نهج البلاغة - ج ٣

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٣

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٢

أأقنع من نفسى بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم فى مكاره الدّهر؟ أو أكون أسوة لهم فى جشوبة العيش (١) ، فما خلقت ليشغلنى أكل الطّيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها (٢) تكترش من أعلافها ، وتلهو عمّا يراد بها ، أو أترك سدى وأهمل عابثا ، أو أجرّ حبل الضّلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة (٣). وكأنّى بقائلكم يقول : «إذا كان هذا قوت ابن أبى طالب فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران ومنازلة الشّجعان»؟! ألا وإنّ الشّجرة البريّة أصلب عودا ، والرّوائع الخضرة أرقّ جلودا (٤) ، والنّباتات البدويّة أقوى وقودا (٥) وأبطأ خمودا! وأنا من رسول اللّه كالصّنو من الصّنو ، والذّراع من العضد (٦). واللّه لو تظاهرت العرب على

__________________

(١) الجشوبة : الخشونة ، وتقول : جشب الطعام ـ كنصر وسمع ـ فهو جشب وجشب ـ كشهم وبطر ـ وجشيب ومجشاب ومجشوب ، أى : غلظ فهو غليظ ، او بلا أدم ، وجشبه : طحنه جريشا.

(٢) التقاطها للقمامة ، أى : الكناسة ، و «تكترش» أى : تملأ كرشها.

(٣) اعتسف : ركب الطريق على غير قصد ، والمتاهة : موضع الحيرة.

(٤) الروائع الخضرة : الأشجار ، والأعشاب الغضة : الناعمة الحسنة.

(٥) الوقود : اشتعال النار ، أى : إذا وقدت بها النار تكون أقوى اشتعالا من النباتات غير البدوية وأبطأ منها خمودا ، ويروى «والنباتات العذية أقوى وقودا» وهى النباتات التى لا يسقيها إلا ماء المطر ،

(٦) الصنوان : النخلتان يجمعهما أصل واحد ، فهو من جرثومة الرسول

٨١

قتالى لما ولّيت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها. وسأجهد فى أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس ، والجسم المركوس (١) حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد (٢)

[ومن هذا الكتاب ، وهو آخره] : إليك عنّى يا دنيا فحبلك على غاربك (٣) ، قد انسللت من مخالبك ، وأفلتّ من حبائلك ، واجتنبت الذّهاب فى مداحضك. أين القوم الّذين غررتهم بمداعبك (٤) أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك؟ ها هم رهائن القبور ، ومضامين اللّحود! واللّه لو كنت شخصا مرئيّا ، وقالبا حسّيّا ، لأقمت عليك حدود اللّه فى عباد غررتهم بالأمانى و [أمم] ألقيتهم فى المهاوى ، وملوك أسلمتهم إلى التّلف

__________________

يكون «٦ ـ ن ـ ج ـ ٣» فى حاله ، كما كان شديد البأس وإن كان خشن المعيشة.

(١) جهد ـ كمنع ـ : جد : والمركوس : من الركس ، وهو رد الشىء مقلوبا وقلب آخره على أوله ، والمراد مقلوب الفكر.

(٢) المدرة ـ بالتحريك ـ : قطعة الطين اليابس ، وحب الحصيد : حب النبات المحصود كالقمح ونحوه ، أى : حتى يطهر المؤمنين من المخالفين.

(٣) إليك عنى : اذهبى عنى ، والغارب : الكاهل وما بين السنام والعنق. والجملة تمثيل لتسريحها تذهب حيث شاءت. وانسل من مخالبها : لم يعلق به شىء من شهواتها ، والحبائل : جمع حبالة ، وهى شبكة الصياد ، وأفلت منها : خلص ، والمداحض : المساقط.

(٤) والمداعب : جمع مدعبة ، من الدعابة ، وهى المزاح ، والتاءات والكافات كلها بالكسر خطابا للدنيا.

٨٢

وأوردتهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر (١). هيهات من وطىء دحضك زلق (٢) ، ومن ركب لججك غرق ، ومن ازورّ عن حبالك وفّق (٣) والسّالم منك لا يبالى إن ضاق به مناخه ، والدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه (٤)

اعزبى عنّى (٥) فو اللّه لا أذلّ لك فتستذلّينى ، ولا أسلس لك فتقودينى ، وايم اللّه ـ يمينا أستثنى فيها بمشيئة اللّه ـ لأروضنّ نفسى رياضة تهشّ معها إلى القرص (٦) إذا قدرت عليه مطعوما ، وتقنع بالملح مأدوما ، ولأدعنّ مقلتى كعين ماء نضب معينها (٧) مستفرغة دموعها. أتمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك؟ وتشبع الرّبيضة من عشبها فتربض (٨)؟ ويأكل علىّ من زاده

__________________

(١) الورد ـ بكسر الواو ـ : ورود الماء ، والصدر ـ بالتحريك ـ : الصدور عنه بعد الشرب.

(٢) مكان دحض ـ بفتح فسكون ـ أى : زلق لا تثبت فيه الأرجل.

(٣) «ازور» أى : مال وتنكب.

(٤) حان : حضر ، وانسلاخه : زواله.

(٥) «عزب يعزب» أى : بعد ، «ولا أسلس» أى : لا أنقاد.

(٦) «تهش» أى : تنبسط إلى الرغيف وتفرح به من شدة ما حرمها ، و «مطعوما» : حال من «القرص» كما أن «مأدوما» حال من الملح ، أى : مأدوما به الطعام.

(٧) أى : لأتركن مقلتى ـ أى : عينى ـ وهى كعين ماء نضب ـ أى : غار ـ معينها ـ بفتح فكسر ، أى : ماؤها الجارى ـ أى : أبكى حتى لا يبقى دمع

(٨) الربيضة : الغنم مع رعاتها إذا كانت فى مرابضها ، والربوض للغنم : كالبروك للابل

٨٣

فيهجع (١) قرّت إذا عينه (٢) إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة (٣) والسّائمة المرعيّة!

طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها ، وعركت بجنبها بؤسها (٤) ، وهجرت فى اللّيل غمضها (٥) ، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها ، وتوسّدت كفّها ، فى معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم (٦) ، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ» فاتّق اللّه يا ابن حنيف ، ولتكفك أقراصك ، ليكون من النّار خلاصك.

٤٦ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى بعض عماله

أمّا بعد ، فإنّك ممّن أستظهر به على إقامة الدّين (٧) ، وأقمع به نخوة الأثيم

__________________

(١) «يهجع» أى : يسكن كما سكنت الحيوانات بعد طعامها

(٢) دعاء على نفسه ببرود العين ـ أى : جمودها ـ من فقد الحياة. تعبير باللازم

(٣) الهاملة : المسترسلة ، والهمل من الغنم ترعى نهارا بلا راع

(٤) البؤس : الضر. وعركه بالجنب : الصبر عليه كأنه شوك فيسحقه بجنبه. ويقال : فلان يعرك بجنبه الأذى ، إذا كان صابرا عليه

(٥) الغمص ـ بالضم ـ : النوم ، والكرى ـ بالفتح ـ : كذلك

(٦) الهمهمة : الصوت يردد فى الصدر ، وأراد منه الأعم ، وتقشع الغمام : انجلى

(٧) أستظهر : أستعين به ، و «وأقمع» أى : أكسر ، والنخوة ـ بالفتح ـ : الكبر ، والأثيم : فاعل الخطايا

٨٤

وأسدّ به لهاة الثّغر المخوف (١). فاستعن باللّه على ما أهمّك ، واخلط الشّدّة بضعث من اللّين (٢) ، وارفق ما كان الرّفق أرفق ، واعتزم بالشّدّة حين لا يغنى عنك إلاّ الشّدّة [و] اخفض للرّعيّة جناحك [وابسط لهم وجهك] وألن لهم جانبك ، وآس بينهم فى اللّحظة والنّظرة (٣) والإشارة والتّحيّة ، حتّى لا يطمع العظماء فى حيفك ، ولا ييأس الضّعفاء من عدلك ، والسّلام.

٤٧ ـ ومن وصيّة له عليه السّلام

للحسن والحسين عليهما السلام لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه

أوصيكما بتقوى اللّه ، وأن لا تبغيا الدّنيا وإن بغتكما (٤) ولا تأسفا على شىء منها زوى عنكما (٥) ، وقولا للحقّ ، واعملا للأجر ، وكونا للظّالم خصما وللمظلوم عونا

أوصيكما ، وجميع ولدى وأهلى ومن بلغه كتابى ، بتقوى اللّه ، ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ، فإنّى سمعت جدّكما ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، يقول :

__________________

(١) الثغر : مظنة طروق الأعداء فى حدود الممالك ، واللهاة : قطعة لحم مدلاة فى سقف الفم على باب الحلق ، قرنها بالثغر تشبيها له بفم الانسان

(٢) بضعث : بخلط ، أى : شىء تخلط به الشدة من اللين

(٣) «آس» أى : شارك وسو بينهم

(٤) لا تطلباها وإن طلبتكما

(٥) «زوى» أى : قبض ونحى عنكما.

٨٥

«صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصّلاة والصّيام» اللّه اللّه فى الأيتام ، فلا تغبّوا أفواههم (١) ، ولا يضيعوا بحضرتكم ، واللّه اللّه فى جيرانكم ، فإنّهم وصيّة نبيّكم ، ما زال يوصى بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم (٢) واللّه اللّه فى القرآن ، لا يسبقكم بالعمل به غيركم ، واللّه اللّه فى الصّلاة ، فإنّها عمود دينكم ، واللّه اللّه فى بيت ربّكم ، لا تخلّوه ما بقيتم ، فإنّه إن ترك لم تناظروا (٣) واللّه اللّه فى الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فى سبيل اللّه ، وعليكم بالتّواصل والتّباذل (٤) ، وإيّاكم والتّدابر والتّقاطع ، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم [ثم قال :] يا بنى عبد المطّلب لا ألفينّكم (٥) تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون : قتل أمير المؤمنين [قتل أمير المؤمنين ، ألا]! لا تقتلنّ بى إلاّ قاتلى

انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يمثّل

__________________

(١) أغب القوم : جاءهم يوما وترك يوما ، أى : صلوا أفواههم بالاطعام ولا تقطعوه عنها

(٢) يجعل لهم حقا فى الميراث

(٣) لم تناظروا ـ مبنى للمجهول ـ أى : لا ينظر إليكم بالكرامة لا من اللّه ولا من الناس لاهمالكم فرض دينكم

(٤) مداولة البذل ، أى : العطاء

(٥) لا أجدنكم ، نفى فى معنى النهى ، أى : لا تخوضوا دماء المسلمين بالسفك انتقاما منهم بقتلى

٨٦

بالرّجل (١) ، فإنّى سمعت رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، يقول : «إيّاكم والمثلة ، ولو بالكلب العقور»

٤٨ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى معاوية

وإنّ البغى والزّور يذيعان بالمرء فى دينه ودنياه (٢) ويبديان خلله عند من يعيبه ، وقد علمت أنّك غير مدرك ما قضى فواته (٣) ، وقد رام أقوام أمرا بغير الحقّ فتأوّلوا على اللّه فأكذبهم (٤) فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله (٥) ، ويندم من أمكن الشّيطان من قياده فلم يجاذبه.

وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله ولسنا إيّاك أجبنا ، ولكنّا أجبنا القرآن فى حكمه ، والسّلام.

__________________

(١) أى لا تمثلوا به ، والتمثيل : التنكيل والتعذيب ، أو هو التشويه بعد القتل أو قبله : بقطع الأطراف مثلا

(٢) «يذيعان بالمرء» : يشهرانه ويفضحانه ، ويروى «يوتغان بالمرء» أى : يهلكانه ، والوتغ ـ بالتحريك ـ الهلاك ، وقد وتغ كوجل يوتغ كيوجل

(٣) ما قضى فواته : هو دم عثمان والانتصار له ، ومعاوية يعلم أنه لا يدركه لانقضاء الأمر بموت عثمان رضى اللّه عنه

(٤) أولئك الذين فتحوا الفتنة بطلب دم عثمان ، يريد بهم أصحاب الجمل ، و «تأولوا على اللّه» أى : تطاولوا على أحكامه بالتأويل ، فأكذبهم : حكم بكذبهم

(٥) يغتبط : يفرح من جعل عاقبة عمله محمودة باحسان العمل ، أو من وجد العاقبة حميدة. و «أمكن الشيطان» أى : مكنه من زمامه ولم ينازعه

٨٧

٤٩ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى غيره (١)

أمّا بعد ، فإنّ الدّنيا مشغلة عن غيرها ، ولم يصب صاحبها منها شيئا إلاّ فتحت له حرصا عليها ، ولهجا بها (٢) ولن يستغنى صاحبها بما نال فيها عمّا لم يبلغه منها ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، ونقض ما أبرم! ولو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقى ، والسّلام.

٥٠ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى أمرائه على الجيوش

من عبد اللّه علىّ [بن أبى طالب] أمير المؤمنين إلى أصحاب المسالح (٣) : ـ أمّا بعد ، فإنّ حقّا على الوالى أن لا يغيّره على رعيّته فضل ناله ، ولا طول خصّ به (٤) وأن يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوّا من عباده ، وعطفا على إخوانه

__________________

(١) فى رواية ابن أبى الحديد «إلى معاوية أيضا»

(٢) «لهجا» أى : ولوعا وشدة حرص ، وتقول : قد لهج بالشىء ـ من باب طرب ـ إذا أغرى به فثابر عليه

(٣) جمع مسلحة ، أى : الثغور ، لأنها مواضع السلاح ، وأصل المسلحة : قوم ذوو سلاح

(٤) الطول ـ بفتح الطاء ـ : عظيم الفضل ، أى : من الواجب على الوالى إذا خصه اللّه بفضل أن يزيده فضله قربا من العباد وعطفا على الاخوان ، وليس من حقه أن يتغير.

٨٨

ألا وإنّ لكم عندى أن لا أحتجز دونكم سرّا إلاّ فى حرب (١) ولا أطوى دونكم أمرا إلاّ فى حكم (٢) ، ولا أؤخّر لكم حقّا عن محلّه ، ولا أقف به دون مقطعه (٣). وأن تكونوا عندى فى الحقّ سواء ، فإذا فعلت ذلك وجبت للّه عليكم النّعمة ولى عليكم الطّاعة ، وأن لا تنكصوا عن دعوة (٤) ولا تفرّطوا فى صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحقّ (٥) ، فإن أنتم لم تستقيموا [لى] على ذلك لم يكن أحد أهون علىّ ممّن اعوجّ منكم ، ثمّ أعظم له العقوبة ولا يجد عندى فيها رخصة ، فخذوا هذا من أمرائكم ، وأعطوهم من أنفسكم ما يصلح اللّه به أمركم (٦)

__________________

(١) لا أكتم عنكم سرا إلا فى الحرب فانها خدعة ، وكان النبى صلّى اللّه عليه وسلم إذا أراد حربا وروى بغيرها

(٢) طواه عنه : لم يجعل له نصيبا فيه ، أى : لا أدع مشاورتكم فى أمر إلا فى حكم صرح به الشرع فى حد من الحدود مثلا ، فحكم اللّه النافذ دون مشورتكم

(٣) دون الحد الذى قطع به أن يكون لكم

(٤) أى : لا تتأخروا إذا دعوتكم

(٥) الغمرات : الشدائد

(٦) أى : خذوا حقكم من أمرائكم ، وأعطوهم من أنفسكم الحق الواجب عليكم وهو ما يصلح اللّه به أمركم

٨٩

٥١ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى عماله على الخراج

من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج : ـ

أمّا بعد ، فإنّ من لم يحذر ما هو صائر إليه (١) لم يقدّم لنفسه ما يحرزها. واعلموا أنّ ما كلفّتم يسير ، وأنّ ثوابه كثير. ولو لم يكن فيما نهى اللّه عنه من البغى والعدوان عقاب يخاف لكان فى ثواب اجتنابه ما لا عذر فى ترك طلبه. فأنصفوا النّاس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم فإنّكم خزّان الرّعيّة (٢) ووكلاء الأمّة ، وسفراء الأئمّة. ولا تحسموا أحدا عن حاجته (٣) ولا تحبسوه عن طلبته ، ولا تبيعنّ للنّاس فى الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابّة يعتملون عليها (٤) ولا عبدا ، ولا تضربنّ أحدا سوطا لمكان درهم ، ولا تمسّنّ

__________________

(١) من لم يحذر العاقبة التى يصير إليها لم يعمل عملا لنفسه يحفظها من سوء المصير

(٢) الخزان ـ بضم فزاى مشددة ـ : جمع خازن ، والولاة يخزنون أموال الرعية فى بيت المال لتنفق فى مصالحها

(٣) لا تحسموا : لا تقطعوا ، ويروى «ولا تحشموا» بالشين المعجمة ، ويجوز ضم حرف المضارعة وفتحه قال ابن الأعرابى : حشمه أخجله ، وأحشمه أغضبه والطلبة ـ بالكسر وبفتح الطاء وكسر اللام ـ : المطلوب

(٤) أى : لا تضطروا الناس لأن يبيعوا لأجل أداء الخراج شيئا من كسوتهم ، ولا من الدواب اللازمة لأعمالهم فى الزرع والحمل ، مثلا ، ولا تضربوهم لأجل الدراهم ، ولا تمسوا مال أحد من المصلين ـ أى : المسلمين ـ أو المعاهدين بالمصادرة إلا ما كان عدة للخارجين على الاسلام يصولون بها على أهله.

٩٠

مال أحد من النّاس مصلّ ولا معاهد إلاّ أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام ، فإنّه لا ينبغى للمسلم أن يدع ذلك فى أيدى أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه ، ولا تدّخروا أنفسكم نصيحة (١) ، ولا الجند حسن سيرة ولا الرّعيّة معونة ، ولا دين اللّه قوّة ، وأبلوا فى سبيل اللّه ما استوجب عليكم (٢) فانّ اللّه ، سبحانه ، قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا (٣) ، وأن ننصره بما بلغت قوّتنا ، ولا قوّة إلاّ باللّه [العلىّ العظيم]

٥٢ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

إلى أمراء البلاد فى معنى الصلاة

أمّا بعد ، فصلّوا بالنّاس الظّهر حتّى تفىء الشّمس من مربض العنز (٤) ، وصلّوا بهم العصر والشّمس بيضاء حيّة فى عضو من النّهار حين يسار فيها

__________________

(١) ادخر الشىء : استبقاه لا يبذل منه لوقت الحاجة ، وضمن «ادخر» ههنا معنى «منع» فعداه بنفسه لمفعولين ، أى : لا تمنعوا أنفسكم شيئا من النصيحة بدعوى تأخيره لوقت الحاجة. بل حاسبوا أنفسكم على أعمالها كل وقت. ومثل هذا يقال فى المعطوفات

(٢) «وأبلوا» أى : أدوا ، يقال : أبليته عذرا ، أى : أديته إليه

(٣) يقال : اصطنعت عنده ، أى : طلبت منه أى يصنع لى شيئا. فاللّه سبحانه طلب منا أن نصنع له الشكر بطاعتنا له ورعاية حقوق عباده ، وفاء بحق ماله علينا من النعمة.

(٤) «تفىء» أى : تصل فى ميلها جهة الغرب إلى أن يكون لها فىء ـ أى : ظل ـ من حائط المربض على قدر طوله ، وذلك حيث يكون ظل كل شىء مثله.

٩١

فرسخان (١) وصلّوا بهم المغرب حين يفطر الصّائم ويدفع الحاجّ [إلى منى] (٢) وصلّوا بهم العشاء حين يتوارى الشّفق إلى ثلث اللّيل ، وصلّوا بهم الغداة والرّجل يعرف وجه صاحبه ، وصلّوا بهم صلاة أضعفهم ولا تكونوا فتّانين (٣)

٥٣ ـ ومن كتاب له عليه السّلام

كتبه للأشتر النخعى ، لما ولاه على مصر واعمالها

حين اضطرب [أمر] محمد بن أبى بكر ، وهو أطول عهد

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا ما أمر به عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر فى عهده إليه ، حين ولاّه مصر : جباية خراجها ، وجهاد عدوّها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة بلادها

أمره بتقوى اللّه ، وإيثار طاعته ، واتّباع ما أمر به فى كتابه : من فرائضه ، وسننه ، الّتى لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها ، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها ،

__________________

(١) أى : لا تزالوا تصلون بهم العصر من نهاية وقت الظهر ما دامت الشمس بيضاء حية لم تصفر ، وذلك فى جزء من النهار يسع السير فرسخين. والضمير فى «فيها» للعضو باعتبار كونه مدة

(٢) «يدفع الحاج» أى : يفيض من عرفات

(٣) أى : لا يكون الامام موجبا لفتنة المأمومين ونفرتهم من الصلاة بالتطويل

٩٢

وأن ينصر اللّه سبحانه بقلبه ويده ولسانه ، فإنّه ، جلّ اسمه ، قد تكفّل بنصر من نصره ، وإعزاز من أعزّه.

وأمره أن يكسر نفسه من الشّهوات ويزعها عند الجمحات (١) ، فإنّ النّفس أمّارة بالسّوء ، إلاّ ما رحم اللّه.

ثمّ اعلم ، يا مالك أنّى قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور ، وأنّ النّاس ينظرون من أمورك فى مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم ، وإنّما يستدلّ على الصّالحين بما يجرى اللّه لهم على ألسن عباده ، فليكن أحبّ الذّخائر إليك ذخيرة العمل للصّالح ، فاملك هواك وشحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك (٢) فإنّ الشّحّ بالنّفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت. وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة ، والمحبّة لهم ، واللّطف بهم ، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان : إمّا أخ لك فى الدّين ، أو نظير لك فى الخلق ، يفرط منهم

__________________

(١) و «يزعها» أى : يكفها عن مطامعها إذا جمحت عليه فلم تنقد لقائد العقل الصحيح والشرع الصريح.

(٢) شح : ابخل بنفسك عن الوقوع فى غير الحل ، فليس الحرص على النفس إيفاءها كل ما تحب ، بل من الحرص عليها أن تحمل على ما تكره إن كان ذلك فى الحق فرب محبوب يعقب هلاكا ، ومكروه تحمد عاقبته

٩٣

الزّلل (١) ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم فى العمد والخطإ (٢) فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الّذى تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه ، فإنّك فوقهم ووالى الأمر عليك فوقك ، واللّه فوق من ولاّك! وقد استكفاك أمرهم (٣) وابتلاك بهم ، ولا تنصبنّ نفسك لحرب اللّه (٤) فإنّه لا يدى لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ، ولا تندمنّ على عفو ، ولا تبجحنّ بعقوبة (٥) ، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة ، ولا تقولنّ إنّى مؤمّر آمر فأطاع (٦) فإنّ ذلك إدغال فى القلب ، ومنهكة للدّين ، وتقرّب من الغير. وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة (٧)

__________________

(١) يفرط : يسبق ، والزلل : الخطأ

(٢) يؤتى ـ مبنى للمجهول ـ نائب فاعله «على أيديهم» ، وأصله «تأتى السيئات على أيديهم ـ الخ»

(٣) استكفاك : طلب منك كفاية أمرهم والقيام بتدبير مصالحهم

(٤) أراد بحرب اللّه مخالفة شريعته بالظلم والجور ، و «لا يدى لك بنقمته» أى : ليس لك يد أن تدفع نقمته ، أى : لا طاقة لك بها

(٥) بجح به ـ كفرح لفظا ومعنى ـ والبادرة : ما يبدر من الحدة عند الغضب فى قول أو فعل ، والمندوحة : المتسع ، أى : المخلص

(٦) مؤمر ـ كمعظم ـ أى : مسلط ، والادغال : إدخال الفساد ، ومنهكة : مضعفة ، وتقول «نهكه» أى : أضعفه. وتقول «نهكه السلطان» ـ من باب فهم ـ أى : بالغ فى عقوبته ، والغير ـ بكسر ففتح ـ : حادثات الدهر بتبدل الدول ، والاغترار بالسلطة تقرب منها ، أى : تعرض للوقوع فيها

(٧) الأبهة ـ بضم الهمزة وتشديد الباء مفتوحة ـ : العظمة والكبرياء والمخيلة ـ بفتح فكسر : الخيلاء والعجب

٩٤

فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك ، فإنّ ذلك يطامن إليك من طماحك (١) ، ويكفّ عنك من غربك ، ويفى إليك بما عزب عنك من عقلك.

إيّاك ومساماة اللّه فى عظمته (٢) والتّشبّه به فى جبروته ، فانّ اللّه يذلّ كلّ جبّار ، ويهين كلّ مختال.

أنصف اللّه وأنصف النّاس من نفسك ومن خاصّة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيّتك (٣) ، فانّك إلاّ تفعل تظلم! ومن ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده ، ومن خاصمه اللّه أدحض حجّته (٤) وكان للّه حربا حتّى ينزع أو يتوب وليس شىء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم ، فانّ اللّه سميع دعوة المضطهدين وهو للظّالمين بالمرصاد

وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها فى الحقّ ، وأعمّها فى العدل وأجمعها

__________________

(١) الطماح ـ ككتاب ـ : النشوز والجماح ، و «يطامن» أى : يخفض منه ، والغرب ـ بفتح فسكون ـ : الحدة ، ويفىء : يرجع إليك. بما عزب ـ أى : غاب ـ من عقلك.

(٢) المساماة : المباراة فى السمو ، أى : العلو

(٣) من لك فيه هوى ، أى : لك إليه ميل خاص

(٤) أدحض : أبطل ، و «حربا» أى : محاربا ، و «ينزع» ـ كيضرب ـ أى : يقلع عن ظلمه.

٩٥

رضا الرّعيّة ، فانّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة (١) وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة. وليس أحد من الرّعيّة أثقل على الوالى مؤونة فى الرّخاء وأقلّ معونة له فى البلاء ، وأكره للانصاف ، وأسأل بالالحاف (٢) وأقلّ شكرا عند الاعطاء ، وأبطأ عذرا عند المنع ، وأضعف صبرا عند ملمّات الدّهر من أهل الخاصّة (٣) وإنّما عماد الدّين وجماع المسلمين (٤). والعدّة للأعداء العامّة من الأمّة ، فليكن صغوك لهم ، وميلك معهم.

وليكن أبعد رعيّتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب النّاس (٥) فانّ فى النّاس عيوبا الوالى أحقّ من سترها (٦) ، فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها فانّما عليك تطهير ما ظهر لك ، واللّه يحكم على ما غاب عنك ، فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحبّ ستره من رعيّتك أطلق عن النّاس عقدة (٧)

__________________

(١) «يجحف» أى : يذهب برضا الخاصة فلا ينفع الثانى معه. أما لو سخط الخاصة ورضى العامة فلا أثر لسخط الخاصة فهو مغتفر

(٢) الالحاف : الالحاح والشدة فى السؤال

(٣) «من أهل الخاصة» متعلق بأثقل ، وما بعده من أفاعل التفضيل.

(٤) جماع الشىء ـ بالكسر ـ جمعه ، أى : جماعة الاسلام. والعامة خير عماد وما بعده.

(٥) أشنأهم : أبغضهم ، والاطلب للمعائب : الأشد طلبا لها

(٦) «ستر» فعل ماض صلة «من» أى : أحق الساترين لها بالستر

(٧) احلل عقد الأحقاد من قلوب الناس بحسن السيرة معهم ، وقطع عنك

٩٦

كلّ حقد ، واقطع عنك سبب كلّ وتر ، وتغاب عن كلّ ما لا يصحّ لك ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع ، فإنّ السّاعى غاش ، وإن تشبّه بالنّاصحين. ولا تدخلنّ فى مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل (١) ويعدك الفقر ، ولا جبانا يضعفك عن الأمور ، ولا حريصا يزينّ لك الشّره بالجور ، فإنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتّى (٢) يجمعها سوء الظّنّ باللّه! إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ، ومن شركهم فى الآثام فلا يكوننّ لك بطانة (٣) فإنّهم أعوان الأثمة ، وإخوان الظّلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف (٤) ممّن له مثل آرائهم ونفاذهم ، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم (٥) ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه : أولئك أخفّ

__________________

أسباب الأوتار ـ أى : العداوات ـ بترك الاساءة إلى الرعية ، والوتر ـ بالكسر ـ العداوة ، و «تغاب» أى : تغافل ، والساعى : هو التمام بمعائب الناس

(١) الفضل هنا : الاحسان بالبذل. ويعدك : يخوفك من الفقر لو بذلت. والشره ـ بالتحريك ـ : أشد الحرص

(٢) غرائز : طبائع متفرقة تجتمع فى سوء الظن بكرم اللّه وفضله

(٣) بطانة الرجل ـ بالكسر ـ : خاصته ، وهو من بطانة الثوب خلاف ظهارته. والأثمة : جمع آثم ، وهو فاعل الاثم ، أى : الذنب. والظلمة : جمع ظالم

(٤) «منهم» متعلق «بالخلف» أو متعلق «بواجد» ، ومن مستعملة فى المعنى الاسمى بمعنى بدل.

(٥) الآصار : جمع إصر ـ بالكسر ـ وهو الذنب والأثم ، وكذلك الأوزار «٧ ـ ن ـ ج ـ ٣»

٩٧

عليك مؤونة ، وأحسن لك معونة ، وأحنى عليك عطفا ، وأقلّ لغيرك إلفا (١) ، فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك وحفلاتك ، ثمّ ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحقّ لك (٢) وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع (٣). والصق بأهل الورع والصّدق ، ثمّ رضهم على أن لا يطروك (٤) ولا يبجحوك بباطل لم تفعله ، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزّهو وتدنى من العزّة.

ولا يكوننّ المحسن والمسىء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ فى ذلك تزهيدا لأهل الاحسان فى الاحسان ، وتدريبا لأهل الإساءة على الاساءة! وألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه (٥). واعلم أنّه ليس شىء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم (٦) وتخفيفه المؤونات عليهم ، وترك استكراهه إيّاهم على ما ليس

__________________

(١) الألف ـ بالكسر ـ : الألفة والمحبة.

(٢) ليكن أفضلهم لديك أكثرهم قولا بالحق المر ، ومرارة الحق : صعوبته على نفس الوالى.

(٣) «واقعا» : حال مما «كره اللّه» ، أى : لا يساعدك على ما كره اللّه حال كونه نازلا من ميلك إليه أى منزلة ، أى : وإن كان من أشد مرغوباتك

(٤) «رضهم» : أى : عودهم على أن لا يطروك ـ أى : يزيدوا فى مدحك ـ ولا يبجحوك ـ أى : يفرحوك بنسبة عمل عظيم إليك ولم تكن فعلته ، والزهو ـ بالفتح ـ : العجب. و «تدنى» أى : تقرب من العزة ، أى : الكبر

(٥) فان المسيء لزم نفسه استحقاق العقاب ، والمحسن ألزمها استحقاق الكرامة

(٦) إذا أحسن الوالى إلى رعيته وثق من قلوبهم بالطاعة له ، فان الاحسان قياد

٩٨

[له] قبلهم (١) فليكن منك فى ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظّنّ برعيّتك ، فانّ حسن الظّنّ يقطع عنك نصبا طويلا (٢) وإنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده ، وإنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده (٣)

ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمّة ، واجتمعت بها الألفة ، وصلحت عليها الرّعيّة ، ولا تحدثنّ سنّة تضرّ بشىء من ماضى تلك السّنن فيكون الأجر لمن سنّها ، والوزر عليك بما نقضت منها.

وأكثر مدارسة العلماء ، ومنافثة الحكماء (٤) فى تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامة ما استقام به النّاس قبلك.

واعلم أنّ الرّعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض ، ولا غنى ببعضها عن بعض : فمنها جنود اللّه ، ومنها كتّاب العامّة والخاصّة (٥) ، ومنها قضاة العدل

__________________

الانسان فيحسن ظنه بهم ، بخلاف ما لو أساء إليهم ، فان الاساءة تحدث العداوة فى نفوسهم فينتهزون الفرصة لعصيانه فيسوء ظنه بهم

(١) قبلهم ـ بكسر ففتح ـ أى : عندهم

(٢) النصب ـ بالتحريك ـ : التعب

(٣) البلاء هنا : الصنع مطلقا حسنا أو سيئا ، وتفسير العبارة واضح مما قدمنا.

(٤) المنافثة : المحادثة

(٥) كتاب ـ كرمان ـ : جمع كاتب ، والكتبة منهم عاملون للعامة كالمحاسبين والمحررين فى المعتاد من شؤون العامة كالخراج والمظالم ، ومنهم مختصون بالحاكم : يفضى إليهم بأسراره ، ويوليهم النظر فيما يكتب لأوليائه وأعدائه ، وما يقرر فى شؤون حربه وسلمه مثلا

٩٩

ومنها عمّال الانصاف والرّفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذّمّة ومسلمة النّاس ، ومنها التّجّار وأهل الصّناعات ، ومنها الطّبقة السّفلى من ذوى الحاجة والمسكنة ، وكلّ قد سمّى اللّه [له] سهمه (١). ووضع على حدّه فريضة فى كتابه أو سنّة نبيّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ عهدا منه عندنا محفوظا فالجنود ، باذن اللّه ، حصون الرّعيّة ، وزين الولاة ، وعزّ الدّين ، وسبل الأمن ، وليس تقوم الرّعيّة إلاّ بهم ، ثمّ لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج اللّه لهم من الخراج الّذى يقوون به على جهاد عدوّهم ، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ، ويكون من وراء حاجتهم (٢) ، ثمّ لا قوام لهذين الصّنفين إلاّ بالصّنف الثّالث من القضاة والعمّال والكتّاب ، لما يحكمون من المعاقد (٣) ويجمعون من المنافع ، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها ولا قوام لهم جميعا إلاّ بالتّجّار وذوى الصّناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم (٤) ويقيمونه من أسواقهم ، ويكفونهم من التّرفّق بأيديهم

__________________

(١) سهمه : نصيبه من الحق

(٢) أى : يكون محيطا بجميع حاجاتهم دافعا لها.

(٣) هو وما بعده نشر على ترتيب اللف ، والمعاقد : العقود فى البيع والشراء وما شابههما مما هو شأن القضاة ، وجمع المنافع : من حفظ الأمن ، وجباية الخراج ، وتصريف الناس فى منافعهم العامة ، ذلك شأن العمال. والمؤتمنون : هم الكتاب

(٤) الضمير للتجار وذوى الصناعات ، أى : إنهم قوام لمن قبلهم بسبب المرافق

١٠٠