نهج البلاغة - ج ٣

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٣

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٢

اتّكالا على ما بينك وبينه ، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه ، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ، ولا ترغبنّ فيمن زهد عنك ، ولا يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته (١) ولا يكوننّ على الاساءة أقوى منك على الإحسان ، ولا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك ، فانّه يسعى فى مضرّته ونفعك ، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه.

واعلم ، يا بنىّ ، أنّ الرّزق رزقان : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإن أنت لم تأته أتاك. ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى. إنّ لك من دنياك ما أصلحت به مثواك (٢) ، وإن جزعت على ما تفلّت من يديك (٣) فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك. استدلّ على ما لم يكن بما قد كان [فإنّ الأمور أشباه] ، ولا تكوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت فى إيلامه ، فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب ، والبهائم لا تتّعظ إلاّ بالضّرب. اطرح عنك

__________________

(١) مراده إذا أتى أخوك بأسباب القطيعة فقابلها بموجبات الصلة حتى تغلبه ، ولا يصح أن يكون أقدر على ما يوجب القطيعة منك على ما يوجب الصلة ، وهذا أبلغ قول فى لزوم حفظ الصداقة

(٢) منزلتك من الكرامة فى الدنيا والآخرة

(٣) تفلت ـ بتشديد اللام ـ أى : تملص من اليد فلم تحفظه. فالذى يجزع على ما فاته كالذى يجزع على ما لم يصله. والثانى لا يحصر فينال ، فالجزع عليه غير لائق ، فكذا الأول

٦١

واردات الهموم بعزائم الصّبر وحسن اليقين ، من ترك القصد جار (١) ، والصّاحب مناسب (٢) والصّديق من صدق غيبه (٣) والهوى شريك العناء (٤) ، ربّ قريب أبعد من بعيد ، وربّ بعيد أقرب من قريب ، والغريب من لم يكن له حبيب. من تعدّى الحقّ ضاق مذهبه ، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له. وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين اللّه ، ومن لم يبالك فهو عدوّك (٥) قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطّمع هلاكا. ليس كلّ عورة تظهر ، ولا كلّ فرصة تصاب ، وربّما أخطأ البصير قصده ، وأصاب الأعمى رشده. أخّر الشّرّ فإنّك إذا شئت تعجّلته (٦) وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. من أمن الزّمان خانه ، ومن أعظمه أهانه (٧)! ليس كلّ من رمى أصاب ، إذا تغيّر السّلطان تغيّر الزّمان ، سل عن الرّفيق قبل الطّريق ، وعن الجار قبل الدّار. إيّاك أن تذكر من الكلام ما كان مضحكا ، وإن حكيت

__________________

(١) القصد : الاعتدال ، وجار : مال عن الصواب

(٢) يراعى فيه ما يراعى فى قرابة النسب

(٣) الغيب : ضد الحضور ، أى : من حفظ لك حقك وهو غائب عنك

(٤) الهوى : شهوة غير منضبطة ولا مملوكة بسلطان الشرع والأدب ، والعناء : الشقاء ، ويروى «والهوى شريك العمى»

(٥) «لم يبالك» أى : لم يهتم بأمرك بالتيه ، و «باليت به» أى : راعيته واعتنيت به

(٦) لأن فرص الشر لا تنقضى لكثرة طرقه وطريق الخير واحد ، وهو الحق.

(٧) من هاب شيئا سلطه على نفسه

٦٢

ذلك عن غيرك ، وإيّاك ومشاورة النّساء ، فانّ رأيهنّ إلى أفن وعزمهنّ إلى وهن (١) واكفف عليهنّ من أبصارهنّ بحجابك إيّاهنّ ، فانّ شدّة الحجاب أبقى عليهنّ ، وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهنّ (٢) وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل ، ولا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها ، فانّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة (٣) ولا تعد بكرامتها نفسها ، ولا تطمعها فى أن تشفع بغيرها ، وإيّاك والتّغاير فى غير موضع غيرة (٤) ، فانّ ذلك يدعو الصّحيحة إلى السّقم ، والبريئة إلى الرّيب ، واجعل لكلّ إنسان من خدمك عملا تأخذه به ، فانّه أحرى أن لا يتواكلوا فى خدمتك (٥) وأكرم عشيرتك فانّهم جناحك الّذى به تطير ، وأصلك الّذى إليه تصير ، ويدك الّتى بها تصول.

__________________

(١) الأفن ـ بالفتح وبالتحريك ـ : ضعف الرأى ، والوهن : الضعف

(٢) أى : إذا أدخلت على النساء من لا يوثق بأمانته فكأنك أخرجتهن إلى مختلط العامة ، فأى فرق بينهما؟

(٣) القهرمان : الذى يحكم فى الأمور ويتصرف فيها بأمره ، ولا تعد ـ بفتح فسكون ـ أى : لا تجاوز باكرامها نفسها فتكرم غيرها بشفاعته ، أين هذه الوصية من حال الذين يصرفون النساء فى مصالح الأمة؟ بل ومن يختص بخدمتهن كرامة لهن؟

(٤) التغاير : إظهار الغيرة على المرأة بسوء الظن فى حالها من غير موجب

(٥) يتواكلوا : يتكل بعضهم على بعض

٦٣

استودع اللّه دينك ودنياك ، وأسأله خير القضاء [لك] فى العاجلة والآجلة ، والدّنيا والآخرة ، والسّلام.

٣٢ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى معاوية

وأرديت جيلا (١) من النّاس كثيرا : خدعتهم بغيّك (٢) وألقيتهم فى موج بحرك ، تغشاهم الظّلمات ، وتتلاطم بهم الشّبهات ، فجازوا عن وجهتهم (٣) ونكصوا على أعقابهم ، وتولّوا على أدبارهم ، وعوّلوا على أحسابهم (٤) ، إلاّ من فاء من أهل البصائر ، فانّهم فارقوك بعد معرفتك ، وهربوا إلى اللّه من موازرتك (٥) ، إذ حملتهم على الصّعب ، وعدلت بهم عن القصد ، فاتّق اللّه يا معاوية فى نفسك ، وجاذب الشّيطان قيادك (٦) ، فانّ

__________________

(١) أرديت : أهلكت جيلا ، أى : قبيلا وصنفا

(٢) الغى : الضلال ، ضد الرشاد

(٣) بعدوا عن وجهتهم ـ بكسر الواو ـ أى : جهة قصدهم ، كانوا يقصدون حقا فمالوا إلى باطل ، ويروى «جاروا» بالراء المهملة ـ والمراد واحد. ونكصوا : رجعوا

(٤) «عولوا» أى : اعتمدوا على شرف قبائلهم فتعصبوا تعصب الجاهلية ونبذوا نصرة الحق ، إلا من فاء ـ أى : رجع ـ إلى الحق.

(٥) الموازرة : المعاضدة

(٦) القياد : ما تقاد به الدابة ، أى : إذا جذبك الشيطان بهواك فجاذبه ، أى : امنع نفسك من متابعته

٦٤

الدّنيا منقطعة عنك ، والآخرة قريبة منك ، والسّلام.

٣٣ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى قثم بن العباس ، وهو عامله على مكة

أمّا بعد ، فإنّ عينى بالمغرب (١) كتب إلىّ [يعلمنى] أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام (٢) ، العمى القلوب ، الصّمّ الأسماع ، الكمه الأبصار (٣) ، الّذين يلتمسون الحقّ بالباطل ، ويطيعون المخلوق فى معصية الخالق ، ويحتلبون الدّنيا درّها بالدّين (٤) ويشترون عاجلها بآجل الأبرار [و] المتّقين ، ولن يفوز بالخير إلاّ عامله ، ولا يجزى جزاء الشّرّ إلاّ فاعله ، فأقم على ما فى يديك قيام الحازم الصّليب (٥) ، والنّاصح اللّبيب ، [و] التّابع لسلطانه المطيع لامامه ، وإيّاك وما يعتذر منه (٦) ، ولا تكن عند النّعماء

__________________

(١) «عينى» أى : رقيبى فى البلاد الغربية

(٢) وجه ـ مبنى للمجهول ـ أى : وجههم معاوية ، والموسم : الحج

(٣) الكمه : جمع أكمه ، وهو من ولد أعمى

(٤) يحتلبون الدنيا : يستخلصون خيرها ، والدر ـ بالفتح ـ اللبن ، أى : ويجعلون الدين وسيلة لما ينالون من حطامها

(٥) الصليب : الشديد ، ويروى «قيام الحازم الطبيب» وكل حاذق عند العرب فهو طبيب.

(٦) احذر أن تفعل شيئا يحتاج إلى الاعتذار. «٥ ـ ن ج ـ ـ ٣»

٦٥

بطرا (١) ولا عند البأساء فشلا ، والسّلام.

٣٤ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى محمد بن أبى بكر ، لما بلغه توجده من عزله (٢) بالأشتر عن مصر

ثم توفى الأشتر فى توجهه إلى مصر قبل وصوله إليها

أمّا بعد ، فقد بلغنى موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك (٣) ، وإنّى لم أفعل ذلك استبطاء لك فى الجهد ، ولا ازديادا فى الجدّ (٤) ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لولّيتك ما هو أيسر عليك مؤونة ، وأعجب إليك ولاية إنّ الرّجل الّذى كنت ولّيته أمر مصر كان رجلا لنا ناصحا وعلى عدوّنا شديدا ناقما (٥) فرحمه اللّه فلقد استكمل أيّامه ، ولاقى حمامه (٦) ونحن عنه راضون ، أولاه اللّه رضوانه ، وضاعف الثّواب له ، فأصحر لعدوّك ، وامض على بصيرتك (٧) ، وشمّر لحرب من حاربك ، وادع إلى سبيل ربّك ،

__________________

(١) البطر : شدة الفرح مع ثقة بدوام النعمة ، والبأساء : الشدة ، كما أن النعماء الرخاء والسعة

(٢) توجده : تكدره

(٣) «موجدتك» أى : غيظك ، والتسريح : الارسال ، والعمل : الولاية

(٤) أى : ما رأيت منك تقصيرا فأردت أن أعاقبك بعزلك لتزداد جدا

(٥) «ناقما» أى : كارها

(٦) الحمام ـ بالكسر ـ : الموت

(٧) «أصحر له» أى : ابرز له ، من «أصحر» إذا برز للصحراء

٦٦

وأكثر الاستعانة باللّه يكفك ما أهمّك ، ويعنك على ما نزل بك ، إن شاء اللّه

٣٥ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى عبد اللّه بن العباس ، بعد مقتل محمد بن أبى بكر

أمّا بعد ، فإنّ مصر قد افتتحت ومحمّد بن أبى بكر رحمه اللّه قد استشهد ، فعند اللّه نحتسبه ولدا ناصحا (١) وعاملا كادحا ، وسيفا قاطعا ، وركنا دافعا ، وقد كنت حثثت النّاس على لحاقه ، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة ، ودعوتهم سرّا وجهرا ، وعودا وبدءا : فمنهم الآتى كارها ، ومنهم المعتلّ كاذبا ، ومنهم القاعد خاذلا. [و] أسأل اللّه أن يجعل منهم فرجا عاجلا ، فو اللّه لو لا طمعى عند لقائى عدوّى فى الشّهادة ، وتوطينى نفسى على المنيّة ، لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا ، ولا ألتقى بهم أبدا

٣٦ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى [أخيه] عقيل بن أبى طالب ، فى ذكر جيش انفذه إلى بعض الأعداء

وهو جواب كتاب كتبه إليه عقيل

فسرّحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين ، فلمّا بلغه ذلك شمّر هاربا ، ونكص

__________________

(١) احتسبه عند اللّه : سأل الأجر على الرزية فيه ، وسماه ولدا لأنه كان ربيبا له وأمه أسماء بنت عميس : كانت مع جعفر بن أبى طالب وولدت له محمدا وعونا وعبد اللّه بالحبشة أيام هجرتها معه إليها ، وبعد قتله تزوجها أبو بكر فولدت له محمدا هذا وبعد وفاته تزوجها على فولدت له يحيى. والكادح : المبالغ فى سعيه

٦٧

نادما ، فلحقوه ببعض الطّريق ، وقد طفّلت الشّمس للإياب (١) فاقتتلوا شيئا كلا ولا (٢) فما كان إلاّ كموقف ساعة حتّى نجا جريضا (٣) بعد ما أخذ منه بالمخنّق (٤) ، ولم يبق منه غير الرّمق ، فلأيا بلأى ما نجا (٥) فدع عنك قريشا وتركاضهم فى الضّلال وتجوالهم فى الشّقاق (٦) وجماحهم فى التّيه ، فانّهم قد أجمعوا على حربى كاجماعهم على حرب رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قبلى ، فجزت قريشا عنّى الجوازى (٧) فقد قطعوا رحمى ، وسلبونى سلطان ابن أمّى (٨)

__________________

(١) «طفلت تطفيلا» أى : دنت وقربت ، والاياب : الرجوع إلى مغربها

(٢) كناية عن السرعة التامة ، فان حرفين ثانيهما حرف لين سريع الانقضاء عند السمع ، قال أبو برهان المغربى : ـ وأسرع فى العين من لحظة وأقصر فى السمع من لا ولا

(٣) الجريض ـ بالجيم ـ المغموم ، وبالحاء : الساقط لا يستطيع النهوض

(٤) المخنق ـ بضم ففتح فنون مشدة ـ الحلق محل ما يوضع الخناق ، والرمق ـ بالتحريك ـ : بقية النفس

(٥) لأيا : مصدر محذوف العامل ، ومعناه الشدة والعسر ، و «ما» بعده : مصدرية. و «نجا» فى معنى المصدر ، أى ، عسرت نجاته عسرا بعسر

(٦) التركاض : مبالغة فى الركض ، واستعاره لسرعة خواطرهم فى الضلال ، وكذلك التجوال من الجول والجولان ، والشقاق : الخلاف ، وجماحهم : استعصاؤهم على سابق الحق ، والتيه : الضلال والغواية

(٧) الجوازى : جمع جازية بمعنى المكافأة ، دعاء عليهم بالجزاء على أعمالهم

(٨) يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فان فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين ربت رسول اللّه فى حجرها فقال النبى فى شأنها : «فاطمة أمى بعد امى»

٦٨

وأمّا ما سألت عنه من رأيى فى القتال ، فانّ رأيى قتال المحلّين حتّى ألقى اللّه (١) ، لا يزيدنى كثرة النّاس حولى عزّة ، ولا تفرّقهم عنّى وحشة ، ولا تحسبنّ ابن أبيك ـ ولو أسلمه النّاس ـ متضرّعا متخشّعا ، ولا مقرّا للضّيم واهنا ، ولا سلس الزّمام للقائد (٢) ، ولا وطىء الظّهر للرّاكب المتقعّد ، ولكنّه كما قال أخو بنى سليم : ـ فان تسألينى : كيف أنت؟ فانّنى صبور على ريب الزّمان صليب (٣)

يعزّ علىّ أن ترى بى كآبة (٤) فيشمت عاد أو يساء حبيب

٣٧ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى معاوية

فسبحان اللّه!! ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة ، والحيرة المتعبة (٥) مع تضييع الحقائق ، واطّراح الوثائق ، الّتى هى للّه طلبة ، وعلى عباده حجّة (٦)

__________________

(١) المحلون : الذين يحلون القتال ويجوزونه

(٢) السلس ـ بفتح فكسر ـ : السهل ، والوطىء : اللين ، والمتقعد : الذى يتخذ الظهر قعودا يستعمله للركوب فى كل حاجاته ، ويروى «للراكب المقتعد» اسم فاعل من الاقتعاد

(٣) شديد

(٤) يعز على : يشق على ، والكآبة : ما يظهر على الوجه من أثر الحزن ، «وعاد» أى : عدوه

(٥) ويروى «والحيرة المتبعة» اسم مفعول من «اتبعه»

(٦) طلبة ـ بالكسر ، وبفتح فكسر ـ : مطلوبة

٦٩

فأمّا إكثارك الحجاج فى عثمان وقتلته (١) فانّك إنّما نصرت عثمان حيث كان النّصر لك (٢) ، وخذلته حيث كان النّصر له ، والسّلام.

٣٨ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى أهل مصر ، لما ولى عليهم الأشتر

من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين ، إلى القوم الّذين غضبوا للّه حين عصى فى أرضه ، وذهب بحقّه ، فضرب الجور سرادقه على البرّ والفاجر (٣) ، والمقيم والظّاعن ، فلا معروف يستراح إليه (٤) ، ولا منكر يتناهى عنه.

أمّا بعد ، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه لا ينام أيّام الخوف ، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الرّوع (٥) ، أشدّ على الكفّار من حريق النّار ، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج (٦) ، فاسمعوا له ، وأطيعوا أمره فيما طابق

__________________

(١) الحجاج ـ بالكسر ـ الجدال

(٢) حيث كان الانتصار له فائدة لك تتخذه ذريعة لجمع الناس إلى غرضك ، أما وهو حى وكان النصر يفيده فقد خذلته وأبطأت عنه

(٣) السرادق ـ بضم السين ـ : الغطاء الذى يمد فوق صحن البيت ، والغبار : الدخان ، والبر ـ بفتح الباء ـ : النقى ، والظاعن : المسافر

(٤) يعمل به : وأصله «استراح إليه» بمعنى سكن واطمأن ، والسكون إلى المعروف يستلزم العمل به

(٥) نكل عنه ـ كضرب ونصر وعلم ـ نكص وجبن ، والروع : الخوف

(٦) مذحج ـ كمجلس ـ قبيلة مالك ، وأصله اسم أكمة ولد عندها أبو القبيلتين طىء ومالك ، فسميت قبيلتاهما به ، ويروى «أشد على الفجار» جمع فاجر

٧٠

الحقّ ، فإنّه سيف من سيوف اللّه لا كليل الظّبة (١) ، ولا نابى الضّريبة (٢) فإن أمركم أن تنفروا فانفروا ، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فإنّه لا يقدم ولا يحجم ، ولا يؤخّر ولا يقدّم ، إلاّ عن أمرى. وقد آثرتكم به على نفسى لنصيحته لكم وشدّة شكيمته على عدوّكم (٣).

٣٩ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى عمرو بن العاص

فإنّك [قد] جعلت دينك تبعا لدنيا امرىء ظاهر غيّه ، مهتوك ستره. يشين الكريم بمجلسه ، ويسفّه الحليم بخلطته ، فاتّبعت أثره وطلبت فضله اتّباع الكلب للضّرغام (٤) : يلوذ إلى مخالبه ، وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته ، فأذهبت دنياك وآخرتك! ولو بالحقّ أخذت أدركت ما طلبت ، فإن يمكّنّى منك ومن ابن أبى سفيان أجزكما بما قدّمتما ، وإن تعجزا [نى] وتبقيا فما

__________________

(١) الظبة ـ بضم ففتح مخفف ـ : حد السيف والسنان ونحوهما ، والكليل : الذى لا يقطع

(٢) الضريبة : المضروب بالسيف ، ونبا عنها السيف : لم يؤثر فيها ، وإنما دخلت التاء فى ضريبة ـ وهى بمعنى المفعول ـ لذهابها مذهب الأسماء كالنطيحة والذبيحة

(٣) «آثرتكم» خصصتكم به وأنا فى حاجة إليه ، تقديما لنفعكم على نفعى ، والشكيمة فى اللجام : الحديدة المعرضة فى فم الفرس ، ويعبر بشدتها عن قوة النفس وشدة البأس

(٤) الضرغام : الأسد

٧١

أمامكما شرّ لكما ، [والسّلام] (١)

٤٠ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى بعض عماله

أمّا بعد ، فقد بلغنى عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك ، وعصيت إمامك ، وأخزيت أمانتك (٢) بلغنى أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك ، وأكلت ما تحت يديك فارفع إلىّ حسابك ، واعلم أنّ حساب اللّه أعظم من حساب النّاس ، [والسّلام]

٤١ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى بعض عماله (٣)

أمّا بعد ، فإنّى كنت أشركتك فى أمانتى ، وجعلتك شعارى وبطانتى ، ولم يكن رجل من أهلى أوثق منك فى نفسى لمواساتى وموازرتى (٤) وأداء الأمانة إلىّ ، فلمّا رأيت الزّمان على ابن عمّك قد كلب ، والعدوّ قد حرب ، وأمانة

__________________

(١) وإن تعجزانى عن الايقاع بكما ، وتبقيا فى الدنيا بعدى ، فأمامكما حساب اللّه على أعمالكما

(٢) ألصقت بأمانتك خزية ـ بالفتح ـ أى : رزية أفسدتها ، وكان هذا العامل أخذ ما عنده من مخزون بيت المال

(٣) هو العامل السابق بعينه

(٤) المواساة : من «آساه» إذا أناله من ماله عن كفاف لا عن فضل ، أو مطلقا وقالوا : ليست مصدرا لواساه فانه غير فصيح ، وتقدم للامام استعماله ، وهو حجة والموازرة : المناصرة

٧٢

النّاس قد خزيت (١) ، وهذه الأمّة قد فنكت وشغرت (٢) ، قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ (٣) ففارقته مع المفارقين ، وخذلته مع الخاذلين ، وخنته مع الخائنين فلا ابن عمّك آسيت (٤) ، ولا الأمانة أدّيت ، وكأنّك لم تكن اللّه تريد بجهادك وكأنّك لم تكن على بيّنة من ربّك ، وكأنّك إنّما كنت تكيد هذه الأمّة عن دنياهم (٥) وتنوى غرّتهم عن فيئهم ، فلمّا أمكنتك الشّدّة فى خيانة الأمّة أسرعت الكرّة ، وعاجلت الوثبة ، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذّئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة (٦) فحملته إلى الحجاز رحيب الصّدر بحمله غير متأثّم من أخذه (٧) كأنّك ـ لا أبا

__________________

(١) كلب ـ كفرح ـ : اشتد وخشن ، والكلبة ـ بالضم ـ : الشدة والضيق وحرب ـ كفرح ـ اشتد غضبه ، أو كطلب : بمعنى سلب مالنا ، وخزيت ـ كرضيت ـ وقعت فى بلية الفساد الفاضح

(٢) من «فنكت الجارية» إذا صارت ماجنة ، ومجون الأمة أخذها بغير الحزم فى أمرها كأنها هازلة ، وشغرت : لم يبق فيها من يحميها

(٣) المجن. الترس ، وهذا مثل يضرب لمن يخالف ما عهد فيه

(٤) آسيت : ساعدت وشاركت فى الملمات

(٥) كاده عن الأمر : خدعه حتى ناله منه ، والغرة : الغفلة ، والفىء : مال الغنيمة والخراج

(٦) الأزل : السريع الجرى ، أو الخفيف لحم الوركين ، والدامية : المجروحة والكسيرة : المكسورة ، والمعزى ، أخت الضأن ، اسم الجنس كالمعز والمعيز

(٧) التأثم : التحرز من الاثم ، بمعنى الذنب. و «لا أبا لغيرك» : تقال للتوبيخ مع التحامى من الدعاء عليه ، وحدرت : أسرعت إليهم ، بتراث أو ميراث ، أو هو من «حدره» بمعنى حطه من أعلى لأسفل

٧٣

لغيرك ـ حدرت إلى أهلك تراثا من أبيك وأمّك فسبحان اللّه! أما تؤمن بالمعاد؟ أوما تخاف نقاش الحساب (١)؟ أيّها المعدود ـ كان ـ عندنا من ذوى الألباب (٢) كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم أنّك تأكل حراما وتشرب حراما؟ وتبتاع الإماء وتنكح النّساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الّذين أفاء اللّه عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد!! فاتّق اللّه واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ، فانّك إن لم تفعل ثمّ أمكننى اللّه منك لأعذرنّ إلى اللّه فيك (٣) ، ولأضربنّك بسيفى الّذى ما ضربت به أحدا إلاّ دخل النّار! واللّه لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الّذى فعلت ما كانت لهما عندى هوادة (٤) ، ولا ظفرا منّى بارادة ، حتّى آخذ الحقّ منهما ، وأزيل الباطل عن مظلمتهما ، وأقسم باللّه ربّ العالمين : ما يسرّنى أنّ ما أخذت‍ [ه] من أموالهم حلال لى (٥) أتركه ميراثا لمن بعدى ، فضحّ رويدا فكأنّك قد

__________________

(١) النقاش ـ بالكسر ـ : المناقشة ، بمعنى الاستقصاء فى الحساب

(٢) «كان» ههنا زائد لافادة معنى المضى فقط ، لا تامة ، ولا ناقصة ، و «سعت الشراب ، أسيغه» كبعته أبيعه ـ : بلعته بسهولة

(٣) لأعاقبنك عقابا يكون لى عذرا عند اللّه من فعلتك هذه

(٤) الهوادة ـ بالفتح : ـ الصلح والاختصاص بالميل

(٥) أى : لا تعتمد على قرابتك منى ، فانى لا أسر بأن تكون لى ، فضلا عن ذوى قرابتى

٧٤

بلغت المدى (١) ، ودفنت تحت الثّرى ، وعرضت عليك أعمالك بالمحلّ الّذى ينادى الظّالم فيه بالحسرة ، ويتمنّى المضيّع [فيه] الرّجعة ، ولات حين مناص (٢)

٤٢ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى عمر بن أبى سلمة المخزومى ، وكان عامله على البحرين

فعزله ، واستعمل نعمان بن عجلان الزرقى مكانه

أمّا بعد ، فإنّى قد ولّيت نعمان بن عجلان الزّرقىّ على البحرين ، ونزعت يدك بلا ذمّ [لك] ولا تثريب عليك (٣) ، فلقد أحسنت الولاية ، وأدّيت الأمانة فأقبل غير ظنين (٤) ولا ملوم ، ولا متّهم ، ولا مأثوم. فلقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشّام (٥) ، وأحببت أن تشهد معى ، فانّك ممّن أستظهر به على جهاد العدوّ (٦) ، وإقامة عمود الدّين ، إن شاء اللّه.

__________________

(١) فضح : من «ضحيت الغنم» إذا رعيتها فى الضحى ، أى : فارع نفسك على مهل فانما أنت على شرف الموت. وكأنك قد بلغت المدى ـ بالفتح ـ : مفرد بمعنى الغاية ، أو بالضم : جمع مدية ـ بالضم أيضا ـ بمعنى الغاية والثرى : التراب

(٢) ليس الوقت وقت فرار

(٣) التثريب : اللوم

(٤) الظنين : المتهم. وفى التنزيل : «وَمٰا هُوَ عَلَى اَلْغَيْبِ بِضَنِينٍ»

(٥) الظلمة ـ بالتحريك ـ : جمع ظالم

(٦) أستظهر به : أستعين

٧٥

٤٣ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى مصقلة بن هبيرة الشيبانى ، وهو عامله على أردشيرخرة (١)

بلغنى عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك ، وأغضبت إمامك : أنّك تقسم (٢) فىء المسلمين الّذى حازته رماحهم وخيولهم ، وأريقت عليه دماؤهم ، فيمن اعتامك من أعراب قومك (٣). فو الّذى فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ، لئن كان ذلك حقّا لتجدنّ بك علىّ هوانا ، ولتخفّنّ عندى ميزانا ، فلا تستهن بحقّ ربّك ، ولا تصلح دنياك بمحق دينك ، فتكون من الأخسرين أعمالا.

ألا وإنّ حقّ من قبلك وقبلنا (٤) من المسلمين فى قسمة هذا الفىء سواء : يردون عندى عليه ، ويصدرون عنه.

٤٤ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى زياد بن أبيه ، وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه

وقد عرفت أنّ معاوية كتب إليك يستزلّ لبّك ، ويستفلّ غربك (٥) ،

__________________

(١) أردشيرخرة ـ بضم الخاء وتشديد الراء ـ : بلدة من بلاد العجم

(٢) «أنك ـ الخ» بدل من «أمر»

(٣) اعتامك : اختارك ، وأصله أخذ العيمة ـ بالكسر ـ وهى : خيار المال

(٤) قبل ـ بكسر ففتح ـ : ظرف بمعنى عند

(٥) «يستزل» أى : يطلب به الزلل ، وهو الخطأ ، واللب : القلب ، ويستفل ـ بالفاء ـ أى : يطلب فل غربك ، أى : ثلم حدتك ، والغرب ـ بفتح فسكون ـ الحدة والنشاط

٧٦

فاحذره ، فإنّما هو الشّيطان : يأتى المؤمن من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ليقتحم غفلته (١) ويستلب غرّته.

وقد كان من أبى سفيان فى زمن عمر [بن الخطّاب] فلتة من حديث النّفس (٢) ونزغة من نزغات الشّيطان : لا يثبت بها نسب ، ولا يستحقّ بها إرث ، والمتعلّق بها كالواغل المدفّع ، والنّوط المذبذب

فلما قرأ زياد الكتاب قال : شهد بها ورب الكعبة ، ولم تزل فى نفسه حتى ادعاه معاوية.

قال الرضى : قوله عليه السلام «الواغل» : هو الذى يهجم على الشّرب ليشرب معهم ، وليس منهم ، فلا يزال مدفّعا محاجزا. و «النوط المذبذب» : هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك ، فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره واستعجل سيره

__________________

(١) يدخل غفلته بغتة فيأخذه فيها. وتشبيه الغفلة بالبيت يسكن فيه الغافل من أحسن أنواع التشبيه. والغرة ـ بالكسر ـ : خلو العقل من ضروب الحيل. والمراد منها العقل الغر ، أى : يسلب العقل الساذج

(٢) فلتة أبى سفيان : قوله فى شأن زياد : «إنى أعلم من وضعه فى رحم أمه» يريد نفسه

٧٧

٤٥ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى عثمان بن حنيف الأنصارى ، وهو عامله على البصرة

وقد بلغه أنه دعى إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها

أمّا بعد يا ابن حنيف : فقد بلغنى أنّ رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان (١)! وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ (٢) ، وغنيّهم مدعوّ ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم (٣) فما اشتبه عليك علمه فالفظه (٤) ، وما أيقنت بطيب وجوهه (٥) فنل منه.

ألا وإنّ لكلّ مأموم إماما يقتدى به ويستضىء بنور علمه ، ألا وإنّ إمامكم

__________________

(١) المأدبة ـ بفتح الدال وضمها ـ : الطعام يصنع لدعوة أو عرس ، تستطاب : يطلب لك طيبها ، والألوان : أصناف الطعام ، والجفان ـ بكسر الجيم ـ : جمع جفنة ، وهى القصعة

(٢) عائلهم : محتاجهم ، «مجفو» أى : مطرود من الجفاء

(٣) قضم ـ كسمع ـ : أكل بطرف أسنانه ، والمراد الأكل مطلقا. والمقضم ـ كمقعد ـ : المأكل ، وقدم أعرابى على ابن عم له بمكة فقال : إن هذه بلاد مقضم ، وليست ببلاد مخضم. الخضم ـ بالخاء ـ الأكل بجميع الفم ، والقضم ـ بالقاف ـ دون ذلك ، وقولهم : يبلغ الخضم بالقضم ، أى : إن الشبعة قد تدرك بالأكل بأطراف الفم ، وهم يريدون بذلك أن الغابة البعيدة قد تدرك بالرفق

(٤) اطرحه حيث اشتبه عليك حله من حرمته

(٥) يطيب وجوهه : بالحل فى طرق كسبه

٧٨

قد اكتفى من دنياه بطمريه (١) ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينونى بورع واجتهاد ، وعفّة وسداد (٢). فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادّخرت من غنائمها وفرا (٣) ولا أعددت لبالى ثوبى طمرا (٤). [ولا حزت من أرضها شبرا ، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة ، ولهى فى عينى أوهى وأهون من عفصة مقرة] بلى؟ كانت فى أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السّماء ، فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين. ونعم الحكم اللّه! وما أصنع بفدك وغير فدك والنّفس مظانّها فى غد جدث (٥)؟ تنقطع فى ظلمته آثارها ، وتغيب أخبارها ، وحفرة لو

__________________

(١) الطمر ـ بالكسر ـ : الثوب الخلق

(٢) إن ورع الولاة وعفتهم يعين الخليفة على إصلاح شؤون الرعية

(٣) التبر ـ بكسر فسكون ـ : فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ ، والوفر : المال.

(٤) أى : ما كان يهيئ لنفسه طمرا آخر بدلا عن الثوب الذى يبلى ، بل كان ينتظر حتى يبلى ثم يعمل الطمر. والثوب هنا عبارة عن الطمرين ، فان مجموع الرداء والازار يعد ثوبا واحدا فبهما يكسو البدن لا بأحدهما.

(٥) فدك ـ بالتحريك ـ : قرية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، كان صالح أهلها على النصف من نخيلها بعد خيبر ، وإجماع الشيعة على أنه كان أعطاها فاطمة رضى اللّه عنها قبل وفاته ، إلا أن أبا بكر ـ رضى اللّه عنه ـ ردها لبيت المال قائلا : «إنها كانت مالا فى يد النبى يحمل به الرجال ، وينفقه فى سبيل اللّه ، وأنا اليه كما كان عليه». والقوم الآخرون الذين سخت نفوسهم عنها هم بنو هاشم. والمظان : جمع مظنة وهو المكان الذى يظن فيه وجود الشىء ، وموضع النفس الذى يظن وجودها فيه فى غد جدث ـ بالتحريك ـ أى قبر :.

٧٩

زيد فى فسحتها ، وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر (١) ، وسدّ فرجها التّراب المتراكم ، وإنّما هى نفسى أروضها بالتّقوى (٢) لتأتى آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق (٣) ، ولو شئت لاهتديت الطّريق (٤) إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات أن يغلبنى هواى ، ويقودنى جشعى (٥) إلى تخيّر الأطعمة ولعلّ بالحجاز أو اليمامة (٦) من لا طمع له فى القرص ، ولا عهد له بالشّبع!! أو أبيت مبطانا وحولى بطون غرثى ، وأكباد حرّى!! أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داء أن تبيت ببطنة (٧)

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ!

__________________

(١) أضغطها : جعلها من الضيق بحيث تضغط وتعصر الحال فيها.

(٢) أروضها : أذللها.

(٣) المزلق ـ ومثله المزلقة ـ موضع الزلة ، وهو المكان الذى تخشى فيه الزلة ، وهو الصراط ، وتقول : زلقت رجله ـ من باب طرب ـ وأزلقها غيره.

(٤) كان ـ كرم اللّه وجهه ـ إماما عالى السلطان واسع الامكان ، فلو أراد التمتع بأى اللذائذ شاء لم يمنعه مانع ، وهو قوله «لو شئت لاهتديت الخ» والقز : الحرير.

(٥) الجشع : شدة الحرص.

(٦) جملة «ولعل ـ الخ» : حالية عمل فيها تخير الأطعمة ، أى : هيهات أن يتخير الأطعمة لنفسه والحال أنه قد يكون بالحجاز أو اليمامة من لا يجد القرص ، أى : الرغيف ، ولا طمع له فى وجوده لشدة الفقر ، ولا يعرف الشبع. وهيهات أن يبيت مبطانا ـ أى : ممتلئ البطن ـ والحال أن حوله بطونا غرثى ـ أى : جائعة ـ وأكبادا حرى ، مؤنث حران ، أى : عطشان.

(٧) البطنة ـ بكسر الباء ـ : البطر والأشر والكظة ، والقد ـ بالكسر ـ سير من جلد غير مدبوغ ، أى : إنها تطلب أكلا ولا تجده.

٨٠