الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) أن تأكلوها إذا ذكّيتموها (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في القرآن وهو قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) (١) الآية ، وقوله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٢) وقيل : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) في حال إحرامكم (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) من الصيد فإنه حرام في حال الإحرام.

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) يعني عبادتها لأن الأوثان كلّها رجس.

(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يعني الكذب والبهتان.

قال أيمن بن حريم : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا فقال : «يا أيها الناس عدلت شهادة الزور الشرك بالله ، ثمّ قرأ هذه الآية» [٥] (٣).

وقال بعضهم : هو قول المشركين في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك.

(حُنَفاءَ) مستقيمين مخلصين (لِلَّهِ) وقيل : حجاجا (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي سقط إلى الأرض (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) والخطف والاختطاف تناول الشيء بسرعة ، وقرأ أهل المدينة فتخطّفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أي تتخطّفه فأدغم ، وتصديق قراءة العامة قوله تعالى (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ).

(أَوْ تَهْوِي) تميل وتذهب (بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) بعيد.

قال أهل المعاني : إنما شبّه حال المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا دفع ضر يوم القيامة.

وقال الحسن : شبّه أعمال الكفّار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل ، فلا يقدرون على شيء منها.

(ذلِكَ) الذي ذكرت من اجتناب الرجس والزور وتعظيم شعائر الله (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) هذا معنى الآية ونظمها : وشعائر الله : الهدي والبدن ، وأصلها من (٤) الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي فسمّيت به ، وتعظيمها استعظامها واستحسانها واستسمانها.

(لَكُمْ فِيها) أي في الهدايا (مَنافِعُ) قيل : أن يسمّيها صاحبها بدنة أو هديا ويشعرها ويقلّدها في رسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها.

__________________

(١) سورة سورة المائدة : ٣.

(٢) سورة سورة الأنعام : ١٢١.

(٣) مسند أحمد : ٤ / ١٧٨.

(٤) في المخطوط : في.

٢١

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو أن يسمّيها هديا ويوجبها ، فإذا فعل ذلك لم يكن له من منافعها شيء ، هذا قول مجاهد وعطاء والضحاك وقتادة ، ورواية مقسم عن ابن عباس ، وقيل : معناه : (لَكُمْ) في هذه الهدايا (مَنافِعُ) بعد إنجابها وتسميتها هديا بأن تركبوها إذا احتجتم إليها وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها ، (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني إلى أن تنحر ، وهذا قول عطاء بن أبي رباح.

وقال بعضهم : أراد بالشعائر المناسك ومشاهد مكة ، ومعنى الآية : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) بالتجارة والأسواق (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو الخروج من مكة ، وهذه رواية أبي ذر عن ابن عباس.

وقال بعضهم : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) بالأجر والثواب في قضاء المناسك وإقامة شعائر الحج (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو انقضاء أيام الحج.

(ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي منحرها عند البيت العتيق يعني أرض الحرم كلّها ، نظيرها قوله سبحانه (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي الحرم كلّه ، وقال الذين قالوا : عنى بالشعائر المناسك ، معنى الآية : ثم محلّ الناس من إحرامهم (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد قضاء المناسك.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) جماعة مؤمنة سلفت قبلكم (جَعَلْنا مَنْسَكاً) اختلف القرّاء فيه فقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما بكسر السين في الحرفين على معنى الاسم مثل المجلس والمطلع أي مذبحا موضع قربان ، وقرأ الآخرون بفتح السين فيهما على المصدر مثل المدخل والمخرج أي إهراق الدماء وذبح القرابين.

(لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) عند ذبحها ونحرها ، وإنّما خصّ بهيمة الأنعام لأنّ من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير ، وإنما قيل بهائم لأنها لا تتكلم.

(فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال ابن عباس وقتادة : المتواضعين ، مجاهد : المطمئنّين إلى الله سبحانه ، الأخفش : الخاشعين ، ابن جرير : الخاضعين ، عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا.

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ) أي الإبل العظام الضخام الأجسام ، وتخفّف وتثقّل واحدتها بدنة مثل تمرة وتمر وخشبة وخشب وبادن مثل فاره وفره ، والبدن هو الضخم من كلّ شيء ومنه قيل لامرئ القيس بن النعمان صاحب الخورنق والسدير : البدن لضخمه ، وقد بدن الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم ، فأما إذا أشفى واسترخى قيل : بدّن تبدينا.

وقال عطاء والسدّي : البدن : الإبل والبقر.

٢٢

(جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي أعلام دينه إذا أشعر (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) النفع في الدنيا ، والأجر في العقبى (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) عند نحرها ، قال ابن عباس : هو أن تقول : الله أكبر لا إله إلّا الله والله أكبر ، اللهمّ منك ولك.

(صَوافَ) أي قياما على ثلاث قوائم قد صفّت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك.

روى يعلى بن عطاء عن يحيى بن سالم قال : رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته فقال : صوافّ كما قال الله سبحانه ، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها.

وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث وتنحر كذلك.

وقرأ ابن مسعود : صوافن وهي المعقلة تعقل يد واحدة ، وكانت على ثلاث وتنحر ، وهو مثل صواف.

وقرأ أبيّ : صوافي وهكذا أيضا مجاهد وزيد بن أسلم بالياء أي صافية خالصة لله سبحانه لا شريك له فيها كما كان المشركون يفعلون.

(فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض.

وقال ابن زيد : فإذا ماتت ، وأصل الوجوب الوقوع ، يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، ووجب الفعل إذا وقع ما يلزم به فعله.

(فَكُلُوا مِنْها) أمر إباحة ورخصة مثل قوله سبحانه (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (١) وقوله سبحانه وتعالى (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ).

(وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) اختلفوا في معناهما ، فروى العوفي عن ابن عباس وليث عن مجاهد أنّ (الْقانِعَ) الذي يقنع بما أعطي ، ويرضى بما عنده ولا يسأل ، (وَالْمُعْتَرَّ) : الذي يمرّ بك ويتعرّض لك ولا يسأل.

عكرمة وابن ميثم وقتادة : القانع : المتعفف الجالس في بيته ، والمعترّ : السائل الذي يعتريك ويسألك ، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس.

حصيف عن مجاهد ، القانع : أهل مكة وجارك وإن كان غنيّا ، والمعترّ الذي يعتريك ويأتيك فيسألك ، وعلى هذه التأويلات يكون القانع من القناعة وهي الرضا والتعفّف وترك السؤال.

سعيد بن جبير والكلبي : القانع : الذي يسألك ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك ويريك نفسه

__________________

(١) سورة المائدة : ٢.

٢٣

ولا يسألك ، وعلى هذا القول يكون القانع من القنوع وهو السؤال. قال الشماخ :

لمال المرء يصلحه فيغني

مفاقره أعفّ من القنوع (١)

وقال لبيد :

واعطاني المولى على حين فقره

إذا قال أبصر خلّتي وقنوعي (٢)

وقال زيد بن أسلم : القانع : المسكين الذي يطوف ويسأل ، والمعترّ : الصديق الزائر الذي يعترّ بالبدن.

ابن أبي نجيح عن مجاهد : القانع : الطامع ، والمعتر : من يعتر بالبدن من غنّي أو فقير.

ابن زيد : القانع : المسكين ، والمعترّ الذي يعترّ القوم للحمهم وليس بمسكين ولا يكون له ذبيحة ، يجيء إلى القوم لأجل لحمهم.

وقرأ الحسن : والمعتري وهو مثل المعتر ، يقال : عراه واعتراه إذا أتاه طالبا معروفه.

(كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطّخوا حيطان الكعبة بدمائها فأنزل الله سبحانه (لَنْ يَنالَ اللهَ) أي لن يصل إلى الله (لُحُومُها وَلا دِماؤُها).

(وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي النيّة وإخلاص وما أريد به وجه الله عزوجل ، وقرأ يعقوب تنال وتناله بالتاء ، غيره : بالياء.

(كَذلِكَ) هكذا (سَخَّرَها) يعني البدن (لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) لإعلام دينه ومناسك حجّه وهو أن يقول : الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ

__________________

(١) كتاب العين : ١ / ١٧٠.

(٢) جامع البيان للطبري : ١٧ / ٢٢٤.

٢٤

فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧))

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) مكي وبصري : يدفع ، غيرهم : (يُدافِعُ) ، ومعناه : إنّ الله يدفع غائلة المشركين.

(عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) في أمانة الله (كَفُورٍ) لنعمته.

(أُذِنَ) قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم (أُذِنَ) بضم الألف ، وقرأ الباقون بفتحه أي أذن الله (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء يعنون المؤمنين الذين يقابلهم المشركون ، وقرأ الباقون بكسر التاء يعني إنّ الذين أذن لهم بالجهاد يقاتلون المشركين (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

قال المفسّرون : كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج ، فيشكونهم إلى رسول الله فيقول لهم : اصبروا فإنّي لم أؤمر بالقتال حتى هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال.

وقال ابن عباس : لما أخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيّهم ، (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، لنهلكنّ ، فأنزل الله سبحانه (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) الآية ، قال أبو بكر : فعرفت أنّه سيكون قتال.

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فكانوا يمنعون من الهجرة ، فأذن الله تعالى لهم في قتال الكفّار الذين يمنعونهم من الهجرة.

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) بدل من الذين الأولى ، ثمّ قال (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) يعني لم يخرجوا من ديارهم إلّا لقولهم ربّنا الله وحده ، فيكون أن في موضع الخفض ردّا على الباء في قوله (بِغَيْرِ حَقٍ) ويجوز أن يكون في موضع نصب على وجه الاستثناء.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بالجهاد وإقامة الحدود وكفّ الظلم (لَهُدِّمَتْ) قرأ (١) الحجازيّون بتخفيف الدال ، والباقون بالتشديد على الكسر أي تخرّبت (صَوامِعُ) قال مجاهد والضحاك : يعني صوامع الرهبان ، قتادة : صوامع الصابئين.

(وَبِيَعٌ) النصارى ، ابن أبي نجيح عن مجاهد : البيع : كنائس اليهود ، وبه قال ابن زيد.

__________________

(١) في النسخة الثانية (أصفهان) : ابن كثير و.

٢٥

(وَصَلَواتٌ) قال ابن عباس وقتادة والضحاك : يعني كنائس اليهود ويسمّونها صلوتا. أبو العالية : هي مساجد الصابئين.

ابن أبي نجيح عن مجاهد : هي مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطريق ، وعلى هذه الأقاويل تكون الصلوات (١) صلوات أهل الإسلام تنقطع إذا دخل عليهم العدوّ ، انقطعت العبادة وهدمت المساجد كما صنع بخت نصّر.

(وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) يعني مساجد المسلمين ، وقيل : تأويلها : (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ) في أيام شريعة عيسى ، (وَصَلَواتٌ) في أيام شريعة موسى ، (وَمَساجِدُ) في أيام شريعة محمد صلّى الله عليهم أجمعين.

وقال الحسن : يدفع عن هدم مصليات أهل الذّمة بالمؤمنين ، فإن قيل : لم قدّم مصليات الكافرين على مساجد المسلمين؟ قلنا : لأنها أقدم ، وقيل : لقربها من الهدم ، وقرب المساجد من الذكر كما أخّر السابق في قوله (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) لقربه من الخيرات (٢).

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي ينصر دينه ونبيّه.

(إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) قال قتادة : هم أصحاب محمد ، عكرمة : أهل الصلوات الخمس ، الحسن وأبو العالية : هذه الأمة.

(وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا محمد (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أمهلتهم (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) عاقبتهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) إنكاري بالعذاب والهلاك ، يعزّي نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخوّف مخالفيه.

(فَكَأَيِّنْ) وكم (مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) يعني وأهلها ظالمون ، فنسب الظلم إليها لقرب الجوار.

(فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ساقطة على سقوفها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) متروكة مخلّاة عن أهلها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قال قتادة والضحّاك ومقاتل : رفيع طويل ، ومنه قول عدي (٣) :

__________________

(١) في النسخة الثانية زيادة : بمعنى مواضع الصلوات ، وقال بعضهم : أراد بها الصلوات بعينها ، مجاز الآية : وتركت صلوات ، قال ابن زيد : الصلوات.

(٢) في النسخة الثانية : الحسنات.

(٣) في النسخة الثانية : علي بن زيد.

٢٦

شاده مرمرا وجلّله كلسا

فللطّير في ذراه وكور (١)

أي رفعه.

وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة : مجصّص ، من الشيد وهو الجصّ ، قال الراجز :

كحبّة الماء بين الطىّ والشيد

وقال امرؤ القيس :

وتيماء لم يترك بها جذع نخلة

ولا أجما إلّا مشيدا بجندل (٢)

أي مبنيّا بالشيد والجندل.

وروى أبو روق عن الضحاك أنّ هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاصورا وذلك أنّ أربعة آلاف نفر ممّن آمن بصالح ونجوا من العذاب أتوا حضرموت ومعهم صالح ، فلمّا حضروه مات صالح ، فسمّي حضرموت لأن صالحا لمّا حضره مات ، فبنوا حاصورا وقعدوا على هذه البئر وأمّروا عليهم رجلا يقال له بلهنس بن جلاس بن سويد ، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سواده ، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى نموا وكثروا ، ثم أنّهم عبدوا الأصنام فكفروا فأرسل الله إليهم نبيّا يقال له حنظلة بن صفوان كان حمالا فيهم فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله وعطّلت بئرهم وخرّبت قصورهم.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني كفّار مكة فينظروا إلى مصارع المكذّبين من الأمم الخالية.

(فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) يعلمون بها (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) فيتفكروا ويعتبروا.

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) تأكيد ، كقوله سبحانه (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) وقوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ).

قال ابن عباس ومقاتل : لمّا نزل (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) (٣) جاء ابن أم مكتوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باكيا فقال : يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) نزلت في النضر بن الحرث.

__________________

(١) لسان العرب : ٣ / ٢٤٤.

(٢) لسان العرب : ١٢ / ٨.

(٣) سورة الإسراء : ٧٢.

٢٧

(وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) فأنجز ذلك يوم بدر.

(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) بالياء مكي كوفي غير عاصم ، غيرهم : بالتاء.

وقال ابن عباس : هي من الأيام التي خلق الله سبحانه فيها السموات والأرض.

مجاهد وعكرمة : من أيام الآخرة.

ابن زيد : في قوله (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال : هذه أيام الآخرة.

وفي قوله (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (١) قال : هو يوم القيامة.

وقال أهل المعاني : معنى الآية : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدّة (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فكيف تستعجلوه؟ وهذا كما يقال : أيام الهموم طوال وأيام السرور قصار.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠))

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي

__________________

(١) سورة المعارج : ٤.

٢٨

عملوا في إبطال آياتنا (مُعاجِزِينَ) أي مغالبين مشاقّين قال ابن عباس ، الأخفش : متأنّفين ، قتادة : ظنّوا أنّهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم ولن يعجزوه.

وقرأ ابن كثير وأبو عمر : معجّزين بالتشديد أي مثبّطين الناس عن الإيمان ، ومثله في سورة سبأ.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى).

قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسّرين : لمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تولّي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عمّا جاءهم به من الله سبحانه تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه ، وذلك لحرصه على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، فأحبّ يومئذ ألّا يأتيه من الله تعالى شيء فينفروا عنه ، وتمنى ذلك فأنزل الله سبحانه سورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢) ألقى الشيطان على لسانه لمّا كان يحدث به نفسه ويتمناه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى.

فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءته فقرأ السورة كلّها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلّا سجد إلّا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنّهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود ، وتفرّقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإذا جعل لها محمد نصيبا فنحن معه ، فلمّا أمسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد ماذا صنعت؟! لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، وقلت ما لم يقل لك ، فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كبيرا فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغهم سجود قريش ، وقيل : قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبّ إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان ، فلمّا نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله ، فغيّر ذلك وجاء بغيره ، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى

__________________

(١) سورة النجم : ١.

(٢) سورة النجم : ١٩ ـ ٢٠.

٢٩

الشيطان على لسان رسول الله عليه‌السلام قد وقعا في فم كلّ مشرك فازدادوا شرّا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم (١).

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) وهو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عيانا وشفاها (وَلا نَبِيٍ) وهو الذي تكون نبوّته إلهاما أو مناما (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي أحبّ شيئا واشتهاه وحدّث به نفسه ما لم يؤمر به.

(أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي مراده ووجد إليه سبيلا ، وقال أكثر المفسرين : يعني بقوله : (تَمَنَّى) أي تلا وقرأ كتاب الله سبحانه (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي قراءته ، وتلاوته ، نظيره قوله سبحانه (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) (٢) يعني قراءة يقرأ عليهم.

وقال الشاعر في عثمان رضي‌الله‌عنه حين قتل :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر (٣)

وسمعت أبا القاسم الحبيب يقول : سمعت أبا الحسن علي بن مهدي (٤) الطبري يقول : ليس هذا التمنّي من القرآن والوحي في شيء وإنّما هو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنّى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان.

وقال الحسن : أراد بالغرانيق العلى الملائكة يعني أنّ الشفاعة ترتجى منهم لا من الأصنام ، وهذا قول ليس بالقوي ولا بالمرضىّ لقوله (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يبطله ويذهبه (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) فيثبتها (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فإن قيل : فما وجه جواز الغلط في التلاوة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنّه على سبيل السهو والنسيان وسبق اللسان فلا يلبث أن ينبّهه الله سبحانه ويعصمه.

والثاني : أنّ ذلك إنّما قاله الشيطان على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أثناء قراءته وأوهم أنّه من القرآن وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يتلوه ، قال الله سبحانه (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فيشكّون في ذلك.

(وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) فلا تلين لأمر الله (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) الكافرين (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)

__________________

(١) أنكر ابن العربي في تفسيره ـ أحكام القرآن ـ قصّة الغرانيق لما فيها من تدخّل الشيطان في تعاليم الإسلام وتسليطه على نبيّ الرحمة الذي لا (يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى).

(٢) سورة البقرة : ٧٨.

(٣) كتاب العين : ٨ / ٣٩٠.

(٤) في النسخة الثانية : بن السدّي.

٣٠

من المؤمنين (أَنَّهُ) يعني أنّ الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي ممّا ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ابن جريج : من القرآن ، غيره : من الدين وهو الصراط المستقيم.

(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) قال عكرمة والضحّاك : عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة.

وقال الآخرون : هو يوم بدر وهو الصواب لأنّ الساعة هي القيامة ، ولا وجه لأن يقال : حتى تأتيهم القيامة وإنّما سمّي يوم بدر عقيما لأنّهم لم ينظروا فيه إلى الليل ، بل قتلوا قبل المساء قاله ابن جريج ، غيره : لأنّه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة ، وقيل : لأنّه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) يعني يوم القيامة (لِلَّهِ) وحده من غير منازع ، ولا مدّع ، والملك هو اتّساع المقدور لمن له تدبير الأمور ، والله سبحانه وتعالى هو الذي يملك الأمور كلّها ، وكلّ ملك سواه فهو مملّك بحكمه وإذنه.

(يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ثم بيّن حكمه فقال عزّ من قائل (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله سبحانه وطلب رضاه (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) وهم كذلك (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) في الجنة (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وقيل : هو قوله سبحانه (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١).

روى ابن وهب عن عبد الرّحمن بن الحجاج بن سلامان بن عامر قال : كان فضالة بن دوس أميرا على الأرباع ، فخرج بجنازتي رجلين : أحدهما قتيل والآخر متوفّى ، فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته فقال : أراكم أيّها الناس تميلون مع القتيل وتفضّلونه على أخيه المتوفّى! فو الذي نفسي بيده ما أبالي من أىّ حفرتها بعثت ، اقرءوا قول الله سبحانه (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم ، فكره المسلمون قتال المشركين وسألوهم أن يكفّوا عن القتال من أجل الأشهر

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٦٩.

٣١

الحرم فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليه ، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات ، والعقاب الأول بمعنى الجزاء.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

(ذلِكَ) يعني هذا الذي أنصر المظلوم بأنّي القادر على ما أشاء ، فمن قدرته أنّه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) بالياء بصري كوفي غير أبي بكر ، الباقون : بالتاء (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) فلا شيء أعلى منه ولأنّه تعالى عن الأشباه والأشكال (الْكَبِيرُ) العظيم الذي كلّ شيء دونه فلا شيء أعظم منه.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) بالنبات ، رفع (فَتُصْبِحُ) لأن ظاهر الآية استفهام ومعناه الخبر ، مجازها : اعلم يا محمّد أن الله ينزل (مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) ، وإن شئت قلت : قد رأيت أنّ الله أنزل من السماء ماء ، كقول الشاعر :

ألم تسأل الربع القديم فينطق

وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق (١)

معناه : قد سألته فنطق.

(إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١٧ / ٢٥٨.

٣٢

الْأَرْضِ) يعني لكيلا تسقط على الأرض (إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) ولم تكونوا شيئا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم وفناء أعماركم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) للثواب والعقاب (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) لجحود لما ظهر من الآيات والدلالات.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) مألفا يألفونه وموضعا يعتادونه لعبادة الله ، وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خير أو شرّ يقال : إن لفلان منسكا أي مكانا يغشاه ويألفه للعبادة ، ومنه مناسك الحج لتردّد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة. وقال ابن عباس : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي عيدا. وقال مجاهد وقتادة : موضع قربان يذبحون فيه ، غيرهم : أراد جميع العبادات.

(فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي في أمر الذبح ، نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن الخنيس قالوا لأصحاب رسول الله عليه‌السلام : ما لكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما قتله الله؟».

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) دين ربّك (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فتعرفون حينئذ المحقّ من المبطل والاختلاف ذهاب كلّ واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر ، وهذا أدب حسن علّم الله سبحانه فيمن جادل على سبيل التعنّت والمراء كفعل السفهاء أن لا يجادل ولا يناظر ، ويدفع بهذا القول الذي علّمه الله سبحانه لنبيّه عليه‌السلام ، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ) كلّه (فِي كِتابٍ) يعني اللوح المحفوظ (إِنَّ ذلِكَ) يعني علمه تعالى بجميع ذلك (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ) الكافرين (مِنْ نَصِيرٍ) يمنعهم من عذاب الله.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) بيّن ذلك في وجوههم بالكراهة والعبوس.

(يَكادُونَ يَسْطُونَ) يقعون ويبطشون (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) وأصل السطو : القهر.

(قُلْ) يا محمد لهم (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي بشرّ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون (النَّارُ) أي هي النار (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ

٣٣

اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) معنى ضرب : جعل ، كقولهم : ضرب السلطان البعث على الناس ، وضرب الجزية على أهل الذمّة أي جعل ذلك عليهم ، ومنه قوله (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) (١) والمثل حالة ثابتة تشبه بالأولى في الذكر الذي صار كالعلم ، وأصله الشبه ، ومعنى الآية : جعل لي المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي.

(فَاسْتَمِعُوا لَهُ) حالها وصفتها التي بيّنت وشبّهتها بها ، ثم بيّن ذلك فقال عزّ من قائل (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) قراءة العامة بالتاء ، وروى زيد عن يعقوب يدعون بالياء (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) في صغره وقلّته لأنّها لا تقدر على ذلك (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) لخلقه ، والذباب واحد وجمعها القليل أذبنة والكثير ذبّان ، مثل غراب وأغربة وغربان (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ) يعني الأصنام ، أخبر عنها بفعل ما يعقل ، وقد مضت هذه المسألة ، يقول : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) مما عليهم (لا) يقدرون أن (يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).

قال ابن عباس : الطالب الذباب والمطلوب الصنم ، وذلك أن الكفّار كانوا يلطّخون أصنامهم بالعسل في كلّ سنة ثم يغلقون عليها أبواب البيوت فيدخل الذبّان في الكوى فيأكل ذلك العسل وينقيها منه فإذا رأوا ذلك قالوا : أكلت آلهتنا العسل.

الضحّاك : يعني العابد والمعبود.

ابن زيد وابن كيسان : كانوا يحلّون الأصنام باليواقيت واللآلي وأنواع الجواهر ويطيّبونها بألوان الطيب ، فربما يسقط واحد منها أو يأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها ، فالطالب على هذا التأويل الصنم والمطلوب الذباب والطائر.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظّموا الله حقّ تعظيمه ، ولا عرفوه حقّ معرفته ولا وصفوه حقّ صفته إذ أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف به.

(إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اللهُ يَصْطَفِي) يختار (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كجبرئيل وميكائيل وغيرهما (وَمِنَ النَّاسِ) أيضا رسلا مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء

__________________

(١) سورة البقرة : ٦١.

٣٤

صلوات الله عليهم ، يقال : نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) (١) فأخبر أن الاختيار إليه ، يختار من يشاء من خلقه.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لقولهم (بَصِيرٌ) بمن يختاره لرسالته.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يعني ما كان بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم.

(وَما خَلْفَهُمْ) ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم.

وقال الحسن : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما عملوه ، (وَما خَلْفَهُمْ) ما هم عاملون ممّا لم يعملوه بعد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢).

أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : وفيما قرأت على عبد الله بن نافع ، وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك عن نافع أنّ رجلا من أهل مصر أخبر عبد الله بن عمر أنّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ثمّ قال : انّ هذه السورة فضّلت بسجدتين.

وبإسناده عن مالك عن عبد الله بن دينار أنّه قال : رأيت عبد الله بن عمر سجد في الحج سجدتين.

وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال : أخبرنا أبو العباس الدعولي قال : حدّثنا ابن أبي خيثمة قال : حدّثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن صفوان بن مهران أن أبا موسى قرأ على منبر البصرة سورة الحج ، فنزل فسجد فيها سجدتين.

وحدّثنا أبو محمد المخلّدي قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال : حدّثنا محمد ابن مسلم بن دارة قال : حدّثنا محمد بن موسى بن أعين قال : قرأت على أبي عن عمرو بن الحرث عن ابن لهيعة ان شريح بن عاها حدّثه عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال : نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما.

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) يعني وجاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده ، وهو استفراغ الطاقة فيه ، قاله ابن عباس ، وعنه أيضا : لا تخافوا في الله لومة لائم وذلك حق الجهاد.

وقال الضحاك ومقاتل : يعني اعملوا لله بالحقّ حقّ عمله ، واعبدوه حقّ عبادته.

عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى وذلك حقّ الجهاد ، وهو الجهاد الأكبر

__________________

(١) سورة القمر : ٢٥.

(٢) السنن الكبرى : ٢ / ٣١٧.

٣٥

على ما روي في الخبر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين رجع من بعض غزواته : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» [٦] (١).

(هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ضيق فلا يبتلي المؤمن بشيء من الذنوب إلّا جعل له منه مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها بالقصاص وبعضها برد المظالم وبعضها بأنواع الكفّارات ، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العقاب فيه ، ولا ذنب يذنبه المؤمن إلّا وله منه في دين الإسلام مخرج ، وهذا معنى رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حين سأله عبد الملك بن مروان عن هذه الآية فقال : جعل الله الكفارات مخرجا من ذلك ، سمعت ابن عباس يقول ذلك.

وقال بعضهم : معناه وما جعل عليكم في الدين من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر والأضحى ووقت الحج إذا التبست عليكم وشكّ الناس فيها ، ولكنّه وسّع ذلك عليكم حتى تتيقّنوا محلها (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) أي كملّة أَبِيكُمْ (إِبْراهِيمَ) نصب بنزع حرف الصفة ، عن الفرّاء ، غيره : نصب على الإغراء أي الزموا واتّبعوا ملّة أبيكم إبراهيم ، وإنّما أمركم باتباع ملّة إبراهيم لأنّها داخلة في ملّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأمّا وجه قوله سبحانه «مِلَّةَ أَبِيكُمْ» وليس جميعهم يرجع إلى ولادة إبراهيم فإنّ معناه : إنّ حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد ، كما قال سبحانه (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٢) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما أنا لكم مثل الوالد» [٧] (٣) ، وهذا معنى قول الحسن البصري رحمه‌الله.

(هُوَ) يعني الله سبحانه وتعالى (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة (وَفِي هذا) الكتاب هذا قول أكثر المفسرين.

وقال ابن زيد : (هُوَ) راجع إلى إبراهيم عليه‌السلام يعني أنّ إبراهيم (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا الوقت في أيام إبراهيم (وَفِي هذا) الوقت ، قال : وهو قول إبراهيم (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٤) والقول الأول أولى بالصواب.

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أن قد بلّغكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أن رسلهم قد بلّغتهم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) وثقوا بالله وتوكّلوا عليه.

وقال الحسن : تمسّكوا بدين الله الذي لطف به لعباده.

(هُوَ مَوْلاكُمْ) وليّكم وناصركم ومتولي أمركم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

__________________

(١) فيض القدير ـ المناوي. : ٣ / ١٤١.

(٢) سورة الأحزاب : ٦.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٢٥٠.

(٤) سورة البقرة : ١٢٨.

٣٦

سورة المؤمنون

مكيّة ، وهي أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان ،

وألف وثمانمائة وأربعون كلمة ، ومائة وثماني عشرة آية

أخبرنا أبو الحسن الخباري قال : حدّثنا ابن حبش قال : حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال : حدّثنا عبد الله بن روح المدائني قال : وحدّثنا طفران قال : حدّثنا ابن أبي داود قال : حدّثنا محمد بن عاصم قال : حدّثنا نسابة بن سوار الفزاري قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة بالرّوح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت» [٨] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد حرف تأكيد ، وقال المحققون : معنى قد تقريب بالماضي من الحال ، فدلّ على أنّ فلاحهم قد حصل وهم عليه في الحال ، وهذا أبلغ في الصفة من تجريد ذكر الفلاح ، والفلاح : النجاح والبقاء.

أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر بقراءته عليّ في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو عمرو المعتزّ بن محمد بن الفضل القاضي قال : حدّثنا أحمد بن الحسين الفريابي قال : حدّثنا عبد الرحيم بن حبيب البغدادي عن إسحاق بن نجيح الملطي عن

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٧ / ١٧٥.

٣٧

ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ثمّ قال لها : تكلّمي ، قالت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ـ ثلاثا ـ ثمّ قالت : أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي» [٩] (١).

وقرأ طلحة بن مصرف : قَدْ أُفْلِحَ الْمُؤْمِنُونَ على المجهول ، أي أبقوا في الثواب.

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) اختلف المفسّرون في معنى الخشوع ، فقال ابن عباس : مخبتون أذلّاء ، الحسن وقتادة : خائفون.

مقاتل : متواضعون على الخشوع في القلب ، وأن تلين للمرء المسلم كنفك ولا تلتفت.

مجاهد : هو غضّ البصر وخفض الجناح وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرّحمن أن يمدّ بصره إلى شيء أو أن يحدّث نفسه بشيء من شأن الدنيا.

عمرو بن دينار : ليس الخشوع الركوع والسجود ولكنّه السكون وحسن الهيئة في الصلاة.

ابن سيرين وغيره : هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك.

قالوا : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء وينظرون يمينا ويسارا حتى نزلت هذه الآية ، فجعلوا بعد ذلك وجوههم حيث يسجدون ، وما رؤي بعد ذلك أحد منهم ينظر ألّا إلى الأرض.

ربيع : هو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا.

أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا أبو موسى قال : حدّثنا السراج قال : حدّثنا محمد بن الصباح قال : أخبرنا إسحاق بن سليمان قال : حدّثنا إبراهيم الخوزي عن عطاء بن أبي رباح قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انّ العبد إذا قام إلى الصلاة فإنّه بين عينيّ الرّحمان عزوجل فإذا التفت قال له الربّ : إلى من تلتفت؟ إلى من هو خير لك منّي؟ ابن آدم أقبل إليّ فأنا خير ممّن تلتفت إليه (٢).

عطاء : هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة ، وأبصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه (٣).

وأخبرنا محمد بن أحمد بن عقيل القطان قال : أخبرنا صاحب بن أحمد بن ترحم بن سفيان قال : حدّثنا أبو عبد الرّحمن بن نبيت المروزي عبدان قال : حدّثنا عبد الله بن المبارك عن

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٥٢ / ١٥١.

(٢) كنز العمّال : ٧ / ٥٠٥.

(٣) كنز العمّال : ٣ / ١٤٤.

٣٨

معمّر أنه سمع الزهري يحدّث عن أبي الأحوص عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الرحمة تواجهه فلا يحرّكن الحصى» [١٠] (١).

ويقال : نظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى ويقول : اللهم زوّجني من الحور العين ، فقال : بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث.

خليد (٢) بن دعلج عن قتادة : هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة.

بعضهم : هو جمع الهمّة لها والإعراض عمّا سواها.

أبو بكر الواسطي : هو الصلاة لله سبحانه على الخلوص من غير عوض.

سمعت ابن الإمام يقول : سمعت ابن مقسم يقول : سمعت أبا الفضل جعفر بن أحمد الصيدلي يقول : سمعت ابن أبي الورد يقول : يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعا : إعظام المقام ، وإخلاص المقال ، واليقين التمام ، وجمع الهمّة.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) قال الحسن : عن المعاصي ، ابن عباس : الحلف الكاذب ، مقاتل : الشتم والأذى ، غيرهم : ما لا يحمل من القول والفعل ، وقيل : اللغو الفعل الذي لا فائدة فيه.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ) الواجبة (فاعِلُونَ) مؤدّون ، وهي فصيحة وقد جاءت في كلام العرب قال أميّة بن أبي الصلت :

المطعمون الطعام في السنة

الأزمة والفاعلون للزكوات

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي من أزواجهم ، على بمعنى من (أَوْ ما) في محل الخفض يعني أو من ما (مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) على إتيان نسائهم وإمائهم.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أي التمس وطلب سوى زوجته وملك يمينه (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) من الحلال إلى الحرام ، فمن زنى فهو عاد.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) التي ائتمنوا عليها (وَعَهْدِهِمْ) وعقودهم التي عاقدوا الناس عليها (راعُونَ) حافظون وافون.

وقرأ ابن كثير : لأمانتهم على الواحد لقوله : «وَعَهْدِهِمْ». الباقون : بالجمع لقوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٣).

__________________

(١) المصنّف : ٢ / ٣٨.

(٢) في النسخة الثانية : خليل.

(٣) سورة النساء : ٥٨.

٣٩

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) يداومون على فعلها ويراعون أوقاتها ، فأمر بالمحافظة عليها كما أمر بالخشوع فيها لذلك كرّر ذكر الصلاة.

(أُولئِكَ) أهل هذه الصفة (هُمُ الْوارِثُونَ) يوم القيامة منازل أهل الجنة من الجنة.

وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما منكم من أحد إلّا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله تعالى (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) (١).

وقال مجاهد : لكل واحد منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأمّا المؤمن فيبنى منزله الذي له في الجنة ، ويهدم منزله الذي هو في النار ، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ، ويبنى منزله الذي في النار.

وقال بعضهم : معنى الوراثة هو أنّه يؤول أمرهم إلى الجنة وينالونها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.

(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) أي البستان ذا الكرم ، قال مجاهد : هي بالرومية ، عكرمة : هي الجنة بلسان الحبش ، السدّي : هي البساتين عليها الحيطان بلسان الروم.

وفي الحديث (٢) : إن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر فقالت أمّه : يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه ، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء ، فقال : «يا أمّ حارثة إنّها جنان وإنّ ابنك قد أصحاب الفردوس الأعلى من الجنة» [١١].

أخبرني أبو الحسن (٣) عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يونس بن إبراهيم بن النضر المقري قال : حدّثنا العباس بن الفضل المقري قال : حدّثنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال :حدّثني عبد الله بن لهيعة الحضرمي قال : حدّثنا عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله سبحانه (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) يعني قد سعد المصدّقون بتوحيد الله سبحانه ، ثم نعتهم ووصف أعمالهم فقال عزّ من قائل (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) يعني متواضعين لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره ، ولا يلتفت من الخشوع لله (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) يعني الباطل والكذب (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) يعني الأموال كقوله سبحانه في الأعلى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (٤) يعني من ماله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) يعني عن الفواحش ، ثم قال (إِلَّا

__________________

(١) كنز العمّال : ٢ / ٨.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ٢١٥. بتفاوت.

(٣) في النسخة الثانية : أبو العباس.

(٤) سورة الأعلى : ١٤.

٤٠