الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي [جهلة] واحدها عمي ، وقرأ سليمان بن يسار وعطاء بن يسار تدارك غير مهموزة ، وقرأ ابن محيصن بل أءدّرك على الاستفهام ، أي لم تدرك ، وحمل القول فيه أنّ الله سبحانه أخبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّهم إذا بعثوا يوم القيامة استوى علمهم بالآخرة وما وعدوا فيه من الثواب والعقاب ، وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا وإن كانوا في شكّ من أمرها بل جاهلون به.

وسمعت بعض العلماء يقول في هذه الآية : إنّ حكمها ومعناها لو ادّارك علمهم في ما هم في شكّ منها حيث هم منها عمون على تعاقب الحروف.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني مشركي مكة (إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) من قبورنا أحياء (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) البعث (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) وليس ذاك بشيء (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ) على تكذيبهم إيّاك عنك (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) نزلت في المستهزئين الذين أقسموا بمكّه وقد مضت قصّتهم.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) أي دنا وقرب لكم ، وقيل : تبعكم.

وقال ابن عباس : حضركم ، والمعنى : ردفكم ، فأدخل اللام كما أدخل في قوله : (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) و (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) وقد مضت هذه المسألة.

قال الفرّاء : اللام صلة زائدة كما يقول تقديرها به ويقدر له (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) من

٢٢١

العذاب فحلّ بهم ذلك يوم بدر (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ) تخفي (صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ وَما مِنْ غائِبَةٍ) أي مكتوم سرّ وخفيّ أمر ، وإنما أدخل الهاء على الإشارة الى الجمع.

(فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين المختلفين في الدين يوم القيامة (بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) المنيع فلا يردّ له أمر (الْعَلِيمُ) بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) البيّن (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) الكفار كقوله (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (١) وقوله (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) (٢).

(وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) نظيره (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (٣).

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) قراءة العامة على الاسم ، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة يهدي العمى بالياء ونصب الياء على الفعل هاهنا وفي سورة النمل (إِنْ تُسْمِعُ) وتفهم (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) بأدلّتنا وحجتنا (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) في علم الله سبحانه وتعالى.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢))

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ) وجب العذاب والسخط (عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) قراءة العامة بالتشديد من التكلم وتصديقهم ، وقرأ أبيّ : تنبئهم.

قال السدي : تكلّمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام ، وقرأ أبو رجاء العطاردي : تَكلِمهم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم وهو الحرج أي تسمهم.

قال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس عن هذه الآية يكلّمهم أو (تُكَلِّمُهُمْ) فقال : كل ذلك يفعل تكلم المؤمن ويكلم الكافر. (أَنَّ النَّاسَ) قرأ ابن أبي إسحاق وأهل الكوفة بالنصب وقرأ الباقون بالكسر.

(كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) قبل خروجها.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٢.

(٢) سورة فاطر : ٢٢.

(٣) سورة البقرة : ١٨ / ١٧١.

٢٢٢

ذكر الأخبار الواردة في صفة دابّة الأرض وكيفية خروجها

أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد الأصبهاني قال (١) : أخبرنا محمد بن إسحاق ، قال (٢) حدّثنا عبد الله بن محمّد بن رسمويه قال : حدّثنا الحكم بن بشير بن سليمان ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن عطية ، عن ابن عمر (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) (٣) قال : حين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر (٤).

وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني عن أحمد بن عبد الله بن سليمان قال : أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال : أخبرنا أبو بكر بن خرجة حدّثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي عن ميثم بن ميناء الجهني عن عمرو بن محمّد العبقري عن طلحة بن عمرو عن عبد الله بن عمير الليثي عن أبي شريحة الأنصاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «يكون للدّابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية ـ يعني مكّة ـ ثمّ يمرّ زمانا طويلا ثمّ تخرج خرجة أخرى قريبا من مكّة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية ـ يعني مكّة ـ فبينا الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله سبحانه ـ يعني المسجد الحرام ـ لم ترعهم إلّا وهي في ناحية المسجد تدنو تدنو كذا ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فيرفض الناس عنهم وتثبت لها عصابة عرفوا أنّهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنّها الكواكب الدرّية ثم ولّت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب ، حتى أنّ الرجل ليقوم فيتعوّذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلّي ، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، ويتجاور الناس في ديارهم ويصلحون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يعرف الكافر من المؤمن فيقال : للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر» [١١٧] (٥).

وأخبرني ابن محمّد بن الحسين الثقفي عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي عن محمّد بن عبد الغفّار الزرقاني عن أحمد بن محمّد بن هاني الطائي عن محمّد بن النضر بن محمّد الأودي عن أبيه عن سفيان الثوري عن شهاب بن عبد ربّه الرحمن عن طارق بن عبد الرحمن عن طارق بن عبد الرحمن عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دابّة الأرض طولها سبعون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب تسمّ المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر

__________________

(١) في نسخة أصفهان : عن.

(٢) في نسخة أصفهان : عن.

(٣) سورة النمل : ٨٢.

(٤) تفسير الطبري : ٢٠ / ١٧.

(٥) مستدرك الصحيحين : ٤ / ٤٨٤.

٢٢٣

بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما‌السلام» (١).

وأخبرني الحسين بن محمّد قال : أخبرني أبو بكر مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عن بهز عن حمّاد عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تخرج الدابّة معها عصا موسى وخاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر بالخاتم ، حتى أنّ أهل الخوان ليجتمعون فيقولون : هذا يا مؤمن ويقولون هذا يا كافر» [١١٨] (٢).

وأخبرنا الحسين بن محمّد عن عبد الله بن محمّد بن شنبة عن الحسن بن يحيى عن ابن جريج عن أبي الزبير أنّه وصف الدّابة فقال : رأسها رأس الثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيّل ، وصدرها صدر الأسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هرّة ، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم البعير ، وبين كلّ مفصلين إثنا عشر ذراعا معها عصا موسى وخاتم سليمان ، ولا يبقي مؤمن إلّا نكتته في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء فيفشو تلك النكتة حتى يضيء لها وجهه ، ولا يبقى كافر إلّا وتنكت وجهه بخاتم سليمان فتفشو تلك النكتة فيسود لها وجهه ، حتى أنّ الناس يبتاعون في الأسواق بكم يا مؤمن وبكم يا كافر ، ثمّ تقول لهم الدّابّة : يا فلان أنت من أهل الجنّة ويا فلان أنت من أهل النار ، وذلك قول الله عزوجل : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً ..) الآية (٣).

وأخبرنا الحسين بن محمّد عن ابن شنبة عن ابن عمر ، وعن سفيان بن وكيع عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن أبي البيلماني عن ابن عمر قال : تخرج الدّابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى قال : فتحمل الناس بين يديها وعجزها (٤) ، لا يبقى منافق إلّا خطمته ولا مؤمن إلّا مسحته (٥).

وأخبرني الحسين بن محمّد عن عمر بن الخطاب عن عبد الله بن الفضل عن إبراهيم بن محمد بن عرعرة عن عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عن فرقد بن الحجّاج القرشي قال : سمعت عقبة بن أبي الحسناء اليماني قال : سمعت أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تخرج دابّة الأرض من موضع جياد (٦) فيبلغ صدرها الركن ولما يخرج ذنبها بعد قال : وهي دابّة ذات وبر وقوائم» [١١٩] (٧).

__________________

(١) زاد المسير : ٦ / ٨١ ، والفردوس : ٢ / ٢١٩ ح ٣٠٦٦.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٤٩١.

(٣) تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٨٨ ، تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٣٦.

(٤) في بعض المصادر : بين نحرها وذنبها ، وفي المصدر : بين عجزها وذنبها.

(٥) المصنف لابن أبي شيبة : ٨ / ٦٧١.

(٦) كذا في بعض المصادر ، وفي غيرها من الروايات : أجناد.

(٧) ميزان الاعتدال : ٣ / ٨٥.

٢٢٤

وأخبرني الحسن (١) قال : حدّثنا علي بن محمّد بن لؤلؤ قال : أخبرنا أبو عبيد محمّد بن أحمد بن المؤمل قال : حدّثنا أبو جعفر محمّد بن جعفر الأحول قال : حدّثنا منصور بن عمّار قال : حدّثنا ابن لهيعة ، عن أبي قبيل (٢) ، عن عبد الله بن عمرو أنّه ضرب أرض الطائف برجله وقال : من هاهنا تخرج الدّابة التي تكلّم الناس ، وأخبرني عقيل بن محمّد الجرجاني الفقيه قال : حدّثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي قال : أخبرنا أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا الأشجعي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيّام وما خرج ثلثها.

وبه عن محمّد بن جرير قال : حدّثني عصام بن بندار (٣) بن الجرّاح قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سفيان بن سعيد قال : حدّثنا المنصور بن المعتمر ، عن ربعي بن خراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه الدابّة ، قلت : يا رسول الله من أين تخرج؟ قال : «من أعظم المساجد حرمة على الله ، بينما عيسى يطّوف بالبيت ومعه المسلمون ؛ إذ تضطرب الأرض تحتهم من تحرّك القنديل وينشقّ الصفا ممّا يلي المسعى ، وتخرج الدابة من الصفا أوّل ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش ، لن يدركها طالب ، ولا يفوتها هارب ، تسمّي الناس مؤمنا وكافرا ، أمّا المؤمن فتترك وجهه كأنّه كوكب درّيّ ، وتكتب بين عينيه : مؤمن ، وأمّا الكافر فتترك بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه : كافر» (٤) [١٢٠].

وبه عن محمّد بن جرير قال : حدّثني أبو عبد الرحمن (٥) الرقي قال : حدّثنا ابن أبي مزينة قال : حدّثنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قالا : حدّثنا ابن الهاد ، عن عمرو بن الحكم أنّه سمع عبد الله بن عمر يقول : تخرج الدابة من شعب ، فيمسّ رأسها السحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا ، فتمرّ بالإنسان يصلّي ، فتقول : ما الصلاة من حاجتك ، فتخطمه وقال وهب : وجهها وجه رجل (٦) وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآهها أنّ أهل مكّة كانوا بمحمّد والقرآن (لا يُوقِنُونَ) ، وفي هذا تصديق لقراءة من فتح (أَنَ).

وقال كعب : صورتها صورة الحمار ، وروى ابن جريج روح ، عن هشام ، عن الحسن (٧) أنّ موسى عليه‌السلام سأل ربّه أن يريه الدّابة ، فخرجت ثلاثة أيّام ولياليهنّ تذهب في السماء ، وأشاره بيده لا يرى واحدا من طرفيها ، فرأى منظرا فظيعا ، فقال : ربّ ردّها ، فردّها.

__________________

(١) في النسخة الثانية : الحسين. (٢) في النسخة الثانية : قتيل.

(٣) في النسخة الثانية : رواد.

(٤) جامع البيان للطبري : ٢٠ / ١٩ ، الدرّ المنثور : ٥ / ١١٦.

(٥) في النسخة الثانية : ابن عبد الرحيم البرقي.

(٦) في النسخة الثانية : إنسان.

(٧) في النسخة الثانية : الحسين.

٢٢٥

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

قوله عزوجل : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) جماعة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أوّلهم على آخرهم ليجتمعوا ثمّ يساقون إلى النار ، وقال ابن عباس : (يُوزَعُونَ) : يدفعون (حَتَّى إِذا جاؤُ) يوم القيامة (قالَ) الله سبحانه لهم (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) ولم تعرفوا حقّ معرفتها (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيها من تكذيب أو تصديق ، وقيل : هو توبيخ ، أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ، ولم تتفكّروا فيها؟

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ) ووجب العذاب (عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) أشركوا (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) لأنّ أفواههم مختومة. وقال أكثر المفسّرين : (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) بحجّة وعذر ، نظيره قوله سبحانه : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (١) (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا) خلقنا (اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) مضيئا يبصر فيه (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرت (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون فيعتبرون قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وهي النفخة الأولى.

أخبرنا محمّد عبد الله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا محمّد بن جعفر بن يزيد الصيرفي قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا أسباط قال : حدّثنا سلمان التميمي (٢) ، عن أسلم العجلي ، عن بشر بن شغاف ، عن عبد الله بن عمرو قال : جاء إعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن الصّور ، فقال : «قرن ينفخ فيه» (٣) [١٢١].

وقال مجاهد : الصّور كهيئة البوق ، وقيل : هو بلغة أهل اليمن ، وعلى هذا أكثر

__________________

(١) سورة المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) في النسخة الثانية : التيمي.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ١٦٢.

٢٢٦

المفسّرين ، يدلّ عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ» (١) [١٢٢].

وقال قتادة وأبو عبيدة : هو جمع صورة يقال : صورة وصور ، وصور : مثل سور البناء والمسجد ، وجمعها سور وسئور وأنشد أبو عبيدة :

سرت إليها في أعالي السور

فمعنى الآية : ونفخ في صور الخلق.

وقد ورد في كيفيّة نفخ الصور حديث جامع صحيح وهو ما أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم المهرجاني قراءة عليه أبو بكر محمّد بن عبد الله بن ابراهيم الشافعي ببغداد ، قال : أخبرني أبو قلابة الرقاشي قال : أخبرني أبو عاصم الضحّاك بن مخلد ، عن إسماعيل بن رافع ، عن محمّد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله عزوجل لمّا فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل وهو واضعه على فيه ، شاخص بصره إلى العرض ينتظر متى؟

قال : قلت يا رسول الله : وما الصور؟ قال : القرن ، قال : قلت : كيف هو؟ قال : عظيم ، والذي بعثني بالحقّ إنّ أعظم داره فيه كعرض السماء والأرض ، فينفخ فيه بثلاث نفخات : الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين ، فأمر الله عزوجل إسرافيل عليه‌السلام بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع من في السموات والأرض إلّا من شاء الله ، فيأمره فيمدّها ويطيلها وهو الذي يقول الله عزوجل : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) فيسيّر الله عزوجل الجبال فيمرّ من السحاب فيكون سرابا ، وترجّ الأرض بأهلها رجّا فيكون كالسفينة الموثّقة في البحر ، تضربها الأمواج وتلقيها الرياح ، أو كالقنديل المعلّق بالعرش يرجّحه الأرواح وهي التي يقول الله عزوجل : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) فتمتدّ الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى يأتي الأقطار فتلقّاها الملائكة تضرب وجوهنا ، فيرجع ويولّي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله عزوجل (يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ).

فبينا هم كذلك إذ تصدّعت الأرض من قطر إليّ قطروا أو أمرا عظيما لم يروا مثله ، وأخذهم من الكرب والهول ما الله به عليم ، ثمّ نظروا إلى السماء فهي كالمهل ، ثمّ انشقّت فتناثرت نجومها وانكشفت شمسها وقمرها.

__________________

(١) كنز العمّال : ١٤ / ٦٢٥ ، ح ٣٩٧٤٣.

٢٢٧

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والأموات يومئذ يعلمون بشيء من ذلك» [١٢٣].

قال أبو هريرة : يا رسول الله فمن استثنى الله عزوجل حيث يقول (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أولئك هم الشهداء وإنّما يصل الفزع إلى الأحياء وهم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ووقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب بعثه الله تعالى إلى شرار خلقه ، وهو الذي يقول الله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) إلى قوله (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فيمكثون في ذلك البلاء ما شاء الله إلّا أنّه يطول عليهم ، ثمّ يأمر الله عزوجل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) فإذا اجتمعوا جاء ملك الموت إلى الجبّار ويقول : قد مات أهل السماء والأرض إلّا من شئت ، فيقول الله سبحانه وهو أعلم من بقي فقال : أي ربّ بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت ، وبقي حملة العرش ، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، وبقيت أنا فيقول الله عزوجل فيموت جبرائيل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول : أي ربّ يموت جبرائل وميكائيل ، فيقول : اسكت إنّي كتب الموت على كلّ من تحت عرشي فيموتان.

ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : أي ربّ قد مات جبرائيل وميكائيل فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت وبقيت حملة عرشك فيقول ليمت حملة عرشي فيموتون ، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل فيموت.

ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : يا ربّ قد مات حملة عرشك فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت وبقيت أنا فقال : أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق إلّا الله الواحد الأحد الصمد الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وكان آخرا كما كان أوّلا طوى السموات (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ).

ثمّ قال : أنا الجبّار ، (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ، ولا يجيبه أحد ، ثمّ يقول تبارك وتعالى جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (... يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) (... وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ) فيبسطها بسطا ثمّ يمدّها مدّ الأديم العكاضي لا يرى (فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً).

ثمّ يزجر الله الخلق زجرة واحدة ، فإذا هم في هذه الأرض المبدّلة في مثل ما كانوا فيه من الأوّل ، من كان في بطنها ، كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ، ثمّ ينزل الله سبحانه عليهم ماء من تحت العرش كمني الرجال ، ثمّ يأمر السحاب أن تنزل بمطر أربعين يوما حتى يكون] من فوقهم] إثنا عشر ذراعا ، ويأمر الله سبحانه الأجساد أن تنبت كنبات الطراثيث وكنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت ، قال الله سبحانه : ليحي حملة العرش ، فيحيون. ثمّ يقول الله تعالى : ليحي جبريل وميكائيل. فيحييان ، فيأمر الله إسرافيل ، فيأخذ

٢٢٨

الصور فيضعه على فيه ، ثمّ يدعو الله الأرواح فيؤتى بها ، تتوهّج أرواح المؤمنين نورا والأخرى ظلمة ، فيقبضها جميعا ثمّ يلقيها على الصور ، ثمّ يأمر الله سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة للبعث فتخرج الأرواح كأنّها النحل قد ملأت ما في السماء والأرض ، فيقول الله سبحانه : ليرجعنّ كلّ روح إلى جسده ، فتدخل الأرواح الخياشم ، ثمّ تمشي في الأجساد كما يمشي السمّ في اللديغ.

ثمّ تنشق الأرض عنهم سراعا ، فأنا أوّل من ينشق عنه الأرض ، فتخرجون منها إلى ربّكم تنسلون عراة حفاة عزّلا مهطعين إلى الداعي ، فيقول الكافرون : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ)» [١٢٤].

قوله عزوجل : (فَفَزِعَ) أي فيفزع ، والعرب تفعل ذلك في المواضع التي يصلح فيها أذا ، لأنّ إذا يصلح معها فعل ويفعل كقولك : أزورك إذا زرتني ، وأزورك إذا تزورني. (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أن لا يفزع وقد ذكرنا في الخبر الماضي أنّهم الشهداء (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) قرأ الأعمش وحمزة وخلف وحفص (أَتَوْهُ) مقصورا على الفعل بمعنى جاءوه عطفا على قوله : (فَفَزِعَ) و (أَتَوْهُ) اعتبارا بقراءة ابن مسعود.

أخبرنا محمّد بن نعيم قال : حدّثنا الحسين (١) بن أيّوب قال : حدّثنا علي بن عبد العزيز قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا هشام ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، وأخبرنا محمّد بن عبدوس قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب قال : حدّثنا محمّد بن الجهم قال : حدّثنا الفرّاء قال : حدّثني عدّة ، منهم المفضل الضبي وقيس وأبو بكر كلّهم عن جحش بن زياد الضبي كلاهما عن تميم بن حذلم قال : قرأت على عبد الله بن مسعود (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) بتطويل الألف ، فقال : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) قصره وقرأ الباقون بالمدّ وضمّ التاء على مثال فاعلوه كقوله : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٢) وهي قراءة علي رضي‌الله‌عنه(داخِرِينَ) صاغرين.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ) يا محمّد (تَحْسَبُها جامِدَةً) قائمة واقفة مستقرّة مكانها.

(وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) حين تقع على الأرض فتستوي بها.

قال القتيبي : وذلك أنّ الجبال تجمع وتسير وهي في رؤية العين كالواقفة وهي تسير ، وكذلك كلّ شيء عظيم وكلّ جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمته ويعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو يسير ، وإلى هذا ذهب الشاعر في وصف جيش :

يا رعن مثل الطود تحسب أنّهم

وقوف لحاج والركاب تهملج (٣)

(صُنْعَ اللهِ) نصب على المصدر وقيل : على الإغراء أي اعلموا وأبصروا (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)

__________________

(١) في النسخة الثانية : الحسن.

(٢) سورة مريم : ٩٥.

(٣) لسان العرب : ٣ / ٢٤٩.

٢٢٩

أي أحكم [كلّ شيء ، قتادة] : أحسن. (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) قرأ أهل الكوفة (تَفْعَلُونَ) بالتاء. غيرهم بالياء ، واختار أبو عبيدة بقوله : (أَتَوْهُ) إنّما هو خبر عنهم (مَنْ جاءَ) أي وافى الله (بِالْحَسَنَةِ) بالإيمان. قال أبو معشر : كان إبراهيم يحلف ما يستثني أنّ الحسنة : لا إله إلّا الله ، قتادة : بالإخلاص.

وأخبرني الحسين بن محمد ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد ابن شنبه قال : حدّثنا عبيد (١) الله بن أحمد بن منصور قال : حدّثنا سهل بن بشر قال : حدّثنا عبد الله بن سليمان قال : حدّثنا سعد بن سعيد قال : سمعت علي بن الحسين يقول : رجل غزا في سبيل الله ، فكان إذا خلا المكان قال : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، فبينما هو ذات يوم في أرض الروم في موضع في حلفاء وبرديّ رفع صوته يقول : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، خرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض ، فقال : يا عبد الله ما ذات قلت؟ قال : قلت الذي سمعت ، والذي نفسي بيده إنّها الكلمة التي قال الله عزوجل : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ).

(فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) وأخبرني أبو عبد الله محمّد بن عبد الله العباسي قال : أخبرنا القاضي أبو الحسين محمّد بن عثمان [النصيبي ببغداد] قال : حدّثنا أبو بكر محمّد ابن الحسين السبيعي بحلب قال : حدّثني الحسين بن إبراهيم الجصّاص قال : أخبرنا حسين بن الحكم قال : حدّثنا إسماعيل بن أبان ، عن [فضيل] بن الزبير ، عن أبي داود السبيعي ، عن أبي عبد الله الهذلي قال : دخلت على علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، فقال : يا عبد الله ألا أنبّئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنّة ، والسيّئة التي من جاء بها أكبّه الله في النار ، ولم يقبل معها عمل؟

قلت : بلى ، قال : الحسنة حبّنا والسيّئة بغضنا (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي فله من هذه الحسنة خير يوم القيامة ، وهو الثواب والأمن من العذاب، قال ابن عباس : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي فمنها يصل إليه الخير ، الحسن : معناه له منها خير ، عكرمة وابن جريج : أمّا أن يكون له خير من الإيمان فلا ، وإنّه ليس شيء خير من لا إله إلّا الله ولكن له منها خير ، وعن ابن عباس أيضا (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) يعني الثواب لأنّ الطاعة فعل العبد والثواب فعل الله سبحانه.

وقيل : هو إنّ الله عزوجل يقبل إيمانه وحسناته ، وقبول الله سبحانه خير من عمل العبد ، وقيل : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) يعني رضوان الله سبحانه ، قال الله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٢).

وقال محمّد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) يعني الإضعاف ، أعطاه الله

__________________

(١) في النسخة الثانية : عبد.

(٢) سورة التوبة : ٧٢.

٢٣٠

الحسنة بالواحدة عشرا صاعدا ، فهذا خير منها ، وقد أحسن بن كعب وابن زيد في تأويلهما لأنّ للإضعاف خصائص منها أنّ العبد يسئل عن عمله ولا يسأل عن الإضعاف ، ومنها أنّ للشيطان سبيلا إلى عمله ولا سبيل له إلى الإضعاف ، ولأنّه لا مطمع للخصوم في الإضعاف ، ولأنّ دار الحسنة الدنيا ودار الإضعاف الجنّة ، ولأنّ الجنّة على استحقاق العبد ، والتضعيف كما يليق بكرم الربّ (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) قرأ أهل الكوفة (فَزَعٍ) منونا (يَوْمَئِذٍ) بنصب الميم وهي قراءة ابن مسعود ، وسائر القرّاء قرءوا بالإضافة واختاره أبو عبيد قال : لأنّه أعمّ التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم ، وإذا قال : مِنْ فَزَعِ يَوْمِئِذٍ صار كأنّه فزع دون فزع ، وهو اختيار الفرّاء أيضا ، قال : لأنّه فزع معلوم ، ألا ترى أنّه قال : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (١) فصيّر معرفة؟ فإذا أضفته كان معرفة فهو أعجب إلي (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) يعني الشرك.

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا مكّي بن عبدان قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن أبي المحجل ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) قال : لا إله إلّا الله. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) قال : الشرك.

وأخبرنا عبد بن حامد قال : أخبرنا أبو الحسن محمّد بن شعيب البيهقي قال : حدّثنا بشر ابن موسى قال : حدّثنا روح ، عن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن قال : ثمن الجنّة لا إله إلّا الله.

(فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) قال ابن عباس : ألقيت ، الضحّاك : طرحت ، أبو العالية : قلبت ، وقيل لهم : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّما أُمِرْتُ) يقول الله سبحانه لنبيّه محمّد عليه‌السلام قل : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) يعني مكّة جعلها حرما آمنا ، فلا يسفك فيها دم حرام ، ولا يظلم فيها أحد ، ولا يهاج ، ولا يصطاد صيدها ، ولا يختلي خلالها ، وقرأ ابن عباس «التي حرمها» إشارة إلى البلدة.

(وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ) (٢) نسختها آية القتال (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على نعمه ، (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) يعني يوم بدر ، نظيرها في سورة الأنبياء : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) وقال مجاهد : (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) في أنفسكم وفي السماء والأرض والرزق ، دليله قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) (٣) وقوله : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ) (٤) (فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

__________________

(١) سورة الأنبياء : ١٠٣.

(٢) سورة يس : ١٧.

(٣) سورة فصّلت : ٥٣.

(٤) سورة الذاريات : ٢٠ ـ ٢١.

٢٣١

سورة القصص

مكية ، وهي خمسة آلاف وثمانمائة حرف ،

وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة ، وثمان وثمانون آية

أخبرنا أبو الحسين الخباري ، قال : حدّثنا ابن حنيش (١) قال : حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدفاق ، قال : حدّثنا عبد الله بن روح المدائني ، وأخبرنا الخياري ، قال : حدّثنا طغران ، قال : حدّثنا ابن أبي داود ، قال : حدّثنا محمد بن عاصم ، قالا : حدّثنا شبابه (٢) بن سوار الفزاري ، قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد ، عن علي بن زيد ، عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زيد بن حنيش (٣) ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (طسم) القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به ، ولم يبق ملك في السموات والأرض إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا ، إنّ كلّ (شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)» [١٢٥] (٤).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

(طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا) قال ابن عباس : استكبر ، السدّي قال : تجبر ، وقال قتادة : بغى ،

__________________

(١) في نسخة أصفهان : ابن جيش.

(٢) في نسخة أصفهان : ابن شبابه.

(٣) في نسخة أصفهان : زيد بن جيش.

(٤) تفسير مجمع البيان : ٧ / ٤١٢.

٢٣٢

وقال مقاتل : تعظّم ، (فِي الْأَرْضِ) يعني أرض مصر ، (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) فرقا وأصنافا في الخدمة والسحر ، (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) يعني بني إسرائيل ، (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) يعني بني إسرائيل.

(وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) قال ابن عباس : قادة في الخير يقتدى بهم ، وقال قتادة : ولاة وملوكا ، دليله قوله سبحانه : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) (١) ، مجاهد دعاة إلى الخير ، (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) بعد هلاك فرعون وقومه يرثونهم ديارهم وأموالهم ، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) يعني ويوطّي لهم في أرض مصر والشام وينزلهم إياها ، (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) قرأ حمزة ويحيى بن وثاب والأعشى (٢) والكسائي وخلف تري بالتاء (٣) ، وما بعده رفع على أنّ الفعل (لَهُمْ) ، وقرأ غيرهم (وَنُرِيَ) بنون مضمومة وياء مفتوحة ، وما بعده نصب بوقوع الفعل عليهم ، (مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) وذلك أنّهم أخبروا أنّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل ، فكانوا على وجل منهم ، فأراهم الله سبحانه (ما كانُوا يَحْذَرُونَ).

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤))

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) قال قتادة : قذفنا في قلبها وليس نبوة (٤) ، واسم أم موسى يوخابد بنت لاوي بن يعقوب (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي) عليه ، (وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

__________________

(١) سورة المائدة : ٢٠.

(٢) في نسخة أصفهان : الأعمش.

(٣) في نسخة أصفهان : بالياء.

(٤) في نسخة أصفهان : وحي نبوة.

٢٣٣

أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد قال : (١) حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرجي (٢) قال : حدّثنا الحسين بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرني ابن سمعان ، عن عطاء عن ابن عباس قال إسحاق : وأخبرني جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : إنّ بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، ورق (٣) خيارهم أشرارهم (٤) ، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، فسلّط الله عليهم القبط ، فاستضعفوهم إلى أن نجّاهم الله تعالى على يدي نبيّه موسى عليه‌السلام.

قال وهب : بلغني أنّه ذبح في طلب موسى تسعين ألف وليد ، قال ابن عباس : إنّ أم موسى لمّا تقارب [ولادها] ، وكانت قابلة من القوابل التي وكّلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى ، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها ، فقالت : قد نزل بي ما نزل ، ولينفعني حبّك إياي اليوم ، قال : فعالجت قبالها ، فلمّا أن وقع موسى عليه‌السلام على الأرض هالها نور بين عيني موسى عليه‌السلام ، فارتعش كلّ مفصل منها ودخل حبّ موسى عليه‌السلام قلبها ، ثم قالت لها : يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلّا ومن رأيي قتل مولودك وأخبر فرعون ، ولكن وجدت لابنك هذا حبّا ما وجدت حبّ شيء مثل حبّه ، فاحفظي (٥) ابنك ، فإنّي أراه هو عدونا.

فلمّا خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخلوا على أم موسى ، فقالت أخته : يا أماه هذا الحرس بالباب ، فلفّت موسى في خرقة ، فوضعته في التنور وهو مسجور ، فطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع ، قال : فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ، ولم يظهر لها لبن ، فقالوا : ما أدخل عليك القابلة؟ قالت : هي مصافية لي ، فدخلت عليّ زائرة ، فخرجوا من عندها ، فرجع إليها عقلها ، فقالت لأخت موسى : فأين الصبي؟ قالت : لا أدري ، فسمعت بكاء الصبي من التنور ، فانطلقت إليه ، وقد جعل الله سبحانه النار عليه بردا وسلاما فاحتملته.

قال : ثم إنّ أمّ موسى عليه‌السلام لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها ، فقذف الله سبحانه في نفسها أن تتخذ له تابوتا ، ثم تقذف بالتابوت في اليمّ وهو النيل ، فانطلقت إلى رجل نجار من أهل مصر من قوم فرعون ، فاشترت منه تابوتا صغيرا ، فقال لها النجار : ما تصنعين بهذا التابوت؟

__________________

(١) في نسخة أصفهان : بن محمد بن مخلد بن جعفر.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) في نسخة أصفهان : بشرارهم.

(٥) في نسخة أصفهان : فاحفظ لي.

٢٣٤

قالت : ابن لي أخبّئه في التابوت ، وكرهت (١) الكذب ، قال : ولم؟ قالت : أخشى عليه كيد فرعون ، فلمّا اشترت التابوت وحملته وانطلقت ، انطلق النجار إلى أولئك الذبّاحين ليخبرهم بأمر أمّ موسى ، فلمّا همّ بالكلام أمسك الله سبحانه لسانه فلم ينطق الكلام ، وجعل يشير بيده ، فلمّا يدر الأمناء ما يقول ، فلمّا أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه ، فضربوه وأخرجوه.

فلمّا انتهى النجار إلى موضعه ردّ الله سبحانه عليه لسانه ، فتكلم ، فانطلق أيضا يريد الأمناء ، فأتاهم ليخبرهم وأخذ الله سبحانه لسانه وبصره ، فلم ينطق الكلام ، ولم يبصر شيئا ، فضربوه وأخرجوه ، فوقع في واد تهوى (٢) فيه حيران ، فجعل لله عليه إن ردّ لسانه وبصره أن لا يدلّ عليه ، وأن يكون معه لحفظه حيث ما كان ، فعرف الله عزوجل منه الصدق ، فردّ عليه بصره ولسانه فخرّ لله ساجدا ، فقال : يا رب دلّني على هذا العبد الصالح ، فدلّه الله عليه ، فخرج من الوادي ، فآمن به وصدّقه وعلم أنّ ذلك من الله.

فانطلقت أم موسى ، فألقته في البحر ، وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون ، وكان بها برص شديد مسلخة (٣) برصا ، فكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة ، فنظروا في أمرها ، فقالوا له : أيها الملك لا تبرأ إلّا من قبل البحر يوجد (٤) منه شبه الإنسان ، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به (٥) برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس.

فلمّا كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه آسية بنت مزاحم ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهنّ وتنضح بالماء على وجوههن ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج ، فقال فرعون : إنّ هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ، ائتوني به ، فابتدروه بالسفن من كلّ جانب (٦) حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه ، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه.

قال (٧) : فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها للذي أراد الله سبحانه أن يكرمها ، فعالجته ففتحت الباب ، فإذا هي بصبي صغير في مهده ، وإذا نور بين عينيه ، وقد جعل

__________________

(١) في نسخة أصفهان : فكرهت.

(٢) في نسخة أصفهان : يهوي.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) في نسخة أصفهان : يؤخذ.

(٥) في نسخة أصفهان : بها.

(٦) في نسخة أصفهان : من كل ناحية.

(٧) في نسخة أصفهان : قالت.

٢٣٥

الله تعالى رزقه في إبهامه يمصّه لبنا ، فألقى الله سبحانه لموسى عليه‌السلام المحبة في قلب آسية ، وأحبّه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت بنت فرعون ، فلمّا أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه ، فلطخت به برصها ، فبرأت فقبّلته وضمّته إلى صدرها.

فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك إنّا نظن إنّ ذلك المولود الذي نحذر منه من بني إسرائيل هو هذا ، رمي به في البحر فرقا منك فاقتله ، فهمّ فرعون بقتله (١) ، قالت آسية : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ، لا تقتله (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ، وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون ، فوهبه لها ، وقال فرعون : أما أنا فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول الله عليه‌السلام (٢) : «لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك مثل قالت امرأته لهداه الله سبحانه كما هداها ، ولكن أحب الله عزوجل أن يحرمه للذي سبق في علم الله» [١٢٦] (٣).

فقيل لآسية : سمّيه ، قالت : سميته موشا لأنّا وجدناه في الماء والشجر ، فـ (مو) هو الماء ، و (شا) : هو الشجر.

فذلك قوله سبحانه : (فَالْتَقَطَهُ) أي فأخذه ، والعرب تقول لما وردت عليه فجأة من غير طلب له ولا إرادة : أصبته التقاطا ، ولقيت فلانا التقاطا ، ومنه قول الراجز :

ومنهل وردته التقاطا

لم ألق إذ وردته فراطا (٤) (٥)

ومنه اللقطة وهو ما وجد ضالًّا فأخذ ، (آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ) هذه اللام تسمى لام العاقبة ، ولام الصيرورة ، لأنّهم إنما أخذوه ليكون لهم قرّة عين ، فكان عاقبة ذلك أنّه كان لهم ، (عَدُوًّا وَحَزَناً) ، قال الشاعر :

فللموت تغذو الوالدات سخالها

كما لخراب الدور تبنى المساكن (٦)

(عَدُوًّا وَحَزَناً) قرأ أهل الكوفة بضم الحاء وجزم الزاي ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي ، واختاره أبو عبيد ، قال : للتفخيم ، واختلف فيه غير عاصم ، وهما لغتان مثل العدم والعدم ، والسقم والسقم (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) عاصين آثمين.

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ) أي هو قرّة عين ، (لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) فإنّ الله أتانا به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل ، (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

__________________

(١) في نسخة أصفهان : فلما همّ بقتله.

(٢) في نسخة أصفهان : صلى الله عليه.

(٣) كنز العمال : ٢ / ٣٤ ح ٣٠٢٢.

(٤) في نسخة أصفهان : التقاطا.

(٥) الصحاح : ٣ / ١١٥٧.

(٦) لسان العرب : ١٢ / ٥٦٢.

٢٣٦

بما هو كائن من أمرهم وأمره ، عن مجاهد ، قتادة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) إنّ هلاكهم على يديه ، محمد بن زكريا (١) بن يسار (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) إنّي أفعل ما أريد ولا أفعل ما يريدون (٢).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة وعبيد الله قالا : حدّثنا أبو مجاهد قال : حدّثني أحمد بن حرب قال : حدّثنا سنيد (٣) قال : حدّثني حجاج ، عن أبي معشر (٤) ، عن محمد بن قيس (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يقول : لا يدري بنو إسرائيل إنّا التقطناه (٥) ، الكلبي (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) إلّا وإنّه ولدنا.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي خاليا لاهيا ساهيا (٦) من كلّ شيء إلّا من ذكر موسى وهمه ، قاله أكثر المفسّرين ، وقال الحسن وابن إسحاق وابن زيد : يعني (فارِغاً) من الوحي الذي أوحى الله سبحانه وتعالى إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن ، والعهد الذي عهدنا (٧) إليه أن نردّه (٨) إليها ونجعله (٩) من المرسلين ، فجاءها الشيطان ، فقال : يا أمّ موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فتكون (١٠) لك أجره وثوابه ، وتولّيت أنت قتله ، فألقيته في البحر وغرّقته.

ولمّا أتاها الخبر بأنّ فرعون أصابه في النيل قالت : إنّه وقع في يدي عدوه والذي فررت به منه ، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله سبحانه إليها ، فقال الله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) من الوحي الذي أوحي إليها ، وقال الكسائي : (فارِغاً) أي ناسيا ، أبو عبيدة : (فارِغاً) من الحزن لعلمها بأنّه لم يغرق ، وهو من (١١) قول العرب : دم فرغ (١٢) إذا كان هدرا لا قود فيه ولا دية. وقال الشاعر :

فإن تك أذواد أصبن (١٣) ونسوة

فلن (١٤) تذهبوا فرغا بقتل حبال (١٥)

__________________

(١) في نسخة أصفهان : محمد بن إسحاق.

(٢) في نسخة أصفهان : ما تريدون.

(٣) في نسخة أصفهان : سنيد بن عجاج.

(٤) في نسخة أصفهان : عن أبي معسر.

(٥) في نسخة أصفهان : التقطناهم.

(٦) في نسخة أصفهان : ساليا.

(٧) في النسخة الثانية : عهد إليها.

(٨) في نسخة أصفهان : أن يرده.

(٩) في نسخة أصفهان : ويجعله.

(١٠) في نسخة أصفهان : فيكون.

(١١) في نسخة أصفهان : مثل.

(١٢) في نسخة أصفهان : فرع.

(١٣) في نسخة أصفهان : صير.

(١٤) في نسخة أصفهان : فلن.

(١٥) الصحاح : ٤ / ١٦٦٥ ، لسان العرب : ١١ / ١٤١.

٢٣٧

العلاء بن زيد (فارِغاً) : نافرا ، وقرأ ابن محيصن وفضالة بن عبيد : فزعا بالزاي والعين من غير ألف ، (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) قال بعضهم : الهاء في قوله : (بِهِ) راجعة إلى موسى ومعنى الكلام : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أنّه ابنها من شدة وجدها.

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، قال : أخبرنا مكي بن عبدان ، قال : حدّثنا عبد الرحمن ابن بشر ، قال : حدّثنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) قال : كادت تقول : وا ابناه ، وقال مقاتل : لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر ، فخشيت عليه الغرق ، فكادت تصيح من شفقها (١) عليه ، الكلبي : كادت تظهر أنّه ابنها ، وذلك حين سمعت الناس وهم يقولون لموسى بعد ما شبّ : موسى بن فرعون ، فشق عليها فكادت تقول : لا ، بل هو ابني ، وقال بعضهم : الهاء عائدة الى الوحي أي (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي) بالوحي الذي أوحينا إليها أن نردّه عليها.

(لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) قوّينا قلبها فعصمناها وثبّتناها (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المصدّقين الموقنين بوعد الله عزوجل (وَقالَتْ) أم موسى (لِأُخْتِهِ) لأخت موسى واسمها مريم (قُصِّيهِ) ابتغي أثره حتى تعلمي خبره ، ومنه القصص لأنّه حديث يتبع فيه الثاني الأول ، (فَبَصُرَتْ بِهِ) أبصرته (عَنْ جُنُبٍ) بعد ، وقال ابن عباس : الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به.

وقال قتادة : جعلت (٢) تنظر إليها كأنّها لا تريده ، وكان يقرأ عَنْ جَنْبٍ بفتح الجيم وسكون النون ، وقرأ النعمان بن سالم عن جانب أي عن ناحية (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنها أخته (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) وهي جمع المراضع ، (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مجيء أم موسى ، وذلك أنّه كان يؤتى بمرضع بعد مرضع فلا يقبل ثدي امرأة ، فهمّهم ذلك ، فلمّا رأت أخت موسى التي أرسلتها أمّه في طلبه ذلك ، وما يصنع به ، (فَقالَتْ) لهم : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي يضمنونه ويرضعونه ويضمّونه إليهم ، وهي امرأة قد قتل ولدها ، فأحبّ شيء إليها أن تجد صبيا صغيرا فترضعه ، (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) والنصح : إخلاص العمل من شائب الفساد ، وهو نقيض الغش ، قالوا : نعم ، فأتينا بها فانطلقت إلى أمّها فأخبرتها [بحال ابنها] وجاءت بها إليهم (٣) ، فلمّا وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها فذلك قوله : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ الله وعدها ردّه إليها.

قال السدي وابن جريج : لما قالت أخت موسى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ)

__________________

(١) في نسخة أصفهان : شفقتها.

(٢) في نسخة أصفهان : وجعلت تنظر إليه.

(٣) في نسخة أصفهان : إليه.

٢٣٨

أخذوها وقالوا : إنّك قد عرفت هذا الغلام ، فدلّينا على أهله ، فقالت : ما أعرفه ولكني إنّما قلت : هم للملك ناصحون ، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قال الكلبي : الأشدّ : ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة ، وقال سائر المفسّرين : الأشد ثلاث وثلاثون سنة ، (وَاسْتَوى) أي بلغ أربعين سنة.

أخبرنا أبو محمد المخلدي ، قال : أخبرنا أبو الوفاء المؤمل بن الحسن بن عيسى ، قال : حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، قال : حدّثنا يحيى بن سليم ، قال : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله سبحانه : (بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) قال : الأشدّ : ثلاث وثلاثون سنة ، والاستواء : أربعون سنة ، والعمر الذي أعده الله إلى ابن آدم ستون سنة ، ثم قرأ (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) (١).

(آتَيْناهُ حُكْماً) عقلا وفهما ، (وَعِلْماً) قال مجاهد : قيل : النبوة ، (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢))

(وَدَخَلَ) يعني موسى (الْمَدِينَةَ) قال السدي : يعني مدينة منف (٢) من أرض مصر (٣) ، وقال مقاتل : كانت قرية تدعى خانين على رأس فرسخين من مصر.

(عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) قال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء ، وقال غيره : نصف النهار عند القائلة ، واختلف العلماء في السبب الذي من أجله دخل

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٧.

(٢) قيل هي مدينة عين الشمس في منتهى جبل المقطم وقيل غير ذلك راجع تاج العروس : ٦ / ٢٥٠.

(٣) راجع تفسير الطبري : ٢٠ / ٥٣.

٢٣٩

موسى هذه المدينة في هذا الوقت ، فقال السدّي : كان موسى عليه‌السلام حين أمر بركب مراكب فرعون وبلبس مثل ما يلبس ، وكان إنّما يدعى موسى بن فرعون ، ثم إنّ فرعون ركب (١) مركبا وليس عنده موسى عليه‌السلام ، فلمّا جاء موسى قيل له : إنّ فرعون قد ركب ، فركب في أثره ، فأدركه المقيل بأرض يقال لها : منف ، فدخلها نصف النهار وقد تقلّبت أسواقها ، وليس في طرقها أحد ، وهو الذي يقول الله سبحانه : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها).

وقال ابن إسحاق : كانت لموسى من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه (٢) ويقتدون به ويجتمعون إليه ، فلمّا اشتد رأيه وعرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه ، فخالفهم في دينه وتكلّم وعادى وأنكر حتى ذكر ذلك منه ، وحتى خافوه وخافهم ، حتى كان لا يدخل قرية إلّا خائفا مستخفيا ، فدخلها يوما (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها).

وقال ابن زيد : لمّا علا موسى فرعون بالعصا في صغره قال فرعون : هذا عدونا الذي قتلت فيه بني إسرائيل ، فقالت امرأته : لا بل هو صغير ، ثم دعت بالجمر والجوهر ، فلمّا أخذ موسى الجمرة وطرحها في فيه حتى صارت عقدة في لسانه ، ترك فرعون قتله وأمر بإخراجه من مدينته ، فلم يدخل عليهم إلّا بعد أن كبر وبلغ أشدّه ، (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) عن موسى أي من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم به.

وقال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : في قوله : (حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم (٣)، (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ) من أهل دينه من بني إسرائيل ، (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) من مخالفيه من القبط ، قال المفسرون : الذي هو (مِنْ شِيعَتِهِ) هو السامري ، و (الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) طباخ فرعون واسمه فليثون.

وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا موسى بن محمد ، قال : حدّثنا الحسن بن علوية ، قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، قال : حدّثنا المسيب بن شريك قال : اسمه فاثون وكان خباز فرعون ، قالوا : يسخّره لحمل الحطب إلى المطبخ ، روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لمّا بلغ موسى أشده ، وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل ، والآخر من آل فرعون ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى واشتد غضبه ؛ لأنّه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس إلّا إنّما ذلك من قبل الرضاعة من أمّ موسى ، فقال للفرعوني ، خلّ

__________________

(١) في نسخة أصفهان : ركب فركب في أثره.

(٢) في نسخة أصفهان : به.

(٣) زاد المسير : ٦ / ٩١.

٢٤٠