الأذان بين الإصالة والتحريف

السيد علي الشهرستاني

الأذان بين الإصالة والتحريف

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8166-82-X
الصفحات: ٤٩٦

فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟

قال : نساؤه من أهل بيته؟! ولكنّ أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

قال : ومن هم؟

قال : هم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.

قال : كلّ هؤلاء حرم الصدقة؟

قال : نعم (١).

وعن أبي هريرة : من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خُمّ لمّا أخذ النبيّ بيد عليّ بن أبي طالب فقال : ألستُ وليَّ المؤمنين؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : من كنتُ مولاه فعليّ مولاه.

فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم! فأنزل الله عزّوجلّ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً) (٢).

عَود على بدء

كانت هذه مقدمة أتينا بها كي نوضّح وجه أفضلية الولاية على العبادات الأربع الأخرى ، إذ الصلاة تتركها الحائض ، والصوم يتركه المريض ، والزكاة والحج ساقطان عن الفقير ، أمّا الولاية فهي واجبة على الصحيح والمر يض والغني

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ : ١٢٢ ، مسند أحمد ٤ : ٣٦٧.

(٢) تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٣٣ ، الدر المنثور ٢ : ٢٥٩ ، تاريخ بغداد ٨ : ٢٩٠.

٣٢١

والمعسر ، لأنّها مفتاحهنّ ، وبأهل البيت تُعرف الأحكام ، وتُقبل العبادات ، ويُعبد الله ، فهم باب الله الذي منه يُؤتى «وبالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف» (١) لأنّه الضمان الإلهي للشر يعةَ. ونحن نعلم بأن الشر يعة مرت بمرحلتين :

١ ـ التأسيس على يد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ الصيانة من الانحراف ، وهو دور الأئمة المفترضي الطاعة ، وهو ما كان يؤكّد عليه الرسول للأمة ، يحذّرها من الابتعاد عنهم لأنّ ذلك سيؤدّي بهم إلى الضلال.

وقد كان النهج الحاكم في تعارض مع هذه الصفوة الطاهرة ، فما من الصفوة إلاّ مقتول أو مسموم ، وقد ثبت في علم السياسة والاجتماع أنّ جميع الثورات الفكر ية ، إذا مات زعماؤها ، وتولّى إدارتها غير الأكفاء انحرفت عن مسارها الذي اختطّه لها صاحبها ، أمّا إذا واصل المسيرة الأكفاء الذين يختارهم صاحب الثورة والتغيير ، فإنها تبقى حيّة نابضة ، ولا تنحرف عن منهاجها الأصلي. هذا عن القسم الأوّل من السؤال.

أمّا ارتباط برّ فاطمة وولدها بالأذان والصلاة ـ كما في بعض الروايات ـ (٢)فهو معنى تفسيري للجملة ، ومن قبيل بيان المعاني المشكلة والمتشابهة أو الخفية والمجملة في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فالإمام قد يكون أراد بتوضيحه ذلك بيان ما هو المقصود في العلم الالهي ، وبيان ما حدث بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من عقوق لفاطمة ؛ فبعد إقصاء عليّ عليه‌السلام عن الخلافة ـ أي ترك الولاية التي هي خير

__________________

(١) انظر : الكافي ١ : ٢٢٤ ، كمال الدين وتمام النعمة : ٦٧٧ ، معاني الأخبار : ٩٧.

(٢) كرواية معاني الاخبار : ٤٢ ، وعلل الشرائع ٢ : ٢٥٦.

٣٢٢

العمل ـ عقّوا فاطمة فغصبوا منها فدكاً (١) ، وروّعوها ، وهددوها بحرق دارها (٢)حتّى ماتت غاضبة عليهما (٣) ، كما عقّوا ولدها فمضوا مسمومين مقتولين مشرّدين. ولو تمسك القوم بالولاية التي هي خير العمل لبَرّوا فاطمة وولدها ، ولما خرجت الخلافة من أهلها ، ومن هنا نعلم أن تفسير الحيعلة الثالثة تارة بالولاية ، وأخرى ببرّ فاطمة وولدها ، إنّما هما وجهان لعملة واحدة ، وعبارتان تدلان على معنى مشترك واحد ، وهو أنّ محمّداً وعليّاً وأولادهم المعصومين هم خير البرية.

ولعلّ القارئ الكريم قد وقف على جذور هذا الأصل الديني من القرآن والعترة فيما وضّحناه سابقاً في البحوث التمهيدية ، من أنّ تشر يع الأذان سماويٌّ ، وهو يحمل في طياته سمات معنو ية وأسراراً عالية ، وأنّه بيان لأصول العقيدة وكليّات الإسلام ، لأنّ الأذان ليس إعلاماً لوقت الصلاة فقط ، بل إنّ آثاره تجري في عدة أمور ، فهو بيان لما ابتنى عليه الدين الإسلامي من التوحيد والنبوة ـ والإمامة في نظر الإمامية ـ.

إنْ إكمال الدين وإتمام النعمة لا يكون إلاّ بإمامة عليّ وولده ، وهذا ما دلّلت

__________________

(١) انظر : شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٠٩ ـ ٢٥٣ و ١٧ : ٢١٦ ، الاحتجاج ١ : ٢٦٧ ، الاختصاص : ١٨٣.

(٢) جاء في تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢ بسند معتبر ، قال : أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. وقد كانت فاطمة في البيت ، فقالوا لعمر : إنّ في البيت فاطمة! قال : وإنْ (انظر الإمامة والسياسة ١ : ١٢ ، اعلام النساء ٤ : ١١٤).

(٣) جاء في صحيح البخاري ٢ : ٥٠٤ كتاب الخمس باب ٨٣٧ باب فرض الخمس ح ١٢٦٥ بسنده عن أم المؤمنين عائشة أنّها اخبرته : أن فاطمة عليها‌السلام ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سألت ابا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، فغضبت فاطمة بنت رسول الله ، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت ، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر.

٣٢٣

عليه الكتب الكلامية ، ودلّت عليه الآيات الكر يمة التي منها آية التطهير وآية الولاية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ ...) وآية المباهلة ، وسورة الدهر ، وغيرها من عشرات الآيات والأحاديث ـ إن لم نقل المئات ـ دالّة عليه ، وهذا ما يجب أن يعتقد به كلّ مسلم ؛ إذ عرفتَ أنْ لا صلاة كاملة ومقبولة إلاّ بولايتهم.

إنّ عبارة «حيّ على خير العمل» الدالة على الإمامة هي جزء من الأذان ؛ لما تظافرت به روايات الإمامية الاثني عشرية ، والزيدية ، والإسماعيلية ، ولوجودها حتّى في مصادر أهل السنّة ، وقد أذّن بها كبار الصحابة ، وحكي عن الإمام الشافعي والإمام مالك القول بجزئيتها ، وسنزيد المسألة وضوحاً وجلاءً في الباب الثالث (أشهد أنّ عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع) من هذه الدراسة ، ضمن بحثنا عن شرعية الشهادة الثالثة أو بدعيتها.

ما وراء حذف الحيعلة الثالثة

نصَّ التفتازاني والقوشجي وغيرهما على دافع الخليفة عمر بن الخطّاب إلى حذف هذا الفصل من الأذان ، واتّفق الزيديّة والإسماعيليّة والإماميّة على ثبوت هذا الحذف عنه ، في حين جرى التعتيم على هذه النقطة في أغلب كتب أهل السنّة ، على الرغم من تأكيد كثير من النصوص التار يخيّة والحديثية المتناثرة في المصادر على حذف عمر لحيّ على خير العمل للدافع الذي أعلنه.

إنّ ما ذكر من تعليل لحذف الحيعلة الثالثة قد يكون وجيهاً عند عمر بن الخطّاب ؛ لانسجامه مع نفسيته ومنهجه في فهم النصوص ، وللظروف التي كان يعيشها من غزوات وحروب وتوسيع لرقعة الدولة ، وهو ممّا يستوجب بالطبع جمع الطاقات وتوظيفها للغرض المنشود ، وعدم السماح للمتقاعدين في التشبث بعلل قد

٣٢٤

تبعدهم عن الجهاد ، من جملتها الاتكال على الصلاة أو الولاية باعتبارهما خير العمل.

لكنّ هذا السبب في منع عمر بن الخطاب ترد عليه عدة أمور :

أوّلها : إنّ الغزوات والحروب كانت أعظم وأكثر على عهد رسول الله ، وكانت ظروف انبثاق الدولة الإسلاميّة الفتيّة وبداية انطلاقها لنشر دين الله أدعى إلى حذف هذه الحيعلة من قِبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لو صحّ هذا التعليل ـ من الظروف التالية التي عاشها الخليفة بعد استقرار أمور الدولة بشكلها الذي كانت عليه. فلماذا لم يحذف رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الفصل وحذفها عمر (١)؟!

إنّ هذا لَيثير تساؤلاً حول صحّة هذا التعليل الذي فسّر به عمر حذفه هذا ، أو يومئ إلى وجود سبب آخر غير معلن في هذا السياق.

ثانيها : لو قبلنا التعليل السابق تنزّلاً لصحَّت مشروعية الحذف لفترة معينة ، لا أنّه يكون تشر يعاً لكلّ الأزمان ، ذلك أن سريان المنع إلى يومنا هذا ربّما يشير إلى أمر آخر.

ثالثها : إنّ هذا التعليل من قبل الخليفة لا يتّفق مع ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «اعلموا أنّ خير أعمالكم الصلاة» وهو لا يتّفق أيضاً مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصلاة : «إنّها عمود الدين إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدَّت رُدّ ما سواها» ، فلو صحّ تعليل الخليفة وأنّه أراد أن لا يتّكل الناس على الصلاة ويَدَعُوا الجهاد ، للزم

__________________

(١) وهذا التعليل والرد ، ورد نظيرهما في إتمام عثمان للصلاة بمنى ، بحجّة خوفه أن يظن الناس أنّ صلاة القصر هي المفروضة ، فأجابه الصحابة بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقصر الصلاة وينبّه المسلمين على أنّ ذلك مخصوص بمنى. فلوصح تعليل عمر ، لكان يمكنه أن يقر الحيعلة الثالثة في الأذان وينبّه المسلمين على ضرورة الجهاد ، كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعل ذلك. وهذا التشابه في أدوار الخليفتين الثاني والثالث يوقفك على مسار تيار الحكّام المجتهدين.

٣٢٥

من ذلك تخطئة كلّ النصوص الدالة على أنّ الصلاة خيرُ موضوع وخير الأعمال ، وأنّها وسيلة لقبول الأعمال وردّها.

رابعاً : من المعلوم أنّ المسلمين صاروا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهجين : أحدهما : نهج الخلفاء ، والآخر نهج أهل البيت. وكان هؤلاء على تخالف في كثير من القضايا السياسية والفقهية ، فلمّا منع عمر الحيعلة الثالثة نَسَبَ نهجُ الخلفاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنعَ تأييداً للخليفة عمر بن الخطاب ، حتّى إذا جاء الخلفاء اللاحقون منعوا هذا الفصل من الأذان واستقبحوه من الناس ، ولأجله ترى انحسار الروايات الدالة على الحيعلة في كتب الجمهور ، لكنّ الطالبيِّين أصرّوا على الإتيان بها على الرغم من هذا المنع.

وبذلك تحزّب أبناء السنّة والجماعة لمذهب عمر بن الخطاب وحكمّوا رأيه في مقابل موقف الإمام عليّ وأولاده الذين خالفوا هذا المنع وأصرّوا على الحيعلة الثالثة رغم كلّ الظروف والمشاكل ، كما ستقف عليها لاحقاً.

خامساً : إنّ المطّلع على مجريات الأحداث في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ مَن بعده يقف على حقيقة جلية ، هي أنّ قر يشاً لم تكن ترضى باجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم ، وكانت تطمع في الخلافة من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانوا يشترطون على رسول الله أن يبايعوه بشرط أن يجعل لهم نصيباً في الخلافة من بعده ، لكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : «إن الأمر لله يجعله حيث يشاء» (١) وليس الأمر بيدي.

وجاء عن ابن عباس : إن عمر بن الخطاب قال له في أوائل عهده بالخلافة : يا عبدالله ، عليك دماء البُدن إن كتَمتَنيها .... هل بقي في نفسه [يعني عليّ بن أبي طالب]

__________________

(١) انظر : حديث عامر بن صعصعة في سيرة ابن هشام ٢ : ٢٨٩ ، وحديث قبيلة كندة في سيرة ابن كثير ٢ : ١٥٩ ، وهما يدلاّن على ما نقوله.

٣٢٦

شيء من أمر الخلافة؟

قلت : نعم.

قال : أيزعم أن رسول الله نصَّ عليه؟

قلت : نعم. وأزيدك : سألتُ أبي عمّا يدّعيه ، فقال : صَدَق.

قال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً ، وكان يَرْبَعُ في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام ... فعلم رسول الله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك (١).

وقال العيني في عمدة القاري : واختلف العلماء في الكتاب الذي هم بكتابته فقال الخطابي : يحتمل وجهين ، احدهما انه اراد أن ينص على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين (٢).

ولو جمعنا ما جاء عن ابن عباس ، مع ما قاله عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند مرضه ـ حينما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائتوني بدواة وقلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ، فقال عمر : إنّ الرجل لَيَهجُر (٣) ـ مع ما قاله رسول الله لعمر لمّا أتاه بجوامع من التوراة : والذي نفسُ محمّد بيده لو بدا لكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لَضللتُم (٤) ، مع قول رسول الله في حديث الثقلين «ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» ، لو جمعنا كل

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٢١ وقال : ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً.

(٢) عمدة القارئ ٢ : ١٧١.

(٣) وفي نص البخاري «إنّ الرجل قد غلب عليه الوجع» ، وكلاهما إساءة للرسول المصطفى.

(٤) سنن الدارمي ١ : ١١٥ باب ما يتقي من تفسير حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مسند أحمد ٤ : ٢٦٦ ، المصنف لعبد الرزاق ٦ : ١١٣ باب مسألة أهل الكتاب ، أسد الغابة ٣ : ١٢٧.

٣٢٧

ذلك لوقفنا على حقائق مذهلة ، ولعرفنا موقف النهج الحاكم بعد رسول الله من أهل بيت الرسالة وموت الزهراء وهي واجدة على أبي بكر وعمر (١). ولعرفنا أيضاً مدى المفارقة بين ترك برّ فاطمة وترك الدعوة للولاية وبين تأكيدات الرسول على الاهتمام بالعترة تلو يحاً وتصر يحاً ، مِن مِثل وقوفه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم ـ مدة ستة أشهر ـ على باب فاطمة بعد نزول آية التطهير يناديها للصلاة بقوله «الصلاة الصلاة ، إنّما ير يد الله ليذهبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهّركم تطهيرا» (٢).

ومما يَحسُن بنا أن نتفطّن له هو أن هذا الموقف من رسول الله إنّما يُنبئ عن وجود ترابط عميق بين بر فاطمة وولدها ومسألة الصلاة ، وبمعنى آخر بين الولاية والعبادة ، إذ أنّ وقوف الرسول المصطفى على باب فاطمة لمدة ستة أشهر لا يمكن تصوّره لغواً بأيّ حال من الأحوال ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقف داعياً المطهَّرين من عترته إلى الصلاة ، مُعلِماً بوجود لون من التواشج بين الصلاة والعترة. ورسولُ الله حلقةُ الوصل والربط بين ركيزة التوحيد «الصلاة ، الصلاة» وبين الولاية (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ...). ونلحظ في هذا النص : قول الله «القران» ، وفعل الرسول «الوقوف» ، ونتيجة لزوم الاعتقاد بمنزلة العترة والقربى وأن مودتهما وطاعتهما عبادة منجية.

سادساً : إن الخلفاء المتأخّر ين أيضاً أدركوا سرّ الحيعلة الثالثة فحرصوا أشدّ

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ ـ ٦ : ٢٥٣ ، كتاب المغازي باب غزوة خيبر ح ٧٠٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٧٩ ، كتاب الجهاد باب قول النبي لا نورث إنما تركناه صدقة ، تاريخ المدينة لابن شبة ١ : ١٩٧.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٢٥٩ ، ٢٨٥ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٥١ ح ٣٢٠٥ ، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الاحزاب ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٥٨ ، مصنف ابن أبي شيبة ٦ : ٣٩١ ح ٣٢٢٦٢ ، كتاب الفضائل باب في فضل فاطمة عليها‌السلام.

٣٢٨

الحرص على حذفها ، ولم يرضوا بها ممن خطب لهم ولَبِسَ خِلَعَهم وانضوى تحت لوائهمَ ، بل أصرّوا على ضرورة حذفها ؛ لأنّها رمز يشير إلى بطلان حكوماتهم. وسيأتيك ذلك في الفصل الرابع لدى الكلام عن تاريخ الحيعلة في مكّة وحلب سنة ٤٦٣ هـ. وحسبك منها ما كان من القائم بأمر الله العباسي ، حين أخبره نقيب النقباء أبو الفوارس طرّاد بأنّ محمود بن صالح خطب له بحلب ولبس الخلع القائمية ، حيث قال له : أيّ شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون بـ «حيّ على خير العمل»!!

كلّ هذه النصوص توكّد أنّ المراد الأساسي من «خير العمل» هو بر فاطمة وولدها ، والولاية والإمامة التي بها قوام الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وسواها ... لا شيء آخر ، فصار الخليفة ـ حسب كلام الإمام المعصوم ، والاستقراء التاريخي ـ لا يرضى أن يقع (دعاء إليها وتحر يض عليها) ، لأن ذلك يعني التشكيك بشرعيّة خلافته وخلافة مَن قبله ، وهو المعنيّ من كلامه عليه‌السلام (ما نودي بشيء كالولاية).

وجاء في الغَيبة للنعماني عن عبدالله بن سنان أنّه عليه‌السلام قال في معرض كلامه عن علامات ظهور القائم من آل محمّد عجل الله تعالى فرجه الشر يف : وأنّه سيكون في السماء نداء «ألا إنّ الحقّ في عليّ وشيعته».

قال عليه‌السلام فـ (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) على الحق وهو النداء الأوّل (١) ، ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض ، والمرضُ واللهِ عداوتُنا (٢).

ولو قرأنا تفسير الأئمّة لقوله تعالى (إليه يَصعَدُ الكلمُ الطيّبُ والعملُ الصالح يرفعه) لعرفنا المنزلة العظيمة للولاية وسبب معاقبة عمر للقائل بها ، لأنّ الكلم الطيّب لو كان قد صعد إليه سبحانه وتعالى بنفسه ، فما معنى العمل الصالح يرفعه

__________________

(١) دون النداء الثاني الذي ينادي به إبليس لعنه الله.

(٢) الغيبة للنعماني ١٧٣ ـ ١٧٤ باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم.

٣٢٩

إذن؟!

روى الكليني بسنده إلى الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى (إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه) قال : ولايتنا أهل البيت ـ وأهوى بيده إلى صدره ـ فمن لم يتولّنا لم يرفع الله له عملاً (١).

وعن الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى (إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه) قال : الكلم الطيب هو قول المؤمن : «لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، عليّ ولي الله وخليفة محمّد رسول الله حقاً حقا وخلفاؤه خلفاء الله» ، والعمل الصالح يرفعه ، فهو دليله ، وعمله اعتقاده الذي في قلبه بأنّ هذا الكلام صحيحٌ كما قلته بلساني (٢).

وعن فاطمة الزهراء بنت محمّد ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْأَدْنَى) فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني ، فسمعت أذاناً مثنى مثنى ، واقامة وتراً وتراً ، فسمعت منادياً ينادي : يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي اشهدوا اني لا إله إلاّ انا وحدي لا شريك لي ، قالوا : شهدنا وأقررنا ، قال : اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي بأن محمّداً عبدى ورسولي ، قالوا : شهدنا واقررنا ، قال : اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي بأن عليّاً وليي وولي المؤمنين بعد رسولي ، قالوا : شهدنا وأقررنا ... (١)

وبهذا يفضي بنا البحث إلى أنّ التعليل الحقيقي لمنع عمر بن الخطاب للحيعلة الثالثة هو اطلاعه على المقصود من عبارة «حيّ على خير العمل» في الأذان ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٤٠.

(٢) تفسير الإمام العسكري ٣٢٨ ح ١٨٤ وعنه في تأويل الآيات : ٤٦٩ والنص عنه.

٣٣٠

ودلالتها على ولاية أهل البيت ، لصرف الانتباه عنها ، وذلك بكتمانها وحذفها ، فمَنَعها تحت غطاء الحفاظ على كيان الدولة الإسلامية وتوسيع رقعتها بالجهاد ، لكن الطالبيين قد أدركوا هذا الأمر وأصرّوا على الإتيان بها رغم كلّ الظروف الحالكة ، وهذا ما ستقرأه بعد قليل إن شاء الله تعالى.

ولذلك كان الإمام عليّ عليه‌السلام في أيّام خلافته يلمح ويشير إلى أنّ حذف «حيّ على خير العمل» كان جوراً عليه وعلى الإسلام ، فكان إذا سمع مؤذّنه يقول «حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل» قال : مرحباً بالقائلين عدلاً (٢) ، معرّضاً بمن رفعها ، لأنّ عليّاً هو خير العمل وهو العدل الذي يدور مع القرآن حيثما دار ويدور معه القرآن أيضاً.

والذين ظنوا أنّ الصلاة تقتصر على شكلها الظاهري دون المحتوى الذي هو الطاعة (٣) سعوا إلى ترسيخ فكرة أن هل البيت ومودتهم ليست خير العمل ، فكان لحذفها من الأذان مغزى عرفه أهل البيت فأنكروا حذفها ، كما عرفه مخالفوهم فأصروا على حذفها.

ومن خلال هذه الدلائل العديدة استبان لنا أنّ «خير العمل» كناية عن إمامة عليّ عليه‌السلام التي هي امتداد لنبوّة النبيّ ، وامتداد للتوحيد ، وهذا ما رواه الباقر والصادق عليهما‌السلام من أئمّة أهل البيت في قوله تعالى (فطرةَ الله التي فَطَر الناسَ عليها) قالا : هو «لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، عليّ أمير المؤمنين وليّ الله» ، إلى ها هنا

__________________

(١) تفسير فرات الكوفي : ٣٤٢ في آخر تفسير سورة الأحزاب.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨٨/ ح ٨٩٠.

(٣) أي طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة وليّه ، والأخيران منتزعان من الأولى ، وقد مرّ عليك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة بضعة مني ... فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله جلّ وعلا.

٣٣١

التوحيد (١).

وقد سئل الشريف المرتضى : «هل يجب في الأذان بعد قول «حيّ على خير العمل» «محمّد وعلي خير البشر»؟ فأجاب قائلا : «إن قال : محمّد وعلي خير البشر ـ على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان ـ جاز» (٢).

وهذا يعني أنّ هذا التفسير لحي على خير العمل كان سائداً في لسان المتشرعة منذ زمن أهل البيت وحتّى يومنا هذا.

__________________

(١) تفسير القمّي ٢ : ١٥٥ عن الباقر ، ونحوه عن الصادق عليه‌السلام في التوحيد وبصائر الدرجات.

ولا يخفى عليك أن للتوحيد مراتب ، فهناك توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الطاعة ، فانّه سبحانه وتعالى مع كونه (لم يكن له كفواً أحد) ـ و (هو الله الواحد القهار) ، و (خالق كل شيء) ، وهو الذي (يتوفى الأنفس حين موتها) ، ـ فإنّ هذا المعنى غيرُ معارَض بمثل قوله تعالى : (حتى إذا جاء أحدكم الموتُ توفّته رُسُلنا).

وإن قوله تعالى (وإذا مَرِضتُ فهو يشفين) لا يعارض ما جاء من الشفاء بالقرآن في قوله تعالى : (وننزل من القرآن ما هو شِفاء) وبالعسل (فيه شفاء للناس).

وكذا قوله : (قل لا يَعْلمُ من في السماوات والأرض الغيبَ إلاّ الله) فإنه لا يعارض قوله (وما كان الله ليُطلعكم على الغيب ولكنّ الله يجتبي من رُسُلِه مَن يَشاء) وإلى غيرها من عشرات الآيات.

فلا تخالُفَ إذاً بين نسبة الافعال إلى الله جل جلاله ونسبتها في الوقت نفسه إلى غيره ، فلا يخالف قوله : (أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) مع قوله : (وارزقوهم فيها واكْسُوهُم) وكلاهما من كلام الباري. ومن هنا تأتي مسألة التوحيد ، فتوحيد الطاعة هو يعني لزوم إطاعة من أمر الله بطاعته ، ومن لا يطيع الرسول وأولي الأمر المفروض طاعتهم فانه لم يطع الله لقوله تعالى : (وما ارسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله) وهذا لا يخالف قوله : (وما أُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين) فطاعة من أمر الله بطاعته هي طاعة لله ، ومن لم يطع الله ورسوله ومَن أَمر الله بطاعته لم يوحّد الله تعالى حق توحيده.

وعليه فطاعة أحدهما جاء على وجه الاستقلال ، والآخر على أنّه مظهر أمره سبحانه ، وليس هذا بشرك أو مغالاة كما يدّعون ، بل هو عين الإيمان وكمال الدين.

(٢) رسائل المرتضى ١ : ٢٧٩ ، مسأله ١٧ ، وجواهر الفقه لابن البراج : ٢٥٧ مسألة ١٥.

٣٣٢

وقد أفتى القاضي ابن البرّاج باستحباب ذكر هذا التفسير ، فقال : ويستحب لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند «حيّ على خير العمل» : «آل محمّد خير البرية» ، مرتين (١).

وكون عليّ عليه‌السلام هو المراد من «حيّ على خير العمل» ، والنبيّ من «حيّ على الفلاح» ، وطاعة الرب وعبادته من «حيّ على الصلاة» ، فيه من وجوه البلاغة ما لا يخفى ، إذ فيه من انواع البديع ما يسمّى بالتلميح ، وهو أن يشار في الكلام إلى آية من القرآن أو حديث مشهور أو شعر مشهور أو مثل سائر أو قصة أو معنى معروف ، من غير ذكر شيء من ذلك صريحاً. وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود.

قال الطيبي في التبيان : ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) قال جارالله الزمخشري : قوله : (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) فيه دلالة على تفضيل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو خاتم الأنبياء ، وأنّ أمته خير الأمم ، لأنّ ذلك مكتوب في الزبور ، قال تعالى (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) ، قال : وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمته (٢).

فهنا ألمح الله سبحانه وتعالى لعباده بأن الصلاة له لا لغيره ، وأنّ الفلاح الذي

__________________

(١) المهذب لابن البراج ١ : ٩٠ باب الأذان والإقامة وأحكامهما.

(٢) انوار الربيع ٤ : ٢٦٦. ومن هذا الباب تلميح أبي العلاء المعري للشريف المرتضى بقصيدة المتنبي : لك يا منازل في القلوب منازل. انظر : أنوار الربيع ٤ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣. هذا وقد أخذ الطيبي والزمخشري هذا عن تفسير النسفي ٢ : ٢٩٠ سورة الاسراء.

٣٣٣

قامت به الصلاة هو اتباع رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا الاجتهاد مقابل النص ، وان خير العمل هو الإيمان بالإمامة والولاية لعلي عليه‌السلام التي هي امتداد للنبوة والتوحيد ، وبها قوام العبادات التي عمودها الصلاة.

وهناك عشرات إن لم تكن مئات الأدلّة على أنّ خير العمل ولاية عليّ ، وان ضربته يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين ، وأنّ الاعمال لا تُقبل إلاّ بولايته ، ومعان أخرى متّصلة بهذا الموضوع. وقولنا في الأذان «حيّ على خير العمل» فيه تلميح لكل تلك المعاني التي صدع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه.

والواقع أن كون أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب هو خير البشر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو معنىً قرآني نطقت به آية من سورة «البيّنة» المباركة ، وصرّح به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير الآية ، وتداولته المصادر السنيّة ، وكان هذا المعنى ممّا آمن به كبار من الصحابة المعروفين ، حتّى صار في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جزءً من الثقافة الإيمانيّة القرآنية السائدة.

فقد روى الطبري بإسناده عن محمّد بن عليّ الباقر لما نزل قوله تعالى (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيِّةِ) قال النبيّ : أنت يا عليّ وشيعتك (١).

والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب بإسناده عن جابر بن عبدالله مرفوعاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : عليّ خير البشر من شك فيه فقد كفر (٢).

وغيرها من عشرات الطرق والأسانيد عن الصحابة والتابعين.

__________________

(١) تفسير الطبري ٣٠ : ٢٦٤ ، ورواه السيوطي في الدر المنثور ٦ : ٣٧٩ ، والحسكاني في شواهد التنزيل ٢ : ٤٥٩ ـ ٤٧٣ ح ١١٢٥ ـ ١١٤٨ بأسانيد وطرق كثيرة.

(٢) الفردوس ٣ : ٦٢ ح ٤١٧٥ ، وانظر ترجمة الإمام عليّ لابن عساكر ٢ : ٤٥٧ ح ٩٨٩ بأسناده عن عائشة.

٣٣٤

وبعد كلّ هذا تعلم أنّ قول «محمّد وآل محمّد خير البرية» أو «محمّد وعليّ خير البشر» عند الحيعلة الثالثة أو بعدها إنّما هو توضيح لمعناها الذي حاول الحكام كتمه ، وأن هذا التوضيح والتفسير ما هو إلاّ استلهام من نصوص القرآن والسنّة ، وسيرٌ على الخطوات الصحيحة التي رسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمته.

وستعلم بما لا مزيد عليه ـ في الباب الثالث من هذه الدراسة «اشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع» ـ أن إتيان الأئمّة : وأتباعهم بهذه العبارات ما هو إلاّ تفسير لمعنى الحيعلة الثالثة ، وهو من قبيل الإتيان بتفسير بعض الآيات تفسيراً مرتبطاً بنصّ الآية ونسقها ، وهذا النوع من التفسير ممّا تحفل به كتب الفريقين بلا أدنى ريب (١) ، وهو التفسير المقبول الذي اصطلح على تسميته البعض

__________________

(١) انظر : قراءه عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة للآية (حافظوا على الصلوات والصلاةِ الوُسْطى) هكذا (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين).

وحديث عائشة موجود في صحيح مسلم ، كتاب المساجد ، باب الدليل لمن قال : الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، وسنن أبي داود ، كتاب الصلاة ، باب وقت صلاة العصر ، وسنن الترمذي ، كتاب التفسير ، تفسير سورة البقرة ، وسنن النسائي ، كتاب الصلاة ، باب المحافظة على صلاة العصر ، وموطأ مالك ، كتاب الصلاة ، باب صلاة الوسطى ، وتفسير الآية في الدر المنثور ١ : ٣٠٢ و ٣٠٣ ، وفي فتح الباري ٩ : ٢٦٥ ، ومسند أحمد ٦ : ٧٣ و ٨٧٨ منه.

أما حديث حفصة فانظر فيه : موطأ مالك كتاب الصلاة ، باب الصلاة الوسطى ، ومصنف عبدالرزاق ، كتاب الطهارة ، باب صلاة الوسطى ح ٢٢٠٢ ، وتفسير الطبري ٢ : ٣٤٣ ، والدر المنثور ١ : ٣٠٢ ، والمصاحف لابن أبي داود : ٨٥ ـ ٨٦.

أما حديث أُم سلمة ، فانظر فيه : الدر المنثور ١ : ٣٠٣ ، والمصاحف لابن أبي داود : ٨٧.

وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود وأبيّ بن كعب وعلي بن أبي طالب قوله تعالى (فما استمتعتم به منهنّ فاتوهنّ أجورهنّ إلى أجل مسمى).

وانظر : قراءة ابن عباس في المعجم الكبير ١٠ : ٣٢٠ ، والسنن الكبرى ٧ : ٢٠٥ ، والمستدرك للحاكم ٢ : ٣٠٥ ، والجامع لاحكام القرآن للقرطبي ٥ : ١٣٠ ، والكشاف ١ : ٥١٩.

وفي قراءة ابن مسعود. انظر نيل الأوطار ٦ : ٢٧٤ ، وشرح النووي على صحيح مسلم

٣٣٥

بـ «التفسير السِّياقي».

__________________

٦ : ١١٨.

وفي قراءة أبي بن كعب. انظر جامع البيان للطبري ٥ : ١٩ ، والدر المنثور ٢ : ١٣٩. وهي قراءة علي كذلك.

٣٣٦

الفصل الرابع

حيّ على خير العمل

تاريخها العقائدي والسياسي

٣٣٧
٣٣٨

قد يقترح البعض ضرورة إكثارنا من ذكر مصادر أهل السنة والجماعة حين الكلام عن جزئية «حيّ على خير العمل» وعدم الاكتفاء بما نقلناه ، بل عدم استساغة ما روته طرق الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، والزيدية ، والإسماعيلية وبعض علماء أهل السنّة عن أهل البيت والصحابة ، بزعم أنّ ذلك ليس ملزِماً للآخرين.

هذا الكلام قد يكون له مساغ لو ضربنا بمعطيات التاريخ عرض الجدار ؛ إذ الموقف تجاه المتغيّرات في التاريخ والحديث ، وما فعلته ريشة الحكام بالنصوص والموازين ، وخنقهم لكلّ ما هو أصيل مما لا يعجبهم ، وخصوصاً بعد أن اتّضح لنا دور الأمويين في التحر يف والتعتيم ، كلّ ذلك يدلّك على سرّ انحسار مثل نصوص الحيعلة الثالثة في مدرسة الخلفاء.

بل إن تصر يح الإمام الباقر والإمام زيد وغيرهما بأن عمر بن الخطاب كان وراء رفع «حيّ على خير العمل» إنّما ينم عن الظروف القاسية العصيبة التي جعلت المعاجم الحديثية السنية تكاد تخلو من أمثال هذه الأحاديث رغم ثبوتها على عهد رسول الله ؛ فرأينا أنّه لا محيص من الرجوع إلى التاريخ ، للوقوف على مجريات

٣٣٩

الأحداث ، ومنها الوقوف على صحّة وأصالة ما قالته الشيعة وما جاء في الروايات اليتيمة في كتب الفقه والحديث عند أهل السنّة والجماعة ، ومن خلال عرضنا للمسألة من وجهة نظر تاريخية سيقف القارئ على جواب القول السابق وأمثاله.

إنّ ثبوت «حيّ على خير العمل» لم يقتصر على العلويين ـ حسنيين كانوا أم حسينيين ـ بل تعدّاهم إلى بعض أهل السنة والجماعة ، وقد مرّ عليك ما كان بأيديهم من بقايا هذا الأذان الأصيل.

ومن المعلوم أنّ المسلمين انقسموا بعد وفاة رسول الله إلى نهجين :

الأوّل : نهج الصحابة.

والثاني : نهج أهل البيت.

وعُرف النهجان بالتخالف فيما بينهما في كثير من المسائل ، بحيث تجاوز حدَّ النزاع حول الإمامة والخلافة ليشمل كافّة مجالات الشريعة وأحكامها.

وبمعنى آخر : إنّ الخلاف الحاصل بين النهجين قد تجاوز الصعيد السياسيّ ليشمل أصعدة أخرى فكريّة وعقائدية واجتماعية. وفي حال اعتبار مصدر تشريع الأحكام في الفقه من الأُمور المهمّة والحسّاسة جدّاً ، فلا عجب أن ترى بين قادة النهجين أحكاماً فقهيّة متضادّة ، قد تصل إلى حدّ التناقض في المسألة الواحدة ، فتجد ما يقوله عمر بن الخطاب يخالف ما يقوله عليّ بن أبي طالب تماماً ، فعلى الرغم من التزام وتعبّد عليّ عليه‌السلام بمنهج رسول الله في جواز المتعة مثلاً ، ترى اجتهاد عمر شاخصاً أمامك في قبال شريعة رسول الله ، محرّما للمتعتين ، قائلاً : «أنا أُحرمهما وأُعاقب عليهما».

لقد أخذ أهلُ السنّة الكثيرَ من فقههم من مجتهدي الصحابة الاوائل ، وخصوصاً الخلفاء ، وانتهجوا سيرة الشيخين ، ولهذا فإنّ الكثير من موارد المنع في فقه أهل

٣٤٠