الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

يميل بهم ويثقلهم حملها ، والآخر قال أهل البصرة : قد يفعل العرب هذا ، تقول للمرأة : إنّها لتنوء بها عجيزتها ، وإنّما هي تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله ، وقال الشاعر :

فديت بنفسه نفسي ومالي

وما آلوك إلّا ما أطيق (١)

والمعنى فديت بنفسي ومالي نفسه ، وقال آخر :

وتركب خيلا لا هوادة بينها

وتشقي الرماح بالضياطرة الحمر (٢)

وإنّما يشقي الضياطرة بالرماح ، والخيل هاهنا : الرجال.

(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) من بني إسرائيل (لا تَفْرَحْ) لا تأشر ولا تمرح ، ومنه قول الله سبحانه : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (٣) ، وقال الشاعر :

ولست بمفراح إذا الدهر سرّني

ولا جازع من صرفه المتحول (٤)

أراد : لست بأشر ؛ لأن السرور غير مكروه ولا مذموم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) الأشرين البطرين المتكبرين الذين لا يشكرون الله سبحانه على ما أعطاهم.

أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا منصور بن جعفر النهاوندي ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى النهاوندي ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى بن الجارود ، قال : حدّثنا محمد بن عمرو بن حيان عن نفته (٥) قال : حدّثنا مبشر بن عبد الله في قول الله سبحانه وتعالى : (لا تَفْرَحْ) قال : لا تفسد (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) المفسدين ، وقال الشاعر :

إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة

وتحمل أخرى أفرحتك الودائع (٦)

يعني أفسدتك.

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) قال مجاهد وابن زيد : لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك حتى تنجو من عذاب الله ، وهي رواية علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وقال علي رضي‌الله‌عنه : لا تنس صحتك وقوتك وشبابك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة ، وقال الحسن : ولا تنس أن تطلب فيها كفايتك وغناك مما أحل الله لك منها.

وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا حامد بن محمد ، قال : حدّثنا أحمد بن علي

__________________

(١) لسان العرب : ٥ / ٣١٦.

(٢) لسان العرب : ٤ / ٤٨٩.

(٣) سورة هود : ١٠.

(٤) زاد المسير : ٦ / ١١٢.

(٥) كذا في الأصل.

(٦) كتاب العين : ٣ / ٢١٣.

٢٦١

الحران (١) ، قال : حدّثنا سعيد بن سلمة ، قال : حدّثنا خلف بن خليفة ، عن منصور بن زادان في قوله : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) قال : قوتك وقوة أهلك. وقيل : هو الكفن لأنّه حظه من الدنيا عند خروجه منها.

(وَأَحْسِنْ) إلى الناس (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ) ولا تطلب (الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ) قارون (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) على فضل علم (عِنْدِي) علمنيه الله ، ورآني لذلك أهلا ، ففضلني بهذا المال عليكم لفضلي عليكم بالعلم وغيره ، وقيل : هو علم الكيمياء ، قال سعيد بن المسيب : كان موسى عليه‌السلام يعلم الكيمياء ، فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم ، وعلّم كالب بن نوفيا (٢) ثلثه ، وعلم قارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه ، وفي خبر آخر أنّ الله سبحانه وتعالى علّم موسى علم الكيمياء ، فعلّم موسى أخته ، فعلّمت أخته قارون ، فكان ذلك سبب أقواله ، وقيل : على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب ، وقيل : في سبب جمعه تلك الأموال ، ما أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد قال : حدّثنا محمد بن موسى الحلواني قال : حدّثنا خزيمة بن أحمد ، قال : حدّثنا أحمد بن أبي الجواري ، قال : سمعت أبا سلمان الداراني يقول : يبدي إبليس لقارون وكان قارون قد أقام في جبل أربعين سنة يتعبد حتى إذا غلب بني إسرائيل في العبادة بعث إليه إبليس شياطينه ، فلم يقدروا عليه ، فتبدى هو له وجعل يتعبد ، وجعل قارون وجعل إبليس يقهره بالعبادة ويفوقه ، فخضع له قارون ، فقال له إبليس : يا قارون

قد رضينا بهذا الذي نحن فيه ، لا تشهد لبني إسرائيل جماعة ، ولا تعود مريضا ، ولا تشهد جنازة ، قال : فحذره من الجبل إلى البيعة ، فكانوا يؤتون بالطعام ، فقال إبليس : يا قارون قد رضينا الآن أن يكون هكذا كلا على بني إسرائيل ، فقال له قارون : فأي شيء الرأي عندك؟ قال : نكسب يوم الجمعة ونتعبد بقية الجمعة ، قال : فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقية الجمعة.

فقال : إبليس لقارون : قد رضينا أن يكون هكذي. فقال له قارون : فأي شيء الرأي عندك ، قال : نكسب يوما ونتعبد يوما ونتصدق ونعطي ، قال : فلمّا كسبوا يوما وتعبدوا يوما خنس إبليس وتركه ، ففتحت على قارون الدنيا ، فبلغ ماله ، ما أخبرنا ابن فنجويه ، قال : أخبرنا موسى ، قال : حدّثنا الحسن ابن علويه ، قال : حدّثنا إسماعيل بن موسى ، عن المسيب بن شريك (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) قال : أوعيته وكانت أربعمائة ألف ألف في أربعين جرابا.

قال الله سبحانه : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) الكافرة

__________________

(١) في نسخة أصفهان : الخزاز.

(٢) في نسخة أصفهان : يوفنا.

٢٦٢

(مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) قال قتادة : يدخلون النار بغير حساب ، مجاهد : يعني : إنّ الملائكة لا تسأل عنهم لأنّهم يعرفونهم بسيمائهم ، الحسن : (لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ليعلم ذلك من قبلهم فأن سئلوا سؤال تقريع وتوبيخ.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) قال جابر (١) بن عبد الله : في القرمز ، النخعي والحسن : في ثياب حمراء ، مجاهد : على براذين بيض عليها سروج الأرجوان ، عليهم المعصفرات ، قتادة : على أربعة ألف دابة عليهم وعلى دوابهم [الأرجوان] ، ابن زيد : في سبعين ألفا عليهم المعصفرات ، قال : وكان ذلك أول يوم رؤيت المعصفرات فيما كان يذكر لنا ، مقاتل : على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعلى دوابهم الأرجوان ، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحليّ والثياب الحمر على البغال الشهب.

(قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من المال (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها) ولا يلقن ويوفق لهذه الكلمة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على طاعة الله وعن زينة الدنيا.

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) قال العلماء بأخبار القدماء : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون ، وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم ولكنه نافق السامري فبغى على قومه ، واختلف في معنى هذا البغي ، فقال ابن عباس : كان فرعون قد ملك قارون على بني إسرائيل حين كان بمصر ، وعن المسيب بن شريك : أنه كان عاملا على بني إسرائيل وكان يظلمهم ، وقيل : زاد عليهم في الثياب شبرا ، وقيل : بغى عليهم بالكبر ، وقيل : بكثرة ماله ، وكان أغنى أهل زمانه وأثراهم. واختلف في مبلغ عدة العصبة في هذا الموضع فقال مجاهد : ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال قتادة : ما بين العشرة إلى أربعين ، وقال عكرمة : منهم من يقول أربعون ومنهم من يقول سبعون ، وقال الضحاك : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : هم ستون.

وروي عن خثيمة قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز ، ويقال : كان أينما يذهب تحمل معه وكانت من حديد ، فلمّا ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع ، فكانت تحمل معه على أربعين بغلا ، وكان أول طغيانه أنه تكبر واستطال على الناس بكثرة الأموال فكان يخرج في زينته ويختال كما قال تعالى (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ).

قال مجاهد : خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان وعليهم المعصفرات.

وقال عبد الرحمن : خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات ، وقال مقاتل : على بغلة

__________________

(١) في نسخة أصفهان : حماد بن عبد الله.

٢٦٣

شهباء عليها سرج من الذهب عليها الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثة آلاف جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب ، فتمنى أهل الجهالة مثل الذي أوتيه كما حكى الله فوعظهم أهل العلم بالله أن اتقوا الله فإن ثواب الله (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً).

قال : ثم إن الله أوحى إلى نبيه موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر لونه لون السماء ، فدعا موسى بني إسرائيل وقال لهم : إن الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ، وإنه تعالى ينزل من السماء كلامه عليكم ، فاستكبر قارون وقال : إنما تفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا من غيرهم.

ولما قطع موسى عليه‌السلام ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة وهي رئاسة المذبح وبيت القربان لهارون فكان بنو إسرائيل يأتون بهديتهم ويدفعونه إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله ، فوجد قارون في نفسه من ذلك وأتى موسى وقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك ، وأنا أقرأ للتوراة منكما لا صبر لي على هذا ، فقال موسى : والله ما أنا جعلتها في هارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون : والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني بيانه ، قال : فجمع موسى عليه‌السلام رؤساء بني إسرائيل وقال : هاتوا عصيكم ، فجاءوا بها فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله تعالى فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا ، فأصبحت عصا هارون عليه‌السلام قد اهتز لها ورق أخضر ، وكانت من ورق شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون ترى هذا؟

فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر.

فذهب قارون مغاضبا واعتزل موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما ، وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد كل يوم إلا كبرا ومخالفة ومعاداة لموسى عليه‌السلام حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه.

قال ابن عباس : ثم إن الله سبحانه وتعالى أنزل الزكاة على موسى عليه‌السلام فلمّا أوجب الله سبحانه الزكاة عليهم أبى قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وعن كل ألف شيء شيئا ، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم : يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا له : أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت ، فقال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلا على أن تقذفه

٢٦٤

بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه ، فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم وقيل : ألف دينار ، وقيل : طستا من ذهب ، وقيل : حكمها ، وقال لها : إني أموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل ، فلمّا أن كان الغد جمع قارون بني إسرائيل ، ثم أتى موسى فقال له : إن بني إسرائيل قد اجتمعوا ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبين لهم أعلام دينهم وأحكام شريعتهم فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض فقام فيهم خطيبا ووعظهم [فكان] فيما قال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة ، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا ، قال قارون : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : أنا ، قال : نعم ، قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت ، فلمّا أن جاءت قال لها موسى : يا فلانة إنما أنا فعلت لك ما يقول هؤلاء ، وعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت ، فلمّا ناشدها تداركها الله بالتوفيق وقالت في نفسها : لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله ، فقالت : لا كذبوا ، ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فلمّا تكلمت بهذا الكلام سقط في يده قارون ونكس رأسه وسكت الملأ وعرف أنه وقع في مهلكة وخرّ] (١) موسى ساجدا يبكي ويقول : اللهم إن كنت رسولك ، فاغضب لي ، فأوحى الله سبحانه إليه : مر الأرض بما شئت ، فإنها مطيعة لك ، فقال موسى : يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليثبت مكانه ، ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزل قارون ولم يبق معه إلّا رجلان ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه عليه.

ثم قال : يا أرض خذيهم ، فانطبقت عليهم الأرض ، وأوحى الله تعالى إلى موسى : يا موسى ما أفظك. استغاثوا بك سبعين مرة فلم ترحمهم ولم تغثهم ، أما وعزتي لو إياي دعوا لوجدوني قريبا مجيبا.

قال قتادة : وذكر [لنا] أنّه يخسف به كلّ يوم قامة وأنّه يتخلخل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة ، قالوا : وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أنّ [موسى] إنّما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله ، فدعا الله موسى حتى يخسف بداره وأمواله الأرض.

وأوحى الله سبحانه إلى موسى : إنّي لا أعبّد الأرض لأحد بعدك أبدا ، فذلك قوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) ، (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ)

__________________

(١) إلى هنا السقط مستدرك من بحار الأنوار : ١٣ / ٢٥٤ ـ ٢٥٧.

٢٦٥

الممتنعين (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) العرب تعبّر بأضحى وأمسى وأصبح عن الصيرورة والفعل ، فتقول : أصبح فلان عاملا وأمسى حزينا وأضحى معدما ، إذا صاروا بهذه الأحوال وليس ثمّ من الصبح والمساء والضحى شيء.

(يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ) اختلف العلماء في هذه اللفظة ، فقال مجاهد : معناه : ألم تعلم؟

قتادة : ألم تر؟ ، الفرّاء : هي كلمة تقرير كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله وإحسانه؟ وذكر أنّه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك؟ فقال : ويكأنّه وراء البيت ، يعني أما ترينه وراء البيت؟ ابن عباس والحسن : هي كلمة ابتداء وتحقيق ، تقديره إنّ الله يبسط الرزق المؤرّخ : هو تعجّب ، قطرب : إنّما هو ويلك فأسقط منه اللام ، قال عنترة :

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قول الفوارس ويك عنتر أقدم (١)

وقيل : هو تنبيه بمنزلة ألا وأما. قال بعض الشعراء :

ويكأن من يكن له نشب

يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (٢)

وقال القتيبي : معناه رحمة بلغة حمير ، وقال سيبويه : سألت الخليل عنه ، فقال : وي كلمة تنبيه منفصلة من كأن فكأن في معنى الطب والعلم.

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) يقتّر (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) قرأ يعقوب وبعض أهل الشام والكوفة بفتح الخاء والسين ، وقراءة العامة بضم الخاء وكسر السين ، (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) تكبرا وتجبرا فيها ، (وَلا فَساداً) عملا بالمعاصي عن ابن جريج ومقاتل وعكرمة ومسلم البطين (٣) : الفساد : أخذ المال بغير حق ، الكلبي : الدعاء إلى غير عبادة الله.

(وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) قال قتادة : الجنة (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أنزله عن أكثر المفسرين ، وقال عطاء بن أبي رباح : فرض عليك العمل بالقرآن (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال [الضحاك و] مجاهد : إلى مكة ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، قال [ابن قتيبة] (٤) : معاد الرجل : بلده لأنّه ينصرف ثم يعود إلى بلده.

قال مقاتل : خرج النبي عليه‌السلام من الغار ليلا ثم هاجر من وجهه إلى المدينة ، فسار

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٣١٩.

(٢) الصحاح : ٦ / ٢٥٥٧.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) في المخطوط كلمة تشبه : القتيبي ، وما أثبتناه من (زاد المسير) : ٦ / ١٢٠.

٢٦٦

في غير الطريق مخافة الطلب ، فلمّا أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة ، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد آبائه ، فأتاه جبريل عليه‌السلام ، فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال : «نعم» [١٣٦] (١) ، قال : فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) إلى مكة ظاهرا عليها.

قال مقاتل : قال الضحاك : قال ابن عباس : إنّما نزلت بالجحفة ليس بمكة ولا المدينة ، وروي جابر عن أبي جعفر ، قال : انطلقت أنا وأبي إلى أبي سعيد الخدري ، فسأله عن هذه الآية : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ، قال : إلى الموت.

وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال الحسن والزهري وعكرمة : إلى يوم القيامة ، وقال أبو مالك وأبو صالح : إلى الجنة.

أخبرنا عبد الخالق بن علي ، قال : أخبرنا أبو بكر بن حبيب ، قال : حدّثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا عمار (٢) بن كثير ، قال : أخبرنا فضيلة (٣) ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال : إلى الجنة.

(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) قال بعض أهل المعاني : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ).

(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ. وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) وهذا (٤) حين دعا إلى دين آبائه (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) يعني إلّا هو ، عن مجاهد ، الصادق : دينه ، أبو العالية : إلّا ما أريد به وجهه.

أخبرنا ابن (٥) شاذان ، قال : أخبرنا جيعويه ، قال : حدّثنا صالح بن محمد ، عن جرير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبادة بن الصامت ، قال : يجاء بالدنيا يوم القيامة ، فيقال : ميزوا ما كان لله منها ، قال : فيماز ما كان لله منها ، ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار.

وبه عن صالح ، عن سليمان بن عمرو ، عن سالم الأفطس ، عن الحسن وسعيد بن جبير ،

__________________

(١) زاد المسير : ٦ / ١١٧.

(٢) في نسخة : حماد بن كثير.

(٣) في نسخة : عن فضل.

(٤) في نسخة أصفهان : وذلك.

(٥) في نسخة أصفهان : عبد الله بن حامد الوزان عن ابن شاذان.

٢٦٧

عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنّ رجلا سأله ، فلم يعطه شيئا ، فقال : أسألك بوجه الله ، فقال له علي : كذبت ، ليس بوجه الله سألتني ، إنّما وجه الله الحق ، ألا ترى قوله سبحانه وتعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) يعني الحق؟ ولكن سألتني بوجهك الخالق (١) كلّ شيء هالك إلّا الله والجنة والنار والعرش [١٣٧].

ابن كيسان : إلّا ملكه. (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

__________________

(١) في نسخة أصفهان : الخالق الضحاك.

٢٦٨

سورة العنكبوت

مكية ، وهي أربعة ألف ومائة وخمسة وتسعون حرفا ،

وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة ، وتسع وستون آية

أخبرنا الخباري (١) قال : أخبرنا ابن حيان ، قال : أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال : حدثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدثنا يوسف بن عطية قال : حدثنا هارون بن كثير قال : حدثنا زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ المؤمنين والمنافقين» [١٣٨] (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١))

(الم. أَحَسِبَ) أظن وأصله من الحساب (النَّاسُ) يعني الذين جزعوا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى المشركين (أَنْ يُتْرَكُوا) بغير اختبار ولا ابتلاء بأن قالوا : (آمَنَّا) كلا لنختبرنهم لنتبين الصادق من الكاذب ، (إن) الأولى منصوبة بـ (أَحَسِبَ) والثانية خفض بنزع الخافض ، أي لأن يقولوا ، والعرب لا تقول : تركت فلانا أن يذهب ، إنّما تقول : تركته يذهب ،

__________________

(١) في نسخة أصفهان : أبو الحسين الخباري.

(٢) تفسير مجمع البيان : ٨ / ٥.

٢٦٩

معه جوابان : أحدهما يشتركوا لأن يقولوا (١) ، والثاني : على التكرير تقديره : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) أحسبوا (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) لا يبتلون ليظهر المخلص من المنافق ، وقيل : (يُفْتَنُونَ) يصابون بشدائد الدنيا ، يعني : أنّ البلاء لا يدفع عنهم في الدنيا لقولهم : (آمَنَّا).

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال ابن جريج وابن عمير : نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذّب في الله.

وقال الشعبي : نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إنّه لا يقبل منكم إقرار بإسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا عائدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون فردوهم ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فكتبوا إليهم إنّه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا ، فقالوا : نخرج ، فإن اتبعنا أحد قاتلناه. فخرجوا ، فاتبعهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله سبحانه فيهم هاتين الآيتين ، وقال مقاتل : نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل يوم بدر رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يومئذ سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» [١٣٩] (٢) ، فجزع عليه أبواه وامرأته ، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية وأخبر أنّه لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله تعالى ، وقيل : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) بالأوامر والنواهي.

ثم عزّاهم ، فقال عز من قائل : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار ، وعلمه قديم تام ، وإنّما معنى ذلك : فليظهرنّ الله تعالى ذلك حتّى يوجد معلومة.

قال مقاتل : فليرين الله ، الأخفش : فليميزنّ الله.

وقال القتيبي : علم الله سبحانه نوعان : أحدهما : علم شيء كان يعلم إنّه كان ، والثاني : علم شيء يكون ، فعلم إنّه يكون وقت كذا ولا يعلمه كائنا واقعا إلّا بعد كونه ووقوعه ، بيانه قوله سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) (٣) أي نعلم المجاهدين منكم مجاهدين ونعلم الصابرين صابرين ، فكذلك هاهنا فليعلمنّ الله ذاك موجودا كائنا وهذا سبيل علم الله في الاستقبال.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الشرك (٤) (أَنْ يَسْبِقُونا) يعجزونا ويقولوا ما بأنفسهم

__________________

(١) في نسخة أصفهان : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا).

(٢) تفسير القرطبي : ١٣ / ٣٢٤.

(٣) سورة محمّد : ٣١.

(٤) في نسخة أصفهان : أي السوء.

٢٧٠

فلا يقدر على الانتقام منهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء حكمهم الذي يحكمون (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث. سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب الله (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب الكائن (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) له ثوابه. (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) اختلف النحاة في وجه نصب الحسن ، فقال أهل البصرة : على التكرير تقديره ووصيناه حسنا أي بالحسن ، كما يقول : وصيته خيرا ، أي بخير ، وقال أهل الكوفة : معناه ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا ، فحذفه لدلالة الكلام عليه كقول الراجز :

عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأنّنا جافونا

أي يوصينا أن نفعل بها خيرا ، وهو مثل قوله : (فَطَفِقَ مَسْحاً) (١) أي يمسح مسحا.

وقيل معناه : وألزمناه حسنا ، وقرأ العامة (حُسْناً) بضم الحاء وجزم السين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي بفتح الحاء والسين.

وفي مصحف أبي إحسانا نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري. واسم أبي وقاص : مالك بن وهبان ، وذلك

إنّه لما أسلم قالت له أمه جمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف : يا سعد بلغني إنّك صبوت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد وترجع إلى ما كنت عليه ، وكان أحب ولدها إليها ، فأبى سعد وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل ، فأتى سعد النبي عليه‌السلام وشكا ذلك إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترضاها ويحسن إليها ولا يطيعها في الشرك وذلك قوله سبحانه : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إنّه لي شريك (فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

أخبرنا عبد الله بن حامد ـ قراءة ـ قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا نمير بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قلت : يا رسول الله من أبرّ؟ قال : «أمّك» ، قلت : ثم من؟ قال : «أمّك» ، قلت : ثم من؟ قال : «ثم أمّك» ، قلت : ثم من؟ قال : «ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب» [١٤٠] (٢).

__________________

(١) سورة ص : ٣٣.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٣.

٢٧١

وأخبرنا عبد الله (١) ـ إجازة ـ قال : أخبرنا عثمان بن أحمد قال : حدثنا علي بن إبراهيم الواسطي قال : حدثنا منصور بن مهاجر قال : حدثنا أبو النصر الأبار ، عن أنس بن مالك قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجنة تحت أقدام الأمهات» [١٤١] (٢).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي في زمرتهم وجملتهم ، وقال محمد بن جرير : أي في مدخل الصالحين (٣) وهو الجنة ، وقيل : في بمعنى مع ، والصالحون هم الأولياء والأنبياء.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي أذاهم وعدائهم (كَعَذابِ اللهِ) في الآخرة فارتد عن إيمانه (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَ) هؤلاء المرتدون (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) وهم كاذبون (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) أي ليميّزنهم ويظهر أمرهم بالابتلاء والاختبار والفتن والمحن.

واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية : فقال مجاهد : نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا. الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك. عكرمة عن ابن عباس : نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر ، فارتدوا وهم الذين نزلت فيهم (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (٤) ... الآية ، وقد مضت القصة. قتادة : نزلت هذه الآية في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة.

وهذه الآيات العشر مدنية إلى هاهنا ، وسائرها مكي ، وقال مقاتل والكلبي : نزلت في العياش بن أبي ربيعة بن مغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي ، وذلك إنّه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي عليه‌السلام ، فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة ابن أبي جندل بن نهشل التميمي أن لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل لها رأسا ولا تدخل بيتا حتى يرجع إليها ، فلما رأى ابناها ـ أبو جهل والحارث ابنا هشام وهما أخوا عيّاش لأمّه ـ جزعها وحلفها رهبا في ظلمة حتى أتيا المدينة فلقياه ، فقال أبو جهل لأخيه عياش بن أبي ربيعة : قد علمت أنّك أحبّ إلى أمّك من جميع ولدها وكنت بها بارا ، وقد حلفت أمك إنّها لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتا حتى ترجع إليها ، وأنت تزعم أنّ في دينك بر الوالدين ، فارجع إليها فإنّ ربّك الذي تعبده بالمدينة هو ربك بمكة فاعبده بها ، فلم يزالا به حتى أخذ

__________________

(١) في نسخة أصفهان : عبد الله بن حامد إجازة عن عثمان بن أحمد.

(٢) الجامع الصغير : ١ / ٥٦٣.

(٣) في نسخة أصفهان : أي في زمرتهم.

(٤) سورة النساء : ٩٧.

٢٧٢

عليهما المواثيق لا يحركاه ولا يصرفاه عن دينه ، فأعطياه ما سأل من المواثيق فتبعهما ، وقد صبرت أمه ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت ، قالا : فلما خرجوا من أهل المدينة أخذاه فأوثقاه وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتى تبرأ من دين محمّد رحمهما‌الله جزعا من الضرب وقال ما لا ينبغي ، فأنزل الله سبحانه فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ) ... الآية.

قالا : وكان الحارث (١) أشدهما عليه وأسوأهما قولا ، فحلف عياش بالله لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربنّ عنقه ، فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون إلى المدينة ، فهاجر عياش وأسلم وحسن إسلامه.

ثم إنّ الله تعالى قذف الإيمان في قلب الحارث (٢) بن هشام ، فهاجر إلى المدينة وبايع النبي عليه‌السلام على الإسلام ولم يحضر عياش ، فلقيه عياش يوما بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه ، فضرب عنقه ، فقيل له : إنّ الرجل قد أسلم ، فاسترجع عياش وبكى ، ثم أتى النبي عليه‌السلام وأخبره بذلك ، فأنزل الله سبحانه وتعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) ... الآية.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أوزاركم ، قال الفراء : لفظة أمر ومعناه : جزاء ، مجازه إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله سبحانه : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) وقوله سبحانه : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) لفظة نهي وتأويله جزاء. وقال الشاعر :

__________________

(١) في نسخة أصفهان : الحرث.

(٢) في نسخة أصفهان : الحرث.

٢٧٣

فقلت ادعي وادع فإنّ أندى

لصوت أن ينادي داعيان (١)

يريد إن دعوت دعوت.

فأكذبهم الله تعالى ، فقال : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أوزار أنفسهم وأثقال من أضلوا وصدوا عن سبيل الله (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) نظيرها (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٢) الآية.

روي عوف ، عن الحسن أنّ النبي عليه‌السلام قال : «أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة ، فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» [١٤٢] (٣) ثم قرأ الحسن (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ).

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن عبد الرحمن بن هلال العنسي (٤) ، عن جرير قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحثّنا على الصدقة ، فأبطأ الناس حتى رئي وجهه الغضب ، ثم إنّ رجلا من الأنصار قام فجاء بصرّة وأعطاها ، فتتابع الناس ، فأعطوا حتى رئي (٥) في وجهه السرور ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ سنة سيّئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» [١٤٣] (٦).

(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ).

قال ابن عباس : بعث نوح عليه‌السلام لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ. وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً).

ويقولون كذبا ، وقال مجاهد : وتصنعون أصناما بأيديكم فتسمونها آلهة ، نظيره قوله

__________________

(١) لسان العرب : ١٢ / ٥٦٠ ، وتفسير القرطبي : ١٣ / ٣٣٠.

(٢) سورة النحل : ٢٥.

(٣) الدرّ المنثور : ٥ / ١٤٢.

(٤) في نسخة : العبسي.

(٥) في المخطوط : يرى.

(٦) مسند أحمد : ٤ / ٣٦٢.

٢٧٤

سبحانه : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (١) ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) على المبالغة والكثرة. (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) فاهلكوا (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَوَلَمْ يَرَوْا) بالتاء كوفي غيرهم بالياء (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ) الله ، (الْخَلْقَ) يعني فانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ولم يتعذر عليه مبدئا فكذلك لا يتعذر عليه إنشائها معيدا.

(ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ) أي يبدأ البدأة (الْآخِرَةَ) بعد الموت.

وفيها لغتان : نشأة بالمد وهي قراءة ابن كثير والحسن وأبو عمر وحبيب كانت ، ونشأة بالقصر وتسكين السين وهي قراءة الناس (٢) ونظيرها الرأفة (٣) ، والرأفة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) تردون.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) اختلف أهل المعاني في وجهها ، فقال الفراء : معناه ولا من في السماء بمعجز ، وهو من غامض العربية الضمير الذي لم يظهر في الثاني. كقول حسان بن ثابت :

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء (٤)

أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر من وإلى هذا التأويل ذهب عبد الرحمن بن زيد قال : لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوا.

__________________

(١) سورة الصافّات : ٩٥.

(٢) في نسخة أصفهان : الباقين.

(٣) هكذا في المخطوط.

(٤) تفسير القرطبي : ١٣ / ٣٣٧ ، البداية والنهاية : ٤ / ٣٥٦ ، وفيه أمن بدل فمن.

٢٧٥

وقال قطرب : ولا في السماء لو كنتم فيها ، كقولك : ما يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا في بلدي ، وهو معك في البلد أي ولا بالبصرة لو صار إليها.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فأعرض سبحانه بهذه الآيات تذكيرا وتحذيرا لأهل مكة ، ثم عاد إلى قصة إبراهيم ، فقال عز من قائل : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) قرأ العامة بنصب الباء على خبر كان وإن قالوا : في محل الرفع على اسم كان ، وقرأ سالم الأفطس جواب رفعا على اسم كان ، وإن موضعه نصب على خبره (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) وجعلها عليه بردا وسلاما ، قال كعب : ما حرقت منه إلّا وثاقه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَقالَ) يعني إبراهيم عليه‌السلام لقومه : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) اختلف القرّاء فيها ، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب مودةُ رفعا (بَيْنِكُمْ) خفضا بالإضافة ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على معنى : أنّ الذين (اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) هي مَوَدَّةُ (بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) لم تنقطع ولا تنفع في الآخرة كقوله : [(لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) ثم قال : (بَلاغٌ)] (١) أي هذا بلاغ ، وقوله سبحانه : [(لا يُفْلِحُونَ) ثم قال : (مَتاعٌ)] (٢) أي هو متاع ، فكذلك أضمروا هاهنا هي ويجوز أن تكون خبر إن.

وقرأ عاصم في بعض الروايات مودةُ مرفوعة منونة بينَكم نصبا وهو راجع إلى معنى القراءة الأولى ، وقرأ حمزة (مَوَدَّةَ) بالنصب (بَيْنِكُمْ) بالخفض على الإضافة بوقوع الاتحاد عليها وجعل إنّما حرفا واحدا وهي رواية حفص عن عاصم ، وقرأ الآخرون : مودةَ نصبا منونة بينَكم بالنصب وهي راجعة إلى قراءة حمزة ومعنى الآية أنكم اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا.

(مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) تتوادون وتتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها.

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) وتتبرأ الأوثان من عابديها (وَمَأْواكُمُ) جميعا العابدون والمعبودون (النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) وهو أول من صدق إبراهيم عليه‌السلام حين رأى أنّ النار لم تضرّه.

(وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) فهاجر من كوتي ـ من سواد الكوفة ـ إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة ، وهو أول من هاجر ، قال مقاتل : هاجر إبراهيم عليه‌السلام وهو ابن خمس وسبعين سنة.

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٣٥.

(٢) سورة يونس : ٦٩ ـ ٧٠.

٢٧٦

(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

(وَلُوطاً) فأذكر لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) مجلسكم (الْمُنْكَرَ).

حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي ، قال : حدثنا جدي لأمّي أبو الحسن المحمودي ، قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة : أنّ بشر بن معاذ العمقدي حدثهم قال : حدثنا يزيد بن زريع (١) قال : حدثنا حاتم بن أبي صغيرة ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن شنبه قال : حدثنا عمير بن مرداس الدونقي ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي ، قال : حدثنا يحيى بن أبي الحجاج أبو أيوب البصري قال : حدثنا أبو يونس حاتم بن أبي صغيرة ، عن سماك بن حرب ، عن أبي مولى أم هانئ ، عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله سبحانه : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتون؟ قال : «كانوا يخذفون أهل الطرق ويسخرون بهم» [١٤٤] (٢).

وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين ، قال : حدثنا موسى بن محمد ، قال : حدثنا الحسن بن علوية ، قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى ، قال : حدثنا المسيب ، قال : سمعت زياد بن أبي زياد يحدّث عن معاوية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كلّ رجل منهم قصعة فيها حصى ، فإذا مر بهم عابر سبيل قذفوه ، فأيهم أصابه كان أولى به» [١٤٥] (٣) وذلك قول الله سبحانه : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيّاكم

__________________

(١) في نسخة أصفهان : برنع.

(٢) مسند أحمد : ٦ / ٣٤١.

(٣) تفسير القرطبي : ١٣ / ٣٤٢.

٢٧٧

والخذف فإنّه لا ينكأ العدو ولا يصيب الصيد ، ولكن يفقأ العين ويكسر السن» [١٤٦] (١).

وأخبرنا الحسين قال : أخبرنا أبو علي بن حنيش المقري قال : حدثني أبو جعفر محمد بن جعفر المقري ، قال : حدثنا إبراهيم بن الحسين الكسائي ، قال : حدثنا هارون بن حاتم ، قال : أخبرنا أبو بكر بن أوس المدني ، عن أبيه ، عن يزيد بن بكر بن دأب ، عن القاسم بن محمد (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال : الضراط ، كانوا يتضارطون في مجالسهم ، وقال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضا في مجالسهم.

أخبرنا أبو جعفر الخلفاني قال : حدثنا أبو العباس التباني (٢) قال : حدثنا أبو لبيد (٣) السرخسي ، قال : حدثنا الحسن بن عمر بن شفيق ، قال : حدثنا سليمان بن ظريف عن مكحول ، قال : عشرة في هذه الأمة من أخلاق قوم لوط : مضغ العلك ، وتطويق الأصابع بالحناء ، وحل الإزار ، وتنقيص الأصابع والعمامة التي يلف بها على الرأس ، والسلينية (٤) ، ورمي الجلاهق ، والصفير ، والخذف ، واللوطية.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) إنّه نازل بنا وذلك إنّه أوعدهم العذاب ، (قالَ) لوط (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ. وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) من الله سبحانه إسحاق ويعقوب : (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) يعني قوم لوط (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ) إبراهيم للرسل : (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) وحسب إنّهم من الإنس (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً) عبرة ظاهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهي الخبر عما صنع بهم ، وقال ابن عباس : هي آثار منازلهم الخرباء. أبو العالية وقتادة : هي الحجارة التي ألقاها الله. مجاهد : الماء الأسود على وجه الأرض.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٥٤. بتفاوت.

(٢) في نسخة أصفهان : التبان.

(٣) في نسخة أصفهان : لنيد.

(٤) في نسخة أصفهان : السكينة.

٢٧٨

(٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثني ابن شنبه قال : حدثنا أبو حامد المستملي قال : حدثنا محمد بن حاتم الرمني قال : حدثنا محمد بن سلامة (١) الجمحي قال : قال يوسف (٢) النحوي : (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) يعني اخشوا (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) في الضلالة ، قال مجاهد وقتادة : (مُسْتَبْصِرِينَ) في ضلالهم معجبين بها. الفراء : عقلاء ذوي بصائر. ضحاك ومقاتل والكلبي : حسبوا إنّهم على الهدى والحق وهم على الباطل.

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) فائتين من عذابنا (فَكُلًّا أَخَذْنا) عاقبنا (بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) ريحا تأتي في الحصباء ، وهي الحصى الصغار ، وهم قوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) يعني ثمودا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) قارون وأصحابه (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) فرعون وقومه وقوم نوح.

(وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) يعني : الأصنام يرجون نصرها ونفعها عند حاجتهم إليها (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) لنفسها كيما يكنّها فلم يغن عنها بناؤها شيئا عند حاجتها إياه ، فكما أنّ بيت العنكبوت لا يدفع عنها بردا ولا حرا كذلك هذه الأوثان لا تملك لعابديها نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا.

__________________

(١) في نسخة أصفهان : سلام.

(٢) في نسخة أصفهان : يونس.

٢٧٩

(وَإِنَّ أَوْهَنَ) أضعف (الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) قال النحاة : العنكبوت مؤنثة التاء التي فيها ، وقد يذكّرها بعض العرب ، أنشد الفراء :

على هطالهم منهم (١) بيوت

كأنّ العنكبوت هو ابتناها (٢)

وزنته فعللون.

أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدثنا ابن شنبه ، قال : حدثنا أبو حامد المستملي ، قال : حدثنا محمد بن عمران الضبي ، قال : حدثني محمد بن سليمان المكي ، قال : حدّثني عبد الله بن ميمون القداح ، قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : سمعت أبي يقول : قال علي بن أبي طالب : طهّروا بيوتكم من نسيج العنكبوت ، فإنّ تركه في البيوت يورث الفقر ، قال : سمعت عليا يقول : منع الخميرة يورث الفقر.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ) بالياء أهل البصرة واختاره أبو عبيد قال : لذكر الأمم قبلها.

واختلف فيها عن عاصم ، غيرهم بالتاء.

(مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) الأشياء والأوصاف ، والمثل : قول سائر يشبّه حال الثاني بالأول (نَضْرِبُها) يبيّنها (لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ). أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدثنا ابن مندة (٣) قال : حدثنا الحارث (٤) بن أبي أسامة قال : حدثنا داود بن المخبر قال : حدثنا عباد بن كثير ، عن أبي جريج (٥) ، عن عطاء وأبي الزبير ، عن جابر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) فقال : «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» [١٤٧] (٦).

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) قال ابن عمر : تغني. الفراء : أن تنهي عن الفحشاء والمنكر ودليل هذا التأويل قوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي بقراءتك. وقال آخرون : هي الصلاة التي فيها الركوع والسجود.

قال ابن مسعود وابن عباس : يقول : في الصلاة : منتهى ومزدجر عن معاصي الله سبحانه وتعالى ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلّا بعدا.

__________________

(١) في نسخة أصفهان : منها.

(٢) لسان العرب : ١ / ٦٣٢.

(٣) في نسخة أصفهان : ابن برزة.

(٤) في نسخة أصفهان : الحرث.

(٥) في نسخة أصفهان : جريح.

(٦) تفسير القرطبي : ١٣ / ٣٤٦.

٢٨٠