الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

وحتى رأينا أحسن الود بيننا

مساكنة لا يقرف الشر قارف (١)

ينشد رفعا وجزما ، ومن الجزم قول الراجز :

لطال ما حلأتماها لا ترد

فخليّاها والسجال تبترد (٢)

(حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ) قراءة العامة بالياء يعنون العذاب.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : أخبرنا أبو العباس عبد الرّحمن بن محمد ابن حماد الطهراني قال : أخبرنا أبو زكريا يحيى بن الفضل الحرمي قال : حدّثنا وهب بن عمرو النمري قال : أخبرنا هارون بن موسى العتكي قال : حدّثنا الحسام عن الحسن أنه قرأ (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) بالتاء فقال له رجل : يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة فانتهره الحسن وقال : إنّما هي الساعة.

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ).

قال مقاتل : فقال المشركون : يا محمد إلى متى توعدنا بالعذاب؟ فأنزل الله عزوجل (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) في الدنيا ولم نهلكهم (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) يعني العذاب (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) رسل ينذرونهم (ذِكْرى) أي ينذرونهم تذكرة محلّها نصب ، وقيل رفع أي تلك ذكرى.

(وَما كُنَّا ظالِمِينَ) في تعذيبهم حيث قدّمنا الحجّة عليهم وأعذرنا إليهم.

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) بل نزل به الروح الأمين ، وقراءة العامّة (الشَّياطِينُ) بالياء في جميع القرآن لأن نونه سنخية وهجاؤه واحد كالدهاقين والبساتين.

وقرأ الحسن البصري ومحمد بن السميدح اليماني : الشياطون بالواو وقال الفراء : غلط الشيخ يعني الحسن فقيل : ذلك النضر بن شميل فقيل : إن جاز أن يحتج يقول العجاج ورؤبة ودونهما فهلّا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه؟ مع إنّا نعلم أنهما لم يقرءا ذلك إلّا وقد سمعا فيه.

وقال المؤرّخ : إن كان اشتقاق الشياطين من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه.

وأخبرني عمر بن شبّه قال : سمعت أبا عبيد يقول : لم نعب على الحسن في قراءته إلّا قوله : وما تنزّلت به الشياطون.

وبإسناده عن عمر بن شبّه قال : حدّثنا أبو حرب البابي من ولد باب قال : جاء أعرابي إلى

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٣ / ٤٨.

(٢) لسان العرب : ١ / ٥٩.

١٨١

يونس بن حبيب فقال : أتانا شاب من شبابكم هؤلاء فأتى بنا هذا الغدير فأجلسنا في ذات جناحين من الخشب فأدخلنا بساتين من وراءها بساتون.

قال يونس : ما أشبه هذا بقراءة الحسن.

(وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أن ينزلوا القرآن (وَما يَسْتَطِيعُونَ) ذلك (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) أي استراق السمع من السماء (لَمَعْزُولُونَ) وبالشهب مرجومون (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).

أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال : حدّثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمر قال : حدّثني عبّاد بن يعقوب قال : حدّثنا علي بن هاشم عن صباح بن يحيى المزني عن زكريا بن ميسرة عن أبي إسحاق عن البراء قال : لمّا نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا ، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس ، فأمر عليّا برجل شاة فأدمها ثم قال : ادنوا باسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا ، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا باسم الله ، فشرب القوم حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما يسحركم به الرجل ، فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ فلم يتكلّم.

ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا بني عبد المطلب إنّي أنا النذير إليكم من الله سبحانه والبشير لما يجيء به أحد منكم ، جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوني تهتدوا ، ومن يواخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيي بعدي ، وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم ، وأعاد ذلك ثلاثا كلّ ذلك يسكت القوم ، ويقول علي : أنا فقال : «أنت» فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أمّر عليك (١) [٩٨].

وأخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني ومحمد بن عبد الله بن حمدون قالا : أخبرنا أحمد ابن محمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيّب وأبو سلمة بن عبد الرّحمن أنّ أبا هريرة قال : قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزل الله سبحانه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال : «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفيّة عمّة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ، فسلوني من مالي ما شئتم» (٢) [٩٩].

وأخبرني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم

__________________

(١) شواهل التنزيل ـ الحسكاني. : ١ / ٥٤٣.

(٢) كنز العمّال : ١٦ / ٩.

١٨٢

قال : حدّثنا عبد الله قال : حدّثنا الأعمش عن عبد الله بن مرّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لمّا أنزل الله سبحانه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه ، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسولا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا : نعم قال : فإني نذيركم (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم ، ما دعوتنا إلّا لهذا ، فأنزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (١) [١٠٠].

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ) فليّن جانبك (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) من عبادة الأوثان ومعصية الرحمن.

فَتَوَكَّلْ بالفاء أهل المدينة والشام وكذلك هو في مصاحفهم ، وغيرهم بالواو أي (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ليكفيك كيد أعدائك.

(الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) إلى صلاتك عن أكثر المفسّرين.

وقال مجاهد : (الَّذِي يَراكَ) أينما كنت (وَتَقَلُّبَكَ) ويرى تقلّبك في صلاتك في حال قيامك وقعودك وركوعك وسجودك.

قال عكرمة وعطيّة عن ابن عباس ، وقال مجاهد : ويرى تقلّبك في المصلّين أي إبصارك منهم من هو خلفك كما تبصر من هو أمامك.

قال : وكان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن قال : حدّثنا السلمي وأحمد بن حفص وعبد الله الفرّاء وقطن قالوا : حدّثنا حفص قال : حدّثنا إبراهيم بن طهمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اتمّوا الركوع والسجود فو الله إنّي لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم (٢).

وقال قتادة وابن زيد ومقاتل والكلبي : يعني وتصرّفك مع المصلّين في أركان الصلاة في الجماعة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا ، وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٣٠٧.

(٢) مسند أبي يعلى : ٥ / ٤٦٤.

١٨٣

وقال سعيد بن جبير : وتصرّفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله ، والساجدون في هذا القول : الأنبياء.

وقال الحسن : يعني وتصرّفك وذهابك ومجيئك في أصحابك والمؤمنين.

أخبرني أبو سهل عبد الملك بن محمد بن أحمد بن حبيب المقري قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن موسى ، قال : حدّثنا زنجويه بن محمد ، قال : حدّثنا علىّ بن سعيد النسوي أبو عاصم عن صهيب عن عكرمة عن ابن عباس (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال : من نبي الى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة.

وحدّثنا أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرخسي الفقيه إملاء قال : أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة قال : حدّثنا الحسن بن بشر قال : حدّثنا سعدان بن الوليد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس في قوله سبحانه (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال : ما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمّه.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لقراءتك (الْعَلِيمُ) بعملك.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) ثمّ بيّن فقال (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) كذّاب (أَثِيمٍ) فاجر ، وهم الكهنة.

وقال مقاتل : مثل مسيلمة وطلحة.

(يُلْقُونَ السَّمْعَ) يعني يستمعون من الملائكة مسترقين فيلقون إلى الكهنة.

(وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) لأنّهم يخلطون به كذبا كثيرا ، وهم الآن محجوبون (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ).

أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال : أخبرنا أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن قهزاد المروزي قال : حدّثنا حاتم بن العلاء قال : أخبرنا عبد المؤمن عن بريده عن ابن عباس في هذه الآية (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ

١٨٤

الْغاوُونَ) قال : هم الشياطين ، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ).

وقال الضحّاك : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، ومع كل واحد منهم غواة من قومه وهم السفهاء ، فنزلت هذه الآية وهي رواية عطيّة عن ابن عباس.

عكرمة عنه : الرواة.

علي بن أبي طلحة عنه : كفّار الجنّ والإنس.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : أخبرني جعفر بن محمد قال : حدّثنا حسين بن محمد بن علي قال : حدّثنا أبي عن عبد الله بن سعيد بن الحر عن أبي عبد الله (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) قال : هم الذين يشعرون قلوب الناس بالباطل ، وأراد بهؤلاء شعراء الكفّار : عبد الله بن الزبعرى المخزومي ، وهبيرة بن أبي وهب ، ومسافع بن عبد مناف ، وعمرو بن عبد الله أبا عزّة الجمحي ، وأميّة بن أبي الصلت كانوا يهجون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتّبعهم الناس.

أخبرني الحسن بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة قال : حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال : حدّثنا علي بن سعيد النسوي قال : حدّثنا عبد السلام عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن مكحول عن أبي إدريس عن غضيف أو أبي غضيف من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه» (١) [١٠١].

وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال : أخبرنا أبو يعلى قال : حدّثنا إبراهيم بن عرعرة قال : حدّثنا عبد الرّحمن بن مهدي قال : حدّثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لمّا فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني مكة رنّ إبليس رنّة فاجتمعت إليه ذريّته فقال : «آيسوا أن ترتد أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ، ولكن أفشوا فيها ـ يعني مكة ـ الشعر والنوح» [١٠٢].

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ) من أودية الكلام (يَهِيمُونَ) حائرين وعن طريق الحق والرشد جائرين.

قال الكسائي : الهائم الذاهب على وجهه.

أبو عبيد : الهائم المخالف للقصد.

__________________

(١) مسند الشاميين ـ الطبراني. : ٤ / ٣٧٦.

١٨٥

قال ابن عباس في هذه الآية : في كل لغو يخوضون ، مجاهد : في كل فن يفتنون ، قتادة : يمدحون قوما بباطل ، ويشتمون قوما بباطل.

(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) ثمّ استثنى شعراء المؤمنين : حسّان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وكعب بن زهير فقال عزّ من قائل (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) يعني ردّوا على المشركين الذين هجوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد الكسائي قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدّثنا يحيى بن واضح عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي الحسن البراد قال : لما نزلت هذه الآية (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) جاء عبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وحسّان بن ثابت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يبكون فقالوا : يا رسول الله أنزل الله سبحانه هذه الآية وهو يعلم أنّا شعراء ، فقال : اقرءوا ما بعدها (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) أنتم (وَانْتَصَرُوا) أنتم (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب عن الزهري.

وأخبرنا ابن حمدون قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الزهري قال : حدّثنا عبد الرّحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنّه قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزل الله سبحانه في الشعراء ما أنزل : يا رسول الله إنّ الله سبحانه وتعالى قد أنزل في الشعراء ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل» (٢) [١٠٣].

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا عبد الله بن الفضل قال : حدّثنا عمرو بن محمد الناقد قال : حدّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أنّ عمر مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال : قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبي هريرة وقال : أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أجب عنّي ، اللهم أيّده بروح القدس»؟ [١٠٤] قال : اللهم نعم (٣).

__________________

(١) المصنّف ـ الكوفي. : ٦ / ١٧٨.

(٢) مسند أحمد : ٦ / ٣٨٧.

(٣) صحيح البخاري : ٤ / ٧٩.

١٨٦

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا محمد بن علي بن سالم الهمداني قال : حدّثنا أحمد بن منيع قال : حدّثنا أبو معاوية قال : حدّثنا الشيباني عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسّان : «اهج المشركين فإنّ جبرئيل معك» (١) [١٠٥].

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أشركوا (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أيّ مرجع يرجعون إليه بعد مماتهم.

وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه (أيّ منقلب ينفلتون) بالفاء والتاء ومعناهما واحد.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا عبيد الله بن معاذ قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا ابن عون عن إبراهيم قال : كان شريح يقول : سيعلم الظالمون حظّ من نقصوا ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النصر.

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٢٨٦.

١٨٧

سورة النّمل

مكّيّة ، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا ،

وألف (١) وتسع وأربعون كلمة ، وثلاث وسبعون آية.

أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد المعدّل قال : حدّثنا أبو يحيى البزّاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال : حدّثني أبي ، عن مجالد بن عبد الواحد ، عن الحجاج بن عبد الله ، عن أبي الخليل وعن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة ، عن زرّ بن حبيش ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (طس) سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان وكذّب به ، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ، ويخرج من قبره وهو ينادي : لا إله إلّا الله» [١٠٦] (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦))

(طس) قال ابن عباس : هو اسم من أسماء الله عزوجل ، أقسم الله سبحانه به أن هذه السورة (آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) يعني وآيات كتاب مبين ، وقيل : الطاء من اللطيف ، والسين من السميع ، وقال أهل الإشارة : هي إشارة إلى طهارة سرّ حبيبه.

(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) فيهما وجهان من العربية ، الرفع على خبر الابتداء أي هي هدى ، وإن شئت على حرف جزاء الصفة في قوله (لِلْمُؤْمِنِينَ) والنّصب على القطع والحال.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) القبيحة حتى رأوها حسنة ، وتزيينه خذلانه إيّاهم.

__________________

(١) في النسخة الثانية زيادة : ومائة.

(٢) تفسير مجمع البيان : ٧ / ٣٦١.

١٨٨

(فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ) شدّة (الْعَذابِ) في الدّنيا القتل والأسر بيده.

(وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) بحرمان النجاة والمنع من دخول الجنّات.

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى) لتلقّن وتعطى (الْقُرْآنَ) نظيره قوله سبحانه وتعالى (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) (١) (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ).

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) في مسيره من مدين إلى مصر وقد أصلد زنده (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) فامكثوا مكانكم (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب : (بِشِهابٍ) منوّن على البدل ، غيرهم بالإضافة ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، ومعناه : سآتيكم بشعلة نار اقتبسها منها.

(لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) تستدفئون (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ).

قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن : يعني قدّس من في النار وهو الله سبحانه عنى به نفسه عزوجل ، وتأويل هذا القول أنّه كان فيها لا على معنى تمكّن الأجسام لكن على معنى أنّه نادى موسى منها ، وأسمعه كلامه من جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها ، وهو كما روي أنّه مكتوب في التوراة : جاء الله عزوجل من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران ، فمجيئه عزوجل من سيناء بعثته موسى منها ، ومن ساعير بعثته المسيح بها ، واستعلامه من جبال فاران بعثه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفاران مكة ، وقالوا : كانت النار نوره عزوجل ، وإنّما ذكره بلفظ النّار لأنّ موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر.

وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله سبحانه وتعالى ، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن إسحاق قال : حدّثنا هاشم القاسم بن القاسم قال : حدّثنا المسعودي عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة ، موسى عن الأشعري قال : قام بيننا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربع فقال : «إنّ الله عزوجل لا ينام ، ولا ينبغي له

__________________

(١) سورة القصص : ٨٠.

١٨٩

أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النار ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أدركه بصره» [١٠٧] (١) ، ثم قرأ أبو عبيدة (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وقيل معناه : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) سلطانه وقدرته وفيمن حولها.

وقال آخرون : هذا التبريك عائد إلى موسى والملائكة ، ومجاز الآية : بورك من في طلب النار وقصدها بالقرب منها ، وهذا كما يقال : بلغ فلان البلد إذا قرب منه ، وورد فلان الماء لا يريدون أنّه في وسطه ، ويقال : أعط من في الدار ، يريدون من هو فيها مقيم أو شريك وإن لم يكن في الوقت في الدار ، ونحوها كثير.

ومعنى الآية : بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين حول النار ، وهذا تحيّة من الله سبحانه لموسى وتكرمة له كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ).

وقال بعضهم : هذه البركة راجعة إلى النار نفسها.

روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنّه قال : معناه بوركت النار ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى قال : حدّثنا أحمد بن نجدة قال : حدّثنا الحمّاني قال : حدّثنا هشيم قال : أخبرنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سمعت أبيّا يقرؤها : أن بوركت النار ومن حولها ، وتقدير هذا التفسير أنّ (من) تأتي في الكلام بمعنى (ما) ، كقوله سبحانه (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢) وقوله (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) (٣) الآية و (ما) قد تكون صلة في كثير من المواضع كقوله (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) (٤) و (عَمَّا قَلِيلٍ) (٥) فمعنى الآية بورك في النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى عليه‌السلام ، فسمّى النار مباركة كما سمّى البقعة مباركة فقال (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ).

وأمّا وجه قوله (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) فإنّ العرب تقول : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك وبارك لك ، أربع لغات ، قال الشاعر :

فبوركت مولودا وبوركت ناشيا

وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب (٦)

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٤٠١.

(٢) سورة الحجر : ٢٠.

(٣) سورة النور : ٤٥.

(٤) سورة ص : ١١.

(٥) سورة المؤمنون : ٤٠.

(٦) تفسير القرطبي : ١٣ / ١٥٨.

١٩٠

فأما الكلام المسموع من الشجرة فاعلم أنّ مذهب أهل الحق أنّ الله سبحانه وتعالى مستغن عن الحدّ والمكان والجهة والزمان لأنّ ذلك كلّه من أمارات الحدث ، وهي خلقه وملكه وهو سبحانه أجلّ وأعظم من أن يوصف بالجهات ، أو تحدّه الصفات ، أو تصحبه الأوقات ، أو تحويه الأماكن والأقطار.

ولمّا كان كذلك استحال أن توصف صفات ذاته بأنّها متنقّلة من مكان أو حالّة في مكان ، وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف كلامه بأنّه يحلّ موضعا أو ينزل مكانا ، كما لا يوصف بأنّه جوهر ولا عرض ولا حروف ولا صوت ، بل هو صفة يوصف بها الباري عزوجل فينتفى عنه بها آفات الخرس والبكم وما لا يليق به.

فأمّا الأفهام والأسماع فيجوز أن يكون في موضع دون موضع ومن مكان دون مكان ومن حيث لم تقع إحاطة واستغراق بالوقت على كنه صفاته ، قال الله سبحانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١).

(يا مُوسى إِنَّهُ) الهاء عماد وليست بكناية (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تتحرّك (كَأَنَّها جَانٌ) وهي الحيّة الخفيفة الصغيرة الجسم ، وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة.

فإن قيل : كيف قال في موضع (كَأَنَّها جَانٌ) وفي موضع آخر (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) (٢) والموصوف واحد؟

قلنا : فيه وجهان :

أحدهما : أنّها في أوّل أمرها جانّ وفي آخر الأمر ثعبان ، وذلك أنّها كانت تصير حية على قدر العصا ثم لا تزال تنتفخ وتربو حتى تصير كالثعبان العظيم.

والآخر : أنّها في سرعة الجانّ وخفّته وفي صورة الثعبان وقوّته.

فلمّا رآها موسى عليه‌السلام (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يرجع ، قال قتادة : ولم يلتفت.

فقال الله سبحانه (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) فعمل بغير ما أمر (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً) قراءة العامة بضم الحاء وجزم السين ، وقرأ الأعمش بفتح الحاء والسين (بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) سورة الشورى : ١١.

(٢) سورة الأعراف : ١٠٧.

١٩١

واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء ومعنى الآية ، فقال الحسن وابن جريج : قال الله سبحانه (يا موسى إنّما أخفتك لقتلك).

قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب ، ثم تذنب والله فتعاقب.

قال ابن جريج : فمعنى الآية : لا يخيف الله سبحانه الأنبياء بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يتوب ، فقوله (إِلَّا) على هذا التأويل استثناء صحيح ، وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الرسل وغيرهم من الناس ، وفي الآية استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها (فمن ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فإنّي غفور رحيم).

وقال الفرّاء : يقول القائل : كيف صيّر خائفا من ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء وهو مغفور له؟

فأقول له : في الآية وجهان :

أحدهما : أن تقول أنّ الرسل معصومة ، مغفور لها ، آمنة يوم القيامة ، ومن خلط (عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) من سائر الناس فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه.

والآخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة لأنّ المعنى (لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) إنما الخوف على غيرهم.

ثمّ استثنى فقال عزّ من قائل : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) يقول : كان مشركا فتاب من الشرك وعمل حسنة مغفور له وليس بخائف.

قال : وقد قال بعض النحويّين : (إِلَّا) هاهنا بمعنى الواو يعني : ولا من ظلم منهم كقوله سبحانه (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

وقال بعضهم : قوله (إِلَّا) ليس باستثناء من المرسلين لأنّه لا يجوز عليهم الظلم وإنّما معنى الآية : لكن من ظلم فعليه الخوف فإذا تاب أزال الله سبحانه وتعالى عنه الخوف.

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) وإنّما أمره بإدخال يده في جيبه لأنّه كان عليه في ذلك الوقت مدرعة من صوف ، ولم يكن لها كمّ ، قاله المفسّرون.

(تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) برص وآفة (فِي تِسْعِ آياتٍ) يقول هذه آية مع تسع آيات أنت مرسل بهنّ.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) فترك ذكر مرسل لدلالة الكلام عليه ، كقول الشاعر :

رأتني بحبليها فصدّت مخافة

وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق (١)

__________________

(١) لسان العرب : ٢ / ٦٢١.

١٩٢

أراد : راتني مقبلا بحبليها ، فترك ذكره لدلالة الكلام عليه.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) مضيئة بيّنة يبصر بها (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) نبوّته وعلمه وملكه دون سائر أولاده ، وكان لداود عليه‌السلام تسعة عشر ابنا.

قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه ، وكان داود أشدّ تعبّدا من سليمان عليهما‌السلام.

(وَقالَ) سليمان شاكرا لنعم الله سبحانه وتعالى عليه (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) جعل ذلك من الطير كمنطق بني آدم إذ فهمه عنها (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

قال مقاتل في هذه الآية : كان سليمان عليه‌السلام جالسا إذ مرّ به طائر يطوف فقال لجلسائه : هل تدرون ما يقول الطائر الذي مرّ بنا؟ قالوا : أنت أعلم ، فقال سليمان : إنّه قال لي : السلام عليك أيّها الملك المسلّط على بني إسرائيل ، أعطاك الله سبحانه وتعالى الكرامة وأظهرك على عدوّك ، إنّي منطلق الى فروخي ثم أمرّ بك الثانية ، وإنّه سيرجع إلينا الثانية فانظروا إلى رجوعه.

قال : فنظر القوم طويلا إذ مرّ بهم فقال : السلام عليك أيّها الملك إن شئت أن تأذن لي كيما أكسب على فروخي حتى يشبّوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت ، فأخبرهم سليمان بما قال وأذن له.

١٩٣

وقال فرقد السخي : مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا : الله ونبيّه أعلم ، قال : يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا.

وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسن العدل قال : حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة وأحمد ابن جعفر بن حمدان قالا : حدّثنا الفضل بن العباس الرازي قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا موسى ابن إبراهيم قال : حدّثنا عباد بن إبراهيم عن الكلبي عن رجل عن كعب قال : صاحت ورشان عند سليمان بن داود عليه‌السلام فقال : أتدرون ما تقول؟

قالوا : لا.

قال : فإنّها تقول (١) : ليت ذا الخلق لم يخلقوا.

وصاح طاوس عند سليمان عليه‌السلام فقال : أتدرون ما يقول؟

قالوا : لا.

قال : فإنّه يقول (٢) : من لا يرحم لا يرحم.

وصاح صرد عند سليمان فقال : أتدرون ما يقول؟

قالوا : لا.

قال : فإنّه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، فمن ثمّ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتله.

قال : فصاحت طيطوى عند سليمان عليه‌السلام فقال : أتدرون ما تقول؟

قالوا : لا.

قال : فإنّها تقول : كلّ حىّ ميّت ، وكلّ جديد بال.

وصاح خطّاف عند سليمان عليه‌السلام فقال : أتدرون ما يقول؟

قالوا : لا.

قال : فإنّه تقول : قدّموا خيرا تجدوه ، فمن ثمّ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتله.

وهدرت حمامة عند سليمان عليه‌السلام فقال : أتدرون ما تقول هذه الحمامة؟

__________________

(١) في النسخة الثانية (أصفهان) زيادة : لدوا للموت وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة عند سليمان ، فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا قال : فإنها تقول :

(٢) في النسخة الثانية زيادة : كما تدين تدان ، وصاح هدهد عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول :

١٩٤

قالوا : لا.

قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه.

وصاح قمريّ عند سليمان عليه‌السلام فقال : أتدرون ما يقول؟

قالوا : لا.

قال : فإنّه يقول : سبحان ربّي الأعلى ، والغراب يدعو على العشّار ، والحدأة تقول : كلّ شيء هالك إلّا الله. والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همّه ، والضفدع يقول : سبحان ربّي القدّوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكلّ مكان.

وأخبرنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا الفضل بن العباس بن مهران قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا موسى بن إبراهيم قال : أخبرنا إسماعيل عن عياش عن زرّ عن مكحول قال : صاح درّاج عند سليمان بن داود عليه‌السلام فقال : أتدرون ما يقول؟

قالوا : لا.

قال فإنّه يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).

وبإسناده عن موسى بن إبراهيم قال : أخبرنا صالح الهروي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الديك إذا صاح يقول : اذكروا الله يا غافلين» (١) [١٠٨].

وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسن بن علي قال : إذا صاح النسر قال : يا ابن آدم عش ما شئت آخره الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس ، وإذا صاح القبّر قال : الهي العن مبغضي آل محمد ، وإذا صاح الخطّاف قرأ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، يمدّ (الضَّالِّينَ) كما يمد للقارئ.

(وَحُشِرَ) وجمع (لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) في مسير لهم (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ، وذلك أنّه جعل على كلّ صنف منهم وزعة ترد أولاها على أخراها لئلّا يتقدّموا في المسير كما يصنع الملوك.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : (يُوزَعُونَ) : يدفعون. ابن زيد ومقاتل : يساقون ، السدّي : يوقفون ، وأصل الوزع في كلام العرب الكفّ والمنع ، ومنه الحديث : ما يزع السلطان أكثر ممّا يزع القرآن ويقال للأمر أوزعه.

وفي الخبر : لا بدّ للناس من وزعة. وقال الشاعر :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ١٦٦.

١٩٥

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت ألمّا أصح والشيب وازع (١)

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر ابن مجاهد قال : حدّثنا أحمد قال : حدّثنا سنيد قال : حدّثنا حجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب في هذه الآية قال : بلغنا أنّ سليمان عليه‌السلام كان عسكره مائة فرسخ ، خمسة وعشرون منها للإنس ، وخمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للوحش ، وخمسة وعشرون للطير ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرية ، فأمر الريح العاصف فحملته وأمر الرخاء فسرت به ، فأوحي إليه ـ وهو يسير بين السماء والأرض ـ إنّي قد زدت في ملكك أنّه لا يتكلّم أحد من الخلائق بشيء إلّا جاءت الريح فأخبرتك به.

وقال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان عليه‌السلام بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم ، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسط البساط فيقعد عليه ، وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة ، يقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجنّ والشياطين ، وتظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح الى الرّواح ومن الرواح إلى الصباح.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال : حدّثنا أبو بكر يعني ابن عياش عن إدريس ابن وهب بن منبه قال : حدّثني أبي قال : إنّ سليمان عليه‌السلام ركب البحر يوما فمرّ بحرّاث فنظر إليه الحرّاث فقال : لقد أوتي آل داود ملكا عظيما ، فحملت الريح كلامه في أذن سليمان فنزل حتى أتى الحرّاث فقال : إنّي سمعت قولك وإنّما مشيت إليك لأن لا تتمنى ما لا تقدر عليه ، لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير ممّا أوتي آل داود ، فقال الحرّاث : أذهب الله همّك كما أذهبت همّي.

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد بن جعفر (٢) قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرنا أبو إلياس عن وهب بن منبه عن كعب قال : إنّ سليمان عليه‌السلام كان إذا ركب حمل أهله وسائر حشمه وخدمه وكتّابه تلك السقوف بعضها فوق بعض على قدر درجاتهم ، وقد اتّخذ مطابخ ومخابز تحمل فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع في قدر عشرة جزائر ، وقد اتّخذ ميادين للدوابّ أمامه ، فيطبخ الطبّاخون ويخبز الخابزون وتجري الدواب بين يديه بين السماء والأرض والريح تهوي بهم.

__________________

(١) لسان العرب : ٤ / ٨٣.

(٢) في النسخة الثانية زيادة : الباقوحي.

١٩٦

فسار بمن اصطحبه إلى اليمن ، فسلك المدينة مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال سليمان : هذه دار هجرة نبىّ في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به ، وطوبى لمن اتّبعه ، وطوبى لمن اقتدى به ، ورأى حول البيت أصناما تعبد من دون الله سبحانه ، فلمّا جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله سبحانه إلى البيت : ما يبكيك؟ فقال : يا ربّ أبكاني هذا نبيّ من أنبيائك وقوم من أولياءك مرّوا عليّ ، فلم يهبطوا فيّ ولم يصلّوا عندي ولم يذكروك بحضرتي ، والأصنام تعبد حولي من دونك ، فأوحى الله سبحانه إليه أن لا تبك وإنّي سوف أملأك وجوها سجّدا ، وأنزل فيك قرآنا جديدا ، وأبعث منك نبيّا في آخر الزمان أحبّ أنبيائي إليّ ، وأجعل فيك عمّارا من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يرفّون إليك رفّة النّسور الى وكرها ويحنّون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضتها ، وأطهّرك من الأوثان وعبدة الشيطان.

قال : ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير ، واد من الطائف فأتى (عَلى وادِ النَّمْلِ) فـ (قالَتْ نَمْلَةٌ) تمشي ، وكانت عرجاء تتكاوس ، وكانت مثل المذنب في العظم ، فنادت النملة (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يعني أنّ سليمان يفهم مقالتها وكان لا يتكلّم خلق إلّا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان عليه‌السلام.

قال (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) إلى قوله (فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) يعني مع عبادك الموحّدين.

وقال قتادة ومقاتل : وادي النمل بأرض الشام.

قال نوف الحميري : كان نمل وادي سليمان مثل الذباب.

وقال الشعبي : النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات جناحين.

قال مقاتل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. واختلفوا في اسم تلك النملة.

فأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الحسني الدينوري قال : حدّثنا أبو العباس أحمد ابن محمد بن يوسف الصرصري قال : حدّثنا الهيثم بن خلف الدوري قال : حدّثنا هارون بن حاتم البزاز قال : حدّثنا إبراهيم بن الزبرقان التيمي عن أبي روق عن الضحاك قال : كان اسم النملة التي كلّمت سليمان بن داود عليه‌السلام طاحية.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة وعبيد الله قالا : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثني الفضل بن الحسن قال : حدّثنا أبو محمد النعمان بن شبل الباهلي قال : حدّثنا ابن أبي روق عن أبيه قال : كان اسم نملة سليمان حرمي ، وهو قول مقاتل.

ورأيت في بعض الكتب أنّ سليمان لمّا سمع قول النملة قال : ائتوني بها ، فأتوه بها فقال لها : لم حذّرت النمل ظلمي؟ أما علمت أنّي نبي عدل؟ فلم قلت : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ)؟

١٩٧

فقالت النملة : أما سمعت قولي : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)؟ مع ما أنّي لم أرد حطم النفوس وإنّما أردت حطم القلوب ، خشيت أن يتمنّين ما أعطيت ويشتغلن بالنظر عن التسبيح ، فقال لها : عظيني ، فقالت النملة : هل علمت لم سمّي أبوك داود؟

قال : لا.

قالت : لأنّه داوى جرحه فردّ. هل تدري لم سمّيت سليمان؟

قال : لا.

قالت : لأنّك سليم وكنت إلى ما أوتيت لسلامة صدرك وإنّ لك أن تلحق بأبيك ثم قالت : أتدري لم سخّر الله لك الريح؟

قال : لا.

قالت : أخبرك الله أنّ الدنيا كلّها ريح ، (فَتَبَسَّمَ) سليمان (ضاحِكاً) متعجّبا (مِنْ قَوْلِها ، وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) الى آخر الآية.

أخبرني ابن فنجويه قال : أخبرنا ابن شنبة قال : أخبرنا الحضرمي قال : حدّثنا حسن الخلّال قال : حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل أربعة من الدواب : الهدهد والصرد والنحلة والنملة.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) أي طلبها وبحث عنها (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) فتح ابن كثير وعاصم والكسائي وأيّوب (لِيَ) هاهنا وفي سورة يس (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) (١) وأرسل حمزة الياء فيهما جميعا (٢) ، وأمّا أبو عمرو فكان يرسل الياء في هذه ويفتح في يس ، وفرّق بينهما فقال : لأنّ هذه للتي في النمل استفهام والأخرى انتفاء.

(أَمْ كانَ) قيل : الميم صلة وقيل : أم بمعنى بل كان (مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) وكان عذابه أن ينتف ريشه وذنبه فيدعه ممعطا ثم يلقيه في بيت النمل فيلدغه ، وقال عبد الله بن شدّاد : نتفه وتشميسه.

الضحّاك : لأشدّن رجله ولأشمسنّه.

مقاتل بن حيّان : لأطلينّه بالقطران ولأشمسنّه.

وقيل : لأودعنّه القفص ، وقيل : لأفرّقنّ بينه وبين إلفه ، وقيل : لأمنعنه من خدمتي ، وقيل : لأبدّدنّ عليه؟.

__________________

(١) سورة يس : ٢٢.

(٢) في النسخة الثانية : استثناء.

١٩٨

(أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجة واضحة ، وأما سبب تفقّده الهدهد وسؤاله عنه من بين الطير إخلاله بالنوبة التي كان ينوبها واحتياج سليمان عليه‌السلام إلى الماء ، فلم يعلم من قصره (١) بعد الماء ، وقيل له : علم ذلك عند الهدهد ، فتفقّده فلم يجده فتوعّده وكانت القصّة فيه على ما ذكره العلماء بسيرة الأنبياء دخل حديث بعضهم في بعض : إنّ نبي الله سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج الى أرض الحرم ، فتجهز للمسير واستصحب من الإنس والجنّ والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ ، وأمر الريح الرخاء فحملتهم ، فلمّا وافى الحرم وأقام به ما شاء الله تعالى أن يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه جملة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة.

وقال لمن حضره من أشراف قومه : إنّ هذا مكان يخرج منه نبيّ عربيّ صفته كذا وكذا ، يعطى النصر على جميع من ناواه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر بالقريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم.

قالوا : فبأي دين ندين يا نبي الله؟ قال : بدين الحنيفية فطوبى لمن أدركه وآمن به وصدقه.

قالوا : وكم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال : زهاء ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل وإن اسمه محمد في زمر الأنبياء.

قال : فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم أحب أن [يسعى] (٢) إلى أرض اليمن فخرج من مكة صباحا وسار نحو اليمن يوم نجم سهيل فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا وأزهر خضرتها وأحب النزول بها ليصلي ويتغدى فطلبوا الماء فلم يجدوا وكان الهدهد دليله على الماء ، كان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى أحدكم كأسه بيده فينقر الأرض فيعرف موضع الماء وبعده ثم يجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب ثم يستخرجون الماء.

قال سعيد بن جبير : ذكر ابن عباس هذا الحديث ، فقال له نافع بن الأزرق : فرأيت قولك الهدهد ينقر الأرض فيبصر الماء ، كيف يبصر هذا ولا يبصر [حبتي القمح] فيقع في عنقه؟.

فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر.

وروى قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقتلوا الهدهد فإنه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده ، وأحب أن يعبد الله في الأرض حيث يقول (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً)» الآية [١٠٩].

__________________

(١) في الثانية : حفرة.

(٢) هكذا في الأصل.

١٩٩

قالوا : فلما نزل سليمان قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها ، ففعل ذلك فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه ، وكان اسم هدهد سليمان بن داود عليه‌السلام : يعفور ، واسم هدهد اليمن عنفر (١) فقال عنفر ليعفور سليمان : من أين أقبلت؟ وأين تريد؟

قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليه‌السلام.

فقال الهدهد : ومن سليمان بن داود؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والريح فمن أين أنت؟ فقال : أنا من هذه البلاد. قال : ومن ملكها؟ قال : امرأة يقال لها : بلقيس ، وإن لصاحبكم سليمان ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها ملكت الشمس كلها وتحت يديها إثنا عشر ألف قائد ، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل.

فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال : أخاف أن يتفقدني سليمان وقت الصلاة إذا أحتاج إلى الماء.

قال الهدهد اليماني : إن صاحبك ليسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وما رجع إلى سليمان إلّا وقت العصر.

قال : فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة طلب الهدهد وذلك أنه نزل على غير ماء فسأل الإنس عن الماء فقالوا : ما نعلم هاهنا ماء. فسأل الجن والشياطين فلم يعلموا فتفقد الهدهد ففقده ـ قال ابن عباس : في بعض الروايات : وتعب] من تفحّصه إلى] الشمس ـ سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال : أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته مكانا ، فغضب عند ذلك سليمان عليه‌السلام وقال (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).

روى عكرمة عن ابن عباس قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة.

قالوا : ثم دعا بالعقاب سيد الطير فقال : عليّ بالهدهد الساعة. فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى استقرّ بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده ، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده فقال : بحق الله الذي قواك فأقدرك عليّ إلّا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء.

قال : فولّ عنه العقاب وقال له : ويلك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو

__________________

(١) وروي : عنفير وعنقر.

٢٠٠