لا يجوز في وصفه ، وقيل : قل : سبحان الله والحمد لله (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) فيجازيهم بها (الَّذِي) في محل الخفض على نعت الحي (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فقال بينهما وقد جمع السموات لأنه أراد الصنفين والشيئين كقول القطامي :

__________________

(١) سورة النساء : ٢٣.

(٢) نظم درر السمطين ـ الزرندي الحنفي. : ص ٩٢.

١٤٢

ألم يحزنك أن حبال قيس

وتغلب قد تباينتا انقطاعا (١)

أراد وحبال تغلب فثنّى والحبال جمع لأنّه أراد الشيئين والنوعين ، وقال آخر :

إنّ المنيّة والحتوف كلاهما

توفي المخارم يرقبان سوادي (٢)

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي فسل خبيرا بالرحمن ، وقيل : فسل عنه خبيرا وهو الله عزوجل ، وقيل : جبرئيل عليه‌السلام ، الباء بمعنى عن لقول الشاعر :

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب (٣)

أي عن النساء.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) قرأ حمزة والكسائي بالياء يعنيان الرحمن ، وقرأ غيرهما (تَأْمُرُنا) بالتاء يعنون لما تأمرنا أنت يا محمد (وَزادَهُمْ) قول القائل لهم : (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) (... نُفُوراً) عن الدين والإيمان ، وكان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية رفع رأسه الى السماء وقال : إلهي زادني خضوعا ما زاد أعداءك نفورا.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) يعني منازل الكواكب السبعة السيارة وهي اثنا عشر برجا : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشتري ، والجدي والدلو بيتا زحل ، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منهما ثلاثة بروج تسمى المثلثات ، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. واختلفت أقاويل أهل التأويل في تفسير البروج.

فاخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال : حدّثني محمد بن الحسين بن أبي الشيخ قال : حدّثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال : حدّثنا عبد الله بن إدريس قال : حدّثني أبي عن عطية العوفي في قوله سبحانه (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) قال : قصورا فيها الحرس ، دليله قوله (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٤).

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١٧ / ٢٨.

(٢) جامع البيان للطبري : ١٧ / ٢٨.

(٣) لسان العرب : ١ / ٥٥٤.

(٤) سورة النساء : ٧٨.

١٤٣

وقال الأخطل :

كأنها برج رومي يشيّده

بان بجصّ وآجرّ وأحجار

وقال مجاهد وقتادة : هي النجوم.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا علي بن محمد بن ماهان قال : حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال : حدّثنا خالي يعلى عن إسماعيل عن أبي صالح (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) قال : النجوم الكبائر. قال عطاء : هي الشرج وهي أبواب السماء التي تسمّى المجرّة.

(وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) يعني الشمس ، نظيره قوله سبحانه (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (١) وقرأ حمزة والكسائي (وجعل فيها سُرُجا) بالجمع يعنون النجوم وهي قراءة أصحاب عبد الله (وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً).

قال ابن عباس والحسن وقتادة : يعني عوضا وخلفا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر.

قال قتادة : فأروا الله من أعمالكم خيرا في هذا الليل والنهار ؛ فإنهما مطيّتان تقحمان الناس الى آجالهم ، وتقّربان كلّ بعيد ، وتبليان كلّ جديد ، وتجيئان بكل موعود الى يوم القيامة.

روى شمر (٢) بن عطية عن شقيق قال : جاء رجل الى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقال : فاتتني الصلاة الليلة فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإنّ الله سبحانه وتعالى (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ).

وقال مجاهد : يعني جعل كلّ واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض.

وقال ابن زيد وغيره : يعني يخلف أحدهما صاحبه ، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر ، فهما يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان ، يدلّ على صحّة هذا التأويل ، قول زهير :

بها العين والآدام يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجشم (٣)

وقال مقاتل : يعني جعل النهار خلفا من الليل لمن نام بالليل ، وجعل الليل خلفا بالنهار لمن كانت له حاجة أو كان مشغولا (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) قرأه العامة بتشديد الذال يعني يتذكر ويتعظ ، وقرأ حمزة وخلف بتخفيف الذال من الذكر (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) شكر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه.

__________________

(١) سورة نوح : ١٦.

(٢) في النسخة الثانية : شمس.

(٣) نهج الايمان ـ ابن جبر. : ٣٩٤.

١٤٤

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) يعني أفاضل العباد ، وقيل هذه الإضافة على التخصيص والتفضيل ، وقرأ الحسن : وعبيد الرّحمن.

(الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي بالسكينة والوقار والطاعة والتواضع غير أشرين ولا مرحين ولا متكبّرين ولا مفسدين.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا العباس بن محمد بن قوهبار قال : حدّثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى قال : حدّثنا يحيى بن يحيى قال : حدّثنا هشيم بن عباد بن راشد عن الحسن في قوله سبحانه (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) قال : حلما وعلما ، وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون ، وإن سفه عليهم حلموا.

الضحّاك : أتقياء أعفّاء لا يجهلون قال : وهو بالسريانية. الثمالي : بالنبطيّة ، والهون في اللغة : الرفق واللين ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما» (١).

(وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) بما يكرهونه (قالُوا سَلاماً) سدادا من القول عن مجاهد.

ابن حيان : قولا يسلمون فيه من الإثم.

الحسن : سلّموا عليهم ، دليله قوله سبحانه (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٢).

قال أبو العالية والكلبي : هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ، ثم نسختها آية القتال.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش المقري قال : حدّثنا محمد بن صالح [الكيلسي] (٣) بمكة قال : حدّثنا سلمة بن شبيب (٤) قال : حدّثنا الوليد بن إسماعيل قال : حدّثنا شيبان بن مهران عن خالد أبن المغيرة بن قيس عن أبي محلز لا حق بن حميد عن أبي برزة الأسلمي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيت قوما من أمتي ما خلقوا بعد ، وسيكونون فيما بعد اليوم أحبّهم ويحبّونني ، ويتناصحون ويتبادلون ، يمشون بنور الله في الناس رويدا في خفية وتقية ، يسلمون من الناس ، ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم ، قلوبهم بذكر الله يرجعون ، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون ، يرحمون صغيرهم ويجلّون كبيرهم ويتواسون بينهم ، يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم ، يعودون مرضاهم ويتبعون جنائزهم».

فقال رجل من القوم : في ذلك يرفقون برفيقهم؟ فالتفت إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كلّا ،

__________________

(١) المصنّف ـ الصنعاني. : ١١ / ١٨١.

(٢) سورة القصص : ٥٥.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) في النسخة الثانية : شعيب.

١٤٥

إنّهم لا رفيق لهم ، هم خدّام أنفسهم ، هم أكرم على الله من أن يوسّع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم» ثمّ تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)» [٨٧].

وروي أنّ الحسن كان إذا قرأ هاتين الآيتين قال : هذا وصف نهارهم.

ثمّ قال (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) هذا وصف ليلهم.

قال ابن عباس : من صلّى بالليل ركعتين أو أكثر من ذلك فقد بات لله سبحانه وتعالى ساجدا وقائما.

قال الكلبي : يقال : الركعتان بعد المغرب وأربع بعد العشاء الآخرة.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي ملحّا دائما لازما غير مفارق من عذّب به من الكفار ، ومنه سمّي الغريم لطلبه حقّه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إيّاه ، وفلانا مغرم بفلان إذا كان مولعا به لا يصبر عنه ولا يفارقه ، قال الأعشى :

إن يعاقب يكن غراما وإن

يعط جزيلا فإنّه لا يبالي (١)

قال الحسن : قد علموا أنّ كلّ غريم يفارق غريمه إلّا غريم جهنم (٢).

ابن زيد : الغرام الشرّ ، أبو عبيد : الهلاك ، قال بشر بن أبي حازم :

ويوم النسار ويوم الجفار

كانا عذابا وكانا غراما (٣)

أي هلاكا.

(إِنَّها) يعني جهنم (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي إقامة ، من أقام يقيم.

وقال سلامة بن جندل :

يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير إلى الأعداء تأويب (٤)

فإذا فتحت الميم فهو المجلس من قام يقوم ، ومنه قول عباس بن مرداس :

فأتي ما وأيك كان شرّا

فقيد إلى المقامة لا يراها (٥)

__________________

(١) لسان العرب : ١٢ / ٤٣٧.

(٢) في النسخة الثانية زيادة : وقال محمد بن كعب : إن الله عزوجل سأل الكفار ثمن نعمه فلم يؤدوها إليه ، فأغرمهم فأدخلهم النار.

(٣) تاج العروس : ٩ / ٣.

(٤) تفسير الطبري : ١٩ / ٤٧ ، ولسان العرب : ١ / ٢٢٠.

(٥) المصدر السابق ، ولسان العرب : ١٢ / ٥٠٦.

١٤٦

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) واختلف القرّاء فيه فقرأ أهل المدينة والشام : يُقْتِرُوا بضم الياء وكسر التاء ، وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وضم التاء ، غيرهم بفتح الياء وكسر التاء وكلّها لغات صحيحة ، يقال : أقتر وقتر يقتر ويقتر مثل (يَعْرِشُونَ) و (يَعْكُفُونَ) ، واختلف المفسرون في معنى الإسراف والإقتار ، فقال بعضهم : الإسراف : النفقة في معصية الله وإن قلّت ، والإقتار : منع حق الله سبحانه وتعالى ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد.

أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال : حدّثنا محمد بن عمر بن إسحاق الكلواذي قال : حدّثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث (١) قال : حدّثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الرملي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سهيل بن أبي حزم عن كثير بن زياد أبي سهل عن الحسن في هذه الآية قال : لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله.

وقال بعضهم : الإسراف أن تأكل مال غيرك بغير حق.

قال عون بن عبد الله بن عتبة : ليس المسرف من أكل ماله ، إنما المسرف من يأكل مال غيره.

وقال قوم : السرف : مجاوزة الحد في النفقة ، والإقتار : التقصير عما ينبغي مما لا بد منه ، وهذا الاختيار لقوله (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ) أي وكان إنفاقهم بين ذلك (قَواماً) عدلا وقصدا وسطا بين الإسراف والإقتار.

قال إبراهيم : لا يجيعهم ولا يعريهم ، ولا ينفق نفقة تقول الناس : قد أسرف.

مقاتل : كسبوا طيّبا ، وأنفقوا قصدا ، وقدموا فضلا ، فربحوا وأنجحوا.

وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : أولئك أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربّهم ، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويكنّهم من الحرّ والقرّ.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا ابن زنجويه قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثنا عبد الرزاق عن أبي عيينة عن رجل عن الحسن في قوله سبحانه (يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) إنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : كفى سرفا ان لا يشتهي رجل شيئا إلا اشتراه فأكله.

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية.

__________________

(١) في النسخة الثانية زيادة : بن هارون بن سليمان الأشعث.

١٤٧

أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي قال : أخبرنا المؤمّل بن الحسن بن عيسى قال : حدّثنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا حجاج عن أبي جريح قال : أخبرني يعلى يعني ابن مسلم عن سعيد بن جبير سمعه يحدّث عن ابن عباس أنّ ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزل (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ونزل (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (١) وقيل : نزلت في وحشي غلام ابن مطعم.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر والثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل.

وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد الله بن عبد الرحمن قالا : حدّثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال : حدّثنا محمد بن كثير قال : حدّثنا سفيان بن الأعمش ومنصور وواصل الأحدب عن أبي وائل.

وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا عبد الله بن نمير قال : أخبرنا الأعمش عن شقيق عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟

قال : «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» ، قلت : ثم أي؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، قلت : ثم أيّ؟ قال : إن ترى حليلة جارك ، فأنزل الله سبحانه تصديق ذلك (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)» [٨٨].

قال مسافع : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) الآية.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدثنا ابن حنش ، قال : أخبرنا ابن زنجويه قال : أخبرنا سلمة بن عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنّ لقمان كان يقول : يا بني إياك والزنا فإن أوله مخافة وآخره ندامة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الذي ذكرت (يَلْقَ أَثاماً) قال ابن عباس : إثما ، ومجازه : تلق جزاء الآثام.

وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن حفصويه ، قال : حدّثنا محمد بن موسى قال : حدّثنا زهير بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن زياد قال : حدّثنا الكلبي ، قال : حدّثنا شرقي القطامي ، قال : حدّثني لقمان بن عامر ، قال : حدّثني أبو أمامة الباهلي صدي بن عجلان ، فقلت : حدّثني حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فدعا لي بطلاء ثم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لو أن صخرة زنة عشر عشروات قذف بها في شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين

__________________

(١) سورة الزمر : ٥٣.

١٤٨

خريفا ، ثم ينتهي إلى غيّ وأثام ، قال : قلت : وما غيّ وأثام»؟ قال : نيران يسيل فيها صديد أهل النار ، وهما اللتان قال الله سبحانه في كتابه (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (١) و (يَلْقَ أَثاماً) (٢).

وأخبرنا بو عمرو سعيد بن عبد الله بن إسماعيل الحيري قال : أخبرنا العباس بن محمد بن قوهباد قال : حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن زرين السلمي. قال : أخبرنا حفص بن عبد الرحمن ، قال : حدّثنا سعيد عن قتادة ، عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن (أَثاماً) واد في جهنم ، وهو قول مجاهد ، وقال أبو عبيد : الأثام : العقوبة.

قال الليثي :

جزى الله ابن عروة حيث أمسى

عقوقا والعقوق له أثاما

أي عقوبة.

(يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) قرأه العامة بجزم الفاء والدال ، ورفعهما ابن عامر وابن عباس على الابتداء.

ثمّ قال (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) الآية.

أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا موسى بن هارون الجّمال قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال : حدّثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله ابن عمر بن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : قرأناها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنين (٣) (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية. ثمّ نزلت (إِلَّا مَنْ تابَ) فما رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرح بشيء قط فرحه بها وفرحه بـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ).

وأخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال : حدّثنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا عبد العزيز بن الحصين عن ابن أبي نجيح قال : حدّثني القاسم بن أبي برة قال : قلت لسعيد بن جبير : أبا عبد الله أرأيت قول الله سبحانه وتعالى (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) إلى قوله (إِلَّا مَنْ تابَ) قال : سمعت ابن عباس يقول : هذه مكيّة نسختها الآية المدنية التي في سورة النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) ولا توبة له.

وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت أنّه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل

__________________

(١) سورة مريم : ٥٩.

(٢) مسند الشاميين ـ الطبراني. : ٢ / ٤٠٥.

(٣) في النسخة الثانية : سنتين.

١٤٩

العراق وهو يسأله عن هذه الآية التي في الفرقان والتي في سورة النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) (١) ، فقال زيد بن ثابت : قد عرفت الناسخة من المنسوخة نسختها التي في النساء بعدها ستّة أشهر.

وروى حجاج عن أبي جريج قال : قال الضحّاك بن مزاحم : هذه السورة بينها وبين النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) ثماني حجج ، والصحيح أنّها محكمة.

روى جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء قال : اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلّا سألته عنه ورسولي يختلف إلى عائشة ، فما سمعته ولا أحد من العلماء يقول : إنّ الله سبحانه يقول لذنب : لا أغفره.

(فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

قال ابن عباس وابن جبير والضحّاك وابن زيد : يعني فأولئك يبدّلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدّلهم بالشرك إيمانا ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا عفة وإحصانا ، وقال الآخرون : يعني يبدّل الله سيّئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسنات يوم القيامة ، يدلّ على صحّة هذا التأويل ما

أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن برزة قال : حدّثنا أبو حفص المستملي قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز أبي رزمة قال : حدّثنا الفضل بن موسى القطيعي عن أبي العنبس عن ابنه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليتمنّينّ أقوام أنّهم أكثروا من السيئات». قيل : من هم؟ قال : الذين بدّل (اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ)» (٢) [٨٩].

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا وكيع قال : حدّثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : أعرضوا عليه صغار ذنوبه قال : فيعرض عليه ويخفى عنه كبارها فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وهو مقرّ لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال : أعطوه مكان كلّ سيئة عملها حسنة.

قال : فيقول إنّ لي ذنوبا ما أراها ، فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضحك حتّى بدت نواجذه» (٣) [٩٠].

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عبيد الله عن عبد الله بن أبي سمرة البغوي ببغداد قال : حدّثنا محمد بن أحمد الطالقاني قال : حدّثنا محمد بن هارون أبو نشيط قال : حدّثنا أبو المغيرة

__________________

(١) سورة النساء : ٩٣.

(٢) تفسير القرطبي : ١٣ / ٧٨.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ١٥٧.

١٥٠

قال : حدّثنا صفوان قال : حدّثني عبد الرحمن بن جبير عن أبي الطويل شطب الممدود أنّه أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت رجلا عمل الذنوب كلّها ولم يترك منها شيئا ، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلّا اقتطعها بيمينه ، فهل لذلك من توبة؟

قال : «هل أسلمت؟

قال : أنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّك رسوله ، قال : نعم تفعل الخيرات وتترك الشهوات يجعلهنّ الله خيرات كلهن.

قال : وغدراتي وفجراتي قال : نعم قال : الله أكبر ، فما زال يكبّر حتى توارى» (١) [٩١].

وأخبرني ابن فنجويه في عصبة قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن قال : حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي حاتم قال : حدّثنا أبو نشيط قال : حدّثنا أبو المغيرة قال : سمعت مبشر بن عبيد وكان عارفا بالنحو والعربية يقول : الحاجة الذي يقطع على الحجّاج إذا توجهوا ، والداجة الذي يقطع عليهم إذا قفلوا (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) رجوعا حسنا.

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال الضحاك : يعني الشرك وتعظيم الأنداد ، علي بن أبي طلحة : يعني شهادة الزور ، وكان عمر بن الخّطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخم وجهه ، ويطوف به في السوق ، يحيى بن اليمان عن مجاهد : أعياد المشركين ليث عنه : الغناء وهو قول محمد بن الحنفية بإسناد الصالحي عن إبراهيم بن محمد بن المنكدر قال : بلغني انّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أدخلوهم رياض المسك ، أسمعوا عبادي تحميدي وثنائي وتمجيدي ، وأخبروهم أن (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال : حدّثنا عبد الواحد بن محمد الارعياني قال : حدّثنا الأحمسي قال : حدّثنا عمرو العبقري قال : حدّثنا مسلمة بن جعفر عن عمرو بن قيس في قوله سبحانه (الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال : مجالس الخنا ، ابن جريج : الكذب ، قتادة : مجالس الباطل ، وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيّل إلى من سمعه أو يراه أنّه بخلاف ما هو به ، فهو تمويه الباطل لما توهّم أنّه حقّ.

(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفّار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد ، نظيره (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (٢)

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٧٨.

(٢) سورة القصص : ٥٥.

١٥١

الآية ، وقال السدّي : وهي منسوخة بآية القتال ، العوّام بن حوشب عن مجاهد : إذا أتوا على ذكر النكاح كنّوا عنه ، ابن زيد : إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له معرضين عنه ، وقال الحسن والكلبي : اللغو : المعاصي كلّها ، يعني إذا مرّوا بمجالس اللهو والباطل (مَرُّوا كِراماً) مسرعين معرضين ، يدل عليه ما روى إبراهيم بن ميسرة أنّ ابن مسعود مرّ بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أصبح ابن مسعود لكريما» (١) [٩٢].

وقال أهل اللغة : أصله من قول العرب ناقة كريمة ، وبقرة كريمة ، وشاة كريمة إذا كانت تعرض عن الحليب تكرّما كأنّها لا تبالي بما يحلب منها.

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا) لم يقعوا ولم يسقطوا (عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) كأنّهم صمّ عمي ، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه.

قال الفرّاء : ومعنى قوله (لَمْ يَخِرُّوا) أي لم يقيموا ولم يصيروا ، تقول العرب : شتمت فلانا فقام يبكي يعني فظلّ وأقبل يبكي ولا قيام هنالك ولعلّه بكى قاعدا ، وقعد فلان يشتمني أي أقبل وجعل وصار يشتمني ، وذلك جائز على ألسن العرب.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ) ذُرِّيَّتِنا بغير ألف أبو عمرو وأهل الكوفة ، الباقون : (ذُرِّيَّاتِنا) بالألف (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) بأن يراهم مؤمنين صالحين مطيعين لك ، ووحّد (قُرَّةَ) لأنها مصدر ، وأصلها من البرد لأنّ العرب تتأذّى بالحر وتستروح إلى البرد.

(وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي أئمة يقتدى بها. قال ابن عباس : اجعلنا أئمة هداية كما قال (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (٢) ولا تجعلنا أئمة ضلالة كقوله (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (٣).

قتادة : هداة دعاة خير.

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون ابن خالد قال : حدّثني أبو جعفر أحمد بن عبد الله العازي الطبري المعروف بابن فيروز قال : حدّثنا الحكم بن موسى قال : حدّثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرّحمن بن زيد بن جابر عن مكحول في قول الله عزوجل (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) قال : أئمة في التّقوى يقتدي بها المتّقون ، وقال بعضهم : هذا من المقلوب واجعل المتّقين لنا إماما واجعلنا مؤتمّين مقتدين بهم ، وهو قول مجاهد ، ولم يقل أئمة لأنّ الإمام مصدر ، يقال : أمّ فلان فلانا مثل الصيام والقيام ، ومن جعله أئمة فلأنّه قد كثر حتى صار بمعنى الصفة.

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١٩ / ٦٤.

(٢) سورة الأنبياء : ٧٣.

(٣) سورة القصص : ٤١.

١٥٢

وقال بعضهم : أراد أئمة كما يقول القائل : أميرنا هؤلاء يعني أمراؤنا ، وقال الله سبحانه عزوجل (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) (١) ، وقال الشاعر :

يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي

إنّ العواذل لسن لي بأمين (٢)

أي أمناء.

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة (بِما صَبَرُوا) على أمر ربهم وطاعة نبيّهم ، وقال الباقر : على الفقر.

(وَيُلَقَّوْنَ) قرأ أهل الكوفة بفتح الياء وتخفيف القاف ، واختاره (٣) أبو عبيد لقوله (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (٤).

(خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) أي ما يصنع وما يفعل ، عن مجاهد وابن زيد.

وقال أبو عبيد : يقال : ما عبأت به شيئا أي لم أعدّه ، فوجوده وعدمه سواء ، مجازه : أي مقدار لكم ، وأصل هذه الكلمة تهيئة الشيء يقال : عبّأت الجيش وعبأت الطيب أعبّئه عبؤا وعبوا إذا هيّأته وعملته ، قال الشاعر :

كأن بنحره وبمنكبيه

عبيرا بات يعبؤه عروس(٥)

(لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) إيّاه ، وقيل : لو لا عبادتكم ، وقيل : لو لا إيمانكم. واختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم : معناها قل ما يعبأ بخلقكم ربّي لو لا عبادتكم وطاعتكم إيّاه ، يعني أنّه خلقكم لعبادته نظيرها قوله سبحانه (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٦) وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد ، قال ابن عباس في رواية الوالبي : أخبر الله سبحانه الكفّار أنّه لا حاجة لربهم بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كان له بهم حاجة لحبّب إليهم الإيمان كما حبّب إلى المؤمنين.

وقال آخرون : قل ما يعبأ بعذابكم ربّي (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) إيّاه في الشدائد ، بيانه (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٧) ونحوها من الآيات.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٧٧.

(٢) لسان العرب : ٤ / ٥٢٥.

(٣) في النسخة الثانية زيادة : الفرّاء ، قال : لأن المغرب يقول : فلان يلقى بالسلم وبالخبر بالباء وقلّما يقول : يلقى السلم ، وقرأ الآخرون (يُلَقَّوْنَ) بالتشديد واختاره.

(٤) سورة الإنسان : ١١.

(٥) لسان العرب : ١ / ١١٨.

(٦) سورة الذاريات : ٥٦.

(٧) سورة العنكبوت : ٦٥.

١٥٣

وقال بعضهم : قل ما يعبأ بمغفرتكم ربّي (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) معه آلهة وشركاء ، بيانه قوله سبحانه وتعالى (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) (١) وهذا المعنى قول الضحّاك.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أبو حاتم قال : حدّثنا أبو طاهر بن السرج قال : حدّثنا موسى بن ربيعة الجمحي قال : سمعت الوليد بن الوليد يقول : بلغني أنّ تفسير هذه الآية (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) يقول : ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلّا أن تسألوني فأغفر لكم ، وتسألوني فأعطيكم.

(فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) يا أهل مكة.

وأخبرنا شعيب بن محمد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا أحمد بن الأزهر قال : حدّثنا روح بن عبادة قال : حدّثنا شعبة بن عبد الحميد بن واصل قال : سمعت مسلم بن عمّار قال : سمعت ابن عباس يقرأ : فقد كذّب الكافرون (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً).

وبه شعبة عن أدهم يعني السدوسي عن أنّه كان خلف بن الزبير يقرأ (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) فلمّا أتى على هذه الآية قرأها : فقد كذّب الكافر (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) ، ومعنى الآية فسوف يكون تكذيبهم لزاما. قال ابن عباس : موتا. ابن زيد : قتالا ، أبو عبيدة : هلاكا.

وأنشد :

فاما ينجوا من حتف أرضي

فقد لقيا حتوفهما لزاما (٢)

وقال بعض أهل المعاني : يعني فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شر ، وقال ابن جرير : يعني عذابا دائما لازما وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم بعضا كقول أبي ذؤيب.

ففاجأه بعادية لزام

كما يتفجّر الحوض اللقيف (٣)

يعني باللزام الكثير الذي يتبع بعضه بعضا وباللفيف الحجار المنهد ، واختلفوا في اللزام هاهنا فقال قوم : هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون ، وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي ابن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل.

روى الأعمش عن مسلم عن مسروق قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم. وقال آخرون : هو عذاب الآخرة.

__________________

(١) سورة النساء : ١٤٧.

(٢) لسان العرب : ١٢ / ٥٤١.

(٣) جامع البيان للطبري : ١٩ / ٧١.

١٥٤

سورة الشعراء

مكيّة ، إلّا قوله (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى آخر السورة

فإنّها مدنية ، وهي خمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا ،

وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة ومائتان وسبع وعشرون آية

أخبرنا أبو الحسين الخبازي قال : حدّثنا أبو الشيخ الاصفهاني قال : حدّثنا أبو العباس الطهراني قال : حدّثنا يحيى بن يعلى بن منصور قال : حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدّثنا أبي عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أعطيت السورة التي يذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل ، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه‌السلام ، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش ، وأعطيت المفصّل نافلة (١).

وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الماوردي الفارسي قال : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم ابن منصور الخيزراني ببغداد قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن حبيب قال : حدّثنا يعقوب بن يوسف قال : حدّثنا يحيى بن يحيى قال : أخبرنا خارجة عن عبد الله عن إسماعيل بن أبي رافع عن الرقاشي وعن الحسن عن أنس أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنّ الله أعطاني السبع مكان التوراة ، وأعطاني الطواسين مكان الزبور ، وفضّلني بالحواميم والمفصّل ما قرأهن نبيّ قبلي (٢).

وأخبرني كامل بن أحمد النحوي وسعيد بن محمد المقري قالا : أخبرنا أحمد بن محمد ابن جعفر الشروطي قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه أبي أمامة عن أبي بن كعب قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ، وبعدد من كذّب بعيسى وصدّق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» [٩٣] (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٨٧.

(٢) تفسير القرطبي : ١٣ / ٨٧. مع زيادة : «وأعطاني المبين مكان الإنجيل».

(٣) تفسير مجمع البيان : ٥ / ٢٣٩.

١٥٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

(طسم) اختلف القرّاء فيها وفي أختيها فكسر الطاء فيهن على الإمالة حمزة والكسائي وخلف وعاصم في بعض الروايات. وقرأ أهل المدينة بين الكسر والفتح وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وقرأ غيرهم بالفتح على التضخيم ، وأظهر النون في السين هاهنا وفي سورة القصص أبو جعفر وحمزة للتبيين والتمكين ، وأخفاها الآخرون لمجاورتها حروف الفم. وأمّا تأويلها فروى الوالبي عن ابن عباس قال : (طسم) قسم وهو من اسماء الله سبحانه ، عكرمة عنه : عجزت العلماء عن علم تفسيرها. مجاهد : اسم السورة. قتادة وأبو روق : اسم من أسماء القرآن أقسم الله عزوجل به ، القرظي أقسم الله سبحانه بطوله وسنائه وملكه.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش (١) قال : حدّثني أحمد بن عبيد الله بن يحيى الدارمي قال : حدّثني محمد بن عبده المصّيصي قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي قال : حدّثنا محمد بن بشر الرقّي قال : حدّثنا أبو عمر حفص بن ميسرة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال : لما نزلت هذه الآية (طسم) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطاء طور سيناء والسين الاسكندرية والميم مكة» (٢) [٩٤].

وقال جعفر الصادق عليه‌السلام : الطاء طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(تِلْكَ آياتُ) أي هذه آيات (الْكِتابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ باخِعٌ) قاتل (نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وذلك حين كذّبه أهل مكة فشق ذلك عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، نظيرها في الكهف.

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) ذليلين قال : لو شاء الله سبحانه لأنزل عليهم آية يذلّون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله عزوجل ، ابن جريج : لو شاء لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بمعصية.

__________________

(١) في النسخة الثانية : حبش المقري.

(٢) زاد المسير : ٦ / ٣٠.

١٥٦

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبّان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى (١) قال : حدّثنا علي بن علي قال : حدّثني أبو حمزة الثمالي في هذه الآية قال : بلغنا ـ والله أعلم ـ أنّها صوت يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان يخرج له العواتق من البيوت.

وبه عن أبي حمزة قال : حدّثني الكلبي عن أبي صالح مولى أم هاني أنّ عبد الله بن عباس حدّثه قال : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أميّة قال : سيكون لنا عليهم الدولة فتذلّ لنا أعناقهم بعد صعوبة ، وهوان بعد عزة. وأمّا قوله سبحانه (خاضِعِينَ) ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ففيه وجوه صحيحة من التأويل : أحدها : فظل أصحاب الأعناق لها خاضعين فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم لأنّ الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، فجعل الفعل أوّلا للأعناق ثم جعل خاضعين للرجال ، كقول الشاعر :

على قبضة مرجوة ظهر كفّه

فلا المرء مستحي ولا هو طاعم (٢)

فأنّث فعل الظهر لأنّ الكفّ تجمع الظهر وتكفى منه كما أنّك مكتف بأن تقول : خضعت للأمر أن تقول : خضعت لك رقبتي ، ويقول العرب : كلّ ذي عين ناظر إليك وناظرة إليك لأنّ قولك : نظرت إليك عيني ونظرت بمعنى واحد ، وهذا شائع في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويعمد الى الآخر فيجعل له الخبر كقول الراجز :

طول الليالي أسرعت في نقضي

طوين طولي وطوين عرضي (٣)

فأخبر عن الليالي وترك الطول ، قال جرير :

أرى مرّ السنين أخذن منّي

كما أخذ السرار من الهلال (٤)

وقال الفرزدق :

نرى أرماحهم متقلّديها

إذا صدئ الحديد على الكماة (٥)

فلم يجعل الخبر للأرماح وردّه الى هم لكناية القوم وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط من وطول والأرماح من الكلام لم يفسد سقوطها معنى الكلام ، فكذلك رد الفعل الى الكناية في قوله أعناقهم ؛ لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام ولأدّى ما بقي من الكلام عنها وكان فظلوا خاضعين لها واعتمد الفرّاء وأبو عبيد على هذا القول.

__________________

(١) في النسخة الثانية : ابراهيم بن إسحاق.

(٢) جامع البيان للطبري : ١٩ / ٧٨.

(٣) تفسير القرطبي : ١٣ / ٩٠.

(٤) تفسير القرطبي : ٧ / ٢٦٤.

(٥) جامع البيان للطبري : ١ ؛ ٩ / ٧٧.

١٥٧

وقال قوم : ذكر الصفة لمجاورتها المذكر وهو قوله هم ، على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه الى مذكر ، وتأنيث المذكر إذا أضافوه الى مؤنّث ، كقول الأعشى :

وتشرق بالقول الذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدم (١)

وقال العجاج :

لما رأى متن السماء أبعدت

. وقيل : لما كان الخضوع وهو المتعارف من بني آدم أخرج الأعناق مخرج بني آدم كقوله (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٢) وقوله سبحانه (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (٣) ومنه قول الشاعر :

تمززتها والديك يدعو صباحه

إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا (٤)

وقيل : إنما قال (خاضِعِينَ) (٥) فعبّر بالأعناق عن جميع الأبدان ، والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كله كقوله (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٦) وقوله (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (٧) ونحوهما.

قال مجاهد : أراد بالأعناق هاهنا الرؤساء والكبراء ، وقيل : أراد بالأعناق الجماعات والطوائف من الناس ، يقال : جاء القوم عنقا أي طوائف وعصبا كقول الشاعر :

انّ العراق وأهله عنق

إليك فهيت هيتا (٨)

وقرأ ابن أبي عبلة : فظلّت أعناقهم لها خاضعة.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) أي وعظ وتذكير (مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) في الوحي والتنزيل (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا) أخبار وعواقب وجزاء (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهذا وعيد لهم (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) لون وصنف من النبات ممّا يأكل الناس والأنعام (كَرِيمٍ) حسن يكرم على الناس ، يقال : نخلة كريمة إذا طاب حملها وناقة كريمة إذا كثر لبنها.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا الحسن بن محمد بن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ١٣٢.

(٢) سورة يوسف : ٤.

(٣) سورة النمل : ١٨.

(٤) لسان العرب : ٦ / ٣٥٥.

(٥) في النسخة الثانية زيادة : لأجل رؤوس الآي ليكون على نسق واحد ، وقيل : أراد : فظلّوا خاضعين.

(٦) سورة الحج : ١٠.

(٧) سورة الإسراء : ١٣.

(٨) لسان العرب : ١٠ / ٢٧٣.

١٥٨

بختويه قال : حدّثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي يوسف (١) قالا : حدّثنا محمد بن يوسف الغزالي قال : حدّثنا سفيان عن رجل عن الشعبي في قوله (أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) قال : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنّة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرت (لَآيَةً) لدلالة على وجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وحكمتي (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لما سبق من علمي فيهم ، قال سيبويه : (كانَ) هاهنا صلة ، مجازه : وما أكثرهم مؤمنين (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) بالنقمة من أعدائه (الرَّحِيمُ) ذو الرحمة بأوليائه.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣))

(وَإِذْ نادى) واذكر يا محمد إذ نادى (رَبُّكَ مُوسى) حين رأى الشجرة والنار (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بالكفر والمعصية ولبني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب.

(قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) وقرأ عبيد بن عمير بالتاء أي قل لهما : ألا تتّقون؟ (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي) من تكذيبهم إيّاي (وَلا يَنْطَلِقُ) ولا ينبعث (لِسانِي) بالكلام والتبليغ للعقدة التي فيه ، قراءة العامة برفع القافين على قوله (أَخافُ) ونصبها يعقوب على معنى وأن يضيق ولا ينطلق (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة ، وهذا كما تقول : إذا نزلت بي نازلة أرسلت إليك ، أي لتعينني (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) يعني القتل الذي قتله منهم واسمه ماثون ، وكان خباز فرعون ، وقيل : على معنى : عندي ولهم عندي ذنب (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) به (قالَ) الله سبحانه (كَلَّا) أي لن يقتلوك (فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)

__________________

(١) في النسخة الثانية : بن أبي سفيان.

١٥٩

سامعون ما يقولون وما تجابون ، وإنّما أراد بذلك تقوية قلبيهما وإخبارهما أنّه يعينهما ويحفظهما (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ولم يقل رسولا لأنه أراد المصدر أي رسالة ومجازه : ذو رسالة رب العالمين ، كقول كثيّر :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول (١)

أي برسالة. وقال العباس بن مرداس :

إلّا من مبلغ عنّا خفافا

رسولا بيت أهلك منتهاها (٢)

يعني رسالة فلذلك انتهاء ، قاله الفرّاء.

وقال أبو عبيد : يجوز أن يكون الرسول في معنى الواحد والاثنين والجمع ، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي ، وهذان رسولي ووكيلي ، وهؤلاء رسولي ووكيلي ، ومنه قوله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) (٣) وقيل : معناه كل واحد منا رسول ربّ العالمين.

(أَنْ) أي بأن (أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى فلسطين ولا تستعبدهم وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفا فانطلق موسى إلى مصر ، وهارون بها وأخبره بذلك فانطلقا جميعا الى فرعون ، فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه ، فدخل البوّاب فقال لفرعون : هاهنا إنسان يزعم أنّه رسول رب العالمين ، فقال فرعون : ايذن له لعلّنا نضحك منه ، فدخلا عليه وأدّيا إليه رسالة الله سبحانه وتعالى فعرف فرعون موسى لأنّه نشأ في بيته فقال له (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) صبيّا (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) وهي ثلاثون سنة (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يعني قتل القبطي.

أخبرنا ابن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا الفرّاء قال : حدّثني موسى الأنصاري عن السري بن إسماعيل عن الشعبي انه قرأ (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي) بكسر الفاء ولم يقرأ بها غيره.

(وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي ، ربيناك فينا وليدا فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منّا وكفرت بنعمتنا ، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس ، وقال : إنّ فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية.

فقال موسى (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين قبل أن يأتيني عن الله شيء ، هذا قول أكثر المفسّرين وكذلك هو في حرف ابن مسعود وأنا من الجاهلين.

__________________

(١) لسان العرب : ١١ / ٢٨٣.

(٢) لسان العرب : ١١ / ٢٨٣.

(٣) سورة الشعراء : ٧٧.

١٦٠