نهج البلاغة - ج ٣

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٣

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٢

الأمور المردية (١) ، وسفه الآراء الجائرة إلى منابذنى وخلافى فها أنا ذا قد قرّبت جيادى (٢) ، ورحّلت ركابى ، ولئن ألجأتمونى إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقة لاعق (٣) ، مع أنّى عارف لذى الطّاعة منكم فضله ، ولذى النّصيحة حقّه ، غير متجاوز متّهما إلى برىء ، ولا ناكثا إلى وفىّ (٤)

٣٠ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى معاوية

فاتّق اللّه فيما لديك ، وانظر فى حقّه عليك ، وارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته ، فانّ للطّاعة أعلاما واضحة ، وسبلا نيّرة ، ومحجّة نهجة (٥) ، وغاية مطلوبة ، يردها الأكياس (٦) ، ويخالفها الأنكاس ، من نكّب عنها جار

__________________

(١) خطت : تجاوزت ، والمردية : المهلكة ، وسفه الآراء : ضعفها ، والجائرة : المائلة عن الحق ، والمنابذة : المخالفة

(٢) قرب خيله : أدناها منه ليركبها ، ورحل ركابه : شد الرحال عليها. والركاب : الأبل

(٣) التشبيه فى السهولة وسرعة الانتهاء ، واللعقة : اللحسة

(٤) الناكث : ناقض عهده.

(٥) المحجة : الطريق الواضحة ، والنهجة : الواضحة كذلك

(٦) الأكياس : العقلاء ، جمع كيس ـ كسيد ـ والأنكاس : جمع نكس ـ بكسر النون ـ : وهو الدنىء الخسيس.

٤١

عن الحقّ وخبط فى التّيه (١) ، وغيّر اللّه نعمته ، وأحلّ به نقمته ، فنفسك نفسك ، فقد بيّن اللّه لك سبيلك ، وحيث تناهت بك أمورك فقد أجريت إلى غاية خسر ، ومحلّة كفر (٢) ، وإنّ نفسك قد أولجتك شرّا ، وأقحمتك (٣) غيّا ، وأوردتك المهالك ، وأوعرت عليك المسالك (٤)

٣١ ـ ومن وصيّة له عليه السّلام

للحسن بن على عليهما السلام ، كتبها إليه بحاضرين [منصرفا] من صفين (٥)

من الوالد الفان ، المقرّ للزّمان (٦) المدبر العمر ، المستسلم للدّهر ، الذّامّ للدّنيا ، السّاكن مساكن الموتى ، والظّاعن عنها غدا ، إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك (٧) ، السّالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ، ورهينة الأيّام ، ورميّة المصائب (٨) ، وعبد الدّنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا ، وأسير

__________________

(١) نكب : عدل ، وجار : مال ، وخبط : مشى على غير هداية ، والتيه : الضلال

(٢) أجريت مطيتك مسرعا إلى غاية خسران

(٣) أولجتك : أدخلتك ، وأقحمتك : رمت بك فى الغى ، ضد الرشاد

(٤) أوعرت : أخشنت وصعبت

(٥) حاضرين : اسم بلدة فى نواحى صفين

(٦) المعترف له بالشدة

(٧) يؤمل البقاء ، وهو مما لا يدركه أحد.

(٨) هدفها ترمى إليه سهامها ، والرهينة : المرهونة ، أى : إنه فى قبضها وحكمها. والرمية : ما أصابه السهم

٤٢

الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ، ونصب الآفات (١) ، وصريع الشّهوات ، وخليفة الأموات

أمّا بعد ، فإنّ فيما تبيّنت من إدبار الدّنيا عنّى ، وجموح الدّهر علىّ (٢) ، وإقبال الآخرة إلىّ ، ما يرغّبنى عن ذكر من سواى (٣) ، والاهتمام بما ورائى (٤) غير أنّى حيث تفرّد بى ـ دون هموم النّاس ـ همّ نفسى ، فصدقنى رأيى ، وصرفنى عن هوائى (٥) ، وصرّح لى محض أمرى ، فأفضى بى إلى جدّ لا يكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب ، ووجدتك بعضى ، بل وجدتك كلّى ، حتّى كأنّ شيئا لو أصابك أصابنى ، وكأنّ الموت لو أتاك أتانى فعنانى من أمرك ما يعنينى من أمر نفسى ، فكتبت إليك (٦) [كتابى]

__________________

(١) من قولهم «فلان نصب عينى» ـ بالضم ـ أى : لا يفارقنى ، هكذا قال الأستاذ الامام ، وعندى أن خيرا من ذلك ضبط «نصب» بفتحتين أو بفتح فسكون وهو الغاية أو العلم المنصوب ، فكأن يريد أنه غاية تنتهى الآفات عندها فتلقى عصاها وتستقر لديه ، أو كأنه علم منصوب لا تهتدى الآفات إلا إليه ولا تقع إلا عليه. والصريع : الطريح

(٢) جموح الدهر : استعصاؤه وتغلبه

(٣) «ما» خبر «أن» ، وروى «فاننى فيما تبينت ـ الخ» وعليه فما مفعول «تبينت»

(٤) من أمر الآخرة

(٥) صدفه : صرفه ، والضمير المستتر فى «صرفنى» للرأى. ومحض الأمر : خالصه

(٦) مفعول كتب هو قوله «فانى أوصيك ـ الخ» ، هكذا قال الأستاذ الامام ، وظاهر غاية الظهور أنه لا يتأتى على النسخة

٤٣

مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت

فانّى أوصيك بتقوى اللّه ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله ، وأىّ سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به؟؟ أحى قلبك بالموعظة ، وأمته بالزّهادة ، وقوّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت ، وقرّره بالفناء (١) ، وبصّره فجائع الدّنيا ، وحذّره صولة الدّهر ، وفحش تقلّب اللّيالى والأيّام ، وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين ، وسر فى ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا ، وعمّا انتقلوا ، وأين حلّوا ونزلوا ، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة وحلّوا ديار الغربة ، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تكلّف وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإنّ الكفّ عند حيرة الضّلال خير من ركوب الأهوال ، وأمر بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك (٢) ، وجاهد فى اللّه حقّ جهاده ، ولا تأخذك

__________________

التى فيها زيادة «كتابى» وهى النسخة التى شرح عليها ابن أبى الحديد ، وقوله «مستظهرا به» أى : مستعينا بما أكتب إليك على ميل قلبك وهوى نفسك.

(١) اطلب منه الاقرار بالفناء ، و «بصره» أى : اجعله بصيرا ، بالفجائع : جمع فجيعة ، وهى المصيبة تفزع بحلولها

(٢) «باين» أى : باعد وجانب الذى يفعل المنكر.

٤٤

فى اللّه لومة لائم ، وخض الغمرات للحقّ حيث كان (١) ، وتفقّه فى الدّين ، وعوّد نفسك التّصبّر على المكروه ، ونعم الخلق التّصبّر [فى الحقّ] ، وألجىء نفسك فى الأمور كلّها إلى إلهك فإنّك تلجئها إلى كهف حريز (٢) ، ومانع عزيز ، وأخلص فى المسألة لربّك فإنّ بيده العطاء والحرمان ، وأكثر الاستخارة (٣) ، وتفهّم وصيّتى ، ولا تذهبنّ عنها صفحا (٤) ، فانّ خير القول ما نفع ، واعلم أنّه لا خير فى علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه (٥) أى بنىّ ، إنّى لمّا رأيتنى قد بلغت سنّا (٦) ، ورأيتنى أزداد وهنا ، بادرت بوصيّتى إليك ، وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بى أجلى دون أن أفضى إليك بما فى نفسى (٧) ، وأن أنقص فى رأيى كما نقصت فى جسمى (٨) ، أو يسبقنى إليك بعض غلبات الهوى ، أو فتن الدّنيا (٩) ، فتكون كالصّعب

__________________

(١) الغمرات : الشدائد

(٢) الكهف : الملجأ ، والحريز : الحافظ

(٣) الاستخارة : إجالة الرأى فى الأمر قبل فعله لاختيار أفضل وجوهه

(٤) «صفحا» أى : جانبا ، أى : لا تعرض عنها

(٥) لا يحق ـ بكسر الحاء وضمها ـ أى : لا يكون من الحق كالسحر ونحوه

(٦) أى : وصلت النهاية من جهة السن ، والوهن : الضعف.

(٧) أفضى : ألقى اليك

(٨) «وأن أنقص» : عطف على «أن يعجل»

(٩) أى : يسبقنى بالاستيلاء على قلبك غلبات الأهواء ، فلا تتمكن نصيحتى من النفوذ إلى فؤادك ، فتكون كالفرس الصعب غير المذلل ، والنفور : ضد الآنس

٤٥

النّفور ، وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية : ما ألقى فيها من شىء قبلته ، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك ، لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التّجارب بغيته وتجربته (١) فتكون قد كفيت مؤونة الطّلب ، وعوفيت من علاج التّجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه ، واستبان لك ما ربّما أظلم علينا منه (٢) أى بنىّ ،

إنّى ـ وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلى ـ فقد نظرت فى أعمالهم ، وفكّرت فى أخبارهم ، وسرت فى آثارهم ، حتّى عدت كأحدهم ، بل كأنّى بما انتهى إلىّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله (٣) وتوخّيت لك جميله ، وصرفت عنك مجهوله ، ورأيت ـ حيث عنانى من أمرك ما يعنى الوالد الشّفيق ، وأجمعت عليه من أدبك (٤) ـ أن يكون (٥)

__________________

(١) ليكون جد رأيك ـ أى : محققه وثابته ـ مستعدا لقبول الحقائق التى وقف عليها أهل التجارب وكفوك طلبها ، والبغية ـ بالكسر والضم ـ : الطلبة ، والحاجة

(٢) استبان : ظهر ، إذا انضم رأيه إلى آراء أهل التجارب فربما يظهر له ما لم يكن ظهر لهم ، فان رأيه يأتى بأمر جديد لم يكونوا أتوا به

(٣) النخيل : المختار المصفى ، ويروى «جليله» أى : عظيمه. و «توخيت» : أى : تحريت.

(٤) أجمعت : عزمت ، عطف على «يعنى الوالد»

(٥) «أن يكون» : مفعول «رأيت»

٤٦

ذلك وأنت مقبل العمر ، ومقتبل الدّهر ، ذو نيّة سليمة ونفس صافية ، وأن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه وتأويله ، وشرائع الاسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، [و] لا أجاوز لك إلى غيره (١) ، ثمّ أشفقت (٢) أن يلتبس عليك ما اختلف النّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الّذى التبس عليهم (٣) ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إلىّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة (٤) ، ورجوت أن يوفّقك اللّه لرشدك ، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك وصيّتى هذه.

واعلم ، يا بنىّ ، أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إلىّ من وصيّتى ، تقوى اللّه والإقتصار على ما فرضه اللّه عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك والصّالحون من أهل بيتك ، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر (٥) ، وفكّروا كما أنت مفكّر ، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا

__________________

(١) لا أتعدى بك كتاب اللّه إلى غيره ، بل أقف بك عنده

(٢) «أشفقت» أى : خشيت وخفت

(٣) «مثل» : صفة لمفعول مطلق محذوف ، أى : التباسا مثل الذى كان لهم.

(٤) أى : إنك وإن كنت تكره أن ينبهك أحد لما ذكرت لك فانى أعد إتقان التنبيه على كراهتك له أحب إلى من إسلامك ـ أى : إلقائك ـ إلى أمر تخشى عليك به الهلكة.

(٥) لم يتركوا النظر لأنفسهم فى أول أمرهم بعين لا ترى نقصا ولا تحذر خطرا

٤٧

والامساك عمّا لم يكلّفوا ، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهّم وتعلّم ، لا بتورّط الشّبهات ، وعلوّ الخصوصيّات (١) وابدأ ـ قبل نظرك فى ذلك ـ بالاستعانة بالهك ، والرّغبة إليه فى توفيقك ، وترك كلّ شائبة أولجتك فى شبهة (٢) ، أو أسلمتك إلى ضلالة ، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتمّ رأيك فاجتمع ، وكان همّك فى ذلك همّا واحدا ، فانظر فيما فسّرت لك ، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء (٣) ، وتتورّط الظّلماء ، وليس طالب الدّين من خبط أو خلط! والإمساك عن ذلك أمثل (٤). فتفهّم ، يا بنىّ ، وصيّتى ، واعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة ، وأنّ الخالق هو المميت ، وأنّ المفنى هو المعيد ، وأنّ المبتلى هو المعافى ، وأنّ الدّنيا لم تكن

__________________

ثم ردتهم آلام التجربة إلى الأخذ بما عرفوا حسن عاقبته وإمساك أنفسهم عن عمل لم يكلفهم اللّه إتيانه

(١) يروى «وعلو الخصومات»

(٢) الشائبة : ما يشوب الفكر من شك وحيرة ، وأولجتك : أدخلتك

(٣) العشواء : الضعيفة البصر : أى : تخبط خبط الناقة العشواء : لا تأمن أن تسقط فيما لا خلاص منه ، وتورط فى الأمر : دخل فيه على صعوبة فى التخلص منه

(٤) حبس النفس عن الخلط والخبط فى الدين أحسن.

٤٨

لتستقرّ إلاّ على ما جعلها اللّه عليه من النّعماء (١) والابتلاء والجزاء فى المعاد ، أو ما شاء ممّا لا نعلم. فإن أشكل عليك شىء من ذلك فاحمله على جهالتك به ، فإنّك أوّل ما خلقت جاهلا ثمّ علّمت ، وما أكثر ما تجهل من الأمر ، ويتحيّر فيه رأيك ، ويضلّ فيه بصرك ، ثمّ تبصره بعد ذلك ، فاعتصم بالّذى خلقك ورزقك وسوّاك ، وليكن له تعبّدك ، وإليه رغبتك ، ومنه شفقتك (٢). واعلم ، يا بنىّ ، أنّ أحدا لم ينبئ عن اللّه كما أنبأ عنه الرّسول ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فارض به رائدا (٣) وإلى النّجاة قائدا ، فإنّى لم آلك نصيحة (٤) وإنّك لن تبلغ فى النّظر لنفسك ـ وإن اجتهدت ـ مبلغ نظرى لك. واعلم ، يا بنىّ ، أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنّه إله واحد! كما وصف نفسه ، لا يضادّه فى ملكه أحد ، ولا يزول أبدا ، ولم يزل ، أوّل قبل الأشياء بلا

__________________

(١) لا تثبت الدنيا إلا ما أودع اللّه فى طبيعتها من التلون بالنعماء تارة ، والاختبار بالبلاء تارة ، وإعقابها للجزاء فى المعاد يوم القيامة : على الخير خيرا ، وعلى الشر شرا.

(٢) «شفقتك» أى : خوفك

(٣) الرائد : من ترسله فى طلب الكلأ ليتعرف موقعه ، والرسول قد عرف عن اللّه وأخبرنا ، فهو رائد سعادتنا

(٤) لم أقصر فى نصيحتك. «٤ ـ ن ـ ج ـ ٣»

٤٩

أوّليّة (١) وآخر بعد الأشياء بلا نهاية. عظم عن أن تثبت ربوبيّته باحاطة قلب أو بصر ، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغى لمثلك أن يفعله فى صغر خطره (٢) وقلّة مقدرته ، وكثرة عجزه ، وعظيم حاجته إلى ربّه ، فى طلب طاعته ، والخشية من عقوبته ، والشّفقة من سخطه ، فإنّه لم يأمرك إلاّ بحسن ، ولم ينهك إلاّ عن قبيح.

يا بنىّ ، إنّى قد أنبأتك عن الدّنيا وحالها ، وزوالها وانتقالها ، وأنبأتك عن الآخرة وما أعدّ لأهلها [فيها] ، وضربت لك فيهما الأمثال لتعتبر بها ، وتحذو عليها! إنّما مثل من خبر الدّنيا (٣) كمثل قوم سفر نبا بهم منزل جديب فأمّوا منزلا خصيبا ، وجنابا مريعا ، فاحتملوا وعثاء الطّريق (٤) ، وفراق الصّديق ، وخشونة السّفر ، وجشوبة المطعم ، ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم ، فليس يجدون لشىء من ذلك ألما ، ولا يرون نفقة [فيه] مغرما ، ولا شىء أحبّ

__________________

(١) فهو أول بالنسبة إلى الأشياء لكونه قبلها ، إلا أنه لا أولية ـ أى : لا ابتداء ـ له

(٢) خطره : قدره

(٣) خبر الدنيا : عرفها كما هى بامتحان أحوالها ، والسفر ـ بفتح فسكون ـ : المسافرون ، ونبا المنزل بأهله : لم يوافقهم المقام فيه لوخامته ، والجديب : المقحط لا خير فيه ، وأموا : قصدوا ، والجناب : الناحية ، والمريع ـ بفتح فكسر ـ : كثير العشب.

(٤) وعثاء السفر : مشقته ، والجشوبة ـ بضم الجيم ـ : الغلط ، أو كون الطعام بلا أدم.

٥٠

إليهم ممّا قرّبهم من منزلهم ، وأدناهم من محلّهم. ومثل من اغترّ بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب ، فليس شىء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه (١) ويصيرون إليه! يا بنىّ ، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحبّ أن تظلم ، وأحسن كما تحبّ أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من النّاس بما ترضاه لهم من نفسك (٢) ، ولا تقل ما لا تعلم ، وإن قلّ ما تعلم ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك.

واعلم أنّ الاعجاب ضدّ الصّواب ، وآفة الألباب (٣) ، فاسع فى كدحك (٤) ولا تكن خازنا لغيرك (٥) ، وإذا كنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك.

__________________

(١) هجم عليه ـ من باب دخل ـ انتهى إليه بغتة

(٢) إذا عاملوك بمثل ما تعاملهم فارض بذلك ، ولا تطلب منهم أزيد مما تقدم لهم

(٣) الاعجاب : استحسان ما يصدر عن النفس مطلقا ، وهو خلق من أعظم الأخلاق مصيبة على صاحبه : ومن أشد الآفات ضررا لقلبه

(٤) الكدح : أشد السعى

(٥) لا تحرص على جمع المال ليأخذه الوارثون بعدك ، بل انفق فيما يجلب رضا اللّه عنك.

٥١

واعلم أنّ أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة (١) ومشقّة شديدة. وأنّه لا غنى لك فيه عن حسن الارتياد (٢) ، وقدّر بلاغك من الزّاد مع خفّة الظّهر فلا تحملنّ على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذلك وبالا عليك. وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمّله إيّاه (٣) وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه ، فلعلّك تطلبه فلا تجده ، واغتنم من استقرضك فى حال غناك ليجعل قضاءه لك فى يوم عسرتك واعلم أنّ أمامك عقبة كئودا (٤) المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل والبطىء عليها أقبح حالا من المسرع ، وأنّ مهبطك بها لا محالة على جنّة أو على نار ، فارتد لنفسك قبل نزولك (٥) ، ووطّىء المنزل قبل حلولك ، فليس بعد الموت مستعتب (٦) ، ولا إلى الدّنيا منصرف

__________________

(١) هو طريق السعادة الأبدية.

(٢) الارتياد : الطلب ، وحسنه : إتيانه من وجهه ، والبلاغ ـ بالفتح ـ الكفاية

(٣) الفاقة : الفقر ، وإذ أسعفت الفقراء بالمال كان أجر الاسعاف وثوابه ذخيرة تنالها فى القيامة ، فكأنهم حملوا عنك زادا يبلغك موطن سعادتك يؤدونه إليك وقت الحاجة ، وهذا الكلام من أفصح ما قيل فى الحث على الصدقة

(٤) كئودا : صعبة المرتقى شاقة المصعد ، والمخف ـ بضم فكسر ـ : الذى خفف حمله ، والمثقل : بعكسه ، وهو من أثقل ظهره بالأوزار

(٥) ابعث رائدا من طيبات الأعمال توقفك الثقة به على جودة المنزل

(٦) المستعتب والمنصرف : مصدران ، والاستعتاب : الاسترضاء ، ولا انصراف إلى الدنيا بعد الموت حتى يمكن استرضاء اللّه بعد إغضابه باستئناف العمل

٥٢

واعلم أنّ الّذى بيده خزائن السّموات والأرض قد أذن لك فى الدّعاء ، وتكفّل لك بالإجابة ، وأمرك أن تسأله ليعطيك ، وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عنك ، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه. ولم يمنعك إن أسأت من التّوبة ، ولم يعاجلك بالنّقمة [ولم يعيّرك بالانابة (١) ،] ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى ، ولم يشدّد عليك فى قبول الانابة ، ولم يناقشك بالجريمة ، ولم يوئسك من الرّحمة ، بل جعل نزوعك عن الذّنب حسنة (٢) ، وحسب سيّئتك واحدة وحسب حسنتك عشرا ، وفتح لك باب المتاب [وباب الاستيعاب] فاذا ناديته سمع نداءك ، وإذا ناجيته علم نجواك (٣) فأفضيت إليه بحاجتك (٤) ، وأبثثته ذات نفسك ، وشكوت إليه همومك ، واستكشفته كروبك (٥) ، واستعنته على أمورك ، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره : من زيادة الأعمار ، وصحّة

__________________

(١) الانابة ـ بالنون الموحدة ـ الرجوع إلى اللّه ، واللّه لا يعير الراجع إليه برجوعه ، ويروى «الاثابة» بالثاء المثلثة ـ وتحتمل أن تكون بمعنى الثواب وأن تكون بمعنى الرجوع أيضا ، من نحو قولهم «ثاب إلى رشده» أى : رجع

(٢) نزوعك : رجوعك

(٣) المناجاة : المكالمة سرا ، واللّه يعلم السر كما يعلم العلن

(٤) أفضيت : ألقيت ، وأبثثته : كاشفته ، وذات النفس : حالتها

(٥) طلبت كشفها

٥٣

الأبدان. وسعة الأرزاق. ثمّ جعل فى يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك [فيه] من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته ، واستمطرت شآبيب رحمته (١) ، فلا يقنطنّك إبطاء إجابته (٢) ، فانّ العطيّة على قدر النّيّة ، وربّما أخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السّائل ، وأجزل لعطاء الآمل ، وربّما سألت الشّىء فلا تؤتاه ، وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته. فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، وينفى عنك وباله ، والمال [لا] يبقى لك ، ولا تبقى له

واعلم أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدّنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ، وأنّك فى منزل قلعة (٣) ، ودار بلغة ، وطريق إلى الآخرة ، وأنّك طريد الموت الّذى لا ينجو منه هاربه ، ولا يفوته طالبه ، ولا بدّ أنّه مدركه

__________________

(١) الشؤبوب ـ بالضم ـ الدفعة من المطر ، وجمعه شآبيب. وما أشبه رحمة اللّه بالمطر ينزل على الأرض الموات فيحييها ، وما أشبه نوباتها بدفعات المطر

(٢) القنوط : اليأس

(٣) قلعة ـ بضم القاف وسكون اللام ، وبضمتين ، وبضم ففتح ـ يقال : منزل قلعة ، أى : لا يملك لنازله ، ولا يدرى متى ينتقل عنه. ويجوز فيه وجهان : الوصفية مع تنوين الأول ، والاضافة. والبلغة : الكفاية ، أى : دار تؤخذ منها الكفاية للآخرة.

٥٤

فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيّئة قد كنت تحدّث نفسك منها بالتّوبة فيحول بينك وبين ذلك ، فإذا أنت قد أهلكت نفسك

يا بنىّ ، أكثر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجم عليه ، وتفضى بعد الموت إليه ، حتّى يأتيك وقد أخذت منه حذرك (١) وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك (٢)! وإيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدّنيا إليها (٣) وتكالبهم عليها ، فقد نبّأ اللّه عنها ، ونعت لك نفسها (٤) ، وتكشّفت لك عن مساويها ، فإنّما أهلها كلاب عاوية ، وسباع ضارية ، يهرّ بعضها بعضا (٥) ويأكل عزيزها ذليلها ، ويقهر كبيرها صغيرها ، نعم معقّلة (٦) وأخرى مهملة قد أضلّت عقولها (٧) وركبت مجهولها ، سروح عاهة (٨) بواد وعث! ليس

__________________

(١) الحذر ـ بالكسر ـ الاحتراز والاحتراس ، والأزر ـ بالفتح ـ

(٢) بهر ـ كمنع ـ غلب ، أى : يغلبك على أمرك

(٣) إخلاد أهل الدنيا : سكونهم إليها ، والتكالب : التواثب

(٤) نعاه : أخبر بموته ، والدنيا تخبر بحالها عن فنائها

(٥) ضارية : مولعه بالافتراس ، يهر ـ بكسر الهاء ، وضمها ـ أى : يمقت ويكره بعضها بعضا

(٦) عقل البعير ـ بالتشديد ـ شد وظيفه إلى ذراعه ، والنعم ـ بالتحريك ـ الابل ، أى : إبل منعها عن الشر عقالها : وهم الضعفاء ، وأخرى مهملة تأتى من السوء ما تشاء ، وهم الأقوياء.

(٧) أضلت : أضاعت عقولها وركبت طريقها المجهول لها

(٨) السروح ـ بالضم ـ جمع سرح ـ بفتح فسكون ـ وهو المال السائم

٥٥

لها راع يقيمها ، ولا مسيم يسيمها (١)! سلكت بهم الدّنيا طريق العمى ، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى ، فتاهوا فى حيرتها ، وغرقوا فى نعمتها ، واتّخذوها ربّا فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ما وراءها!!

رويدا يسفر الظّلام (٢) كأن قد وردت الأظعان (٣)! يوشك من أسرع أن يلحق

واعلم [يا بنىّ] أنّ من كانت مطيّته اللّيل والنّهار فانّه يسار به وإن كان واقفا ، ويقطع المسافة وإن كان مقيما وادعا (٤) واعلم يقينا أنّك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك ، وأنّك فى سبيل من كان قبلك ، فخفّض فى الطّلب (٥) وأجمل فى المكتسب ، فانّه ربّ طلب قد

__________________

من إبل ونحوها ، والعاهة : الآفة ، أى : إنهم يسرحون لرعى الآفات فى وادى المتاعب والوعث : الرخو ، ويصعب السير فيه (١) أسام الدابة : سرحها إلى المرعى

(٢) «يسفر» أى : يكشف ظلام الجهل عما خفى من الحقيقة عند انجلاء الغفلة بحلول المنية

(٣) الأظعان : جمع ظعينة ، وهو الهودج تركب فيه المرأة ، عبر به عن المسافرين فى طريق الدنيا إلى الآخرة كأن حالهم أن وردوا على غاية سيرهم

(٤) الوادع : الساكن المستريح

(٥) خفض : أمر من «خفض» بالتشديد ـ أى : ارفق ، و «أجمل فى كسبه» أى : سعى سعيا جميلا : لا يحرص فيمنع الحق ، ولا يطمع فيتناول ما ليس بحق

٥٦

جرّ إلى حرب (١) ، فليس كلّ طالب بمرزوق ، ولا كلّ مجمل بمحروم ، وأكرم نفسك عن كلّ دنيّة وإن ساقتك إلى الرّغائب ، فانّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا (٢) ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرّا ، وما خير خير لا ينال إلاّ بشرّ (٣) ويسر لا ينال إلاّ بعسر؟! (٤) وإيّاك أن توجف بك مطايا الطّمع (٥) فتوردك مناهل الهلكة ، وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمة فافعل ، فإنّك مدرك قسمك ، وآخذ سهمك! وإنّ اليسير من اللّه ـ سبحانه ـ أعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كان كلّ منه. وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك (٦)

__________________

(١) الحرب ـ بالتحريك ـ : سلب المال

(٢) إن رغائب المال إنما تطلب لصون النفس عن الابتذال فلو بذل باذل نفسه لتحصيل المال فقد ضيع ما هو المقصود من المال ، فكان جمع المال عبثا عوضا لما ضيع

(٣) يريد أى خير فى شىء سماه الناس خيرا وهو مما لا يناله الانسان إلا بالشر ، فان كان طريقه شرا فكيف يكون هو خيرا

(٤) إن العسر الذى يخشاه الانسان هو ما يضطره لرذيل الفعال ، فهو يسعى كل جهده ليتحامى الوقوع فيه ، فان جعل الرذائل وسيلة لكسب اليسر ـ أى : السعة ـ فقد وقع أول الأمر فيما يهرب منه ، فما الفائدة فى يسره وهو لا يحميه من النقيصة؟

(٥) توجف : تسرع ، والمناهل : ما ترده الابل ونحوها للشرب

(٦) التلافى : التدارك لاصلاح ما فسد او كاد ، و «ما فرط» أى : قصر عن إفادة

٥٧

وحفظ ما فى الوعاء بشدّ الوكاء ، وحفظ ما فى يديك أحبّ إلىّ من طلب ما فى يد غيرك (١). ومرارة اليأس خير من الطّلب إلى النّاس ، والحرفة مع العفّة خير من الغنى مع الفجور ، والمرء أحفظ لسرّه (٢). وربّ ساع فيما يضرّه (٣)! من أكثر أهجر (٤) ، ومن تفكّر أبصر! قارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشّرّ تبن عنهم! بئس الطّعام الحرام ، وظلم الضّعيف أفحش الظّلم. إذا كان الرّفق خرقا كان الخرق رفقا (٥). ربّما كان الدّواء داء والدّاء دواء ، وربّما نصح غير النّاصح وغشّ المستنصح (٦). وإيّاك واتّكالك على المنى

__________________

الغرض أو إنالة الوطر ، وإدراك ما فات : هو اللحاق به لأجل استرجاعه ، و «فات» أى : سبق إلى غير صواب ، وسابق الكلام لا يدرك فيسترجع ، بخلاف تقصير السكوت فسهل تداركه ، وإنما يحفظ الماء فى القربة مثلا بشد وكائها ـ أى : رباطها ـ وإن لم يشد الوكاء صب فى الوعاء ولم يكن إرجاعه ، فكذلك اللسان

(١) إرشاد للاقتصاد فى المال

(٢) فالأولى عدم إباحته لشخص آخر وإفشائه

(٣) قد يسعى الانسان بقصد فائدته فينقلب سعيه بالضرر عليه لجهله أو سوء قصده

(٤) أهجر إهجارا وهجرا ـ بالضم ـ هذى فى كلامه ، وكثير الكلام لا يخلو من الاهجار

(٥) إذا كان المقام يلزمه العنف فيكون إبداله بالرفق عنفا ، ويكون العنف من الرفق ، وذلك كمقام التأديب وإجراء الحدود مثلا ، والخرق ـ بالضم ـ العنف

(٦) المستنصح ـ على زنة اسم المفعول ـ المطلوب منه النصح ، فيلزم التفكر والتروى فى جميع الأحوال ، لئلا يروج غش أو تنبذ نصيحة

٥٨

فإنّها بضائع الموتى (١) والعقل حفظ التّجارب. وخير ما جرّبت ما وعظك (٢) ، بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة. ليس كلّ طالب يصيب ، ولا كلّ غائب يؤوب ، ومن الفساد إضاعة الزّاد (٣) ومفسدة المعاد ، ولكلّ أمر عاقبة ، سوف يأتيك ما قدّر لك ، التّاجر مخاطر! وربّ يسير أنمى من كثير ، ولا خير فى معين مهين (٤) ، ولا فى صديق ظنين ، ساهل الدّهر ما ذلّ لك قعوده (٥) ، ولا تخاطر بشىء رجاء أكثر منه ، وإيّاك أن تجمح بك مطيّة اللّجاج (٦)! احمل

__________________

(١) المنى : جمع منية ـ بضم فسكون ـ وهى ما يتمناه الشخص لنفسه ويعلل نفسه باحتمال الوصول إليه ، وهى بضائع الموتى لأن المتجر بها يموت ولا يصل إلى شىء! فان تمنيت فاعمل لأمنيتك ، ويروى «فانها بضائع النوكى» لجمع أنوك ، وهو الأحمق الضعيف العقل

(٢) أفضل التجربة ما زجرت عن سيئة وحملت على حسنة ، وتلك الموعظة

(٣) زاد الصالحات والتقوى ، أو المراد إضاعة المال مع مفسدة المعاد بالاسراف فى الشهوات ، وهو أظهر

(٤) مهين : إما بفتح الميم بمعنى حقير ، فان الحقير لا يصلح لأن يكون معينا ، أو بضمها بمعنى فاعل الاهانة فيعينك ويهينك فيفسد ما يصلح ، والظنين ـ بالظاء ـ المتهم ، وبالضاد : البخيل ، وبهما يروى

(٥) القعود ـ بالفتح ـ من الابل : ما يقتعده الراعى فى كل حاجته ، ويقال للبكر إلى أن يثنى ، وللفصيل. أى : ساهل الدهر ما دام منقادا ، وخد حظك من قياده

(٦) اللجاج ـ بالفتح ـ مصدر «لج فى الأمر يلج» بفتح لام المضارع مثل ظل يظل ، وبكسرها مثل خف يخف ـ لجاجا ولجاجة ـ بفتح اللام فى المصدرين ـ فهو لجوج ولجوجة ، والهاء للمبالغة ، وذلك أن يتمادى فيه ، أى : أحذرك من أن تغلبك الخصومات فلا تملك نفسك من الوقوع فى مضارها

٥٩

نفسك من أخيك ـ عند صرمه ـ على الصّلة (١) ، وعند صدوده على اللّطف والمقاربة ، وعند جموده على البذل (٢) ، وعند تباعده على الدّنوّ ، وعند شدّته على اللّين وعند جرمه على العذر ، حتّى كأنّك له عبد ، وكأنّه ذو نعمة عليك ، وإيّاك أن تضع ذلك فى غير موضعه ، أو أن تفعله بغير أهله ، لا تتّخذنّ عدوّ صديقك صديقا فتعادى صديقك ، وامحض أخاك النّصيحة حسنة كانت أو قبيحة ، وتجرّع الغيظ فانّى لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذّ مغبّة (٣) ، ولن لمن غالظك (٤) فانّه يوشك أن يلين لك ، وخذ على عدوّك بالفضل فانّه أحلى الظّفرين (٥) وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيّة يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما (٦) ، ومن ظنّ بك خيرا فصدّق ظنّه (٧) ، ولا تضيعنّ حقّ أخيك

__________________

(١) صرمه : قطيعته ، أى : ألزم نفسك بصلة صديقك إذا قطعك الخ

(٢) جموده : بخله

(٣) المغبة ـ بفتحتين ثم باء مشددة ـ : بمعنى العاقبة ، وكظم الغيظ وإن صعب على النفس فى وقته إلا أنها تجد لذته عند الافاقة من الغيظ ، فللعفو لذة إن كان فى محله ، وللخلاص من الضرر المعقب لفعل الغضب لذة أحرى

(٤) لن : أمر من اللين ضد الغلظة والخشونة

(٥) ظفر الانتقام وظفر التملك بالاحسان ، والثانى أحلى وأربح فائدة ، ويروى «فانه أحد الظفرين» وهو واضح

(٦) بقية من الصلة يسهل لك معها الرجوع إليك إذا ظهر له حسن العودة

(٧) صدقه بلزوم ما ظن بك من الخير

٦٠