الأذان بين الإصالة والتحريف

السيد علي الشهرستاني

الأذان بين الإصالة والتحريف

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8166-82-X
الصفحات: ٤٩٦

السنّة والجماعة يرجع أساساً إلى سنّه عمر بن الخطاب وغيره من مجتهدي الصحابة. وقد تمحّل له علماء هذا النهج فحملوا كلّ ما لا يرتضونه من الروايات والأحكام المغايرة لاجتهادات السلف على النسخ والوضع. ولكي يضفوا صبغة شرعية على تلك الأحكام تراهم ينسبون روايات إلى رسول الله تؤيّد ما ذهبوا إليه.

وإيماناً منا بضرورة دراسة ملابسات مثل هذه الأمور في الشريعة ورفع الستار عنها ، خصصنا هذا الفصل كي نؤكّد على أن الصراع حول جزئية «حيّ على خير العمل» بين الطالبيين والنهج الحاكم له جذوره وأصوله العقائدية والتاريخية ، ولم يكن صراعاً سياسياً بحتاً ، وهذا إن دّل على شيء فإنما يدّل على عمق الخلاف بين الفريقين.

إذ أنّ استمرار الصراع العقائدي السياسي لمدة طويلة من الزمن ينبئ عن وجود أصل شرعي مُختلَف فيه عندهم.

ولمّا كان النهج الحاكم ـ على مرّ العصور ـ يدعو إلى «الصلاة خير من النوم» تبعاً للخليفة الثاني والأمويين من بعده ، ولمّا كان الطالبيون لا يؤمنون بشرعية هذا الجزء ، فمن المؤكد أن يكون عدم إتيان الحفّاظ والمحدّثين بما يدل على شرعيّة «حيّ على خير العمل» في الصحاح والسنن قد كان خاضعاً لأمور سياسية.

إنّ الطالبيّين قد وقفوا أمام مثل هذه الهجمات بكلِّ قوّة ، وبذلوا كلّ ما يمكنهم في التعبير عن عدم الرضوخ أمام تغيير السنّة ، وقد كلّفهم ذلك الكثير الكثير ، وتحمّلوا المصاعب العظام من أجل الحفاظ على سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنها الإتيان بـ «حيّ على خير العمل» في أذانهم. وقد جرت بين الطرفين مناوشات كلامية اتّهم فيها كلّ طرف منهما الآخر بالانحراف والبدعة ، محافظاً على شعاريته ، ورافضاً شعارية الطرف الآخر بكل عنف.

٣٤١

ومن يتصفّح التاريخ يجد بين طيّاته صوراً حيّة لمدى قوّة تمسّك الطالبيّين بهذا الجزء من الأذان ، حتّى وصلت الحال في بعض الفترات إلى أن يكون هو الشعار المحرِّك للثوار والثورة في مراحل مختلفة من التاريخ.

لقد تمسّك الطالبيّيون بـ «حيّ على خير العمل» وقدّموا قرابين نفيسة من أجل إبقائها سنّة حتّى صارت شعاراً للشيعة في كلّ الأصقاع ، وصبغة عقائديّة يُميَّزون بها عن غيرهم ، وقد استمدّوا العزم من مواقف أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام الذي قال حين سمع أذان ابن النبّاح بـ «حيّ على خير العمل» : «مرحباً بالذي قال عدلاً ، وبالصلاة مرحباً وسهلاً» (١).

وقد تجلّت مواقف الشيعة بوضوح في موقف الحسين بن عليّ ـ صاحب فخّ ـ وغيره من الطالبيين (٢) الذين أصرّوا على إعلانها جهاراً في الأذان.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٨٨ ح ٨٩٠ ، وانظر : كتاب الأذان بحيّ على خير العمل : ٤٨ ، ٥٠ للحافظ العلوي.

(٢) وإليك مجمل الحركات الشيعيّة في العصر العباسي الأول «١٣٢ ـ ٢٣٢» :

١. حركة محمّد النفس الزكيّة في المدينة سنة ١٤٥ هـ ، في عهد المنصور العباسي.

٢. حركة إبراهيم ـ أخي النفس الزكية ـ في البصرة سنة ١٤٥ هـ.

٣. حركة الحسين بن علي (صاحب فخّ) في المدينة سنة ١٦٩ هـ ، في عهد الخليفة الهادي.

٤. حركة يحيى بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد الديلم سنة ١٧٥ هـ ، في عهد هارون الرشيد.

٥. حركة إدريس بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد المغرب سنة ١٧٢ هـ ، في عهد الرشيد.

٦. حركة محمّد بن إبراهيم وأبي السَّرايا في الكوفة سنة ١٩٩ هـ ، في عهد المأمون.

٧. حركة محمّد بن جعفر الصادق في مكة سنة ٢٠٠ هـ ، في عهد المأمون.

٨. حركة أبي عبدالله (أخي أبي السرايا) في الكوفة سنة ٢٠٢ هـ ، في عهد المأمون.

٩. حركة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة ٢٠٠ هـ ، في عهد المأمون.

٣٤٢

وعليه فلا يصح ما قاله البعض من عدم صحّة تلك الأخبار أو نسخها أو ... ، بل الأمر يرجع إلى أمور أعمق مما يقولون ، والحوادث التاريخية تؤكّد ما قلناه.

إنّ متابعة السير التاريخيّ للأذان وما آل إليه في «حيّ على خير العمل» يكشف لنا عن أُمور عديدة متمادية الأطراف ترجع جذورها إلى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ويمكن تلمّس ذلك بوضوح من خلال دراسة التاريخ والسيرة والحديث ، وهذه المسألة من الأهميّة بمكان ، بحيث إنّك كلّما بحثت في مسألة من مسائلها تفتّحت لك أبواب مسائل أُخرى ذات ارتباط عميق بها ، ولا يمكنك تركها أو التهاون بها ، فالمسألة أكبر من كون «حيّ على خير العمل» شعار الشيعة و «الصلاة خير من النوم» شعار السنّة.

صحيح أنَّ الحركات التغييريّة التي قادها الشيعة عبر فترات التاريخ المختلفة تُبيِّنُ أنَّهم قد أظهروا مسألة «حيّ على خير العمل» في الأذان كعنصر تحدٍّ وتعاملوا معها كشعار لهم ـ كما حصل في الدولة الفاطميّة في مصر ، والدولة الزيدية في طبرستان ، والبويهية في بغداد ، والحمدانية في حلب ـ إلاّ أنَّ ذلك لا يتجاوز ظاهر المسألة.

ذلك أنّ مصادر الحديث والتاريخ والسيرة تُظِهر لنا بأنّ «حيّ على خير العمل» لها جذور وأصالة شرعيّة ، فهي أوسع من أن تتضيق في زاوية كونها شعار فرقة أو طائفة أو مذهب.

__________________

١٠. حركة عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن محمّد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة ٢٠٧ هـ ، في عهد المأمون.

١١. حركة محمّد بن القاسم بن عمر بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب في خراسان سنة ٢١٩ هـ ، في عهد المعتصم.

٣٤٣

نعم ، كان بلال يؤذِّن بها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أذّن مرّة أو مرّتين للزهراء والحسنين في زمن أبي بكر ولم يُتمّ أذانه. ويظهر من جمع الأدلة المارّة وما قلناه أنّه كان يؤذن بـ «حيّ على خير العمل» ، ولذلك امتنع عن الأذان في زمن الشيخين أبي بكر وعمر ؛ إذ جاء في الخطط للمقريزيّ (ت ٨٤٥ هـ) وغيره : (... وأنَّ عمر أراده أن يؤذِّن له فأبى عليه) (١) لماذا؟!

إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما ذكره المقريزيّ في باب (ذكر الأذان بمصر وما كان فيه من الاختلاف) وربطنا ذلك بما توصّلنا إليه من السير التاريخيّ لمسألة الأذان فيما يخصّ المسألة المبحوثة وشعاريّتها ، وما أُثير حولها من محاولات عامدة للحؤول دون ترسيخها في قلوب المسلمين ، وجمعنا ذلك مع ما بحوزتنا من رواياتنا ورواياتهم فسنحصل على ثمرة يانعة تشفي غليل المتطّلع الى الحقيقة ، وعلى نتيجة جليّة لا غبار عليها ، ويستبين عندئذ أنّها لا تتعدَّى كونها في أصلها شعيرة إلهيّة وشعاراً إسلاميّاً أصيلاً يحمل وراءه نهجاً إسلامياً فكرياً يتبع «الرمز» القدوة الحسنة الذي دعا القرآن الكريم إلى الاقتداء به ، ويرمي بعيداً كلّ ما يمتّ بِصلة إلى الاجتهاد بالرأي والاستحسان المقابل لمنهجيّة التعبّد المحض ؛ ذلك أن «حيّ على خير العمل» سنّة نبويّة ، أمّا «الصلاة خير من النوم» فهي دعوة مُستحدَثة لا تمثل جانباً من رؤية الإسلام.

ولدى مرورنا بالنصوص والأحداث سنوضح ـ وفق منهجنا ـ ملابسات المسألة خلال الصراع الأموي العلوي ثمّ الصراع العباسي العلوي ، والسلجوقي البويهي ، والأيوبي الفاطمي ، وكيفية نشوء الحركات الشيعية في الأمصار ، وذلك فيه

__________________

(١) الخطط المقريزية ٢ : ٢٧٠. وانظر الفصل الثاني من هذا الباب «حذف الحيعلة ، وامتناع بلال عن التأذين».

٣٤٤

التجسيم الحقيقي للصراع بين الرفض والإذعان ، أو قل صراع الأصوليين الإسلاميين ضد الحكّام الأمويين أو العباسيين ومن حذا حذوهم.

لأنّ أصحاب النهج الحاكم ـ أمويّين وعباسيّين وغيرهم ـ كانوا يَدْعُون إلى اتّباع سيرة الشيخيين على نحو الخصوص. أما الثوار والمعارضون من الطالبيين فكانوا يذهبون إلى شرعية خلافة الإمام عليّ وأولاده المعصومين ويَدْعون الناس إلى اتّباع نهج عليّ وولده.

وقد بدأ الخلاف بين النهجين أولاً في موضوع الخلافة ومن هو الأحّق بها ، وهل هناك تنصيب من الله ، أم أنّ الأمر شورى بين الأمة ـ أو أصحاب الحَلّ والعقد منهم ـ؟ ثمّ انجرّ هذا الخلاف إلى الشر يعة ، فوجدنا أحكاماً تُغيَّر وأخرى تُستحدَث ، إما دعماً لمواقف الخليفة ، أو للتعرف على رجال الطالبيين ، أو لغيرهما من العلل والأسباب.

وقد استفحل هذا الخلاف بعد مقتل عثمان بن عفان ، فانقسم المسلمون إلى فئتين كبيرتين :

فجلّ أهل البصرة وأهل الشام كانوا ذوي أهواء عثمانيّة في الانتماء الفكري والسياسي ، وأهل الكوفة والأنصار من أهل المدينة وعدد كبير من أهل الحجاز كانوا علويّي الفكرة والعقيدة.

وبعد استشهاد الإمام عليّ وصلح الإمام الحسن تم استيلاء معاو ية بن أبي سفيان على الحكم ، فغلبت العثمانيّة على مجريات الأحداث وانحسر الطالبيّون فبدؤوا يعيشون حالة التقيّة.

وإنّما جئنا بهذا الكلام كي نوضح بأن عملنا في هذا الفصل سيكون في محور ين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ، لأنهما وجهان لعملة واحدة ، هما :

٣٤٥

١ ـ المحور السياسي.

٢ ـ المحور التشر يعي.

فقد نفرض أن يتغاضى الحاكم الأموي عن شعارية «حيّ على خير العمل» في بعض الأحيان ، لكن ذلك لا يعني رضاه وسكوته عن ذلك في كلّ الحالات ، لأنّ الحيعلة الثالثة كما علمت لها جانبان تشريعي صلاتيّ وعقائدي سياسي ، فإذا كان الإتيان بها منحصراً في حدّ المسألة التشريعية سكت الحكام عنها على مضض ، وإن اتّخذت طابعها العقائدي السياسي قامت قيامتهم واستبدّ بهم الغيظ ؛ لأنّ معناها العقائدي السياسي هو فرع لمعناها التشريعي الصلاتي الذي هو «محمّد وآل محمّد خير البرية» و «الولاية» و «بِرّ فاطمة وولدها» ، وهذا البعد التشريعي يتلوه البعد السياسي الذي يعني أنّهم أحقّ بالخلافة والحكم من الآخرين.

فلو دعا الإمام الباقر أو الصادق إلى جزئيتها في العهد الأموي ، أو أتى بها عليّ بن الحسين ، فقد يسكت الحاكم عنه على مضض ، لكن ليس معنى هذا سكوتهم كذلك عن الطالبيين الثوار لو أذّنوا بـ «حيّ على خير العمل» ؛ لأنّ الأمويّين لو أرادوا معارضة الإمامين الصادق والباقر وقبلهما الإمام عليّ بن الحسين ، لفتحت أمامهم جبهة جديدة هم في غنى عنها في تلك المرحلة من تاريخ المعارضة ، ولدخل الأمر في إطاره السياسي قبل أوانه.

ذلك أنّ الأمة الإسلامية بدأت تعي الأوضاع بعد شهادة الإمام الحسين سنة ٦١ هـ ، وأخذت تتّضح لها معالم الظلم والمكر الأموي وسعيه لهدم الإسلام ، لأنّ ما فعله يز يد بن معاوية بن أبي سفيان بعترة رسول الله واستحلاله المدينة المنورة لثلاثة أيّام وضربه مكّة وغير ذلك كان كلّ واحد منها كافياً لإحداث هذا التحول الفكري لدى عامّة الناس.

٣٤٦

نعم ، هاجت عواطف الشيعة وغيرهم بمقتل الإمام الحسين ، فتلاوموا وتنادموا لعدم إغاثتهم الإمام عليه‌السلام ، وقد كانت حصيلة هذا الهياج الجماهيري هو نشوء حركة شيعية باسم حركة التوّابين (٦١ ـ ٦٤ هـ) (١) ثمّ تلتها حركة المختار ابن أبي عبيد الثقفي «٦٤ ـ ٦٧ هـ» ثمّ قيام زيد بن عليّ «١٢٢ هـ» بالعراق ، وابنه يحيى «١٢٥ هـ» بخراسان ، وعبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب الذي قاد حركته في سنة «١٢٨ هـ» في إصفهان.

فالامويون والعباسيّون في حدود المسألة التشريعيّة لا يمكنهم الوقوف أمام تأذين عليّ بن الحسين ومحمّد الباقر وجعفر الصادق بـ «حيّ على خير العمل» ، لوجود أمثال عبدالله بن عمر وأبي أمامة بن سهل بن حنيف وغيرهما ممن أذّن بها.

على أنّه يمكن حمل سكوت الأمويين هذا على أنّهم استهدفوا من عملهم هذا هدفاً سياسياً ، وهو التعرّف على الطالبيين وتجمّعاتهم ، وقد وضحنا سابقاً في كتابنا (وضوء النبيّ) أنّ الطالبيين هم المعارضون الحقيقيون للحكومتين الأموية والعباسية.

واستقراراً على هدفهم هذا سعوا أن يجمعوا الأمة على فقه يخالف فقه الإمام عليّ بن أبي طالب ؛ الذي فيه الجهر بالبسملة ، والجمع بين الصلاتين ، وعدم مسح الخفّين ، والمسح على الارجل ، والتكبير على الميت خمساً ، وغيرها من الأمور الشرعية ذات البُعد الشعاري التي استخدمها النهج الحاكم للتعرف على جماعات

__________________

(١) وصف الطبري في تاريخه ٥ : ٥٥٨ هذه الحركة بقوله «فلم يَزَل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ، ودعاء الناس في السرّ من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدم الحسين ، فكان يجيبهم القومُ بعد القوم ، والنّفرُ بعد النّفر ، فلم يزالوا كذلك وفي ذلك حتّى مات يزيد بن معاوية» عام ٦٤ هـ ، فالثوار قدموا ثورتهم بموته في حين كان ضمن مخططهم الثورة على يز يد وعلى النظام الحاكم عام ٦٥ هـ ، فلم يفلحوا في ذلك.

٣٤٧

الطالبيين.

وفي هذه الظروف وهذا الخضمّ كان من الطبيعي أن تكون الحيعلة الثالثة من تلك المسائل الشرعية السياسية التي كان للحكام من وراء حذفها ومحاربتها هدف بل أهداف.

وفي قبالة ذلك التيار الجارف نجد أن الإمامين الباقر والصادق كانا يدعوان إلى الحيعلة الثالثة ، ويؤكّدان على شرعيتها بدون خوف واكتراث من السلطة ، لكن الأمر نفسه لم يكن عند الثوار في ظروف التعبئة السريّة ، بل كانوا يتّقون ويخافون من تعرف السلطة على مواقعهم العسكرية وتجمعاتهم الثورية ، فلم يقولوا بـ «حيّ على خير العمل» إلاّ في الصحراء وحين يأمنون مكر السلطة.

ومن المعلوم أنّ الدولة العباسية أُسست على شعار الرضا من آل محمّد (١)وأنهم قد تذرعوا بطلب ثار الشهداء من أبناء فاطمة : الحسين بن عليّ ، زيد بن عليّ بن الحسين ، وولده يحيى وسواهم.

لكنّهم سرعان ما قلبوا للعلويين ظهر المجنّ فلم يَفُوا بما عاهدوا عليه الأمة ، ولم يحافظوا على الدلالة الصادقة لمقولة «الرضا من آل محمّد» ، بل نقضوا ما بايعوا عليه محمّد بن عبدالله بن الحسن «النفس الزكية» قبل الانتصار.

وبعد خيانة العباسيين لشعار الرضا من آل محمّد ، ادّعَوا أنّهم أولى بالخلافة من العلويين ؛ لمكان العبّاس عم الرسول ، وأنه أولى بالنبي من عليّ وفاطمة وأبنائها! وهنا كان من الطبيعي أن تغيظهم الحيعلة الثالثة المشيرة إلى أولوية عليّ وأولاده المعصومين بالخلافة من بني العبّاس وغيرهم.

وبما أنّ الحكومتين الأمويّة والعباسيّة كانتا تقدّمان الشيخين على الإمام عليّ

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبري ٧ : ٣٥٨ احداث سنة ١٢٩ و ٧ : ٣٩٠ احداث سنة ١٣٠ هـ وغيرهما.

٣٤٨

فعله يزيد بن معايوة بن أبي سفيان بعترة رسول الله واستحلاله المدينة المنورة لثلاثة أيّام وضربه مكّة وغير ذلك كان كلّ واحد منها كافياً لإحداث هذا التحول الفكري لدى عامّة الناس.

نعم ، هاجت عواطف الشيعة وغيرهم بمقتل الإمام الحسين ، فتلاوموا وتنادموا لعدم إغاثتهم الإمام عليه السلام ، وقد كانت حصيلة هذا الهياج الجماهيري هو نشوء حركة شيعية باسم حركة التوّابين (٦١ ـ ٦٤ هـ) (١) ثمّ تلتها حركة المختار ابن أبي عبيد الثقفي «٦٤ ـ ٦٧ هـ» ثمّ قيام زيد بن علي «١٢٢ هـ» بالعراق ، وابنه يحيى «١٢٥ هـ» بخراسان ، وعبد الله بن معاوية (٢) بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الذي قاد حركته في سنة «١٢٨ هـ» في إصفهان.

فالامويون والعباسيّون في حدود المسألة التشريعيّة لا يمكنهم الوقوف أمام تأذين عليّ بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق بـ«حيّ على خير العمل» ، لوجود أمثال عبد الله بن عمر وأبي أمامة بن سهل بن حنيف وغيرهما ممن أذّن بها.

على أنّه يمكن حمل سكوت الأمويين هذا على أنّهم استهدفوا من عملهم هذا هدفاً سياسياً ، وهو التعرّف على الطالبيين وتجمّعاتهم ، وقد وضحنا سابقاً في كتابنا (وضوء النبيّ) أنّ الطالبيين هم المعارضون الحقيقيون للحكومتين الأموية والعباسية.

__________________

(١) وصف الطبري في تاريخه ٥ : ٥٨٨ هذه الحركة بقوله «فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ، ودعاء الناس في السرّ من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدم الحسين ، فكان يجيبهم القوم بعد القوم ، والنّفرُ بعد النّفر ، فلم يزالوا كذلك وفي ذلك حتّى مات يزيد بن معاوية» عام ٦٤ هـ ، فالثوار قدموا ثورتهم بموته في حين كان ضمن مخططهم الثورة على يزيد وعلى النظام الحاكم عام ٦٥ هـ ، فلم يفلحوا في ذلك.

(٢) زوجته عُليّه بنت علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام وهي أخت الإمام الباقر عليه السلام.

٣٤٩

الصراع الفكري العقائدي في الشريعة ، وإليك الآن بعض النصوص في ذلك :

زيد بن عليّ بن الحسين «١٢٢ هـ»

روى الحافظ العلوي بسنده إلى يزيد بن معاوية بن إسحاق ، قال : كنّا بجبّانة سالم (١) ، وقد أَمِنَّا أهل الشام ، فأمر زيدُ بن عليّ معاويةَ بن إسحاق فقال : أذِّن بـ «حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل» (٢).

يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين «١٢٥ هـ»

أخرج الحافظ العلوي بسنده عن زياد بن المنذر ، قال : حدّثني حسّان ، قال : أذّنت ليحيى بن زيد بخراسان ، فأمرني أن أقول : حيّ على خير العمل ، [حي على خير العمل].

وبإسناده عن صباح المزني ، قال : أذّن رجل كان مع يحيى بن زيد بخراسان ، قال : ما زال مؤذنهم ينادي بحيّ على خير العمل حتّى قُتل (٣).

إبراهيم بن عبدالله بن الحسن «١٤٥ هـ»

أخرج الحافظ العلوي باسناده عن سالم الخزاز ، قال : كان إبراهيم بن عبدالله ابن الحسن يأمر أصحابه إذا كانوا في البادية أن يزيدوا في الأذان «حيّ على خير

__________________

(١) أهل الكوفة يسمّون مكان دفن الأموات جبّانة ، كما يسميّها أهل البصرة المقبرة ، وجبانه سالم تنسب إلى سالم بن عمارة بن عبدالحارث (انظر : معجم البلدان ٢ : ٩٩ ـ ١٠٠).

(٢) الأذان بحيّ على خير العمل : ٨٣ للحافظ العلوي.

(٣) الأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي : ٨٧ وانظر : إمالي أحمد بن عيسى ١ : ٩٧ الحديث ٢٣٦.

٣٥٠

العمل» (١).

الحسين بن عليّ (صاحب فَخّ) «١٦٩ هـ»

روى أبو الفرج الإصفهانيّ أنّ إسحاق بن عيسى بن عليّ ، وَلِي المدينة في أيّام موسى الهادي ، فاستخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب ، يُعرف بعبد العزيز بن عبدالله ، فحمل على الطالبيّين ، وأساء إليهم ، وأفرط في التحامل عليهم ، وطالبهم بالعرض [عليه] كلّ يوم ، وكانوا يعرضون في المقصورة ، وأخذ كلّ واحد منهم بكفالة قرينه ونسيبه ، فضمن الحسينُ بن عليّ ، ويحيى ابن عبدالله بن الحسن : الحسنَ بن محمَّد بن عبدالله بن الحسن ، ووافى أوائل الحاجّ ، وقَدِم من الشيعة نحو من سبعين رجلاً فنزلوا دار ابن أفلح بالبقيع وأقاموا بها ، ولقوا حسيناً وغيرَه ، فبلغ ذلك العمرىَّ فأنكره ، وكان قد أخذ قبل ذلك الحسن بن محمّد بن عبدالله ، وابن جندب الهذلي الشاعر ، ومولى لعمر ابن الخطاب وهم مجتمعون ، فأشاع أنّه وجدهم على شراب ، فضرب الحسن ثمانين سوطاً ، وضرب ابن جندب خمسة عشر سوطاً ، وضرب مولى عمر سبعة أسواط ، وأمر بأن يدار بهم في المدينة مكشّفي الظهور ليفضحهم ، فبعثت إليه الهاشميّة ـ صاحبة الراية السوداء في أيام محمّد بن عبدالله ـ فقالت له : لا ولا كرامة ، لا تشهّر أحداً من بني هاشم ، وتشنّع عليهم وأنت ظالم ، فكفَّ عن ذلك وخلّى سبيلهم ... إلى أن يقول : ثمّ عرضهم يوم الجمعة ... فدعا باسم الحسن بن محمَّد ، فلم يحضر ؛ فقال ليحيى والحسين بن عليّ : لتأتياني به أو لأحبسنَّكما ، فإنَّ له ثلاثة أيّام لم يحضر العرض ، ولقد خرج أو تغيَّب ... أريد أن

__________________

(١) الأذان بحيّ على خير العمل ، للحافظ العلوي : ٨٨ ، ٨٩ ، وبتحقيق عزّان : ١٤٧ ح ١٨٦ ، ١٨٧.

٣٥١

تأتياني بالحسن بن محمَّد.

فقال له الحسين : لا نقدر عليه ، هو في بعض ما يكون فيه الناس ، فابعث إلى آل عمر بن الخطّاب ، فاجمعهم كما جمعتنا ، ثمَّ اعرضهم رجلاً رجلاً ، فإن لم تجد فيهم من قد غاب أكثر من غيبة الحسن عنك ، فقد أنصفتنا.

فحلف [العمريّ] على الحسين بطلاق امراته وحريّة مماليكه ، أنّه لا يخلّي عنه أو يجيئه به في باقي يومه وليلته ، وأنّه إن لم يجئ به ليركبنّ إلى سويقِهِ فيخرّبها ويحرقها وليضربنَّ الحسين ألف سوط ...

فوثب يحيى مُغضَباً ، فقال له : أنا أعطي الله عهداً .. ثمّ وجَّهَ [الحسين] فجاءهُ يحيى ، وسليمان ، وإدريس ـ بنو عبدالله بن الحسن ـ وعبدالله بن الحسن الأفطس ، وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا ، وعمر بن الحسن بن عليّ بن الحسن بن الحسين بن الحسن ، وعبدالله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ ، وعبدالله بن جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب .. ووجَّهوا إلى فتيان من فتيانهم ومواليهم ، فاجتمعوا .. ستّة وعشر ين رجلاً من ولد عليّ ، وعشرة من الحاجّ ، ونفر من الموالي.

فلمَّا أذَّن المؤذِّن للصبح دخلوا المسجد ، ثمَّ نادوا : (أحد ، أحد) ، وصعد عبدالله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عند موضع الجنائز ؛ فقال للمؤذِّن : أذِّن بـ «حيَّ على خير العمل» ، فلمَّا نظر إلى السيف في يده أذَّن بها. وسمعه العمريّ ، فأحسَّ بالشرِّ ، ودهش ... وولَّى هارباً ... فصلَّى الحسين بالناس الصبح ؛ ودعا بالشهود العدول الذين كان العمريّ أشهدهم عليه أن يأتي بالحسن إليه ، ودعا بالحسن ؛ وقال للشهود : «هذا الحسن قد جئت به ، فهاتوا العمريّ وإلاّ والله

٣٥٢

خرجت من يميني ، وممَّا عَلَيَّ». ولم يتخلَّف عنه أحد من الطالبيّين (١).

غير أنّهم حرّفوا الخلاف العقائدي السياسي إلى خلاف سياسي بحت ، فنراهم يشككون في أهداف ثورة صاحب فخ ويتّهمونه وكلَّ الثوار بأنّهم ثاروا للدفاع عن شخص سكّير ـ والعياذ بالله ـ وهو الحسن بن محمّد بن عبدالله بن الحسن (ابن النفس الزكية) (٢)!

ومثله قالوا عن ثورة الإمام زيد وشككوا في دواعي ثورته الخالصة ، زاعمين أنّها جاءت على أثر خلاف ماليّ بينه وبين بعض أعوان السلطة وهو خالد بن عبدالله (٣) أو أنّه وابني الحسن تخاصما في وقف لعلي (٤) أو ما شابه ذلك من التهم الفارغة التي تباين شخصية هؤلاء الأفذاذ ، وما هذا إلاّ كصنيع الأمويين مع النصوص والأحداث.

لقد سعت حكومة عمر بن الخطاب ومن بعده عثمان والحكومة الأموية ، إلى تجريد الحيعلة الثالثة من طابعها السياسي ، بل حاولوا إدخالها في إطار اختلاف وجهات النظر والاجتهاد بين الصحابة كما يسمّونه ، لكنّ الأمر أخذ يختلف في العهد العباسي الأول ثمّ من بعده في الحكومات اللاحقة ، إذ راح يتبلور أكثر فأكثر كون

__________________

(١) مقاتل الطالبيّين : ٤٤٣ ـ ٤٤٧ وقد رويناه مختصراً.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ١٩٢ ، ١٩٣ ، الكامل في التاريخ ٥ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٠. وقد أجاب الإمام زيد عن هذه التهمة وقال ليوسف بن عمر : أنّى يودعني مالاً وهو يشتم آبائي على منبره.

فارسل [يوسف] إلى خالد فاحضره في عباءة فقال له : هذا زيد ، زعمت أنك قد أودعته مالاً ، وقد أنكر.

فنظر خالد في وجههما ثمّ قال : أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثماً في هذا! كيف أودعه مالاً وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! قال : فشتمه يوسف ، ثمّ رده ، (تاريخ الطبري ٧ : ١٦٧).

(٤) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٣ احداث سنة ١٢١.

٣٥٣

الحيعلة الثالثة شعاراً دينيَّاً سياسياً للثوار ، وأخذت الحكومة تتحسس منه ولا تستطيع خنقه.

فإبراهيم بن عبدالله بن الحسن ـ أخو النفس الزكية الذي خرج بالبصرة بعد شهادة أخيه ـ يأمر أصحابه أن يؤذّنوا بالحيعلة سراً كي لا يقف النهج الحاكم وجواسيسه عليهم. وهكذا حال الحسين صاحب فخ ، فإنّه لم يكن تأذينه وأتباعُهُ بالحيعلة الثالثة إلاّ معنى آخر للثورة وليعلنوا أنهم هم الأولى بالله ورسوله وخلافته.

طبرستان (سنة ٢٥٠ هـ)

خرج بطبرستان الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب.

وكان سبب ظهوره أنّ محمّد بن عبدالله بن طاهر لمّا ظفر بيحيى بن عمر أقطعه المستعين بالله العباسي من ضواحي السلطان بطبرستان قطائعَ ، منها قطيعة قرب ثغر الديلم وهما كلار وشالوس ، وكان بحذائهما أرض يحتطب منها أهل تلك الناحية ، وترعى فيها مواشيهم ، ليس لأحد عليها ملك إنّما هي مَوات ، وهي ذات غياض ، وأشجار ، وكلأ.

فوجّه محمّد بن عبدالله نائبه لحيازة ما أُقطِع ، واسمه جابر بن هارون النصراني ، فلمّا قَدِم جابر عَمَد فحاز ما اتّصل به من أرض مَوات يرتفق بها الناس.

وكان في تلك الناحية يومئذ أخوانِ لهما بأسٌ مذكوران بإطعام الطعام وبالإفضال ، يقال لأحدهما : محمّد ، وللآخر : جعفر ، وهما ابنا رستم ، فانكرا ما فعل جابر من حيازة الموات وكانا مُطاعَين في تلك الناحية ، فاستنهضا من أطاعهما لمنع جابر من حيازة ذلك الموات ؛ فخافهما جابر فهرب منهما فلحق بسليمان بن عبدالله

٣٥٤

بن طاهر وكان عامل طبرستان يومئذ ، وخاف محمّد وجعفر ومن معهما من عامل طبرستان ، فراسلوا جيرانهم من الدَّيلم يذكّرونهم العهد الذي بينهم ، ثمّ أرسل ابنا رستم ومن وافقهما إلى رجل من الطالبيين ـ اسمه محمّد بن إبراهيم كان بطبرستان ـ يدعونه إلى البيعة ، فامتنع ، وقال : لكنّي أدلّكم على رجل منّا هو أقوم بهذا الأمر منّي ، فدلّهم على الحسن بن زيد وهو بالري ، فوجّهوا إليه عن رسالة محمّد بن إبراهيم يدعونه إلى طبرستان ، فشخص إليها ، فأتاهم وقد صارت كلّ الديلم وأهل كلار وشالوس والرويان على بيعته ، فبايعوه كلّهم وطردوا عمّال ابن أوس عنهم ـ وكان هذا من عمال سليمان بن عبدالله عامل طبرستان ـ فلحقوا بسليمان بن عبدالله ، وانضم إلى الحسن بن زيد أيضاً جبال طبرستان.

ثمّ تقدم الحسن ومن معه نحو مدينة آمل ثمّ سارية ، وقيل إنّ سليمان انهزم اختياراً لأنّ الطاهريّة كلّها كانت تتشيّع ، فلمّا أقبل الحسن بن زيد إلى طبرستان تأثّم سليمان من قتاله لشدّته في التشيع ، وقال :

نبّئتُ خيل ابن زيد أقبلت خَبَباً

تُريدنا لتُحَسِّينا ألامَرَّيْنا

يا قَومُ إن كانت الأنباءُ صادقةً

فالوَيلُ لي ولجميع الطاهريّينا

أمّا أنا فإذا اصطفّت كتائبُنا

أكونُ من بينهم رأَس المُوَلّينا

فالعُذرُ عند رسول الله منبسطٌ

إذا احتسبت دماء الفاطميّينا

فلما التقوا انهزم سليمان ، فلما اجتمعت طبرستان للحسن وجه إلى «جندا» مع رجل من أهله يقال له الحسن بن زيد أيضاً ، فملكها وطرد عنها عامل الطاهرية ، فاستخلف بها رجلاً من العلويين يقال له محمّد بن جعفر وانصرف عنها» (١).

وقد جاء في تاريخ طبرستان لابن اسفنديار الكاتب المتوفّى ٦١٣ هـ قوله :

__________________

(١) انظر : تفاصيل هذا الامر في الكامل لابن الأثير ٥ : ٣١٤ ـ ٣١٧ حوادث سنة ٢٥٠.

٣٥٥

«استقر الداعي الكبير ابن زيد في آمُل ، وأعلن في أطراف طبرستان وكيلان والديلم أنّه : قد رأينا العمل بكتاب الله وسنّة رسوله وما صحّ عن أمير المؤمنين ، وإلحاق حيَّ على خير العمل ، والجهر بالبسملة ، والتكبير خمساً على الميت ، ومن خالف فليس منّا» (١).

وقد حكى الشيخ أغا بزرك الطهراني في الذريعة عن تاريخ طبرستان : ٢٤٠ أن الداعي إلى الحق الحسن بن زيد كتب في سنة ٢٥٢ منشورة عن آمل إلى سائر بلاده ، بإعلاء شعائر التشيع من تقديم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والأخذ بما صح عنه في جميع الأصول والفروع من قول «حيّ على خير العمل» والجهر بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» وغير ذلك (٢).

هكذا نجح الحسن بن زيد في تكوين هذه الدولة التي تُعرف بالدولة الزيدية بطبرستان ، واقتطع من ملك بني العبّاس وآل طاهر طرفاً عظيماً تحميه جبال طبرستان والديلم ، واستمرت هذه الحكومة نحو قرن كامل (٢٥٠ ـ ٣٥٥ هـ) تولى فيها :

١ ـ الحسن بن زيد الداعي ٢٥٠ ـ ٢٧٠.

٢ ـ محمّد بن زيد القائم بالحق ٢٧٠ ـ ٢٧٩.

٣ ـ احتلال الدولة السامية لطبرستان ٢٧٩ ـ ٣٠١.

٤ ـ تولي الحسن الأطروش بن عليّ بن عمر بن زين العابدين ٣٠١ ـ ٣٠٤ على طبرستان مرّة أُخرى.

__________________

(١) تاريخ طبرستان لابن اسفنديار الكاتب : ٢٣٩ وعنه في تاريخ طبرستان للمرعشي ٨٨١ هـ.

(٢) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٧ : ٢٧٠.

٣٥٦

٥ ـ الحسن بن القاسم بن عليّ بن عبدالرحمن ومعه أولاد الأُطروش ٣٠٤ ـ ٣٥٥.

ويبدو أنّ المنشور الذي أعلنه الداعي الكبير سنة ٢٥٢ هـ ظل ساري المفعول حتّى نهاية هذه الدولة العلوية الزيديّة ، فكانت المآذن تؤذن بـ «حيّ على خير العمل» لأكثر من قرن ، منبّهين على أنّ هذا المرسوم صدر في وقت مبكر جداً من أوائل حكومة هذا الداعي الكبير ، لما له من هيبة دينية وبُعد سياسي ، وما له من أثر في ترسيخ حكومة تقوم على أساس الدين من وجهة نظر علوية ، ويؤكد صحةَ هذا ما نراه اليوم وبعد أكثر من ألف عام في التراث الزيدي ، فلو راجعت كتبهم الفقهية والحديثية القديمة عرفت ثبوتها عندهم ، وهذا الموقف من الحسن بن زيد وغيره هو امتداد لشرعيتها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

حمص / مصر / بغداد (سنة ٢٩٠ هـ)

جاء في كتاب بغية الطلب في أخبار حلب لابن العديم المتوفى (٦٦٠ هـ) :

«... فصار [صاحب الخال] إلى حمص ودُعي له بكورها وأمرهم أن يصلوا الجمعة أربع ركعات ، وأن يخطبوا بعد الظهر ويكون أذانهم : أشهد أن محمّداً رسول الله ، أشهد أن عليّاً ولي الله ، حيّ على خير العمل» (١).

وجاء في كتاب «أخبار بني عبيد» لمحمد بن عليّ بن حماد في ترجمة عبيدالله (٣٢٢ هـ) ـ مؤسس الدولة العبيدية في مصر ـ :

... وكان مما أحدث عبيدالله أن قطع صلاة التراويح في

__________________

(١) بغية الطلب ٢ : ٩٤٤.

٣٥٧

شهر رمضان ، وأمر بصيام يومين قبله ، وقنت في صلاة الجمعة قبل الركوع ، وجهر بالبسملة في الصلاة المكتوبة ، وأسقط من أذان صلاة الصبح : «الصلاة خير من النوم» ، وزاد : «حيّ على خير العمل» ، «محمد وعلي خير البشر» ، ونص الأذان طول مدة بني عبيد بعد التكبير والتشهدين : حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح مرتين ، حيّ على خير العمل محمد وعلي خير البشر مرتين مرتين ، لا إله إلاّ الله مرة (١).

هذان نصان أحدهما عن الطالبيين في حلب والآخر في مصر ، وهما يؤكدان أنّ النزاع الفكري بين الطالبيين والنهج الحاكم كان مستمراً عبر جميع القرون ، ولم يختصّ ببلدة دون أخرى.

ويدلّ على أصالة الحيعلة الثالثة ، وامتداد التأذين بها زماناً ، وانتشارها مكاناً ، ما رواه القاضي التنوخي المتوفّى ٣٨٤ هـ عن أبي فرج الاصفهاني فيما حدث في بغداد في نفس تلك الفترة تقريباً ، قال :

أخبرني أبو الفرج الاصفهاني (المتوفّى ٣٥٦ هـ) قال : سمعت رجلاً من القطيعة (٢) ، يؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ،

__________________

(١) اخبار بني عبيد ١ : ٥٠.

(٢) رجّح محقق كتاب نشوار المحاضرة أن يكون المقصود من القطيعة هي قطيعة أمّ جعفر ، وهي محلّة ببغداد عند باب التبن وهو الموضع الذي فيه مشهد الإمام موسى ابن جعفر ، لكن ترجيحه ليس براجح بنظرنا ، لأن أبا الفرج لو أراد تلك القطيعة لقال : رجلُ من أهل القطيعة أو رجل من قطيعة أمّ جعفر ؛ وذلك لتمييزها عن القطائع الكثيرة الأخرى ـ والتي ذكرها صاحب معجم البلدان ٤ : ٣٧٦ ـ كقطيعة إسحاق ، وقطيعة الرقيق ، وقطيعة الربيع ، وقطيعة

٣٥٨

أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أن محمد رسول الله ، أشهد أن عليّاً ولي الله ، محمد وعلي خير البشر ، فمن أبى فقد كفر ، ومن رضي فقد شكر ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على خير العمل ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلاّ الله (١) ...

ولتأكيد وجود الخلاف الفقهي العقائدي في تلك البرهة من التاريخ إليك كلام المقريزي في (المواعظ والاعتبار) عند ذكره مذاهب أهل مصر ونِحَلِهم ، قال :

__________________

زهير ، وقطيعة العجم ، وقطيعة عيسى وغيرها.

وحيث لا يمكن الترجيح أو القول بأن القطيعة هي علم لقطيعة أم جعفر فلابدّ من احتمال أن تكون القطيعة هي تصحيف للقطعية وهي الفرقة التي قطعت بموت موسى ابن جعفر وإمامة عليّ بن موسى الرضا عليهم‌السلام ، وهم في مقابل الواقفيّة التي وقفت على إمامة موسى بن جعفر الكاظم ولم تقل بإمامة مَن بعده ، ويترجّح احتمالنا حينما نرى التنوخي يأتي بـ «خبر أذان رجل من القطيعة» بعد خبر «حجّام يحجم بالنسيّة إلى الرجعة» وكلاهما يرتبط بأمر تقوله الشيعة الإماميّة الاثنا عشرية.

ويتقوى احتمالنا هذا حينما نرى الإصفهاني ـ الزيدي العقيدة ـ ينقل هذا الخبر ، وهو تأكيد لأذان الإمامية القطعية في الكاظمية ، وأنهم كانوا يؤذّنون بالشهادة الثالثة. ولو أحببت أن تتأكد بأن القطعية هو اصطلاح للشيعة الاثني عشرية راجع كتب الشيخ الصدوق ومقالات الإسلامين للأشعري ١ : ١٧ ، والملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٩ ، وخاتمة المستدرك ٤ : ٢٤٨ عن النوبختي في كتاب مذاهب فرق أهل الامة.

وعلى فرض أن يكون المراد قطيعة أمّ جعفر ، فهي أيضاً كانت من الأماكن التي يقطنها الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ، قال الحموي في معجم البلدان ٤ : ٤٤٨ ، وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية لا يوجد فيهم سنيّ ألبتة. وانظر : حول تشيعها الاثني عشري البداية والنهاية ١١ : ٣٠٧ / احداث سنة ٣٧٩ ، وموسوعة العتبات المقدسة «الكاظمية» ٩ : ١١٥.

هذا وقد أضاف المحقق جملة من بعض النسخ تشمئز منها النفوس ولا تتفق مع السير التاريخي وارتباط هند وابن عمر بمسألة الأذان ، فراجع.

(١) نشوار المحاضرة للتنوخي ٢ : ١٣٣.

٣٥٩

قال أبو عمر الكندي في كتاب (أمراء مصر) : ولم يَزَل أهل مصر على الجهر بالبسملة في الجامع العتيق إلى سنة ثلاث وخمسين ومائتين (٢٥٣ هـ) ، قال : ومنع أرجون صاحب شرطة مزاحم بن خاقان أمير مصر من الجهر بالبسملة في الصلوات بالمسجد الجامع ، وأمر الحسين بن الربيع إمام المسجد الجامع بتركها وذلك في رجب سنة ثلاث وستّين ومائتين (٢٦٣ هـ) ، ولم يَزَل أهل مصر على الجهر بها في المسجد الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجون.

إلى أن يقول : ... إلى أن قدم القائد جوهر من بلاد إفريقية في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة (٣٥٨ هـ) بجيوش مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى مدينة القاهرة ، فمن حينئذ فشا بديار مصر مذهب الشيعة ، وعمل به في القضاء وأنكر ما خالفه ، ولم يبقَ مذهب سواه ، وقد كان التشيّع بأرض مصر معروفاً قبل ذلك.

قال أبو عمر الكندي في كتاب الموالي ، عن عبدالله بن لهيعة أنه قال : قال يزيد بن أبي حبيب : نشأت بمصر وهي علويّة فقلبتُها عثمانية (١).

ثمّ عمد المقريزي إلى شرح الأدوار التي مرت بها الشيعة في مصر وكيف كانت علويّة وصارت عثمانيّة حتّى يصل إلى صفحة ٣٤٠ ، وفيها يذكر حوادث سنة (٣٥٣

__________________

(١) الخطط المقريزية ٢ : ٣٣٤.

٣٦٠