الأذان بين الإصالة والتحريف

السيد علي الشهرستاني

الأذان بين الإصالة والتحريف

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8166-82-X
الصفحات: ٤٩٦

عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين (١) ، وإليك الان بعض تلك الروايات المشيرة إلى وجود اسم الإمام عليّ على ساق العرش :

روى الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» عن عليّ عليه‌السلام ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في وصية له : يا عليّ ، إنّي رأيت اسمك مقروناً باسمي في ثلاثة مواطن ، فأنست بالنظر إليه ، إني لمّا بلغت بيت المقدس في معراجي إلى السماء وجدت على صخرتها «لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله ، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره».

فقلت لجبرئيل : مَن وزيري؟

قال : عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

فلما انتهيت إلى سدرة المنتهى وجدتُ مكتوباً عليها : «إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا وحدي ، محمّد صفوتي من خلقي ، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره» ، فقلت لجبرئيل : مَن وزيري؟ فقال : عليّ بن أبي طالب.

فلمّا جاوزتُ سِدرةَ المنتهى انتهيت إلى عرش ربّ العالمين جلّ جلاله ، فوجدت مكتوباً على قوائمه : «إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا وحدي ، محمّد حبيبي ، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره» (٢).

وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة للصدوق بإسناده إلى وهب بن منبّه ، رفعه عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله لعليّ : لمّا عرج بي ربيّ جلّ جلاله أتاني النداء : يا محمّد.

قلت : لبيّك ربَّ العظمة لبيّك ، فأوحى الله إليَّ : يا محمّد ، فيمَ اختصم الملأ

__________________

(١) شرح المقاصد للتفتازاني ٥ : ٢٩٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ ، وفي تاريخ دمشق ٤٧ : ٣٤٤ بسنده عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما عُرج بي رأيت على ساق العرش مكتوباً : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله أيّدته بعليّ ونصرته بعليّ.

١٤١

الأعلى؟

فقلت : إلهي ، لا علم لي.

فقال : يا محمّد ، هلاّ اتَّخذت من الآدميّين وزيراً وأخاً ووصيّاً من بعدك؟

قلت : إلهي ، ومَن أتّخذ؟ تخيَّرْ أنت يا إلهي. فأوحى الله إليّ : يا محمّد ، قد اخترتُ لك من الآدميّين عليّ بن أبي طالب.

فقلت : إلهي ، ابن عمّي؟

فأوحى الله إليّ : يا محمّد ، إنّ عليّاً وارثك ووارث العلم من بعدك ، وصاحب لوائك لواء الحمد يوم القيامة ، وصاحب حوضك يسقي مَن ورد عليه من مؤمني أمّتك.

ثمّ أوحى الله إليّ : يا محمّد ، إنّي قد أقسمت على نفسي قسماً حقاً ، لا يشرب من ذلك الحوض مُبغض لك ولأهل بيتك وذريّتك الطيّبين الطاهرين ، حقّاً أقول يا محمّد : لأُدخِلنّ جميع أمّتك الجنَّة إلاّ مَن أبى من خلقي ، فقلت : إلهي ، هل واحد يأبى من دخول الجنَّة؟

فأوحى الله إلي : بلى.

فقلت : وكيف يأبى؟

فأوحى الله إلي : يا محمّد ، اخترتُك من خلقي ، واخترتُ لك وصيّاً من بعدك ، وجعلته منك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدك ، وألقيت محبّته في قلبك ، فجعلته أباً لولدك ، فحقّه بعدك على أمّتك كحقّك عليهم في حياتك ، فمن جحد حقّه فقد جحد حقّك ، ومن أبى أن يواليه فقد أبى أن يواليك ، ومن أبى أن يواليك فقد أبى أن يدخل الجنّة ، فخَرَرتُ لله ساجداً شكراً لما أنعم عليّ ... والخبر طويل اكتفينا منه

١٤٢

بهذا المقدار (١).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم بإسناده عن أبي بردة الأسلمي ، قال : سمعت رسول الله يقول لعليّ : يا عليّ ، إنّ الله أشهَدَك معي في سبع مَواطن : أمّا أوّل ذلك فليلة أُسري بي إلى السماء ، قال لي جبرئيل : أين أخوك؟

فقلت : خلّفته ورائي.

قال : ادعُ الله فليأتك به ، فدعوتُ الله وإذا مِثالُك معي وإذا الملائكة وقوف صفوف ، فقلت : يا جبرئيل ، من هؤلاء؟ قال : هم الذين يباهيهم الله بك يوم القيامة ، فدنوت فنطقت بما كان وما يكون إلى يوم القيامة.

والثاني حين أُسري بي من المرّة الثانية ، فقال لي جبرئيل : أين أخوك؟ فقلت : خلّفته ورائي ، فقال : ادعُ الله فليأتك به ، فدعوتُ الله فإذا مثالك معي ، فكُشِط لي عن سبع سماوات حتّى رأيت سُكّانها وعُمّارها وموضع كلّ ملك منها ... إلى أن قال :

وأمّا السادس : لمّا أُسري بي إلى السماء جمع الله لي النبيّين فصلّيت بهم ومثالك خلفي (٢).

وفي عيون أخبار الرضا ، بسنده عن أمير المؤمنين ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا أسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي جلّ جلاله فقال : يا محمّد ، إنّي اطّلعتُ إلى الأرض اطّلاعةً فاخترتك منها فجعلتك نبيّاً ، وشَقَقتُ لك من اسمي اسماً ، فأنا المحمود وأنت محمّد.

ثمّ اطّلعت الثانية فاخترت منها عليّاً وجعلته وصيّك وخليفتك وزوج ابنتك وأبا ذريّتك ، وشَقَقْتُ له أسماً من أسمائي ؛ فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ.

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة ٢٥٠ ـ ٢٥١ وانظر : تفسير نور الثقلين ٤ : ٤٧٠.

(٢) تفسير عليّ بن إبراهيم ٢ : ٣٣٥ ـ ٣٣٦ في تفسير سورة النجم وعنه في تفسير نور الثقلين ٥ : ١٥٨ سورة النجم ح ٥٥.

١٤٣

وجعلت فاطمة والحسن والحسين من نوركما ، ثمّ عرضت ولايتهم على الملائكة ، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرّبين (١) ...

وفي كمال الدين وتمام النعمة ، بإسناده إلى عبدالسلام بن صالح الهروي ، عن عليّ بن موسى الرضا ، عن آبائه ، عن عليّ : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث طويل ، قال فيه : ... فنظرت ـ وأنا بين يَدَي ربّي ـ إلى ساق العرش ، فرأيتُ اثني عشر نوراً ، في كلّ نور سطر أخضر مكتوب عليه اسم كلّ وصيّ من أوصيائي ، أولهم عليّ بن أبي طالب وآخرهم مهديّ أمّتي.

فقلت : يا ربّ ، أهولاء أوصيائي مِن بَعدي؟ فنُوديتُ : يا محمّد ، هؤلاء أوليائي وأحبّائي وأصفيائي وحجّتي بعدك على بريّتي ، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك. وعزّتي وجلالي لأظهرنّ بهم دِيني ، ولأُعلينّ بهم كلمتي ، ولأطهرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولأملّكنّه مشارق الأرض ومغاربها ، ولأسخرنّ له الرياح ، ولأذللنّ له الرقاب الصِّعاب ، ولأرقينّه في الأسباب ، ولأنصرنّه بجندي ، ولأمدنّه بملائكتي حتّى يُعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي ، ثمّ لأديمنّ ملكه ، ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة (٢).

وفي أصول الكافي ، بإسناده عن الإمام عليّ عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ... فإنه لمّا أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل لأهل السماء استودع الله حبّي وحبّ أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة ، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة (٣) ...

وقد مر عليك خبر سدير الصيرفي وعمر بن أُذينة في الإسراء والمعراج ، وقول

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ٦١.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة ٢٥٦.

(٣) الكافي ٢ : ٤٦ كتاب الإيمان والكفر ، باب نسبة الإسلام ح ٣.

١٤٤

الإمام الصادق للاخير : يا عمر ، ما ترى هذه الناصبة في أذانهم وركوعهم وسجودهم؟! نحن جئنا بهذه النصوص كي نؤكد على صحّة ما قاله الإمام الصادق عن النواصب ودورهم في تحريف الأمور وخصوصاً المسائل التي فيها اسم الإمام عليّ بن أبي طالب وأهل بيت الرسول ، وان تحريفاتهم لا تقتصر على مفردة أو مفردتين في التاريخ والشريعة ، بل شملت جميع مراحل التشريع من الاسراء حتّى ما لا نهاية ، وإنّك لو مررت بالتاريخ والحديث ودرستهما دراسة واقعية بعيداً عن التعصب لوافقتنا فيما قلناه وستقف على عشرات الروايات الدالّة على مكانة الإمام عليّ والتي سنتعرض لها في الشهادة الثالثة لاحقاً بإذن الله تعالى.

نحن لا نريد التفصيل في مثل هذه الموارد ، بل نذكّر القارئ الكريم بما مرّ عليه من كلام شيخ ابن أبي الحديد من أنّ الأمويّين سعوا إلى تحريف الفضائل الثابتة في عليّ وجعلها في عثمان وأبي بكر وعمر ، ونحن لو تابعنا السير التاريخي لوقفنا على التحريف اللفظي والمعنوي لبني أميّة ، فكما أنهم جعلو اللعنة سمة وشرفاً للملعونين!! فقد أوّلوا كلام الرسول في معاوية (لا أشبع الله بطنك) بأنّه دعا له بأنّه سيأتي يوم القيامة خميص البطن لا شيء عليه (١).

وخير مثال على التحريف المعنوي هو ما أشاعه معاوية في واقعة صفّين عند

__________________

(١) والاغرب من هذا ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية ٨ : ١٢٣ ، وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه واخراه.

أمّا في الدنيا فإنّه لما صار إلى الشام اميراً كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها ، ويأكل في اليوم سبع اكلات بلحم ، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً ويقول والله ما اشبع وانما اعيا ، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.

وأمّا في الآخرة ... فإن رسول الله قال : اللهم انما أنا بشر فإيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة ... وهذا الحديث فضيلة لمعاوية.

١٤٥

مقتل عمّار بن ياسر ـ لمّا تناقل الجندُ كلامَ رسول الله «تقتلك الفئة الباغية» ـ بأن الإمام عليّ بن أبي طالب هو القاتل له حيث أخرجه وزجّ به في المعركة ، ولما سمع الإمام عليّ بن أبي طالب بهذه المقالة قال ما مفاده : وعلى هذا الكلام يكون رسول الله هو الذي قتل حمزة لأنّه أخرجه لحرب المشركين! (١)

وأقبح منه ما روي أنّه قال لأهل الشام : إنّما نحن الفئة الباغية التي تبغي دم عثمان (٢)!

فللأمويين تحريفات لفظية وتحريفات معنوية كثيرة ، وإنّ هذه الدراسة تريد أن توضح أمثال هذه الأمور في الشريعة والتاريخ وانعكاساً على الأذان هنا.

فلا يجوز حمل بعض التحقيقات حول الأمويين وعقيدتهم في الاسراء والمعراج و ... على الإسهاب والخروج عن البحث ، بل ما كتبناه هو المقصود ، ولولاه لما فهمنا ملابسات التشريع الذي نحن بصدد بيانه.

بلى ، إنّهم لم يكونوا يحبّون آل الرسول ، بل لم يحبّوا كلّ من أحبّه الرسول ، بل كانوا يتعاملون مع آل الرسول بالشدة والبغض ، فقد ذكر المناوي في فيض القدير ، وكذا القرطبي في تفسيره واقعة دارت بين مروان بن الحكم وأسامة بن زيد.

وأسامة كان ممن يحبهم رسول الله ـ حسب نص القرطبي وغيره ـ وكان الخليفة عمر بن الخطاب أعطاه خمسة آلاف درهم ولابنه عبدالله ألفي درهم ، فسأل عبدالله عن سر ذلك فأجابه عمر أنّه فعل ذلك لمحبة رسول الله له.

قال القرطبي : وقد قابل مروان هذا الواجب (أي محبّة مُحِبِّ رسول الله) بنقيضه ، وذلك أنّه مرّ بأسامة وهو يصلّي بباب بنت رسول الله.

__________________

(١) أنظر : توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار للصنعاني ج ٢ : ٢٥٧ ط دار احياء التراث.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٦.

١٤٦

فقال مروان : إنّما أردت أن تُري الناس مكانك ، فقد رأينا مكانك! فَعَل الله بك وفعل ، وقال قولاً قبيحاً.

وقال له أسامة : آذيتني وإنّك فاحش متفحّش ، وقد سمعتُ رسول الله يقول : إنّ الله يُبغض الفاحش المتفحش.

فانظر ما بين الفعلين وقِس ما بين الرجلين ، فلقد آذى بنو أميّة رسول الله في أحبابه وناقضوه في مَحابّه (١).

وعليه فالذي يجب القول به هنا ، هو أنّ خبر الإسراء ثابت بالكتاب ، والمعراج ثابت بالسنة ـ وإن لم يفرّق البعض بينهما فأطلق الإسراء على كليهما تساهلاً ـ وهذا ما جعل المجال مفتوحاً للإجمال والتفصيل والتلاعب والتشكيك في خبر المعراج أكثر من أخبار الإسراء.

فهل يرجع إجمالهم في نقل أخبار المعراج إلى عدم وقوفهم على نقول أهل بيت الوحي والنبوة؟ أم يرجع إلى أنّهم أجملوا ذلك عن قصد وعمد؟ لعلّك عرفت جواب هذا السؤال ممّا مرّ ، فأغنى ذلك عن الإطالة.

وبهذا يكون ما كتبناه هو أشارة إلى دواعي الأمويين ومن لفّ لفهم في تحريف خبر الأذان ، وكيف ربطوا خبر الإسراء والمعراج بالشجرة الملعونة ، مدّعين أنّها شجرة الزقوم ، بل كيف ربطوها بمسائل أخرى وقضايا مصيرية في الشريعة والتاريخ ، كلّ ذلك للتشكيك في مقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والقول بأنّ منامه المعراجي هذا يشابه الأذان ويحتاج إلى شاهد لتثبيت صحته.

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٤ : ٢٤٠ ، وعنه في فيض القدير ١ : ٦١٨.

١٤٧

مطلبان

لنا هنا مطلبان يتضحان بعد طرحنا هذين السؤالين :

الأوّل : هل أنّ الأذان عبارة عن الإعلام للصلاة فقط ، أم هو بيان لأصول العقيدة وأركان الإسلام؟

الثاني : هل أنّ أمر الأذان توقيفيّ؟ وإذا كان توقيفيّاً ، فهل هناك فرق بين توقيفية الواجبات وتوقيفية المستحبّات أم لا؟

وقبل الجواب عن السؤال الأوّل لابدّ من الإشارة إلى حقيقة هامّة في العبادات وغيرها ، وهي : أنَّ الأُمور العباديّة في الشرع لها ظاهر ومغزى ، فقد يمكن للإنسان أن يقف على ظاهر شيء ويؤدّيه دون أن يعرف كنهه ومغزاه والغاية القصوى منه ، فالمطالع مثلاً في ما جاء عن أهل بيت النبوة يقف على أسرار في الصلاة والصيام والزكاة والحجّ وغيرها ، ويتعرّف على أُمور كان لا يعرفها من ذي قبل ، ولم يتنبه لها في نظرته الأُولى ، من ذلك ما ذكره الصدوق في علل الشرائع ، حيث قال فيه :

إنّ نفراً من اليهود جاءوا إلى رسول الله فسألوه عن مسائل وكان فيما سألوه : أخبرنا يا محمّد لأيّ علَّة تُوَضَّأُ هذه الجوارح الأربع وهي أنظف المواضع في الجسد؟

فقال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لمّا أن وسوس الشيطان إلى آدم دنا من الشجرة ونظر إليها ذهب ماء وجهه ، ثمّ قام ومشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى الخطيئة ، ثمّ تناول بيده منها ممّا عليها فأكل فطار الحلي والحلل عن جسده ، فوضع آدم يده على [أُمِّ] رأسه وبكى ، فلمّا تاب الله عليه فرض عليه وعلى ذرّيّته غسل هذه الجوارح الأربع ، وأمره بغسل الوجه لما نظر إلى الشجرة ، وأمره بغسل اليدين إلى المرفقين لما تناول منها ، وأمره بمسح الرأس لما وضع يده على أُمِّ رأسه ، وأمره بمسح

١٤٨

القدمين لما مشى بهما إلى الخطيئة» (١).

ومعنى هذا النصّ أنّ العبد يجب عليه تطهير أعضائه حينما يريد التوجّه إلى الله ، وبما أنّ الوجه واليدين فيهما الحواسّ الخمس الظاهرة التي بها يُعصى الإله كان عليه أن يغسلهما قبل الدخول إلى حضرة الإله.

أمّا الرأس والقدمان فهما عنصران آليّان يتقوّى بهما المكلّف على المعصية أو الطاعة وهما ليسا من الحواسّ الخمس ، ففي الرأس القوّة المفكِّرة والخياليّة التي تبعث الفرد إلى ارتكاب المعاصي أو فعل الواجب ، وبالرِّجل يسعى إليهما ـ الطاعة أو المعصيّة ـ فأمر سبحانه المسح عليهما كي ينجو من الوساوس الشيطانيّة والأغلال النفسيّة ويدخل حضيرة القدس طاهراً نقيّاً من الأدناس ، ولأجل هذه الحقيقة فقد أكّدنا في كتابنا «وضوء النبيّ» على : أنَّ طهارة الوضوء هي طهارة حكميّة وليست بحقيقيّة ، لأنَّ المؤمن لا يُنَجِّسُه شيء ، وبالوضوء يُعرف مَن يطيع الله ومن يعصيه (٢).

وبعد هذه المقدِّمة لابدّ من الإجابة عن السؤال الأوّل.

١ ـ الأذان إعلام للصلاة أم بيان لأصول العقيدة؟

القاضي عياض : «اعلم أنّ الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان ، مشتملة على نوعيه من العقليّات والسمعيّات ، فأوّله إثبات الذات وما يستحقّه من الكمال [أي الصفات الوجودية] ، والتنزيه عن أضدادها [أي الصفات العدمية] ، وذلك بقوله «الله أكبر» ، وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالَّة على ما ذكرناه.

ثمّ صرّح بإثبات الوحدانيّة ونفي ضدّها من الشركة المستحيلة في حقّه

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٨٠ الباب ١٩١.

(٢) انظر : وضوء النبيّ ، المدخل ٤٢٨.

١٤٩

سبحانه وتعالى ، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد ، المقدّمة على كلّ وظائف الدين.

ثمّ صرح بإثبات النبوّة والشهادة بالرسالة لنبيّنا ، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانيّة وموضعها بعد التوحيد ، لأنّها من باب الأفعال الجائزة الوقوع ، وتلك المقدّمات من باب الواجبات ، وبعد هذه القواعد كملت العقائد العقليّات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقّه سبحانه وتعالى.

ثمّ دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات ، فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوّة ، لأنَّ معرفة وجوبها من جهة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا من جهة العقل.

ثمّ دعا إلى الفلاح ، وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم ، وفيه إشعار بأُمور الآخرة من البعث والجزاء ، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام.

ثمّ كرّر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها ، وهو متضمّن لتأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان وليدخل المصلّي فيها على بيّنة من أمره وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظمة حقّ مَن يعبده وجزيل ثوابه ...» (١).

وقد نقل محمّد بن علان ـ شارح الأذكار النوويّة ـ كلام القاضي عياض بشيء من التصرّف ، كقوله :

ثمّ كرّر التكبير آخره إشارة إلى الاعتناء السابق ، لأنَّ هذا المقام هو الأصل المبنيّ عليه جميع ما تقرّر من العقائد والقواعد ، وختم ذلك بكلمة التوحيد إشارة إلى التوحيد المحض ... (٢).

__________________

(١) نقله عنه النووي في المجموع ٣ : ٧٥. وانظر كلام السيّد البكري في حاشية اغاثة الطالبيين ١ : ٢٢٩ والبخاري في شرح الكرماني ٥ : ٤ وشرح النووي على مسلم.

(٢) وهو أن (لا إله إلاّ هو) ، معنى آخر لقوله (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) أو قوله : (وإلى ربّك المنتهى).

١٥٠

وكان آخره اسم «الله» ليطابق البداءة ، إشارة إلى أنَّه الأوّل والآخِر في كلّ شيء ، قال القاضي : «ثمّ كرّر ذلك عند إقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها ، وفي ذلك تأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان ، ليدخل المصلّي فيها على بيّنة من أمره وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظيم حقّ مَن عبده وجزيل ثوابه على عباده (١).

وقد علّق ابن علان على كلام القاضي عياض بقوله : (قلتُ : قال ابن حجر في شرح المشكاة : وللاعتناء بشأن هذا المقام الأكبر كرّر الدالّ عليه أربعاً إشعاراً بعظيم رفعته ، وكأنّ حكمة خصوص الأربع أنَّ القصد بهذا التكرير تطهير شهود النفس بشهود ذلك عن شهواتها الناشئة عن طبائعها الأربعة الناشئة عن أخلاطها الأربعة.

وفي شرح العباب له : (وكأنَّ حكمة الأربع أنَّ الطبائع أربعة لكلٍّ منها كمال ونقص يخصّه بإزاء كلّ منها كلمة من تلك ليزيد في كمالها ويطهّر نقصها ، وكذا يقال بذلك في كلّ محلّ ورد فيه التربيع) (٢).

وقال القرطبيّ وغيره : (الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة ، لأنّه بدأ بالأكبريّة وهي تتضمّن وجود الله وكماله ، ثمّ ثنّى بالتوحيد ونفي الشرك ، ثمّ بإثبات الرسالة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة ، لأنّها لا تُعرف إلاَّ من جهة الرسول.

__________________

(١) انظر : الفتوحات الربّانيّة على الأذكار النوويّة ٢ : ٨٤.

(٢) الفتوحات الربانية ٢ : ٨٣.

١٥١

ثمّ دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم ، وفيه الإشارة إلى المعاد.

ثمّ أعاد ما أعاد توكيداً ، ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الجماعة وإظهار شعار الإسلام (١).

قال ابن خزيمة : فإذا كان المرء يطمع بالشهادة بالتوحيد لله في الأذان وهو يرجو أن يخلّصه الله من النار بالشهادة لله بالتوحيد في أذانه ، فينبغي لكلِّ مؤمن أن يتسارع إلى هذه الفضيلة طمعاً في أن يخلّصه الله من النار ، خلا في منزله أو في بادية أو قرية أو مدينة طلباً لهذه الفضيلة (٢).

وقال القسطلانيّ ـ بعد نقله خبر أبي هريرة عن النبيِّ وقوله : «إذا نُودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتّى لا يُسمَع التأذين» ـ : (لعظيم أمره لما اشتمل عليه من قواعد الدين وإظهار شرائع الإسلام ، أوحى : لا يشهد للمؤذِّن بما سمعه إذا استشهد يوم القيامة ، لأنّه داخل في الجنّ والإنس المذكور في حديث : لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنّ ولا إنس ولا شيء إلاَّ شهد له يوم القيامة) (٣).

وأخرج عبدالرزّاق عن معمر ، عن الزهريّ : أنَّ أبا بكر الصدّيق قال : الأذان شعار الإيمان (٤).

ونقل الصدوق بسنده إلى الإمام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ، قال : كنّا جلوساً في المسجد ، إذ صعد المؤذِّن المنارة ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، فبكى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وبكينا لبكائه ، فلمّا فرغ المؤذّن ، قال : «أتدرون ما يقول

__________________

(١) فتح الباري ٢ : ٦١ كتاب أبواب الأذان ، وعنه في بذل المجهود ٤ : ٣ ـ ٤. وعون المعبود ٢ : ١٢٧.

(٢) صحيح ابن خزيمة ١ : ٢٠٨.

(٣) إرشاد الساري ٢ : ٥.

(٤) مصنّف عبدالرزّاق ١ : ٤٨٣/١٨٥٨.

١٥٢

المؤذِّن؟».

قلنا : الله ورسوله ووصيّه أعلم.

فقال : «لو تعلمون ما يقول لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، فلِقوله : الله أكبر ، معان كثيرة.

منها : أنَّ قول المؤذِّن : «الله أكبر» ، يقع على قِدَمِهِ ، وأزليّته ، وأبديّته ، وعلمه ، وقوّته ، وقدرته ، وحلمه ، وكرمه ، وجوده ، وعطائه ، وكبريائه.

فإذا قال المؤذِّن : اللهُ أكبر ، فإنّه يقول : الله الذي له الخلق والأمر ، وبمشيّته كان الخَلق ، ومنه كلّ شيء للخلق ، وإليه يرجع الخلق ، وهو الأوّل قبل كلّ شيء لم يَزَل ، والآخِر بعد كلّ شيء لا يزال ، والظاهر فوق كلّ شيء لا يُدرَك ، والباطن دون كلّ شيء لا يُحَدّ ، فهو الباقي ، وكلّ شيء دونه فان.

والمعنى الثاني : «الله أكبر» ، أي : العليم الخبير ، عليم بما كان وما يكون قبل أن يكون.

والثالث : «اللهُ أكبر» ، أي : القادر على كلّ شيء ، يقدر على ما يشاء ، القويّ لقدرته ، المقتدر على خلقه ، القويّ لذاته ، وقدرته قائمة على الأشياء كلّها ، إذا قضى أمراً فإنّما يقول له : كن فيكون.

والرابع : «اللهُ أكبر» على معنى حلمه ، وكرمه ، يحلم كأنّه لا يعلم ، ويصفح كأنّه لا يرى ، ويستر كأنّه لا يُعصى ، لا يَعجَل بالعقوبة كرماً وصفحاً وحلماً.

والوجه الآخر في معنى الله أكبر : أي الجواد ، جزيل العطاء ، كريم الفِعال.

والوجه الآخر : الله أكبر فيه نفي صفته وكيفيّته ، كأنّه يقول : الله أجَلُّ من أن يُدرِك الواصفون قدرَ صفته ، الذي هو موصوف به ، وإنّما يصفه الواصفون على قدرهم لا على قدر عظمته وجلاله ، تعالى الله عن أن يُدرِك الواصفون صفته علوّاً

١٥٣

كبيراً.

والوجه الآخر : الله أكبر ، كأنّه يقول : الله أعلى وأجلّ ، وهو الغنيُّ عن عباده ، لا حاجة به إلى أعمال خلقه.

وأمّا قوله : «أشهد أن لا إله إلاّ الله» : فإعلام بأنَّ الشهادة لا تجور إلاَّ بمعرفة من القلب ، كأنّه يقول : أعلمُ أنّه لا معبود إلاَّ الله عزّوجلّ ، وأنَّ كلّ معبود باطل سوى الله عزّوجلّ ، وأقِرُّ بلساني بما في قلبي من العلم بأنَّه لا إله إلاَّ الله ، وأشهد أنّه لا ملجأ من الله عزّوجلّ إلاّ إليه ، ولا منجى من شرّ كلّ ذي شرّ ، وفتنة كلّ ذي فتنة إلاّ بالله.

وفي المرّة الثانية : «أشهد أن لا إله إلاَّ الله» ، معناه : أشهد أن لا هادي إلاّ الله ، ولا دليل إلى الدين إلاّ الله ، وأُشهِدُ الله بأني أشهَدُ أن لا إله إلاّ الله ، وأُشهد سُكَّان السماوات ، وسكّان الأرضين ، وما فيهنّ من الملائكة والناس أجمعين ، وما فيهنّ من الجبال ، والأشجار ، والدوابّ ، والوحوش ، وكلّ رطب ويابس ، بأنّي أشهد أن لا خالق إلاَّ الله ، ولا رازق ، ولا معبود ، ولا ضارّ ، ولا نافع ، ولا قابض ، ولا باسط ، ولا معطي ، ولا مانع ، ولا ناصح ، ولا كافي ، ولا شافي ، ولا مُقدّم ، ولا مُؤخّر إلاّ الله ، له الخلق والأمر ، وبيده الخير كلّه ، تبارك الله ربّ العالمين.

وأمّا قوله : «أشهدُ أن محمّداً رسول الله» ، يقول : أشهد الله أنَّه لا إله إلاّ هو ، وأنَّ محمّداً عبده ورسولُه ، ونبيُّه ، وصفيُّه ، ونجيبُه ، أرسله إلى كافّة الناس أجمعين بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ، وأشهد مَن في السماوات والأرض ، من النبيّين والمرسلين ، والملائكة والناس أجمعين أنَّ محمّداً سيّد الأوّلين والآخرين.

وفي المرّة الثانية : «أشهد أنَّ محمّداً رسول الله» ، يقول : أشهد أن لا حاجة لأحد [إلى أحد] إلاَّ إلى الله الواحد القهّار الغنيّ عن عباده والخلائق والناس أجمعين ، وأنّه

١٥٤

أرسل محمّداً إلى الناس بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، فمن أنكره وجحده ولم يؤمن به أدخله الله عزّوجلّ نار جهنّم خالداً مُخَلَّداً ، لا ينفكُّ عنها أبداً.

وأما قوله : «حيّ على الصلاة» ، أي هلمّوا إلى خير أعمالكم ، ودعوة ربّكم ، وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم ، وإطفاء ناركم التي أوقدتموها على ظهوركم ، وفكاك رقابكم التي رَهَنتموها ، ليكفّر الله عنكم سيئاتكم ، ويغفر لكم ذنوبكم ، ويبدّل سيئاتكم حسنات ، فإنّه مَلِكٌ كريم ، ذو الفضل العظيم ، وقد أذِن لنا ـ معاشرَ المسلمين ـ بالدخول في خدمته ، والتقدّم إلى بين يديه.

وفي المرة الثانية : «حيّ على الصلاة» ، أي قوموا إلى مناجاة ربّكم وعرض حاجاتكم على ربكم ، وتوسّلوا إليه بكلامه ، وتشفعوا به وأكثروا الذكر والقُنوت ، والركوع والسجود ، والخضوع والخشوع ، وارفعوا إليه حوائجكم ، فقد أذن لنا في ذلك.

وأمّا قوله : «حيّ على الفلاح» ، فإنّه يقول : أَقْبِلُوا إلى بقاء لا فناءَ معه ، ونجاة لا هلاك معها ، وتعالوا إلى حياة لا موت معها ، وإلى نعيم لا نفاد له ، وإلى مُلك لا زوال عنه ، وإلى سرور لا حزن معه ، وإلى أُنس لا وحشة معه ، وإلى نور لا ظلمة معه ، وإلى سعة لا ضيق معها ، وإلى بهجة لا انقطاع لها ، وإلى غِنى لا فاقة معه ، وإلى صحّة لا سقم معها ، [وإلى عِزّ لا ذلّ معه] ، وإلى قوّة لا ضعف معها ، وإلى كرامة يا لها من كرامة ، وعَجِّلُوا إلى سرور الدنيا والعقبى ، ونجاة الآخرة والأُولى.

وفي المرّة الثانية : «حيّ على الفلاح» ، فإنّه يقول : سابقوا إلى ما دعوتكم إليه ، وإلى جزيل الكرامة ، وعظيم المِنَّة ، وسنيّ النِّعمة ، والفوز العظيم ، ونعيم الأبد في جوار محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

١٥٥

وأمّا قوله : «اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر» ، فإنّه يقول : الله أعلى وأجلّ من أن يعلم أحد من خلقه ما عنده من الكرامة لعبد أجابه وأطاعه ، وأطاع أمره وعبدَهُ وعرف وعيده ، واشتغل به وبذكره ، وأحبّه وآمن به ، واطمأنَّ إليه ووثق به وخافه ورجاه ، واشتاق إليه ، ووافقه في حكمه وقضائه ، ورضي به.

وفي المرّة الثانية : «اللهُ أكبر» ، فإنّه يقول : الله أكبر : وأعلى وأجَلُّ من أن يَعلم أحدٌ مبلغ كرامته لأوليائه وعقوبته لأعدائه ، ومبلغ عفوه وغفرانه ونعمته لمن أجابه وأجاب رسوله ، ومبلغ عذابه ونَكاله وهوانه لمن أنكره وجحده.

وأمّا قوله : «لا إله إلاّ الله» ، معناه : لله الحجّة البالغة عليهم بالرسول والرسالة ، والبيان والدعوة ، وهو أجَلُّ من أن يكون لأحد منهم عليه حجَّة ، فَمَن أجابه فله النور والكرامة ، ومَن أنكره فإنَّ اللهَ غنيٌّ عن العالمين ، وهو أسرع الحاسبين.

ومعنى «قد قامت الصلاة» في الإقامة ، أي حان وقت الزيارة والمناجاة ، وقضاء الحوائج ، ودرك المُنَى ، والوصول إلى الله عزّوجلَّ ، وإلى كرامته وغفرانه وعفوه ورضوانه.

قال الصدوق : إنّما تَرَكَ الراوي ذِكر «حيّ على خير العمل» للتقيّة (١) ، وقد روي في خبر آخر أنَّ الصادق عليه‌السلام سئل عن معنى «حيّ على خير العمل» فقال : «خير العمل : الولاية».

__________________

(١) وعلق القاضي نعمان بن محمد بن حسون (ت ٣٦٣ هـ) في الايضاح على الرواية التي ليس فيها ذكر (حي على خير العمل) بقوله. ولا اظن والله اعلم ان ذلك ترك من الرواية إلاّ لمثل ما قدمت ذكره في كتاب الطهارات من الوجوه التي من اجلها اختلفت الرواة عن اهل البيت [أي البقية راجع دعائم الإسلام ١ : ٥٩ ـ ٦٠] فان لم يكن ذلك فقد ثبت انه اذن بها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توفاه الله تعالى وان عمر اقطعه ....

١٥٦

وفي خبر آخر : «خير العمل : بِرُّ فاطمةَ وولدها :» (١).

قلتُ : سنفتح بإذن الله ملابسات هذه الرؤية وما يتلوها عن ابن عبّاس في البابين الأوّل «حيّ على خير العمل ، الشرعية والشعارية» ، والثالث «أشهد أن عليّاً وليّ الله بين الشرعية والابتداع» من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى. إذ لا خلاف عند جميع الفرق الشيعية إسماعيلية كانت ، أم زيدية ، أم إمامية اثني عشرية بجزئية الحيعلة الثالثة ، وأكّد الدسوقي وغيره ـ كما سيأتي ـ على تأذين الإمام عليّ بن أبي طالب بها ، فقد يكون ـ وكما احتمله الشيخ الصدوق ـ الراوي إنّما ترك ذكر (حيّ على خير العمل) للتقية وذلك للظروف التي كانت تمر بها الشيعة. ويؤيد ما قلناه في شرعية الحيعلة الثالثة وأنّها موجودة في الأخبار المنقولة عن الإمام عليّ وابن عباس ما روي عند الزيدية عن ابن عبّاس عن عليّ بن أبي طالب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لما انتُهي بي إلى سدرة المنتهى ... وفيه : حيّ على خير العمل حيّ على خير العمل» (٢).

وروى الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن عطاء ، قال : كنّا عند ابن عبّاس بالطائف ، أنا وأبو العالية ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، فجاء المؤذِّن فقال : «اللهُ أكبر اللهُ أكبر» ، واسم المؤذِّن قثم بن عبدالرحمن الثقفيّ.

فقال ابن عبّاس : أتدرون ما قال المؤذِّن؟ فسأله أبو العالية ، فقال : أخبرنا بتفسيره.

قال ابن عبّاس : (إذا قال المؤذِّن : «الله أكبر ، اللهُ أكبر» ، يقول : يا مَشاغيلَ

__________________

(١) معاني الأخبار ٣٨ ـ ٤١ والنصّ عنه ، والتوحيد ٢٣٨ ـ ٢٤١ كما في مستدرك وسائل الشيعة ٤ : ٦٥ ـ ٧٠ ح ٤١٨٧ / ١ ، وانظر : بيان المجلسيّ في بحار الأنوار ٨١ : ١٣٤ ـ ١٣٥ ، وتفسيره عليه‌السلام الأذان في جامع الأخبار : ١٧١ كما في بحار الأنوار ٨١ : ١٥٣ ـ ١٥٥.

(٢) انظر : الخبر بتفصيله في كتاب الاعتصام بحبل الله ١ : ٢٩٠.

١٥٧

الأرض ، قد وجبت الصلاة ، فتفرَّغوا لها.

وإذا قال : «أشهد أن لا إله إلاَّ الله» ، يقول : يقوم يوم القيامة ، ويشهد لي ما في السماوات وما في الأرض على أنّي أخبرتكم في اليوم خمس مرّات.

وإذا قال : «أشهد أنَّ محمّداً رسول الله» ، يقول : تقوم القيامة ومحمّد يشهد لي عليكم أنّي قد أخبرتكم بذلك في اليوم خمس مرّات ، وحجّتي عند الله قائمة.

وإذا قال : «حيّ على الصلاة» ، يقول : دِيناً قيِّماً فأقيموه ، وإذا قال : «حيّ على الفلاح» ، يقول : هَلُمُّوا إلى طاعة الله وخذوا سهمكم من رحمة الله ، يعني الجماعة.

وإذا قال العبد : «اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر» ، يقول : حرّمت الأعمال.

وإذا قال : «لا إله إلاَّ الله» ، يقول : أمانة سبع سماوات ، وسبع أرضين ، والجبال ، والبحار وضعت على أعناقكم إن شئتم فأقبلوا وإن شئتم فأدِبروا (١).

وقد مرّ عليك كلام الإمام الحسين «والأذان وجه دينكم» ، وقول محمّد ابن الحنفيّة : «عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم الدين» (٢) ، وما جاء في (مَن لا يحضره الفقيه) بإسناده عن الفضل بن شاذان فيما ذكره من العلل عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال :

«إنّما أُمِرَ الناس بالأذان لعلل كثيرة ، منها : أن يكون تذكيراً للناسي ، وتنبيهاً للغافل ، وتعريفاً لمن جهل الوقت واشتغل عنه ؛ ويكون المؤذِّن بذلك داعياً لعبادة الخالق ، ومرغِّباً فيها ، ومُقِرَّاً له بالتوحيد ، مجاهراً بالإيمان ، معلناً بالإسلام ...».

إلى أن يقول : «وجُعِل بعد التكبير الشهادتان ، لأنَّ أوّل الإيمان هو التوحيد

__________________

(١) معاني الأخبار ٤١ كما في بحار الأنوار ٨١ : ١٤١ ـ ١٤٣ ومستدرك وسائل الشيعة ٤ : ٧١ ـ ٧٢.

(٢) جاء في كتاب الاعتصام بحبل الله ١ : ٢٧٨ : قال الهادي إلى الحقّ [من أئمّة الزيديّة] : والأذان من أصول الدين ، وأصول الدين لا يتعلّمها رسول الله على لسان بشر من العالمين.

١٥٨

والإقرار لله بالوحدانيّة ، والثاني الإقرار للرسول بالرسالة ، وأنَّ إطاعتهما ومعرفتهما مقرونتان ، ولأنَّ أصل الإيمان إنّما هو الشهادتان ، فجعل شهادتين شهادتين كما جُعِلَ في سائر الحقوق شاهدان ، فإذا أقرّ العبد لله عزّوجلّ بالوحدانيّة وأقرّ للرسول بالرسالة فقد أقرَّ بجملة الإيمان ؛ لأنّ أصل الإيمان إنّما هو بالله وبرسوله. وإنّما جعل بعد الشهادتين الدعاء إلى الصلاة ، لأنّ الأذان إنّما وضع لموضع الصلاة ، وإنّما هو نداء إلى الصلاة في وسط الأذان ودعاء إلى الفلاح وإلى خير العمل ، وجعل ختم الكلام باسمه كما فتح باسمه» (١).

وفي العلل لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، قال : علّة الأذان أن تكبّر الله وتعظّمه وتقرّ بتوحيد الله وبالنبوّة والرسالة وتدعو إلى الصلاة وتحثّ على الزكاة ، ومعنى الأذان : الإعلام ، لقوله تعالى : (وأذانٌ من اللهِ ورسولهِ إلى الناس) (٢) ، أي : إعلام ، وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «كنتُ أنا الأذان في الناس بالحجّ» ، وقوله : (وأذِّن في الناس بالحجّ) (٣) ، أي : أعلِمهم وادعُهم.

فمعنى «الله» أنّه يخرج الشيء من حدِّ العدم إلى حدِّ الوجود ويخترع الأشياء لا من شيء ، وكلّ مخلوق دونه يخترع الأشياء من شيء إلاَّ الله ، فهذا معنى «الله» وذلك فرق بينه وبين المحدَث.

ومعنى «أكبر» ، أي : أكبر مِن أن يُوصَف في الأوّل ، وأكبر من كلِّ شيء لمّا خلق الشيء.

ومعنى قوله : «أشهد أن لا إله إلاَّ الله» : إقرار بالتوحيد ، ونفي الأنداد وخلعها ،

__________________

(١) مَن لا يحضره الفقيه ١ : ٢٩٩/٩١٤ ، علل الشرائع : ٢٥٨/٩ الباب ١٨٢ ، عيون أخبار الرضا ٢ : ١٠٣ ـ ١٠٥.

(٢) التوبة : ٢.

(٣) الحجّ : ٢٨.

١٥٩

وكلّ ما يعبدون من دون الله.

ومعنى «أشهد أنّ محمّداً رسول الله» : إقرار بالرسالة والنبوّة ، وتعظيم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك قول الله عزّوجلّ : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (١) ، أي : تُذكَر معي إذا ذُكِرتُ.

ومعنى «حيّ على الصلاة» ، أي : حثّ على الصلاة.

ومعنى «حيّ على الفلاح» ، أي : حثّ على الزكاة.

وقوله : «حيّ على خير العمل» ، أي : حثّ على الولاية ، وعلّة أنّها خير العمل أنَّ الأعمال كلّها بها تقبل.

اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، لا إله إلاَّ الله ، محمّد رسول الله ، فألقى معاوية من آخر الأذان «محمّد رسول الله» ، فقال : أمَا يرضى محمّد أن يُذكر في أوّل الأذان حتّى يذكر في آخره؟!

ومعنى الإقامة : هي الإجابة والوجوب ، ومعنى كلماتها فهي التي ذكرناها في الأذان ، ومعنى «قد قامت الصلاة» ، أي : قد وجبت الصلاة وحانت وأُقيمت ، وأمّا العلّة فيها ، فقال الصادق عليه‌السلام : «إذا أذَّنتَ وصلّيتَ صلَّى خلفك صفٌّ من الملائكة ، وإذا أذَّنت وأقمتَ صلَّى خلفك صفّان من الملائكة» ، ولا يجوز ترك الأذان إلاّ في صلاة الظهر والعصر والعتمة ، يجوز في هذه الثلاث الصلوات إقامة بلا أذان ، والأذان أفضل ، ولا تجعل ذلك عادة ، ولا يجوز ترك الأذان والإقامة في صلاة المغرب وصلاة الفجر ، والعلة في ذلك أنّ هاتين الصلاتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار (١).

__________________

(١) الانشراح : ٤.

(٢) بحار الأنوار ٨١ : ١٦٩. عن كتاب العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم.

١٦٠