الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) يعني ولائدهم (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) لا يلامون على جماع أزواجهم وولائدهم (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) فمن طلب الفواحش بعد الأزواج والولائد ما لم يحلّ (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) يعني المعتدين في دينهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) يعني ما ائتمنوا عليه فيما بينهم وبين الناس (وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) يعني حافظين يؤدّون الأمانة ويوفون بالعهود (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) يعني يحافظون عليها في مواقيتها ، ثمّ أخبر بثوابهم فقال (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) ثمّ بين ما يرثون فقال (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) يعني الجنة بلسان الرومية (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يموتون فيها.

أخبرنا محمد (١) بن عقيل القطان (٢) قال : أخبرنا حاجب بن أحمد بن سفيان قال : حدّثنا محمد بن حماد البيوردي قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرني يونس بن سليم قال أملى (٣) علىّ صاحب ايلة عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرّحمن بن عبد القاري قال : سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول : كان إذا نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوىّ النحل ، فمكثنا ساعة فاستقبل ورفع يديه فقال : «اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنّا ، ثمّ قال : لقد أنزل علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنّة ، ثمّ قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) عشر آيات (٤)» [١٢].

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦))

__________________

(١) في النسخة الثانية زيادة : بن أحمد.

(٢) في النسخة الثانية : العطار.

(٣) في النسخة الثانية زيادة : يونس بن.

(٤) منتخب مسند عبد بن حميد : ص ٣٤.

٤١

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني ابن آدم (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١) أي من صفوة ماء آدم الذي هو من الطين ومنيّه والعرب تسمّي نطفة الشيء وولده سليله وسلالته لأنّهما مسلولان منه. قال الشاعر :

حملت به عضب الأديم غضنفرا

سلالة فرج كان غير حصين (٢)

وقال آخر :

وهل كنت إلّا مهرة عربية

سليلة أفراس تجلّلها بغل (٣)

(ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) حريز مكين لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها وهو الرحم.

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) قرأ ابن عامر عظما على الواحد في الحرفين ، ومثله روى أبو بكر عن عاصم لقوله (لَحْماً) ، وقرأ الآخرون بالجمع لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة.

(فَكَسَوْنَا) فألبسنا (الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) اختلف المفسرون فيه. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة وأبو العالية والضحاك وابن زيد : نفخ الروح فيه.

قتادة : نبات الأسنان والشعر.

ابن عمر : استواء الشباب ، وهي رواية ابن أبي نجيح وابن جريج عن مجاهد.

وروى العوفي عن ابن عباس : إنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة ، يقول : خرج من بطن أمّه بعد ما خلق فكان من بدو خلقه الآخر أن استهلّ ، ثمّ كان من خلقه أن دلّ على ثدي أمّه ، ثمّ كان من خلقه أن علّم كيف يبسط رجليه ، إلى أن قعد ، إلى أن حبا ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن مشى ، إلى أن فطم ، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام ، إلى أن بلغ الحلم ، إلى أن بلغ ان يتقلّب في البلاد.

وقيل : الذكورة والأنوثية ، وقيل : إعطاء العقل والفهم.

(فَتَبارَكَ اللهُ) أي استحق التعظيم والثناء بأنّه لم يزل ولا يزال وأصله من البروك وهو الثبوت.

(أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي المصوّرين والمقدّرين ، مجاهد : يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين.

__________________

(١) في النسخة الثانية زيادة : أسيل من الأرض ، قال قتادة : وقال ابن عباس ومجاهد : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني آدم (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ).

(٢) جامع البيان للطبري : ١٨ / ١٢.

(٣) جامع البيان للطبري : ١٨ / ١٢.

٤٢

ابن جريج : إنما جمع الخالقين لأنّ عيسى كان يخلق ، فأخبر جلّ ثناؤه أنّه يخلق أحسن ممّا كان يخلق.

وروى أبو الخليل عن أبي قتادة قال : لمّا نزلت هذه الآية إلى آخرها قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه «فتبارك الله أحسن الخالقين» فنزلت (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

قال ابن عباس : كان ابن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأملى عليه هذه الآية ، فلمّا بلغ قوله (خَلْقاً آخَرَ) خطر بباله (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فلمّا أملاها كذلك لرسول الله قال عبد الله : إن كان محمد نبيّا يوحى إليه فانا نبىّ يوحى إليّ ، فلحق بمكة كافرا.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) قرأ أشهب العقيلي لمائتون بالألف ، والميّت والمائت ، الذي لم يفارقه الروح بعد وهو سيموت ، والميت بالتخفيف : الذي فارقه الروح ، فلذلك لم تخفف هاهنا كقوله سبحانه وتعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) وإنما قيل : (طَرائِقَ) لأن بعضهنّ فوق بعض ، فكلّ سماء منهنّ طريقة ، والعرب تسمّي كلّ شيء فوق شيء طريقة ، وقيل : لأنّها طرائق الملائكة.

(وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) يعني عن خلق السماء ، قاله بعض العلماء ، وقال أكثر المفسرين : يعني عمّن خلقنا من الخلق كلّهم ما كنّا غافلين عنهم ، بل كنّا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم.

وقال أهل المعاني : معنى الآية : إنّ من جاز عليه الغفلة عن العباد جاز عليه الغفلة عن الطرائق التي فوقهم فتسقط فالله عزوجل يمسك السماوات (أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ولو لا إمساكه لها لم تقف طرفة عين.

قال الحسن : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أن ينزل عليهم ما يجيئهم من المطر.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) ثمّ أخرجنا منها ينابيع فماء الأرض هو من السماء.

(وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) حتى تهلكوا عطشا وتهلك مواشيكم وتخرب أراضيكم.

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) بالماء (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها) يعني في الجنّات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) شتاء وصيفا ، وإنّما خصّ النخيل والأعناب بالذكر لأنّهما كانا أعظم ثمار الحجاز وما والاها ، فكانت النخيل لأهل المدينة ، والأعناب لأهل الطائف ، فذكر القوم ما يعرفون من نعمه.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٠.

٤٣

(وَشَجَرَةً) يعني وأنشأنا لكم أيضا شجرة (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) وهي الزيتون ، واختلف القرّاء في (سَيْناءَ) ، فكسر سينه أبو عمرو وأهل الحجاز ، وفتحه الباقون ، واختلف العلماء في معناه ، فقال مجاهد : معناه البركة ، يعني : إنه جبل مبارك ، وهي رواية عطية عن ابن عباس ، قتادة والحسن والضحّاك : (طُورِ سَيْناءَ) بالنبطية : الجبل الحسن.

ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى عليه‌السلام ، وهو بين مصر وأيلة ، معمر وغيره : جبل ذو شجر ، بعضهم : هو بالسريانية الملتفّة الأشجار ، وقيل : هو كلّ جبل ذي أشجار مثمرة ، وقيل : هو متعال من السّنا وهو الارتفاع.

قال مقاتل : خصّ الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت بها ، ويقال : إنّ الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان.

(تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) وأكثر القراء على فتح التاء الأوّل من قوله (تَنْبُتُ) وضم بائه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم التاء وكسر الباء ولها وجهان :

أحدهما : أن الباء فيه زائدة كما يقال : أخذت ثوبه وأخذت بثوبه ، وكقول الراجز :

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج

نضرب بالسيف ونرجو بالفرج (١)

أي ونرجو الفرج.

والوجه الآخر : أنّهما لغتان بمعنى واحد نبت وأنبت ، قال زهير :

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم

قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل (٢)

أي نبت (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي إدام نصطبغ به (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) وهي الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدّى به الى العلم وهي من العبور كأنه طريق يعبر إليه ويتوصل به إلى المراد.

(نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) قال ابن عباس : سمّي بذلك لكثرة ما ناح على نفسه ، واختلف في سبب نوحه ، فقال بعضهم : لدعوته على قومه بالهلاك حيث قال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٣) وقيل : لمراجعته ربّه في شأن أمته ، وقيل : لأنّه مرّ بكلب مجذوم ، فقال : اخسأ يا قبيح فأوحى الله سبحانه إليه : أعبتني أم عبت الكلب؟.

__________________

(١) لسان العرب : ١٥ / ٤٤٣.

(٢) لسان العرب : ١٣ / ٣٤٣.

(٣) نوح : ٢٦.

٤٤

(فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ) يتشرف (عَلَيْكُمْ) فيكون أفضل منكم فيصير متبوعا وأنتم له تبعا.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يدعونا إليه نوح (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ) ما هو (إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) جنون ، نظيرها قوله سبحانه (ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) (١) ويقال للجن أيضا : جنّة ، قال الله سبحانه (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (٢) وقال (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٣) يتفق الاسم والمصدر.

(فَتَرَبَّصُوا) فانتظروا (بِهِ حَتَّى حِينٍ) يعني إلى وقت ما ، وقيل : الى حين الموت ، فقال لمّا تمادوا في غيّهم وأصرّوا على كفرهم (رَبِّ انْصُرْنِي) أعني بإهلاكهم (بِما كَذَّبُونِ) يعني بتكذيبهم إياي.

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥))

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها) فأدخل فيها ، يقال : سلكته في كذا وأسلكته فيه ، قال الشاعر :

وكنت لزاز خصمك لم أعرّد

وقد سلكوك في يوم عصيب (٤)

وقال الهذلي :

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلّا كما تطرد الجمّالة الشردا (٥)

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٨٤.

(٢) سورة الصافّات : ١٥٨.

(٣) سورة الناس : ٦.

(٤) جامع البيان للطبري : ١٢ / ١٠٧.

(٥) لسان العرب : ٣ / ٢٣٧.

٤٥

(مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).

قال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلّا من يلد ويبيض ، فأما ما يتولد من الطين وحشرات الأرض والبق والبعوض فلم يحمل منها شيئا.

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) اعتدلت في السفينة راكبا فيها ، عاليا فوقها (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) قرأه العامة بضم الميم على المصدر أي إنزالا مباركا ، وقرأ عاصم برواية أبي بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي موضعا.

(وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا) وقد كنّا ، وقيل : وما كنا إلّا مبتلين مختبرين إيّاهم بتذكيرنا ووعظنا لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي أهلكناهم وأحدّثنا من بعدهم (قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) قال المفسّرون يعني هودا وقومه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ... قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ) نعّمناهم ووسّعنا عليهم ، والترفه : النعمة ، في الحياة الدنيا ما هذا الرسول (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) قد ذهبت اللحوم (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) من قبوركم أحياء ، وأعاد إنّكم لمّا طال الكلام ، ومعنى وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون (١).

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) قال ابن عباس : هي كلمة بعد يقول : ما توعدون ، واختلف القرّاء فيه ، فقرأ أبو جعفر بكسر التاء فيهما ، وقرأ نصر بن عاصم بالضم ، وقرأ ابن حبوة الشامي بالضم والتنوين ، وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين ، وكلّها لغات صحيحة ، فمن نصب جعل

__________________

(١) في النسخة الثانية (أصفهان) : ومعنى الكلام : أيعدكم أنكم إذا متّم وكنتم ترابا وعظاما فتخرجون ، وذكر أن ذلك من قراءة عبد الله ، أيعدكم إذا متّم وكنتم ترابا وعظاما مخرجون.

٤٦

مثل أين وكيف ، وقيل : لأنهما أداتان فصارتا مثل خمسة عشر وبعلبك ونحوهما.

وقال الفرّاء : نصبهما كنصب قولهم ثمت وربّت ، ومن رفعه جعله مثل منذ وقط وحيث ، ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء. قال الشاعر :

تذكرت أياما مضين من الصبا

وهيهات هيهات إليك رجوعها (١)

وقال آخر :

لقد باعدت أم الحمارس دارها

وهيهات من أم الحمارس هيهاتا

واختلفوا في الوقف عليها ، فكان الكسائي يقف عليها بالهاء ، والفرّاء بالتاء ، وإنّما أدخلت اللام مع هيهات في الاسم لأنها أداة غير مشتقّة من فعل فأدخلوا معها في الاسم اللام كما أدخلوها مع هلمّ لك.

(إِنْ هِيَ) يعنون الدنيا (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) يموت الآباء ويحيى الأبناء (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ) يعنون الرسول (إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) عن قليل ، وما صلة (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) على كفرهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) يعني صيحة العذاب (بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) وهو ما يحمله السيل (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) والقرن أهل العصر ، سمّوا بذلك لمقارنة بعضهم ببعض.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ومن صلة.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) مترادفين يتبع بعضهم بعضا ، وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو تترىً بالتنوين على توهّم أنّ الياء أصليّة ، كما قيل : معزي بالياء ومعزى وبهمي وبهما فأجريت أحيانا وترك اجراؤها أحيانا ، فمن نوّن وقف عليها بالألف ، ومن لم ينوّن وقف عليها بالياء ، ويقال : إنها ليست بياء ولكن ألف ممالة ، وقرأه العامّة بغير تنوين مثل غضبى وسكرى ، وهو اسم جمع مثل شتّى ، وأصله : وترى من المواترة والتواتر ، فجعلت الواو تاء مثل التقوى والتكلان ونحوهما.

(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) بالهلاك أي أهلكنا بعضهم في أثر بعض.

(وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي مثلا يتحدّث بهم الناس ، وهي جمع أحدوثة ، ويجوز أن يكون جمع حديث ، قال الأخفش : إنّما يقال هذا في الشّر ، فأمّا في الخير فلا يقال : جعلتهم أحاديث وأحدوثة وإنما يقال : صار فلان حديثا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٢ / ١٢٢.

٤٧

(فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) نظيرها (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) (١)؟

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩))

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا) تعظّموا عن الإيمان (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) متكبّرين ، قاهرين غيرهم بالظلم ، نظيرها (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) (٢).

(فَقالُوا) يعني فرعون وقومه (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) فنتّبعهما (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) مطيعون متذلّلون ، والعرب تسمّي كلّ من دان لملك عابدا له ، ومن ذلك قيل لأهل الحيرة : العباد لأنّهم كانوا أهل طاعة لملوك العجم.

(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) لكي يهتدي بها قومه فيعملوا بما فيها (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) دلالة على قدرتنا ، وكان حقّه أن يقول آيتين كما قال الله سبحانه (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) (٣) واختلف النحاة في وجهها ، فقال بعضهم : معناه : وجعلنا كل واحد منهما آية كما قال سبحانه (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) (٤) أي آتت كلّ واحدة أكلها وقال (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) (٥) ولم يقل أرجاس ، وقال بعضهم : معناه : جعلنا شأنهما واحدا لأنّ عيسى ولد من غير أب ، وأمّه ولدت من غير مسيس ذكر. (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ).

أخبرنا أبو صالح منصور بن أحمد المشطي قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن

__________________

(١) سورة سبأ : ١٩.

(٢) سورة القصص : ٤.

(٣) سورة الإسراء : ١٢.

(٤) سورة الكهف : ٣٣.

(٥) سورة المائدة : ٩٠.

٤٨

عبد الله الرازي قال : أخبرنا سلمان بن علي قال : أخبرنا هشام بن عمار قال : حدّثنا عبد المجيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن سلام في قول الله سبحانه (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) قال : دمشق ، وقال أبو هريرة : هي الرملة ، قتادة وكعب : بيت المقدس ، قال كعب : وهي أقرب الأرض الى السماء بثمانية عشر ميلا. ابن زيد : مصر ، الضحّاك : غوطة دمشق ، أبو العالية : إيليا وهي الأرض المقدسة ، ويعني بالقرار الأرض المستوية والساحة الواسعة ، والمعين : الماء الظاهر لعين الناظر ، وهو مفعول من عانه يعينه إذا أدركه البصر ورآه ، ويجوز أن يكون فعيلا معن يمعن فهو معين من الماعون.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) يعني من الحلالات ، يعني : وقلنا لعيسى : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) ، وهذا كما يقال في الكلام للرجل الواحد : أيّها القوم كفّوا عنّا أذاكم ، ونظائرها في القرآن كثيرة. قال عمرو بن شريل : كان يأكل من غزل أمّه ، وقال الحسن ومجاهد : المراد به محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ) قرأه أهل الكوفة بكسر الألف على الابتداء ، وقرأ ابن عامر بفتح الألف وتخفيف النون جعل إنّ صلة مجازه : وهذه أمتّكم ، وقرأ الباقون بفتح الألف وتشديد النون على معنى هذه ، ويجوز أن يكون نصبا بإضمار فعل ، أي واعلموا أنّ (هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي ملّتكم ملّة واحدة وهي دين الإسلام.

(وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) قرأه العامة بضم الباء يعنى كتبا ، جمع زبور بمعنى : دان كلّ فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر ، قاله مجاهد وقتادة ، وقيل : معناه فتفرقوا دينهم بينهم كتبا أحدثوها يحتجون فيها لمذاهبهم ، قاله قتادة وابن زيد ، وقرأ أهل الشام بفتح الباء أي قطعا وفرقا كقطع الحديد ، قال الله سبحانه (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) (١).

(كُلُّ حِزْبٍ) جماعة (بِما لَدَيْهِمْ) عندهم من الدين (فَرِحُونَ) معجبون مسرورون (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) قال ابن عباس : كفرهم وضلالتهم (٢) ، ابن زيد : عماهم ، ربيع : غفلتهم (حَتَّى حِينٍ) إلى وقت مجيء آجالهم.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) نعطيهم ونزيدهم (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) في الدنيا (نُسارِعُ) نسابق (لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) ومجاز الآية : أيحسبون ذلك مسارعة لهم في الخيرات ، وقرأ عبد الرّحمن ابن أبي بكر : يُسارَعُ على ما لم يسم فاعله ، والصواب قراءة العامة لقوله سبحانه (نُمِدُّهُمْ).

(بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنّ ذلك استدراج لهم ، ثمّ بيّن المسارعين الى الخيرات فقال عزّ من

__________________

(١) سورة الكهف : ٩٦.

(٢) في النسخة الثانية زيادة : الضحاك : حيرتهم.

٤٩

قائل (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤))

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات ، هذه قراءة أهل الأمصار وبه رسوم مصاحفهم.

أخبرنا عبد الخالق بن علي قال : أخبرنا إسماعيل بن نجية قال : حدّثنا محمد بن عمار بن عطية قال : حدّثنا أحمد بن يزيد الحلواني قال : حدّثنا خلاد عن إبراهيم بن الزبرقان عن محمد ابن حمّاد عن أبيه عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ والذين يأتون ما آتوا من المجيء.

وأخبرنا الحاكم أبو منصور حمد بن أحمد البورجاني قال : حدّثنا علي بن أحمد بن موسى الفارسي قال : حدّثنا محمد بن الفضيل قال : حدّثنا أبو أسامة قال : حدّثني ملك بن مغول قال : سمعت عبد الرّحمن بن سعيد الهمداني ذكر أنّ عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : يا رسول الله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال : «لا يا ابنة الصدّيق ولكن هو الذي يصوم ويصلي ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله سبحانه» (١) [١٣].

وأخبرنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا محمد بن حامد قال : حدّثنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا عبد الله بن عمرو قال : أخبرنا وكيع عن ملك بن مغول عن عبد الرّحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق قال : «لا يا ابنة أبي بكر أو يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلّي ويتصدق ويخاف أن لا تقبل منه» (٢) [١٤].

__________________

(١) مسند الحميدي : ١ / ١٣٣. بتفاوت.

(٢) جامع البيان للطبري : ١٨ / ٤٥.

٥٠

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها) يعني إليها (سابِقُونَ) كقوله (لِما نُهُوا عَنْهُ) و (لِما قالُوا) ونحوهما ، وكان ابن عباس يقول في معنى هذه الآية : سبقت لهم من الله السعادة ولذلك سارعوا في الخيرات.

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) يعني إلّا ما يسعها ويصلح لها من العبادة والشريعة : (وَلَدَيْنا كِتابٌ) يعني اللوح المحفوظ (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) يبيّن بالصدق ما عملوا وما هم عاملون من الخير والشر ، وقيل : هو كتاب أعمال العباد الذي تكتبه الحفظة وهو أليق بظاهر الآية.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يعني يوفّون جزاء أعمالهم ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.

ثمّ ذكر الكفار فقال عزّ من قائل (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) عمى وغفلة (مِنْ هذا) القرآن (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) خبيثة لا يرضاها الله من المعاصي والخطايا (مِنْ دُونِ ذلِكَ) يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله سبحانه ، قيل : وهي قوله (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ).

(هُمْ لَها عامِلُونَ) لا بد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) يعني اغنياءهم ورؤساءهم (بِالْعَذابِ) قال ابن عباس : بالسيوف يوم بدر ، وقال الضحّاك : يعني الجوع وذلك ين دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف ، فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة والقدّ والأولاد» (١) [١٥].

(إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) يضجّون ويجزعون ويستغيثون ، وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرّع كما يفعل الثور ، قال الشاعر :

فطافت ثلاثا بين يوم وليلة

وكان النكير أن تضيف وتجأرا (٢)

يصف بقره. وقال أيضا :

يراوح من صلوات المليك

فطورا سجودا وطورا جؤارا (٣)

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم وتضرّعكم.

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني القرآن (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أدباركم (تَنْكِصُونَ)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٧ / ١٩٩.

(٢) تفسير القرطبي : ١٠ / ١١٥.

(٣) تفسير القرطبي : ١٢ / ١٣٥. والعبارة يراوج.

٥١

تدبرون وتستأخرون وترجعون القهقرى ، مكذّبين بها كارهين لها (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي بالحرم تقولون : لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم ، وهو كناية عن غير مذكور (سامِراً) نصب على الحال يعني أنّهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول البيت ، ووحّد (سامِراً) وهو بمعنى السّمار لأنّه وضع موضع الوقت ، أراد : (تَهْجُرُونَ) ليلا ، كقول الشاعر :

من دونهم إن جئتهم سمرا

عزف القيان ومجلس غمر (١)

فقال : سمرا لأن معناه : إن جئتهم ليلا وهم يسمرون ، وقيل : واحد ومعناه الجمع كما قال (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (٢) ونحوه.

(تَهْجُرُونَ) قرأ نافع بضم التاء وكسر الجيم أي تفحشون وتقولون الخنا ، يقال اهجر الرجل في كلامه أي أفحش ، وذكر أنّهم كانوا يسبّون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقرأ الآخرون بفتح التاء وضم الجيم ولها وجهان : أحدهما : تعرضون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن والإيمان وترفضونها.

والآخر : يقولون سوءا وما لا يعلمون ، من قولهم : هجر الرجل في منامه إذا هذى.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا) يتدبّروا (الْقَوْلَ) القرآن (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) فأنكروه وأعرضوا عنه ، ويحتمل أن يكون أم بمعنى بل ، يعني : بل جاءهم (ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) فكذلك أنكروه ولم يؤمنوا به ، وروي هذا القول عن ابن عباس.

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) محمدا وأنّه من أهل الصدق والأمانة. (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) جنون ، كذبوا في ذلك فإن المجنون يهذي ويقول ما لا يعقل ولا معنى له ، (بَلْ) محمد (جاءَهُمْ بِالْحَقِ) بالقول الذي لا يخفى صحته وحسنه على عاقل (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ) يعني الله سبحانه (أَهْواءَهُمْ) مرادهم فيما يفعل (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) ببيانهم وشرفهم يعني القرآن.

(فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ) على ما جئتهم به (خَرْجاً) أجرا وجعلا وأصل الخرج والخراج الغلّة والضريبة والأتاوة كخراج العبد والأرض.

وقال النضر بن شميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال : الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه ، والخرج ما تبرّعت به من غير وجوب.

قال الله سبحانه : (فَخَراجُ رَبِّكَ) رزقه وثوابه (خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الإسلام.

__________________

(١) لسان العرب : ٤ / ٣٧٧.

(٢) سورة غافر : ٦٧.

٥٢

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) عادلون ، مائلون ، ومنه الريح النكباء.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨))

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) قحط وجدب (لَلَجُّوا) لتمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) يعني القتل والجوع (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) خضعوا ، وأصله طلب السكون (وَما يَتَضَرَّعُونَ).

قال ابن عباس : لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم وهو أسير فخلّى سبيله فلحق باليمامة ، فحال بين أهل مكة وبين المسيرة من اليمامة وأخذ الله قريشا (١) بسني الجدب حتى أكلوا العلهز ، فجاء أبو سفيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنشدك بالله والرحم أليس تزعم أنك بعثت (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)؟ فقال : بلى ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ).

قال ابن عباس : يوم بدر ، وقال مجاهد : القحط ، وقيل : عذاب النار في الآخرة. (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) متحيّرون ، آيسون من كلّ خير.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ

__________________

(١) في النسخة الثانية : من يشاء (بدل) قريشا

٥٣

وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ) هذا الوعد (وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) ووعد آباءنا من قبلنا قوم ذكروا أنّهم أنبياء لله (١) فلم ير له حقيقة.

(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ) يا محمد مجيبا لهم (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) ولا بدّ لهم من ذلك ، فقل لهم إذا أقرّوا بذلك (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أنّ من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو قادر على إحياء ثم بعد موتهم؟.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ).

قرأه العامة : (لِلَّهِ) ، ومثله ما بعده فجعلوا الجواب على المعنى دون اللفظ كقول القائل للرجل : من مولاك؟ فيقول : لفلان ، أي أنا لفلان وهو مولاي وأنشد :

وأعلم أنّني سأكون رمسا

إذا سار النواعج لا يسير (٢)

فقال السائلون لمن حفرتم

فقال المخبرون لهم وزير (٣)

فأجاب المخفوض بمرفوع لأن معنى الكلام : فقال السائلون : من الميّت؟ فقال المخبرون : الميّت وزير ، فأجاب عن المعنى. وقال آخر :

إذا قيل من ربّ المزالف والقرى

وربّ الجياد الجرد قيل لخالد (٤)

وقال الأخفش : اللام زائدة يعني الله ، وقرأ أهل البصرة كلاهما الله بالألف ، وهو ظاهر لا يحتاج إلى التأويل ، وهو في مصاحف أهل الأمصار كلّها (لِلَّهِ) إلّا في مصحف أهل البصرة فإنه الله الله ، فجرى كلّ على مصحفه ، ولم يختلفوا في الأول أنّه (لِلَّهِ) لأنّه مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف وهو جواب مطابق للسؤال في (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) فجوابه (لِلَّهِ) ...

(أَفَلا تَتَّقُونَ) الله فتطيعونه (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) ملكه وخزائنه (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) يعني يؤمن من يشاء ولا يؤمن من أخافه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال أهل المعاني : معناه أجيبوا إن كنتم تعلمون.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) الصدق (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) فانفرد به لتغالبوا ، فعلا بعضهم على بعض وغلب القوىّ منهم الضعيف.

__________________

(١) في النسخة الثانية : أنّهم لله رسل.

(٢) جامع البيان للطبري : ١ / ٩٢.

(٣) جامع البيان للطبري : ١ / ٩٢.

(٤) فتح القدير : ٣ / ٤٩٦.

٥٤

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من الكذب (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بالجر ، ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو على نعت الله ، غيرهم : بالرفع على الابتداء أو على معنى هو عالم.

وروى رؤيس عن يعقوب أنّه كان إذا ابتدأ رفع وإذا وصل خفض.

(فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) من العذاب (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلا تهلكني بهلاكهم ، والفاء في قوله (فَلا) جواب لأمّا لأنّه شرط وجزاء.

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ) من العذاب فجعلناه لهم (لَقادِرُونَ). ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني بالخلّة التي هي أحسن (السَّيِّئَةَ) أذاهم وجفاهم يقول : أعرض عن أذاهم واصفح عنهم ، نسختها آية القتال.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) فنجزيهم به (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ) استجير بك (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أي نزغاتهم عن ابن عباس ، الحسن : وساوسهم ، مجاهد : نفخهم ونفثهم ، ابن زيد : خنقهم الناس.

وقال أهل المعاني : يعني دفعهم بالإغواء إلى المعاصي ، والهمز : شدّة الدفع ، ومنه قيل للحرف الذي يخرج من هواء الفم للدفع همزة.

(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) في شيء من أموري.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) يعني هؤلاء المشركين ، وذلك حين ينقطع عن الدنيا ويعاين الآخرة قبل أن يذوق الموت.

(قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) ولم يقل ارجعني وهو خطاب الواحد على التعظيم كقوله (إِنَّا نَحْنُ) فخوطب على نحو هذا كما ابتدأ بلفظ التعظيم.

٥٥

وقال بعضهم : هذه المسألة إنما كانت منهم للملائكة الذين يقبضون روحه ، وإنما ابتدأ الكلام بخطاب الله سبحانه لأنهم استغاثوا أولا بالله سبحانه ثم رجعوا الى مسألة الملائكة الرجوع الى الدنيا.

(لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) صنعت (كَلَّا) أي لا يرجع إليها ، وهي كلمة ردع وزجر (إِنَّها) يعني سؤاله الرجعة (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) ولا ينالها.

روت عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك الى الدنيا؟ فيقول : الى دار الهموم والأحزان؟! بل قدما إلى الله عزوجل ، وأمّا الكافر فيقول (رَبِّ ارْجِعُونِ) الآية» (١).

(وَمِنْ وَرائِهِمْ) أمامهم (بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي حاجز بين الموت والرجوع الى الدنيا عن مجاهد ، ابن عباس : حجاب ، السدّي : أجل ، قتادة : بقيّة الدنيا ، الضحّاك وابن زيد : ما بين الموت إلى البعث ، أبو أمامة : القبر ، وقيل : الإمهال (٢) لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما كانوا يفتخرون (٣).

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ).

قال أبو العالية : هو كقوله (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً).

وقال ابن جريج : معنى الآية (لا يَسْئَلُ) أحد يومئذ شيئا بنسب (وَلا يَتَساءَلُونَ) ، لا يمتّ إليه برحم ، واختلف المفسّرون في المراد بقوله (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) أىّ النفختين عنى؟ فقال ابن عباس : هي النفخة الأولى.

أخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه قال : حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب قال : حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرّحمن بن أبي عوف قال : حدّثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحرّاني قال : حدّثنا محمد بن سلمة بن أبي عبد الرحيم قال : حدّثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس ، قوله سبحانه (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) فهذه في النفخة الاولى (نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٤) (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٥) (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١٨ / ٦٨.

(٢) في النسخة الثانية زيادة : وكل فصل بين شيئين برزخ ، قوله عزوجل (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) قال ابن عباس.

(٣) في النسخة الثانية زيادة : في الدنيا.

(٤) سورة الزمر : ٦٨.

(٥) سورة المؤمنون : ١٠١.

٥٦

هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١) (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢).

وقال ابن مسعود : هي النفخة الثانية.

أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال : حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال : حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال : حدّثنا يزيد بن موهب الرملي قال : حدّثنا عيسى بن يونس عن هارون بن أبي وكيع قال : سمعت زاذان أبا عمر يقول : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز واليمنة قد سبقوني إلى المجالس ، فناديته ، يا عبد الله بن مسعود من أجل أنّي رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني؟ فقال : ادن ، فدنوت حتى ما كان بيني وبينه جليس ، فسمعته يقول : يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأوّلين والآخرين ثمّ ينادي مناد : هذا فلان ابن فلان فمن كان له قبله حقّ فليأت إلى حقّه ، فتفرح المرأة أن يدور لها الحقّ على أبيها أو على زوجها أو على ابنها أو على أختها ، ثم قرأ ابن مسعود (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) قال : فيقول الله سبحانه : آت هؤلاء حقوقهم ، فيقول : ربّ فنيت الدنيا ، فيقول للملائكة : خذوا من أعماله فأعطوا كلّ إنسان بقدر طلبته ، فإن كان وليا لله عزوجل وفضلت له من حسناته مثقال حبّة من خردل ضاعفها حتى يدخله بها الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) (٣) (٤). وإن كان شقيّا قالت الملائكة : ربّ فنيت حسناته وبقي طالبون ، فيقول : خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته وصكّوا له صكا الى النار.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ) تسفع (وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) عابسون عن ابن عباس ، وقال غيره : الكلوح أن تتقلص الشفتان عن الإنسان حتى تبدو الأسنان.

قال ابن مسعود : ألم تر إلى الرأس المشيّظ بالنار قد بدت أسنانه وقلصت شفتاه.

قال الأعشى :

وله المقدم لا مثل له

ساعة الشدق عن الناب كلح (٥)

أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله

__________________

(١) سورة الزّمر : ٦٨.

(٢) سورة الصافّات : ٢٧.

(٣) سورة النساء : ٤٠.

(٤) في النسخة الثانية زيادة : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

(٥) جامع البيان للطبري : ١٨ / ٧٢.

٥٧

قال : حدّثنا محمد بن إسحاق المسوحي قال : حدّثنا يحيى الحماني قال : حدّثنا ابن مبارك عن سعيد بن يزيد أبي شجاع عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله عزوجل (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال : «تشويه النار فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» [١٦] (١).

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) التي كتبت علينا ، قرأ أهل الكوفة غير عاصم : شقاوتنا بالألف وفتح الشين ، غيرهم : (شِقْوَتُنا) بغير ألف وكسر الشين وهما لغتان ، وهي المضرّة اللاحقة في العاقبة ، والسعادة هي المنفعة اللاحقة في العاقبة.

(وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) عن الهدى (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي من النار (فَإِنْ عُدْنا) لما تكره (فَإِنَّا ظالِمُونَ) فيجابون بعد ألف سنة (اخْسَؤُا فِيها) أي ابعدوا ، كما يقال للكلب : اخسأ إذا طرد وأبعد (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع العذاب فإنّي لا أرفعه عنكم ولا أخفّفه عليكم ، وقيل : هو دلالة على الغضب اللازم لهم فعند ذلك أيس المساكين من الفرج.

قال الحسن : هو آخر كلام يتكلّم به أهل النار ثم لا يتكلّمون بعدها إلّا الشهيق والزفير ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون.

(إِنَّهُ) هذه الهاء عماد وتسمّى أيضا المجهولة (كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) وهم المؤمنون (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) قرأ أهل المدينة والكوفة إلّا عاصما بضم السين هاهنا وفي سورة ص ، الباقون : بكسرها.

قال الخليل وسيبويه : هما لغتان مثل قول العرب : بحر لجيّ ولجّي ، وكوكب درّيّ ودري ، وكرسي وكرسي.

وقال الكسائي والفرّاء : الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول ، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل ، ولم يختلفوا في سورة الزخرف أنّه بالضم لأنّه بمعنى التسخير والاستعباد إلّا ما روي عن ابن محيصن أنّه كسره قياسا على سائره وهو غير قوىّ.

(حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم ذكري (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) نظيره قوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (٢).

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) على استهزائكم بهم في الدنيا ، والجزاء : مقابلة العمل بما يستحقّ عليه من ثواب أو عقاب.

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٨٨.

(٢) سورة المطفّفين : ٢٩.

٥٨

(أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) قرأ حمزة والكسائي : إنهم بكسر الألف على الاستيناف ، والباقون : بفتحه على معنى لأنهم هم الفائزون ، ويحتمل أن يكون نصبا بوقوع الجزاء عليه (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ) الفوز بالجنة.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) نسوا لعظيم ما هم فيه من العذاب مدّة مكثهم في الدنيا ، وهذا توبيخ من الله تعالى لمنكري البعث وإلزام للحجّة عليهم.

قرأ حمزة والكسائي : قل كم ، على الأمر ، لأنّ في مصاحف أهل الكوفة قل بغير ألف ، ومعنى الآية : قولوا كم لبثتم ، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد به الجماعة إذ كان مفهوما معناه ، ويجوز أن يكون الخطاب لكلّ واحد منهم أي قل أيّها الكافر.

وقرأ الباقون : (قالَ) في الحرفين ، وكذلك هما في مصاحفهم بالألف على معنى قال الله تعالى ، وقرأ ابن كثير : قل كم ، على الأمر ، وقال : إن على الخبر وهي قراءة ظاهرة لأنّ الثانية جواب.

وقوله (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي الحسّاب عن قتادة ، وقال مجاهد : هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم.

(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ) في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قدر لبثكم فيها (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي لعبا وباطلا لا لحكمة ، والعبث : العمل لا لغرض ، وهو نصب على الحال عن سيبويه وقطرب ، مجازه : عابثين ، أبو عبيد : على المصدر ، بعض نحاة الكوفة : على الظرف أي بالعبث ، بعض نحاة البصرة : للعبث. (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).

قال أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : «يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم فما خلق امرؤ عبثا فيلهو ولا أهمل سدى فيلغو» (١) [١٧].

وأخبرني محمد بن القاسم بقراءتي عليه قال : حدّثنا أبو بكر (٢) محمد بن محمد بن نصر

__________________

(١) إعجاز القرآن ـ الباقلّاني ـ : ١٤٦.

(٢) في النسخة الثانية بن القاسم بن أحمد عن.

٥٩

قال : حدّثنا محمد بن موسى قال : حدّثنا ابن (١) شعيب الحرّاني قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله ابن الضحاك قال : سمعت الأوزاعي يقول : بلغني أنّ في السماء ملكا ينادي كل يوم : ألا ليت الخلق لم يخلقوا ، ويا ليتهم إذ خلقوا عرفوا ما خلقوا له وجلسوا فذكروا ما عملوا.

فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق

قال المحقّقون : خلق الله سبحانه الخلق ليدلّ بذلك على وجوده وكمال علمه وقدرته ، إذ لو لم يخلق لم يكن لوجوده معنى.

وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا محمد بن يزيد قال : حدّثنا الحسن بن سفيان قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدّثنا ابن عليّة عن منصور بن عبد الرّحمن قال : قلت للحسن البصري في قوله سبحانه (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (٢).

قال : الناس مختلفون على أديان شتّى (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) ، و (مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) غير مختلف.

فقيل له : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ)؟.

قال : نعم ، خلق هؤلاء لجنّته وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته وخلق هؤلاء لعذابه.

وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه قال : أخبرنا أبو جعفر محمد بن موسى الفقيه قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا محمد بن خالد (٣) البرقي عن أبيه عن أحمد بن نصر قال : سئل جعفر بن محمد : لم خلق الله الخلق؟

قال : لأنّ الله سبحانه كان محسنا بما لم يزل فيما لم يزل ، إلى ما لم يزل فأراد سبحانه وتعالى أن يفوّض إحسانه إلى خلقه وكان غنيّا عنهم ، لم يخلقهم لجرّ منفعة ، ولا لدفع مضرّة ، ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتّى يفصلوا بين الحق والباطل ، فمن أحسن كافأه بالجنة ، ومن عصى كافأه بالنار.

وقال محمد بن علي الترمذي : إنّ الله سبحانه خلق الخلق عبيدا ليعبدوه فيثيبهم على العبودية ويعاقبهم على تركها ، فإن عبدوه فهم اليوم عبيد أحرار كرام ، وغدا أحرار وملوك في دار السلام ، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أبّاق سفلة لئام ، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران.

__________________

(١) في النسخة الثانية : أبو.

(٢) سورة هود : ١١٨ ـ ١١٩.

(٣) في النسخة الثانية : وأخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه عن أبي محمد بن خالد.

٦٠