الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

قوله : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) أي يخلص دينه لله ويفوّض أمره إليه ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يسلّم) بالتشديد ، وقراءة العامّة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (١) وأشباه ذلك.

(وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. وقال ابن عبّاس : هي : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

(وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) يعني مرجعها. (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ) نعمّرهم ونمهلهم (قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) نلجئهم ، ونردّهم (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ).

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

قوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية.

قال المفسّرون : سألت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرّوح فأنزل الله بمكّة : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (٢) الآية ، فلمّا هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود ، فقالوا : يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، أفعنيتنا أم قومك؟ فقال عليه‌السلام : كلّا قد عنيت. قالوا : ألست تتلوا فيما جاءك : إنّا قد أوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. قالوا : يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٣) فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير؟ فأنزل الله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) أي بريت

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٢.

(٢) سورة الإسراء : ٨٥.

(٣) سورة البقرة : ٢٦٩.

٣٢١

أقلاما (وَالْبَحْرُ) بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب. غيرهم بالرّفع ، وحجّتهم : قراءة عبد الله وبحر (يَمُدُّهُ) أي يزيده وينصب عليه (مِنْ بَعْدِهِ) من خلفه (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) وفي هذه الآية اختصار تقديرها : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) يكتب بها كلام الله (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ، وهذه الآية تقتضي أنّ كلامه غير مخلوق ؛ لأنّه لا نهاية له ولما يتعلّق به من معناه فهو غير مخلوق.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) هذه الآية على قول عطاء بن يسار : مدنيّة ، قال : نزلت بعد الهجرة كما حكينا. وعلى قول غيره : مكّيّة ، قالوا : إنّما أمر اليهود وفد قريش أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكّة ، والله أعلم.

قوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله : (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (١) أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. ذلِكَ) الذي ذكرت لتعلموا : (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) برحمة الله ، (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على أمر الله (شَكُورٍ) على نعمه. قال أهل المعاني : أراد لكلّ مؤمن ، لأنّ الصّبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) قال مقاتل : كالجبال. وقال الكلبي : كالسحاب (والظّلل) جمع ظلّه شبّه الموج بها في كثرتها وارتفاعها ـ كقول النّابغة في صفة بحر :

يماشيهن أخضر ذو ظلال

على حافاته فلق الدنان.

وإنّما شبّه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع ، لأنّ الموج يأتي شيء بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل. وقيل : هو بمعنى الجمع ، وإنّما لم يجمع لأنّه مصدر ، وأصله من الحركة والازدحام (٢).

(دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال ابن عبّاس : موف بما عاهد الله عليه في البحر. ابن كيسان : مؤمن. مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر.

الكلبي : (مُقْتَصِدٌ) في القول من الكفّار لأنّ بعضهم أشدّ قولا وأغلى في الافتراء من بعض. ابن

__________________

(١) سورة الأحزاب : ١٩.

(٢) تفسير الطبري : ٢١ / ١٠٢ مورد الآية.

٣٢٢

زيد : المقتصد الذي على صلاح من الأمر. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) غدّار (كَفُورٍ) جحود ، والختر أسوأ الغدر. وقال عمرو بن معدي كرب :

وإنّك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر (١)

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي) لا يقضي ولا يغني ولا يكفّر (والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). قراءة العامّة : بفتح الغين هاهنا وفي سورة الملائكة والحديد وقالوا : هو الشيطان. وقال سعيد بن جبير : هو أن يعمل بالمعصية ويتمنّى المغفرة. وقرأ سماك بن حرب :بضم الغين ومعناه لا تغتروا (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية.

نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية ، أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن الساعة ووقتها وقال : إنّ أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت أين ولدت فبأيّ أرض تموت؟ فأنزل الله هذه الآية.

أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون ، عن أحمد بن محمد بن الحسن ، عن محمد بن يحيى ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبي عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ابن عمر ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «مفاتيح الغيب خمسة (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية» [١٨٥] (٢).

وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أنّ رجلا قال : يا رسول الله هل من العلم علم لم تؤته؟ فقال : لقد أوتيت علما كثيرا أو علما حسنا [أو كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٣) ثمّ تلا رسول الله هذه الآية (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى قوله : (خَبِيرٌ) فقال : هؤلاء خمسة لا يعلمهنّ إلّا الله تبارك وتعالى (٤).

وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال : أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش ، عن علي بن حشرم ، عن الفضل بن موسى ، عن رجل سمّاه قال : بلغ ابن عبّاس أنّ يهوديا خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله. فقال : إن شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك. فقال : إنّك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم ، ولا تمكث عشرة أيّام حتّى يموت الصبي ، وأنت لا تخرج من الدّنيا حتى تعمى ، فقال ابن عبّاس : وأنت يا يهودي؟ قال : لا يحول عليّ الحول حتى أموت ، قال : فأين موتك؟ قال : لا أدري. قال ابن عبّاس :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ٨٠ ، ومعجم ما استعجم : ٢ / ٦٥٠.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٢٤ و ٢ / ١٢٢ ، وصحيح البخاري : ٥ / ١٩٣ وكذلك ٦ / ٢١.

(٣) زيادة عن تفسير الطبري.

(٤) تفسير الطبري : ٢١ / ١٠٥ ، ح ٢١٤٦٨.

٣٢٣

صدق الله (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). قال : فرجع ابن عبّاس فتلقّى بابن محموم فما بلغ عشرا حتّى مات الصبي ، وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا : مات ، وما خرج ابن عبّاس من الدنيا حتّى ذهب بصره. قال علي : هذا أعجب حديث.

قوله : (بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) كان حقه بأيّة أرض ، وبه قرأ أبيّ بن كعب ، إلّا أنّ من ذكّر قال : لأنّ الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء. وقيل : أراد بالأرض المكان فلذلك ذكّر ، وأحتج بقول الشاعر :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا الأرض ابقل ابقالها (١)

__________________

(١) تاج العروس : ٧ / ٨٤.

٣٢٤

سورة السجدة

مكّية ، وهي ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا ،

وثلاثمائة وثمانون كلمة ، وثلاثون آية

أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفراتي ، عن عمران بن موسى ، عن مكي بن عبدان ، عن سليمان بن داود ، عن أحمد بن نصر قال : أخبرني أبو معاد ، عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم ، عن زيد العمي عن أبي نضرة ، عن ابن عبّاس ، عن أبيّ بن كعب أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة (الم تَنْزِيلُ) أعطي من الأجر كأنّما أحيا ليلة القدر» [١٨٦].

وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهنرزي بها ، عن حمزة بن محمد بن العبّاس ببغداد ، عن عبد الله بن روح عن شبابة] بن سوار] عن المغيرة بن مسلم ، عن ابن الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنّه كان لا ينام حتّى يقرأ (الم تَنْزِيلُ) السجدة و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (١) ويقول : «هما تفضلان كلّ سورة في القرآن سبعين حسنة ، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة ، ومحي عنه سبعون سيئة ، ورفع له سبعون درجة» [١٨٧] (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١))

__________________

(١) سورة الملك : ١.

(٢) سنن الترمذي : ٤ / ٢٣٩ ، والمستدرك : ٢ / ٤١٢.

٣٢٥

قوله عزوجل : (الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ). أي ، بل يقولون وقيل : الميم صلة ، أي أيقولون استفهام توبيخ. وقيل : هو بمعنى الواو يعني ويقولون.

وقيل : فيه إضمار مجازه : فهل يؤمنون به ، أم يقولون : (افْتَراهُ) ثمّ قال : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) أي لم يأتهم من نذير (مِنْ قَبْلِكَ).

قال قتادة : كانوا أمّة أميّة لم يأتهم نذير قبل محمّد عليه‌السلام. قال ابن عبّاس ومقاتل : ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمّد عليهما‌السلام.

(لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) أي ينزل الوحي مع جبرائيل من السماء إلى الأرض (ثُمَّ يَعْرُجُ) يصعد (إِلَيْهِ) جبرائيل بالأمر في يوم واحد من أيّام الدّنيا ، وقدر مسيره ألف سنة ، خمسمائة نزوله من السماء إلى الأرض ، وخمسمائة صعوده من الأرض إلى السماء. وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة يقول : لو ساره أحد من بني آدم لم يسره إلّا في ألف سنة ، والملائكة يقطعون هذه المسافة بيوم واحد ، فعلى هذا التأويل نزلت الآية في وصف مقدار عروج الملائكة من الأرض إلى السماء ، ونزولهم من السماء إلى الأرض ، وأمّا قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (١) فإنّه أراد مدّة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبرائيل عليه‌السلام.

يقول : يسير جبرائيل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيّام الدنيا ، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة والضحّاك ، وأمّا معنى قوله : (إِلَيْهِ) على هذا التأويل فإنّه يعني إلى مكان الملك الذي أمره الله أن يعرج إليه ، كقول إبراهيم عليه‌السلام (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) (٢) وإنّما أراد أرض الشام. وقال : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ) (٣) أي إلى المدينة ، ولم يكن الله تعالى بالمدينة ولا بالشام.

أخبرني ابن فنجويه ، عن هارون بن محمد بن هارون ، عن حازم بن يحيى الحلواني ، عن محمد بن المتوكل ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن صدقة بن عبد الله عن موسى بن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتاني ملك برسالة من الله عزوجل ، ثمّ رفع رجله فوضعها فوق السماء ، والاخرى في الأرض لم يرفعها» [١٨٨] (٤).

وقال بعضهم معناه :

__________________

(١) سورة المعارج : ٤.

(٢) سورة الصافات : ٩٩.

(٣) سورة النساء : ١٠٠.

(٤) كنز العمال : ٦ / ١٣٦ ح ١٥١٥٣.

٣٢٦

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) مدّة أيّام الدنيا ، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) الأمر والتدبير ، ويرجع يعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وهو يوم القيامة.

وأمّا قوله : (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (١) فإنّه أراد على الكافر ، جعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة ، وعلى المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلّاها في دار الدنيا. ويجوز أن يكون ليوم القيامة أوّل وليس له آخر وفيه أوقات شتّى بعضها ألف سنة وبعضها خمسين ألف سنة. ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدّته وهوله ومشقّته لأنّ العرب تصف أيّام المكروه بالطّول وأيّام السرور بالقصر ، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من المفسّرين.

وروي عبد الرزاق عن ابن جريح قال : أخبرني ابن أبي مليكة قال : دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان على ابن عبّاس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية ، فقال له ابن عبّاس : من أنت؟ قال : أنا عبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان ، فقال عبد الله بن عبّاس : أيّام سمّاها الله لا أدري ما هي ، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة : فضرب الدهر حتّى دخلت على سعيد بن المسيّب فسئل عنها فلم يدر ما يقول ، فقلت له : ألا أخبرك ما حضرت من ابن عبّاس ، فأخبرته ، فقال ابن المسيب للسائل : هذا ابن عبّاس قد اتّقى أن يقول فيها وهو أعلم منّي.

قوله : (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قرأ نافع وأهل الكوفة (خَلَقَهُ) بفتح اللّام على الفعل ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ثمّ قالا : لسهولتها في المعنى وهي قراءة سعيد بن المسيب. وقرأ الآخرون بسكون اللام. قال الأخفش : هو على البدل ومجازه : الذي أحسن خلق كلّ شيء.

قال ابن عبّاس : أتقنه وأحكمه ، ثمّ قال : أما إنّ است القرد ليست بحسنة ولكنّه أحكم خلقها. وقال قتادة : حسنه. مقاتل : علم كيف يخلق كلّ شيء ، من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه.

(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) يعني آدم عليه‌السلام (مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) من نطفة ، سمّيت بذلك لأنّها تنسل من الإنسان ، أي تخرج ، ومنه قيل للولد : سلالة.

وقال ابن عبّاس : وهي صفو الماء (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ضعيف (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ. وَقالُوا) يعني منكري البعث ، (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي أهلكنا وبطلنا وصرنا ترابا ، وأصله من قول العرب : ضلّ الماء في اللبن إذا ذهب ، ويقال : أضللت الميّت أي دفنته. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة المعارج : ٤.

٣٢٧

وأب مضلوه بغير جلية

وغودر بالجولان جرم ونائل (١)

وقرأ ابن محيصن بكسر اللام (ضَلِلْنا) وهي لغة.

وقرأ الحسن والأعمش صَلَلْنا [بالصاد] غير معجمة أي أنتنّا ، وهي قراءة عليّ رضي‌الله‌عنه (٢).

أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شنبه قال : أخبرني أبو حامد المستملي ، عن محمد بن حاتم [الكرخي] (٣) أبو [عثمان] (٤) النحوي ، عن المسيب بن شريك ، عن عبيدة الضبي ، عن رجل ، عن علي أنّه قرأ أءذا صللنا أي أنتنّا.

قال محمّد بن حاتم : يقال : صلّ اللّحم وأصل إذا أنتن.

(أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) قال الله : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ).

قوله عزوجل : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ) بقبض أرواحكم (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) قال مجاهد : حويت له الأرض فجعلت له مثل طست يتناول منها حيث يشاء ، وقال مقاتل والكلبي : بلغنا أنّ اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة : جناح له بالمشرق ، وجناح له بالمغرب ، وجناح له في أقصى العالم من حيث يجيء ريح الصبا ، وجناح من الأفق الآخر. ورجل له بالمشرق ، والأخرى بالمغرب ، والخلق بين رجليه ، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض ، وجعلت له الدنيا مثل راحة اليد ، صاحبها يأخذ منها ما أحبّ في غير مشقة ولا عناء ، أي مثل اللّبنة بين يديه فهو يقبض أنفس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.

وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك عن الخطّاب بن أحمد بن عيسى قال : أخبرني أبو نافع أحمد بن كثير ، عن كثير بن هشام ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم عن ابن عبّاس قال : إنّ خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.

وأخبرنا الحسين بن محمد ، عن عبد الله بن يوسف ، عن عبد الرحيم بن محمد ، عن سلمة ابن شبيب ، عن الوليد بن سلمة الدمشقي ، عن ثور بن يزيد عن خالد بن [معد (٥)] ، عن معاذ بن جبل قال : إنّ لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب ، وهو يتصفّح وجوه الناس ، فما من أهل بيت إلّا وملك الموت يتفحّصهم في كلّ يوم مرّتين ، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة ، وقال : الآن يزار بك عسكر الأموات.

__________________

(١) تاج العروس : ١٠ / ٧٦.

(٢) راجع معاني القرآن للنحاس : ١ / ٢٠ ، وتفسير القرطبي : ١٤ / ٩٢ ، ولسان العرب : ١١ / ٣٨٤.

(٣) في نسخة أصفهان : الزمي.

(٤) في نسخة أصفهان : عمارة.

(٥) في نسخة أصفهان : معدان.

٣٢٨

وأخبرنا الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي ، عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، عن أبي ، عن عبد الله بن نميرة عن الأعمش عن خيثمة وعن شهر بن حوشب قال : دخل ملك الموت على سليمان ، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم إليه النظر ، فلمّا خرج قال الرجل : من هذا؟ قال : هذا ملك الموت ، قال : لقد رأيته ينظر إليّ كأنّه يريدني ، قال : فما تريد؟ قال : أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند ، فدعا بالريح فحملته عليها فألقته بالهند ، ثمّ أتى ملك الموت سليمان عليه‌السلام فقال : إنّك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي ، قال : كنت أعجب منه إنّي أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.

فإن قيل : ما الجامع بين قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (١) و (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٢) و (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٣) وقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٤) و (هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (٥).

قيل : توفّي الملائكة : القبض والنزع. وتوفّي ملك الموت : الدعاء والأمر ، يدعو الأرواح فتجيبه ثمّ يأمر أعوانه بقبضها ، وتوفّي الله سبحانه : خلق الموت ، والله أعلم.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي مطأطئو رؤوسهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حياء منه للذي سلف من معاصيهم في الدنيا يقولون : (رَبَّنا أَبْصَرْنا) ما كنّا به مكذّبين (وَسَمِعْنا)

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦١.

(٢) سورة النمل : ٢٨.

(٣) سورة السجدة : ١١.

(٤) سورة الزمر : ٤٢.

(٥) سورة الأنعام : ٦٠.

٣٢٩

منك تصديق ما أتتنا به رسلك (فَارْجِعْنا) فارددنا إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) وجواب لو مضمر مجازه : لرأيت العجب (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) رشدها وتوفيقها للإيمان (وَلكِنْ حَقَ) وجب وسبق (الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وهو قوله لإبليس (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (١). ثمّ يقال لأهل النار : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي تركتم الإيمان به (إِنَّا نَسِيناكُمْ) تركناكم في النار (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني ، عن الحسن ابن أيّوب القزويني ، عن عبد الله بن أبي زياد القطواني ، عن سيار حماد الصفار ، عن حجاج الأسود ، عن جبلة ، عن مولى له ، عن كعب قال : إذا كان يوم القيامة يقوم الملائكة فيشفعون ، ثمّ يقوم الأنبياء فيشفعون ، ثمّ يقوم الشهداء فيشفعون ثمّ يقوم المؤمنون فيشفعون. حتّى انصرمت الشفاعة كلّها فلم يبق أحد ، خرجت الرحمة ، فتقول : يا ربّ أنا الرحمة فشفّعني ، فيقول : قد شفّعتك ، فتقول : يا ربّ فيمن؟ فيقول : في من ذكرني في مقام وخافني فيه أو رجاني أو دعاني دعوة واحدة خافني أو رجاني فأخرجيه ، قال : فيخرجون فلا يبقى في النار أحد يعبأ الله به شيئا ، ثمّ يعظم أهلها بها ، ثمّ يأمر بالنار فتقبض عليهم فلا يدخل فيها روح أبدا ، ولا يخرج منها غمّ أبدا وقيل : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (٢).

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان به والسجود له. (تَتَجافى) أي ترتفع وتنتحي ، وهو تفاعل من الجفا ، والجفا : التبوّء والتباعد ، تقول العرب : جاف ظهرك عن الجدار ، وجفت عين فلان عن الغمض إذا لم تنم. (جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ).

أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن قال : أخبرني أبو عمرو عثمان بن أحمد ابن سمعان الوزان ، عن عبد الله بن قحطبة بن مرزوق ، عن محمد بن موسى الحرشي ، عن الحرث بن وحيه الراسبي قال : سمعت مالك بن دينار يقول : سألت أنس بن مالك عن قول الله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) ، فقال أنس : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة ، فأنزل الله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ).

أخبرني الحسين بن محمد [عن موسى بن محمد ، عن الحسن بن محمد ، عن موسى بن محمد] عن الحسن بن علويه ، عن إسماعيل بن عيسى ، عن المسيب ، عن سعيد بن أبي عروبة ،

__________________

(١) سورة ص : ٨٥.

(٢) سورة الجاثية : ٣٤.

٣٣٠

عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : نزلت فينا معاشر الأنصار : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) الآية ، كنّا نصلّي المغرب ، فلا نرجع إلى رحالنا حتّى نصلّي العشاء مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأخبرنا الحسين بن محمد عن عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله ، عن عبد الله بن محمد بن وهب ، عن محمد بن حميد ، عن يحيى بن الضريس ، عن النضر بن حميد ، عن سعيد ، عن الشعبي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عقّب ما بين المغرب والعشاء بني له في الجنّة قصران [ما بينهما] مسيرة [مائة] عام ، وفيهما من الشجر ، ما لو نزلها (١) أهل المشرق وأهل المغرب لأوسعتهم (٢) فاكهة ، وهي صلاة الأوّابين وغفلة الغافلين ، وإنّ من الدعاء المستجاب الذي لا يرد الدعاء ما بين المغرب والعشاء» [١٨٩] (٣).

وقال عطاء : يعني يصلّون صلاة العتمة لا ينامون عنها ، يدلّ عليها ما أنبأني عبد الله بن حامد ، عن عبد الصمد بن الحسن بن علي بن مكرم ، عن السري بن سهل ، عن عبد الله بن رشيد قال : أنبأني أبو عبيدة مجاعة بن الزبير ، عن أبان قال : جاءت امرأة إلى أنس بن مالك ، فقالت : إنّي أنام قبل العشاء. فقال : لا تنامي. فإنّ هذه الآية نزلت في الذين لا ينامون قبل العشاء الآخرة (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ). وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وابن زيد : هو التهجّد وقيام الليل ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه عن أبي بكر بن مالك القطيعي ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عن زيد بن الحبّاب ، عن حمّاد بن سلمة ، عن عاصم ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) قال : قيام العبد في الليل.

وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني ، عن محمّد بن عبد الله بن عبد الواحد الهمداني ، عن إسحاق بن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق بن معمر ، عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل ، عن معاذ قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فأصبحت قريبا منه ونحن نسير ، فقلت : يا نبيّ الله ألا تخبرني بعمل يدخلني الجنّة ، ويباعدني من النار؟ قال : يا معاذ ، لقد سألت عن عظيم ، وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه ، تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت. ثمّ قال : ألا أدلّك على أبواب الخير. الصوم جنّة من النار والصدقة تطفئ غضب الربّ (٤) وصلاة الرجل في جوف الليل ثمّ قرأ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ

__________________

(١) في المصدر : يراهما.

(٢) في المصدر : لأوصلهم.

(٣) كنز العمال : ٧ / ٣٩٢ ح ١٩٤٥٠.

(٤) في المصدر : الخطيئة ، بدل «غضب الربّ».

٣٣١

الْمَضاجِعِ) حتّى بلغ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ثمّ قال : ألا أخبرك (١) بملاك ذلك كلّه. فقلت : بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه. فقال : «اكفف (٢) ، عليك هذا».

فقلت : يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم؟ فقال : «ثكلتك أمّك يا معاذ! وهل يكبّ الناس في النّار على وجوههم أو على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم» [١٩٠] (٣).

وقال الضحّاك : هو أن يصلّي الرجل العشاء والغداة في جماعة.

أخبرني الحسين بن فنجويه عن أحمد بن الحسين بن ماجة قال : أخبرني أبو عوانة الكوفي بالري عن منجاب بن الحرث عن علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق كلّهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ثمّ يرجع فينادي : ليقم الذين كانت (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله (فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ). فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعا إلى الجنّة ثمّ يحاسب سائر الناس» [١٩١] (٤).

(يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي خبّئ لهم ، هذه قراءة العامّة. وقرأ حمزة ويعقوب أُخْفِي مرسلة الياء أي : أنا أخفي وحجّتهما قراءة عبد الله : نخفي بالنون. وقرأ محمّد بن كعب : أخفى بالألف يعني : أخفى الله من قرّة أعين ، قراءة العامّة على التوحيد.

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، عن مكي بن عبدان ، عن عبد الله بن هاشم قال : أخبرني أبو معاوية عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ومن بله ما [قد] أطلعتكم عليه ، اقرءوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) من قرّات أعين» [١٩٢] (٥). (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال : وكان أبو هريرة يقرأ. هكذا : قرّات أعين.

وقال ابن مسعود : إنّ في التوراة مكتوبا : لقد أعد الله للّذين (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولا يخطر على

__________________

(١) في المصدر زيادة : برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ، فقلت : بلى يا رسول الله قال : رأس الأمر وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، ثم قال : ألا أخبرك.

(٢) في المصدر : كف.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٢٣١ ، وسنن ابن ماجة : ٢ / ١٣١٤ ح ٣٩٧٣.

(٤) تفسير القرطبي : ١٤ / ١٠٢.

(٥) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٤٧ ح ٤٣٢٨ ، وفي التنزيل : قرة.

٣٣٢

قلب بشر وما لا يعلمه ملك مقرّب ، وإنّه لفي القرآن (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآية.

قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمّه وذلك أنّه كان بينهما تنازع وكلام في شيء ، فقال الوليد لعلي : أسكت فإنّك صبيّ ، وأنا والله أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا ، وأشجع جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكتيبة ، فقال له علي : اسكت فإنّك فاسق ، فأنزل الله عزوجل : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) ولم يقل يستويان ، لأنّه لم يرد بالمؤمن مؤمنا واحدا ، وبالفاسق فاسقا واحدا ، وإنّما أراد جميع الفسّاق وجميع المؤمنين. قال الفرّاء : إنّ الاثنين إذا لم يكونا مصمودين لهما ذهب بهما مذهب الجمع.

ثمّ ذكر حال الفريقين ومآلهما ، فقال عزّ من قائل : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال أبي بن كعب وأبو العالية والضحّاك والحسن وإبراهيم : العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها ممّا يبتلي الله به العباد حتّى يتوبوا ، وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس.

عكرمة عنه : الحدود.

عبد الله بن مسعود والحسن بن علي وعبد الله بن الحرث : القتل بالسيف يوم بدر.

مقاتل : الجوع سبع سنين بمكّة حتّى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. مجاهد : عذاب القبر. قالوا : والعذاب الأكبر ، يوم القيامة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن كفرهم.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) المشركين (مُنْتَقِمُونَ) قال زيد بن رفيع : عنى بالمجرمين هاهنا أصحاب القدر ثمّ قرأ (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إلى قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١) وأخبرنا الحسين بن محمد ، عن أحمد ابن محمد بن إسحاق السني قال : أخبرني جماهر بن محمد الدمشقي ، عن هشام بن عمّار ، عن إسماعيل بن عياش ، عن عبد العزيز بن عبد الله ، عن عبادة بن سني ، عن جنادة بن أبي أمية ، عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثلاث من فعلهن فقد أجرم : من اعتقد لواء في غير حقّ ، أو عقّ والديه ، أو مشى مع ظالم لينصره (٢) فقد أجرم. يقول الله تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)» [١٩٣] (٣).

__________________

(١) سورة القمر : ٤٩٤٧.

(٢) ليست موجودة في المصدر.

(٣) مجمع الزوائد : ٧ / ٩٠.

٣٣٣

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) ليلة المعراج. عن ابن عبّاس ، وقال السدّي : من تلقّيه كتاب الله تعالى بالرضا والقبول. قال أهل المعاني : لم يرد باللقاء الرؤية وإنّما أراد مباشرته الحال وتبليغه رسالة الله عزوجل وقبول كتاب الله. وقيل : من لقاء الله الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره.

(وَجَعَلْناهُ) [يعني الكتاب ، وقال قتادة : موسى] (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) قادة في الخير يقتدى بهم (يَهْدُونَ) يدعون (بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) قرأ حمزة والكسائي (لِما) بكسر اللام وتخفيف الميم أي لصبرهم ، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة عبد الله لما صبروا وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي حين صبروا.

(وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يقضي بينهم. ويسمّي أهل اليمن القاضي الفيصل (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) آيات الله وعظاته فيتّعظون بها.

قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي اليابسة المغيرة : الغليظة التي لا نبات فيها. وأصله من قولهم : ناقة جراز إذا كانت تأكل كلّ شيء تجده ، ورجل جروز ، إذا كان أكولا. قال الراجز :

خبّ جروز وإذا جاع بكى

ويأكل التمر ولا يلقي النوى

وسيف جراز أي قاطع ، وجرزت الجراد الزرع إذا استأصلته ، فكأن الجرز هي الأرض التي لا يبقى على ظهرها شيء إلّا أفسدته ، وفيه أربع لغات : ـ جرز وجرز وجرز وجرز (١).

قال ابن عبّاس : هي أرض باليمن. قال مجاهد : هي أبين (فَنُخْرِجُ) فننبت (بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال بعضهم : أراد

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي : ١٤ / ١١١ مورد الآية.

٣٣٤

بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب والحكم بين العباد.

قال قتادة : قال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه : إنّ لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم ، فقال الكفّار استهزاء : (مَتى هذَا الْفَتْحُ؟) أي القضاء والحكم.

قال الكلبي : يعني فتح مكّة. وقال السدي : يعني يوم بدر ، لأنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه كانوا يقولون لهم : إنّ الله ناصرنا ومظهرنا عليكم.

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) يوم القيامة (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ومن تأوّل النصر قال : لا ينفعهم إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) قراءة العامّة (مُنْتَظِرُونَ) بكسر الظاء. وقرأ محمد بن السميقع بفتح الظاء ، قال الفرّاء : لا يصحّ هذا إلّا بإضمار مجازه : إنّهم منتظرون ربّهم ، قال أبو حاتم : الصحيح كسر الظاء لقوله : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (١).

__________________

(١) سورة الدخان : ٥٩.

٣٣٥

محتوى الجزء السابع من كتاب تفسير الثعلبي

سورة الحج.................................................................................. ٥

سورة المؤمنون............................................................................. ٣٧

فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق........................................ ٦٠

سورة النور................................................................................ ٦٢

ذكر حكم الآية.......................................................................... ٧١

باب ذكر بعض ما ورد من الأخبار في الترغيب في النكاح.................................... ٩٠

فصل فيمن يستحبّ ويختار من النساء...................................................... ٩٢

فصل في الآداب الواردة في النكاح والزفاف................................................. ٩٣

سورة الفرقان............................................................................ ١٢٢

سورة الشعراء........................................................................... ١٥٥

سورة النّمل............................................................................. ١٨٨

ذكر الأخبار الواردة في صفة دابّة الأرض وكيفية خروجها.................................. ٢٢٣

سورة القصص........................................................................... ٢٣٢

سورة العنكبوت......................................................................... ٢٦٩

سورة الروم............................................................................. ٢٩١

سورة لقمان............................................................................. ٣٠٩

فصل في ذكر بعض ما روي من حكم لقمان.............................................. ٣١٦

سورة السجدة........................................................................... ٣٢٥

٣٣٦