نهج البلاغة - ج ٣

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٣

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٢

وينتصف منك للمظلوم ، املك حميّة أنفك (١) ، وسورة حدّك ، وسطوة يدك ، وغرب لسانك ، واحترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة (٢) ، وتأخير السّطوة ، حتّى يسكن غضبك فتملك الاختيار ، ولن تحكم ذلك من نفسك حتّى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربّك.

والواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة ، أو سنّة فاضلة ، أو أثر عن نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، أو فريضة فى كتاب اللّه ، فتقتدى بما شاهدت ممّا عملنا [به] فيها (٣) ، وتجتهد لنفسك فى اتّباع ما عهدت إليك فى عهدى هذا ، واستوثقت به من الحجّة لنفسى عليك ، لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل اللّه بسعة رحمته ، وعظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة (٤) أن يوفّقنى وإيّاك لما فيه رضاه من الاقامة

__________________

(١) يقال «فلان حمى الأنف» إذا كان أبيا يأنف الضيم ، أى : املك نفسك عند الغضب. والسورة ـ بفتح السين وسكون الواو ـ : الحدة ، والحد ـ بالفتح ـ : البأس. والغرب ـ بفتح فسكون ـ : الحد تشبيها له بحد السيف ونحوه

(٢) البادرة : ما يبدر من اللسان عند الغضب من سباب ونحوه ، وإطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا ، والسكوت يطفئ من لهبه

(٣) ضمير «فيها» يعود إلى جميع ما تقدم ، أى : تذكر كل ذلك واعمل فيه مثل ما رأيتنا نعمل ، واحذر التأويل حسب الهوى

(٤) «على» متعلقة بقدرة

١٢١

على العذر الواضح إليه وإلى خلقه (١) ، مع حسن الثّناء فى العباد ، وجميل الأثر فى البلاد ، وتمام النّعمة ، وتضعيف الكرامة (٢) ، وأن يختم لى ولك بالسّعادة والشّهادة ، إنّا إليه راجعون. والسّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الطّيّبين الطّاهرين ، وسلّم تسليما كثيرا ، والسّلام.

٥٤ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى طلحة والزبير ، [مع عمران بن الحصين الخزاعى] ذكره أبو جعفر

الاسكافى فى كتاب المقامات فى مناقب أمير المؤمنين عليه السلام

أمّا بعد ، فقد علمتما وإن كتمتما أنّى لم أرد النّاس حتّى أرادونى ، ولم أبايعهم حتّى بايعونى ، وإنّكما ممّن أرادنى وبايعنى ، وإنّ العامّة لم تبايعنى لسلطان غالب ، ولا لعرض حاضر (٣) ، فإن كنتما بايعتمانى طائعين فارجعا وتوبا إلى اللّه من قريب ، وإن كنتما بايعتمانى كارهين فقد جعلتما لى عليكما السّبيل (٤) بإظهاركما الطّاعة ، وإسراركما المعصية. ولعمرى ما كنتما بأحقّ

__________________

(١) يريد من العذر الواضح العدل ، فانه عذر لك عند من قضيت عليه ، وعذر عند اللّه فيمن أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة

(٢) أى : زيادة الكرامة أضعافا

(٣) العرض ـ بفتح فسكون ، أو بالتحريك ـ هو المتاع ، وما سوى النقدين من المال ، أى : ولا لطمع فى مال حاضر. وفى نسخة «ولا لحرص حاضر»

(٤) السبيل الحجة

١٢٢

المهاجرين بالتّقيّة والكتمان ، وإنّ دفعكما هذا الأمر [من] قبل أن تدخلا فبه (١) كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به وقد زعمتما أنّى قتلت عثمان ، فبينى وبينكما من تخلّف عنّى وعنكما من أهل المدينة ، ثمّ يلزم كلّ امرىء بقدر ما احتمل (٢). فارجعا أيّها الشّيخان عن رأيكما ، فإنّ الآن أعظم أمركما العار ، من قبل أن يتجمّع العار والنّار ، والسّلام (٣).

٥٥ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى معاوية

أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه [قد] جعل الدّنيا لما بعدها (٤) ، وابتلى فيها أهلها ، ليعلم أيّهم أحسن عملا ، ولسنا للدّنيا خلقنا ، ولا بالسّعى فيها أمرنا ، وإنّما وضعنا فيها لنبتلى بها ، وقد ابتلانى اللّه بك وابتلاك بى : فجعل أحدنا حجّة على الآخر ، فعدوت على الدّنيا بتأويل القرآن (٥) ، فطلبتنى بما لم تجن يدى

__________________

(١) الأمر : هو خلافته

(٢) أى : نرجع فى الحكم لمن تقاعد عن نصرى ونصركما من اهل المدينة : فان حكموا قبلنا حكمهم ، ثم ألزمت الشريعة كل واحد منا بقدر مداخلته فى قتل عثمان

(٣) قوله «من قبل أن يتجمع» متعلق بفعل محذوف ، أى : راجعنا من قبل الخ

(٤) وهو الآخرة

(٥) فعدوت : أى وثبت ، ويروى «فغدوت» وتأويل القرآن : صرف قوله

١٢٣

ولا لسانى ، وعصبته أنت وأهل الشّام بى (١) ، وألّب عالمكم جاهلكم وقائمكم قاعدكم ، فاتّق اللّه فى نفسك ، ونازع الشّيطان قيادك (٢) ، واصرف إلى الآخرة وجهك فهى طريقنا وطريقك ، واحذر أن يصيبك اللّه منه بعاجل قارعة تمسّ الأصل (٣) ، وتقطع الدّابر ، فإنّى أولى لك باللّه أليّة غير فاجرة (٤) : لئن جمعتنى وإيّاك جوامع الأقدار لا أزال بباحتك «حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ بَيْنَنٰا وَهُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ».

٥٦ ـ ومن وصيّة له عليه السّلام

وصى بها شريح بن هانىء ، لما جعله على مقدمته إلى الشام

اتّق اللّه فى كلّ صباح ومساء ، وخف على نفسك الدّنيا الغرور ، ولا تأمنها

__________________

تعالى «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصٰاصُ» و «لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ» وتحويله إلى غير معناه ، حيث أقنع أهل الشام أن هذا النص يخول معاوية الحق فى الطلب بدم عثمان أمير المؤمنين

(١) أى : إنك وأهل الشام عصبتم ـ أى : ربطتم ـ دم عثمان بى ، وألزمتمونى ثأره ، وألب ـ بفتح الهمزة وتشديد اللام ـ أى : حرض. قالوا : يريد بالعالم أبا هريرة رضى اللّه عنه ، وبالقائم عمرو بن العاص

(٢) القياد ـ بالكسر ـ : الزمام ، و «نازعه القياد» إذا لم يسترسل معه

(٣) القارعة : البلية والمصيبة تمس الأصل ـ أى : تصيبه ـ فتقلعه ، والدابر : هو الآخر ، ويقال للأصل أيضا ، أى : لا تبقى لك أصلا ولا فرعا

(٤) «أولى» أى : أحلف باللّه حلفة غير حانثة ، والباحة كالساحة وزنا ومعنى

١٢٤

على حال ، واعلم أنّك إن لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحبّ مخافة مكروه سمت بك الأهواء إلى كثير من الضّرر (١). فكن لنفسك مانعا رادعا ، ولنزوتك عند الحفيظة واقما قامعا (٢).

٥٧ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى أهل الكوفة ، عند مسيره من المدينة إلى البصرة

أمّا بعد ، فإنّى خرجت من حيّى هذا (٣) ، إمّا ظالما ، وإمّا مظلوما ، وإمّا باغيا وإمّا مبغيّا عليه ، وإنّى أذكّر اللّه من بلغه كتابى هذا (٤) لمّا نفر إلىّ ، فإن كنت محسنا أعاننى ، وإن كنت مسيئا استعتبنى.

٥٨ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

كتبه إلى أهل الأمصار ، يقص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين

وكان بدء أمرنا أنّا النقينا والقوم من أهل الشّام ، والظّاهر أنّ ربّنا واحد (٥).

__________________

(١) «سمت» أى : ارتفعت ، والأهواء : جمع هوى ، وهو الميل مع الشهوة حيث مالت.

(٢) النزوة : من «نزا ينزو نزوا» أى : وثب ، والحفيظة : الغضب ، و «وقمه فهو واقم» أى : قهره ، وقمعه : رده وكسره

(٣) الحى : موطن القبيلة أو منزلها

(٤) «من بلغه» مفعول «اذكر». وقوله «لما نفر إلى» إن كانت مشددة فلما بمعنى إلا ، وإن كانت مخففة فهى زائدة واللام للتأكيد ، واستعتبنى : طلب منى العتبى أى : الرضا ، أى : طلب منى أن أرضيه بالخروج عن إساءتى

(٥) «والظاهر ـ الخ» : الواو للحال ، أى : كان التقاؤنا فى حال يظهر فيها أننا

١٢٥

ونبيّنا واحد ، ودعوتنا فى الاسلام واحدة ، ولا نستزيدهم فى الايمان باللّه والتّصديق برسوله ولا يستزيدوننا : الأمر واحد إلاّ ما اختلفنا فيه من دم عثمان ، ونحن منه براء! فقلنا : تعالوا نداو ما لا يدرك اليوم باطفاء الثّائرة (١) وتسكين العامّة ، حتّى يشتدّ الأمر ويستجمع فنقوى على وضع الحقّ مواضعه ، فقالوا : بل نداويه بالمكابرة! فأبوا حتّى جنحت الحرب وركدت ، ووقدت نيرانها وحمست. فلمّا ضرّستنا وإيّاهم (٢) ، ووضعت مخالبها فينا وفيهم ، أجابوا عند ذلك إلى الّذى دعوناهم إليه ، فأجبناهم إلى ما دعوا ، وسارعناهم إلى ما طلبوا ، حتّى استبانت عليهم الحجّة ، وانقطعت منهم المعذرة. فمن تمّ على ذلك منهم فهو الّذى أنقذه اللّه من الهلكة ، ومن لجّ وتمادى فهو الرّاكس (٣)

__________________

متحدون فى العقيدة لا اختلاف بيننا إلا فى دم عثمان ، و «لا نستزيدهم» أى : لا نطلب منهم زيادة فى الايمان ، لأنهم كانوا مؤمنين. وقوله «الأمر واحد» : جملة مستأنفة لبيان الاتحاد فى كل شىء إلا دم عثمان.

(١) النائرة : اسم فاعل من «نارت الفتنة تنور» إذا انتشرت ، والنائرة أيضا العداوة والشحناء. والمكابرة : المعاندة ، أى : دعاهم للصلح حتى يسكن الاضطراب ثم يوفيهم طلبهم فأبوا إلا الاصرار على دعواهم. وجنحت الحرب : مالت ، أى : مال رجالها لا يقادها ، وركدت : استقرت وقامت ، ووقدت ـ كوعدت ـ أى : اتقدت والتهبت ، وحمس ـ كفرح ـ : اشتد وصلب ، ويروى «حمشت»

(٢) ضرستنا : عضتنا بأضراسها

(٣) الراكس : الناكث الذى قلب عهده ونكثه. والراكس أيضا الثور الذى يكون فى وسط البيدر حين يداس والثيران حواليه وهو يرتكس ، أى : يدور مكانه ، وران على قلبه : غطى

١٢٦

الّذى ران اللّه على قلبه ، وصارت دائرة السّوء على رأسه

٥٩ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى الأسود بن قطيبة صاحب [جند] حلوان (١)

أمّا بعد ، فإنّ الوالى إذا اختلف هواه (٢) منعه ذلك كثيرا من العدل ، فليكن أمر النّاس عندك فى الحقّ سواء ، فإنّه ليس فى الجور عوض من العدل ، فاجتنب ما تنكر أمثاله (٣) ، وابتذل نفسك فيما افترض اللّه عليك راجيا ثوابه ، ومتخوّفا عقابه.

واعلم أنّ الدّنيا دار بليّة لم يفرغ صاحبها فيها قطّ ساعة إلاّ كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة (٤) ، وأنّه لن يغنيك عن الحقّ شىء أبدا ، ومن الحقّ عليك حفظ نفسك ، والاحتساب على الرّعيّة بجهدك (٥) ، فإنّ الّذى يصل

__________________

(١) إيالة من إيالات فارس

(٢) اختلاف الهوى : جريانه مع الأغراض النفسية حيث تذهب. ووحدة الهوى : توجهه إلى أمر واحد ، وهو تنفيذ الشريعة العادلة على من يصيب حكمها

(٣) أى : ما لا تستحسن مثله لو صدر من غيرك

(٤) الفراغ الذى يعقب حسرة يوم القيامة : هو خلو الوقت من عمل يرجع بالنفع على الأمة ، فعلى الانسان أن يكون عاملا دائما فيما ينفع أمته ويصلح رعيته إن كان راعيا

(٥) الاحتساب على الرعية : مراقبة أعمالها وتقويم ما اعوج منها وإصلاح ما فسد. والأجر الذى يصل إليه العامل من اللّه والكرامة التى ينالها من الخليفة هما أفضل وأعظم من الصلاح الذى يصل إلى الرعية بسببه

١٢٧

إليك من ذلك أفضل من الّذى يصل بك ، والسّلام.

٦٠ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى العمال الذين يطأ الجيش عملهم (١)

من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى من مرّ به الجيش من جباة الخراج وعمّال البلاد.

أمّا بعد ، فإنّى قد سيّرت جنودا هى مارّة بكم إن شاء اللّه ، وقد أوصيتهم بما يجب للّه عليهم من كفّ الأذى وصرف الشّذى (٢) ، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمّتكم من معرّة الجيش (٣) إلاّ من جوعة المضطرّ لا يجد عنها مذهبا إلى شبعه فنكّلوا من تناول منهم شيئا ظلما عن ظلمهم (٤) ، وكفّوا أيدى سفهائكم عن مضارّتهم والتّعرّض لهم فيما استثنيناه منهم (٥) وأنا بين أظهر الجيش (٦)

__________________

(١) أى : يمر بأراضيهم

(٢) الشذى : الشر

(٣) معرة الجيش : أذاه ، والامام يتبرأ منها لأنها من غير رضاه. وجوعة ـ بفتح الجيم ـ : الواحدة من مصدر جاع ، يستثنى حالة الجوع المهلك ، فان للجيش فيها حقا أن يتناول سد رمقه

(٤) «نكلوا» أى : أوقعوا النكال والعقاب بمن تناول شيئا من أموال الناس غير مضطر ، وافعلوا ذلك جزاء بظلم عن ظلمهم ، وتسمية الجزاء ظلما نوع من المشاكلة.

(٥) الذى استثناه هو حالة الاضطرار

(٦) أى : إننى موجود فيه ، فما عجزتم عن دفعه فردوه إلى اكفكم ضره وشره

١٢٨

فارفعوا إلىّ مظالمكم وما عراكم ممّا يغلبكم من أمرهم ، [وما] لا تطيقون دفعه. إلاّ باللّه وبى ، فأنا أغيّره بمعونة اللّه ، إن شاء.

٦١ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى كميل بن زياد النخعى ، وهو عامله على هيت ، ينكر عليه

تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا الغارة

أمّا بعد ، فإنّ تضييع المرء ما ولّى ، وتكلّفه ما كفى (١) ، لعجز حاضر ، ورأى متبّر ، وإنّ تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا (٢) ، وتعطيلك مسالحك الّتى ولّيناك ، ليس بها من يمنعها ولا يردّ الجيش عنها ، لرأى شعاع ، فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك غير شديد المنكب (٣) ولا مهيب الجانب ، ولا سادّ ثغرة ، ولا كاسر [لعدوّ] شوكة ، ولا مغن عن

__________________

(١) تضييع الانسان الشأن الذى تولى حفظه وتجشمه الأمر الذى لم يطلب منه وكفاه الغير ثقله عجز عن القيام بما تولاه ، ورأى متبر ـ كمعظم ـ من «تبره تتبيرا» إذا أهلكه ، أى : هالك صاحبه

(٢) قرقيسيا ـ بكسر القافين بينهما ساكن ـ : بلد على الفرات ، والمسالح : جمع مسلحة ، وهى موضع الحامية على الحدود ، ورأى شعاع ـ كسحاب ـ : أى : متفرق ، أما الرأى المجتمع على صلاح فهو تقوية المسالح ومنع العدو من دخول البلاد

(٣) المنكب ـ كمسجد ـ : مجتمع الكتف والعضد ، وشدته كناية عن القوة والمنعة ، والثغرة : الفرجة يدخل منها العدو. «٩ ـ ن ـ ج ـ ٣»

١٢٩

أهل مصره (١) ، ولا مجز عن أميره

٦٢ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى أهل مصر ، مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها

أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، نذيرا للعالمين ، ومهيمنا على المرسلين (٢) فلمّا مضى عليه السّلام تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى فى روعى (٣) ولا يخطر ببالى أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه وآله وسلم عن أهل بيته ولا أنّهم منّحوه عنّى من بعده! فما راعنى إلاّ انثيال النّاس على فلان (٤) يبايعونه ، فأمسكت يدى (٥) حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يدعون

__________________

(١) أغنى عنه : ناب منابه. وقائد المسالح ينبغى أن ينوب عن أهل المصر فى كفايتهم غارة عدوهم ، وأجزى عنه : قام مقامه وكفى عنه

(٢) المهيمن : الشاهد ، والنبى شاهد برسالة المرسلين الأولين.

(٣) الروع ـ بضم الراء ـ القلب : أو موضع الروع منه ـ بفتح الراء ـ أى : الفزع ـ اى : ما كان يقذف فى قلبى هذا الخاطر ، وهو أن العرب تزعج ـ أى : تنقل ـ هذا الأمر ـ أى : الخلافة ـ عن آل بيت النبى عموما ، ولا أنهم ينحونه ـ أى : يبعدونه ـ عنى خصوصا.

(٤) راعنى : أفزعنى ، وانثيال الناس : انصبابهم

(٥) كففتها عن العمل وتركت الناس وشأنهم ، حتى رأيت الراجعين من الناس قد رجعوا عن دين محمد بارتكابهم خلاف ما أمر اللّه ، وإهمالهم حدوده ، وعدولهم عن شريعته ، يريد بهم عمال عثمان وولاته على البلاد ، ومحق الدين : محوه وإزالته

١٣٠

إلى محق دين محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما (١) أو هدما تكون المصيبة به علىّ أعظم من فوت ولايتكم الّتى إنّما هى متاع أيّام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السّراب أو كما يتقشّع السّحاب ، فنهضت فى تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدّين وتنهنه

ومنه : إنّى واللّه لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلّها (٢) ما باليت ولا استوحشت ، وإنّى من ضلالهم الّذى هم فيه والهدى الّذى أنا عليه لعلى بصيرة من نفسى ويقين من ربّى ، وإنّى إلى لقاء اللّه [لمشتاق] وحسن ثوابه لمنتظر راج ، ولكنّنى آسى أن يلى أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها (٣)

__________________

(١) «ثلما» أى : خرقا ، ولو لم ينصر الاسلام بازالة أولئك الولاة وكشف بدعهم لكانت المصيبة على أمير المؤمنين بالعقاب على التفريط أعظم من حرمانه الولاية فى الأمصار : فالولاية يتمتع بها أياما قلائل ثمّ تزول كما يزول السراب. فنهض الامام بين تلك البدع فبددها حتى زاح ـ أى : ذهب ـ الباطل ، و «زهق» أى : خرجت روحه ومات ، مجاز عن الزوال التام. ونهنهه عن الشىء : كفه فتنهنه ، أى : كف ، وكان الدين منزعجا من تصرف هؤلاء نازعا إلى الزوال ، فكفه أمير المؤمنين ومنعه ، فاطمأن وثبت

(٢) «وهم طلاع ـ الخ» حال من مفعول «لقيتهم» ، والطلاع ـ ككتاب ـ : ملء الشىء ، أى : لو كنت واحدا وهم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم

(٣) آسى : مضارع «أسيت عليه» كرضيت ـ أى : حزنت ، أى : إنه يحزن لأن يتولى أمر الأمة سفهاؤها الخ. والدول ـ بضم ففتح ـ جمع دولة ـ بالضم ـ

١٣١

فيتّخذوا مال اللّه دولا ، وعباده خولا ، والصّالحين حربا ، والفاسقين حزبا فانّ منهم الّذى [قد] شرب فيكم الحرام (١) وجلد حدّا فى الاسلام ، وإنّ منهم من لم يسلم حتّى رضخت له على الاسلام الرّضائخ (٢) ، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم (٣) وتأنيبكم ، وجمعكم وتحريضكم ، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقصت (٤) ، وإلى أمصاركم قد افتتحت ، وإلى ممالككم تزوى ، وإلى بلادكم تغزى ، انفروا ـ رحمكم اللّه ـ إلى قتال عدوّكم ولا تثّاقلوا إلى الأرض فتقرّوا بالخسف ، وتبوءوا بالذّلّ (٥) ، ويكون نصيبكم الأخسّ ، وإنّ أخا الحرب الأرق (٦) ، ومن نام لم ينم عنه ، والسّلام

__________________

أى : شيئا يتداولونه بينهم ، يتصرفون فيه بغير حق اللّه. والخول ـ محركة ـ : العبيد ، و «حربا» أى : محاربين (١) يريد الخمر ، و «الشارب» قالوا : عتبة بن أبى سفيان ، حده خالد بن عبد اللّه فى الطائف ، وذكروا رجلا آخر لا أذكره.

(٢) الرضائخ : العطايا ، ورضحت له : أعطيت له ، وقالوا : إن عمرو بن العاص لم يسلم حتى طلب عطاء من النبى فلما أعطاه أسلم

(٣) تأليبكم : تحريضكم وتحويل قلوبكم عنهم ، والتأنيب : اللوم ، و «ونيتم» أى : أبطأتم عن إجابتى

(٤) أطراف البلاد : جوانبها قد حصل فيها النقص باستيلاء العدو عليها. وتزوى ـ مبنى للمجهول ـ من «زواه» إذا قبضه عنه

(٥) قر ـ من باب منع ، أو ضرب ـ : سكن ، أى : فتقيموا بالخسف ، أى : الضيم ، وتبوءوا ـ أى : تعودوا ـ بالذل

(٦) الأرق ـ بفتح فكسر ـ أى : الساهر ، وصاحب الحرب لا ينام ، والذى ينام لا ينام الناس عنه

١٣٢

٦٣ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى أبى موسى الأشعرى ، وهو عامله على الكوفة ، وقد بلغه عنه تثبيطه

الناس على الخروج إليه (١) لما ندبهم لحرب [أصحاب] الجمل

من عبد اللّه [علىّ] أمير المؤمنين إلى عبد اللّه بن قيس أمّا بعد ، فقد بلغنى عنك قول هو لك وعليك ، فإذا قدم رسولى عليك فارفع ذيلك (٢) واشدد مئزرك ، واخرج من جحرك ، واندب من معك. فإن حقّقت فانفذ ، وإن تفشّلت فابعد! وايم اللّه لتؤتينّ [من] حيث أنت ، ولا تترك حتّى يخلط زبدك بخاثرك (٣) وذائبك بحامدك ، وحتّى نعجل فى قعدتك (٤) وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك ، وما هى بالهوينا الّتى ترجو (٥) ،

__________________

(١) التثبيط : الترغيب فى القعود والتخلف

(٢) رفع الذيل وشد المئزر : كناية عن التشمير للجهاد ، وكنى بجحره عن مقره ، و «اندب» أى : ادع من معك. فان حققت ـ أى : أخذت بالحق والعزيمة ـ فانفد ، أى : امض ، إلينا ، وإن تفشلت ـ أى : جبنت ـ فابعد عنا

(٣) الخاثر : الغليظ ، والكلام تمثيل لاختلاط الأمر عليه من الحيرة. وأصل المثل «لا يدرى أيخثر أم يذيب» قالوا : إن المرأة تسلأ السمن فيختلط خاثره برقيقه فتقع فى حيرة : إن أوقدت النار حتى يصفو احترق ، وإن تركته بقى كدرا

(٤) القعدة ـ بالكسر ـ : هيئة القعود ، وأعجله عن الأمر : حال دون إدراكه أى : يحال بينك وبين جلستك فى الولاية ، ويحيط الخوف بك حتى تخشاه من أمام كما تخشاه من خلف

(٥) الهوينا : تصغير الهونى ـ بالضم ـ مؤنث أهون

١٣٣

ولكنّها الدّاهية الكبرى يركب جملها ، ويذلّ صعبها ، ويسهّل جبلها. فاعقل عقلك (١) واملك أمرك ، وخذ نصيبك وحظّك. فإن كرهت فتنحّ إلى غير رحب ولا فى نجاة ، فبالحرىّ لتكفينّ وأنت نائم (٢) حتّى لا يقال : أين فلان؟ واللّه إنّه لحقّ مع محقّ ، وما أبالى ما صنع الملحدون ، والسّلام.

٦٤ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى معاوية ، جوابا

أمّا بعد ، فإنّا كنّا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة ففرّق بيننا وبينكم أمس أنّا آمنّا وكفرتم ، واليوم أنّا استقمنا وفتنتم ، وما أسلم مسلمكم إلاّ كرها (٣) ، وبعد أن كان أنف الإسلام كلّه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم حزبا.

وذكرت أنّى قتلت طلحة والزّبير ، وشرّدت بعائشة (٤) ، ونزلت المصرين!

__________________

(١) قيده بالعزيمة ، ولا تدعه يذهب مذاهب التردد من الخوف

(٢) «لتكفين» بلام التأكيد ونونه ، أى : إنا لنكفيك القتال ونظفر فيه وأنت نائم خامل لا اسم لك ولا يسأل عنك ، نفعل ذلك بالوجه الحرى ـ أى : الجدير ـ بنا أن نفعله.

(٣) فان أبا سفيان إنما أسلم قبل فتح مكة بليلة ، خوف القتل ، وخشية من جيش النبى صلّى اللّه عليه وسلم البالغ عشرة آلاف ونيف ، وأنف الاسلام : أشراف العرب الذين دخلوا فيه قبل الفتح

(٤) شرد به : سمع الناس بعيوبه ، أو اطرده وفرق أمره ، والمصران : الكوفة والبصرة

١٣٤

وذلك أمر غبت عنه فلا عليك

ولا العذر فيه إليك وذكرت أنّك زائرى فى المهاجرين والأنصار ، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك (١) ، فإن كان فيه عجل فاسترفه (٢) فإنّى إن أزرك فذلك جدير أن يكون اللّه إنّما بعثنى [إليك] للنّقمة منك! وإن تزرنى فكما قال أخو بنى أسد : ـ مستقبلين رياح الصّيف تضربهم بحاصب بين أغوار وجلمود (٣)

وعندى السّيف الّذى أعضضته بجدّك (٤) وخالك وأخيك فى مقام واحد وإنّك ـ واللّه ـ ما علمت (٥) الأغلف القلب ، المقارب العقل ، والأولى أن يقال لك : إنّك رقيت سلّما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك ، لأنّك

__________________

(١) أخوه : عمرو بن أبى سفيان ، أسر يوم بدر

(٢) فاسترفه : فعل أمر ، أى : استح ولا تستعجل ، ويروى «فاسترقه» بالقاف المثناة ـ فان لم يكن تصحيفا عن الرواية بالفاء التى اثبتناها كان المعنى فان كان فيك عجل فأخفه ولا تظهره

(٣) الجلمود ـ بالضم ـ : الصخر ، والأغوار : جمع غور ـ بالفتح ـ وهو الغبار ، والحاصب : ريح تحمل التراب والحصى

(٤) جده : عتبة بن ربيعة ، وخاله : الوليد بن عتبة ، وأخوه : حنظلة ، قتلهم أمير المؤمنين يوم بدر. و «أعضضته به» جعلته يعضه ، والباء زائدة

(٥) «ما» خبر «أن» أى : أنت الذى أعرفه ، و «الأغلف» خبر بعد خبر ، وأغلف القلب : الذى لا يدرك ، كأن قلبه فى غلاف لا تنفذ إليه المعانى ، ومقارب العقل : ناقصه ضعيفه ، كأنه يكاد يكون عاقلا وليس به

١٣٥

نشدت غير ضالّتك (١) ورعيت غير سائمتك ، وطلبت أمرا لست من أهله ولا فى معدنه ، فما أبعد قولك من فعلك!! وقريب ما أشبهت (٢) من أعمام وأخوال حملتهم الشّقاوة وتمنّى الباطل على الجحود بمحمّد ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فصرعوا مصارعهم حيث [علمت] لم يدفعوا عظيما ، ولم يمنعوا حريما بوقع سيوف ما خلا منها الوغى (٣) ، ولم تماشها الهوينا.

وقد أكثرت فى قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه النّاس (٤) ، ثمّ حاكم القوم إلىّ أحملك وإيّاهم على كتاب اللّه تعالى ، وأمّا تلك الّتى تريد (٥) فإنّها خدعة الصّبىّ عن اللّبن [فى أوّل الفصال ، والسّلام لأهله]

__________________

(١) الضالة : ما فقدته من مال ونحوه ، ونشد الضالة : طلبها ليردها ، مثل يضرب لطالب غير حقه ، والسائمة : الماشية من الحيوان

(٢) «ما» وما بعدها فى معنى المصدر ، أى : شبهك قريب من أعمامك وأخوالك وصرعوا مصارعهم : سقطوا قتلى فى مطارحهم حيث تعلم ، أى : فى بدر وحنين وغيرهما من المواطن

(٣) الوغى : الحرب ، أى : لم تزل تلك السيوف تلمع فى الحروف ما خلت منها ولم تصحبها الهوينا ، أى : لم ترافقها المساهلة

(٤) وهو البيعة

(٥) من إبقائك واليا فى الشام ، وتسليمك قتلة عثمان ، والخدعة ـ مثلثة الخاء ـ ما تصرف به الصبى عن اللبن وطلبه أول فطامه ، وما تصرف به عدوك عن قصدك به فى الحروب ونحوها

١٣٦

٦٥ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إليه أيضا

أمّا بعد ، فقد آن لك أن تنتفع باللّمح الباصر من عيان الأمور (١) فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل ، وإقحامك غرور المين والأكاذيب (٢) ، وبانتحالك ما قد علا عنك (٣) ، وابتزازك لما اختزن دونك ، فرارا من الحقّ ، وجحودا لما هو ألزم لك من لحمك ودمك (٤) : ممّا قد وعاه سمعك ، وملئ به صدرك ، فما ذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال المبين ، وبعد البيان إلاّ اللّبس (٥)؟ فاحذر الشّبهة واشتمالها على لبستها ، فإنّ الفتنة طالما أغدفت جلابيبها (٦) ، وأعشت الأبصار ظلمتها

__________________

(١) يقال «لأرينك لمحا باصرا» أى : أمرا واضحا ، أى : ظهر الحق فلك أن تنتفع بوضوحه من مشاهدة الأمور

(٢) إقحامك : إدخالك فى أذهان العامة غرور المين ، أى : الكذب ، وعطف الأكاذيب للتأكيد

(٣) انتحالك : ادعاؤك لنفسك ما هو أرفع من مقامك ، و «ابتزازك» أى : سلبك أمرا اختزن ـ اى : منع ـ دون الوصول إليك ، وذلك أمر الطلب بدم عثمان والاستبداد بولاية الشام ، فانهما من حقوق الامام لا من حقوق معاوية

(٤) الذى هو ألزم له من لحمه ودمه البيعة بالخلافة لأمير المؤمنين

(٥) اللبس ـ بالفتح ـ : مصدر «لبس عليه الأمر يلبس» كضرب يضرب ـ أى : خلطه ، وفى التنزيل : «وَلَلَبَسْنٰا عَلَيْهِمْ مٰا يَلْبِسُونَ» ، واللبسة ـ بالضم ـ : الاشكال كاللبس ، بالضم.

(٦) أغدفت المرأة قناعها : أرسلته على وجهها فسترته ، وأغدف الليل : أرخى

١٣٧

وقد أتانى كتاب منك ذو أفانين من القول (١) ضعفت قواها عن السّلم ، وأساطير لم يحكها منك علم ولا حلم ، أصبحت منها كالخائض فى الدّهاس (٢) والخابط فى الدّيماس ، وترقّيت إلى مرقبة بعيدة المرام (٣) نازحة الأعلام ، تقصر دونها الأنوق (٤) ويحاذى بها العيّوق وحاش للّه أن تلى للمسلمين بعدى صدرا أو وردا (٥) أو أجرى لك على

__________________

سدوله ـ أى : أغطيته ـ من الظلام. والجلابيب : جمع جلباب ، وهو الثوب الأعلى يغطى ما تحته ، أى : طالما أسدلت الفتنة أغطية الباطل فأخفت الحقيقة ، وأعشت الأبصار : أضعفتا ومنعتها النفوذ إلى المرئيات الحقيقة

(١) أفانين القول : ضروبه وطرائقه ، والسلم : ضد الحرب ، والأساطير : جمع أسطورة ، بمعنى الخرافة لا يعرف لها منشأ ، وحاكه يحوكه : نسجه ، ونسج الكلام تاليفه ، والحلم ـ بالكسر ـ : العقل

(٢) الدهاس ـ كسحاب ـ : أرض رخوة لا هى تراب ولا رمل ، ولكن منهما يعسر فيها السير ، والديماس ـ بفتح فسكون ـ : المكان المظلم ، وخبط فى سيره : لم يهتد

(٣) المرقبة ـ بفتح فسكون ـ : مكان الارتقاب ، وهو العلو والاشراف ، أى : رفعت نفسك إلى منزلة بعيد عنك مطلبها ، و «نازحة» أى : بعيدة ، والأعلام : جمع علم ، وهو ما ينصب ليهتدى به ، أى : خفية المسالك

(٤) الأنوق ـ كصبور ـ : طير أصلع الرأس أصفر المنقار ، يقال : أعز من بيض الأنوق ، لأنها تحرزه فلا تكاد تظفر به ، لأن أوكارها فى القلل الصعبة. ولهذا الطائر خصال عدها صاحب القاموس ، والعيوق ـ بفتح فضم مشدد ـ : نجم أحمر مضىء فى طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها

(٥) الورد ـ بالكسر ـ : الاشراف على الماء ، والصدر ـ بالتحريك ـ : الرجوع بعد الشرب ، أى : لا يتولاهم فى جلب منفعة ولا ركون إلى راحة

١٣٨

أحد منهم عقدا أو عهدا!! فمن الآن فتدارك نفسك وانظر لها ، فإنّك إن فرّطت حتّى ينهد إليك عباد اللّه (١) أرتجت عليك الأمور ، ومنعت أمرا هو منك اليوم مقبول ، والسّلام (٢)

٦٦ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى عبد اللّه بن العباس ، وقد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية

أمّا بعد ، فإنّ المرء ليفرح بالشّىء الّذى لم يكن ليفوته (٣) ويحزن على الشّىء الّذى لم يكن ليصيبه ، فلا يكن أفضل ما نلت فى نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حقّ!! وليكن سرورك بما قدّمت ، وأسفك على ما خلّفت ، وهمّك فيما بعد الموت.

__________________

(١) ينهد : ينهض عباد اللّه لحربك ، وأرتجت : أغلقت ، وتقول : أرتج الباب كرتجه ، أى : أغلقه

(٢) ذلك الأمر هو حقن دمه باظهار الطاعة

(٣) قد يفرح الانسان بنيل مقدور له يفوته ، ويحزن لحرمانه ما قدر له الحرمان منه فلا يصيبه ، فاذا وصل إليك شىء مما كتب لك فى علم اللّه فلا تقرح به إن كان لذة أو شفاء غيظ ، بل عد ذلك فى عداد الحرمان ، وإنما تفرح بما كان إحياء حق وإبطال باطل ، وعليك الأسف والحزن بما خلفت ـ أى : تركت ـ من أعمال الخير ، والفرح بما قدمت منها لآخرتك

١٣٩

٦٧ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى قثم بن العباس ، وهو عامله على مكة

أمّا بعد ، فأقم للنّاس الحجّ ، وذكّرهم بأيّام اللّه (١) ، واجلس لهم العصرين فأفت المستفتى ، وعلّم الجاهل ، وذاكر العالم ، ولا يكن لك إلى النّاس سفير إلاّ لسانك ، ولا حاجب إلاّ وجهك ، ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها فانّها إن ذيدت عن أبوابك فى أوّل وردها (٢) لم تحمد فيما بعد على قضائها وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك (٣) من ذوى العيال والمجاعة مصيبا به مواضع الفاقة والخلاّت ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا ومر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا ، فانّ اللّه سبحانه يقول : «سَوٰاءً اَلْعٰاكِفُ فِيهِ وَاَلْبٰادِ» فالعاكف : المقيم به ، والبادى : الّذى يحجّ إليه

__________________

(١) أيام اللّه التى عاقب فيها الماضين على سوء أعمالهم ، والعصران : الغداة والعشى ، تغليب

(٢) فانها ـ أى : الحاجة ـ إن ذيدت ـ أى : دفعت ومنعت ، مبنى للمجهول من «ذاده يذوده» إذا طرده ودفعه ، ووردها ـ بالكسر ـ : ورودها ، وعدم الحمد على قضائها بعد الذود لأن حسنة القضاء لا تذكر فى جانب سيئة المنع

(٣) قبلك ـ بكسر ففتح ـ أى : عندك ، و «مصيبا» حال. والفاقة : الفقر الشديد. والخلة ـ بالفتح ـ : الحاجة.

١٤٠