الأذان بين الإصالة والتحريف

السيد علي الشهرستاني

الأذان بين الإصالة والتحريف

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8166-82-X
الصفحات: ٤٩٦

مكانة الإمامة بين العبادات الخمس ، وقد سأله عنها زرارة بقوله : وأيّ شيء من ذلك أفضل؟

قال : الولاية أفضل ؛ لأنّها مفتاحهنّ ، والوالي هو الدليل عليهنّ ـ إلى أن قال ـ إنّ أفضل الأشياء ما أنت عليه إذا فاتَكَ لم يكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤدّيه ...

وعليه فمبحث الإمامة والولاية من المسائل المهمة والمختلف فيها بين المسلمين ، بل من المسائل المتجذرة في تاريخ الإسلام ، وقد كتب فيها الأعلام مصنفات كثيرة ولا يسع هذه الدراسة الإحاطة بجوانبها ، لكننا نكتفي بالإشارة إلى قليل من مجموع مئات الأدلّة المستدلّ بها على الإمامة ، نأتي بها كي نوضّح معنى ومقصود الإمام الكاظم ، وكيف : أنّ الولاية خير من الجهاد والصلاة وسواهما.

بعض أدلّة الولاية

وليكن الكلام أولاً عن آية المودّة ؛ مفهومها ومعطياتها ، وهل تعني المحبة كما يقولون أم تعني شيئاً أكثر من مجرّد المحبة؟

بل هل هناك اختلاف بين قوله (لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) وقوله (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)؟

وعلى أيّ شيء تدل هذه الآية الأخيرة بالتحديد؟

وهل يعقل أن يحصر شخصٌ رساليٌّ عظيم كرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أجرَ رسالته ـ الّتي ما أوذي نبي مثل ما أوذي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو عليها ـ بحبّ أقربائه وعشيرته؟

وهل إنّ قرار الرسول هذا جاء لتحكيم أسرته وعشيرته وتقوية الروح القبلية والنزعة العشائرية التي كانت سائدة عند العرب في الجاهلية ـ والعياذ بالله ـ؟

٣٠١

أم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد بذلك أموراً أخرى تعبّر عن إرادة السماء؟

ثمّ مَن هم أقرباؤه المعنيّون في هذه الآية؟

المعلوم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أوجب مودّة قرباه لا لتعظيم الجانب القبلي والعشائري ، إذ الثابت عن رسالة السماء أنّها تخالف هذه النزعة الجاهلية الضيّقة ؛ حيث ذمّ الباري عمَّ النبيّ وزوجة عمّه في سورة نزلت في عمّ رسول الله ، أبي لهب ، دون اعتبار لنسبه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَب * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَد).

إذاً لا يكون المعنيُّ بالقربى عشيرته وأقرباءَه بما هم أقرباؤه وعشيرته ، بل المعنيّ بذلك فئة خاصة منهم ، لهم سمات وخصائص تجعلهم أمناء على دين الله وواسطة للفيض الإلهي ، وهؤلاء هم الصادقون والمطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وقد نوّهنا بطرف من منزلتهم فيما مضى.

إذ لا يعقل أن يأمر اللهُ ورسولُه المؤمنين بالتودّد إلى مَن ليس بأهل للمودّة ، وإلى من هو منحرف عن الجادة ـ والعياذ بالله ـ بل إنّ أمره بالتودد إليهم يشير إلى أنّ لهؤلاء القربى خصائص يتميّزون بها ليست للآخر ين ، كالعلم والفضل والتقوى والصبر و ... وهذه المقوّمات هي التي جعلت من هؤلاء قدوة ، وقد عرّفهم سبحانه في آية التطهير وحصرهم بمن تحت الكساء وهم بعد النبيّ محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ وفاطمة والحسن والحسين.

من يعرف الدين الإسلامي يعلم بأنّ الإسلام يهتم بالقيم والمثل لا العلائق والاتجاهات القبلية والعشائرية ، فقد جعل رسولُ الله سلمانَ الفارسي من أهل بيته لما امتلكه من مؤهّلات وخصائص ذاتية ومعنوية مع عدم امتلاكه أي علائق مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الوجهة القبلية والإقليمية.

٣٠٢

قال أبو فراس في هذا المعنى من النَّسب الإيماني :

كانت مودّةُ سلمان لَهُ رحماً

ولم يكن بَينَ نوح وابنِهِ رَحِمُ

المسألة إذاً أعظم مما تُصوِّره مدرسة الخلفاء ونهج الاجتهاد والرأي من أن الآية تعني المحبّة بما هي محبة مجرّدة ، وأنّ رسول الله أراد الاهتمام بعشيرته وأقربائه وذويه ، بل إنّ آية المودّة تشير إلى مبدأ آخر واضح للمفكّر اللّبيب ، لأنّ الشارع لا يأمر بمحبة من هو ليس بأهل أو بمحبة الفاسق والفاجر ـ والعياذ بالله ـ بل سبحانه يأمر بمودّة من له خصوصية أن يكون واسطة للفيض الإلهي وصيانة الأحكام ، وإجراء الحدود على وجهاتها الصحيحة ، وحفظ الثغور ، وتقسيم الفيء ، وردّ الشبهات ، وغيرها من مستلزمات صيانة الدين الحنيف وحفظه ، وهو دليل على سلامة القربى المعنيين في الآية من العيب والنقص ، إذ جعلهم عِدلاً للقرآن الذي لا يأتيه ريب ، وعلّق أجر رسالته ـ التي لاقى الصعاب من أجلها ـ على مودتهم.

قال الزمخشري في الكشاف بعد طرحه سؤالاً وجوابه : وروي أنّها لمّا نزلت ، [قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] قيل : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : عليّ وفاطمة وابناهما. ويدل عليه ما روي عن عليّ رضي الله عنه : شكوت إلى رسول الله حسد الناس لي ، فقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنَّة ، أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذريّتنا خلف أزواجنا (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : حرمت الجنَّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومَن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبدالمطّلب ، ولم يُجازِه عليها ، فأنا أجازيه عليها غداً

__________________

(١) انظر : فضائل الصحابة ، لأحمد بن حنبل ٢ : ٦٢٤ ح ١٠٦٨ وفيه زيادة : وشيعتنا من ورائنا.

٣٠٣

إذا لقيني يوم القيامة (١).

وروي أنّ الانصار قالوا : فَعَلنا وفَعَلنا ؛ كأنّهم افتخروا. فقال عبّاس ـ أو ابن عبّاس رضي الله عنهما ـ : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله فأتاهم في مجالسهم ، فقال : يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلّة فأعزّكم الله بي؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : ألم تكونوا ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : أفلا تجيبوني؟

قالوا : ما نقول يا رسول الله؟

قال : ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أو لم يكذّبوك فصدّقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك؟

قال : فما زال يقول حتّى جَثَوا على الرُّكَب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله ، فنزلت الآية وقال رسول الله :

من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يُزَفّ إلى الجنَّة كما تُزَف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فُتح له في قبره باباً إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ،

__________________

(١) انظر : مسند زيد بن علي : ٤٦٣ و ٤٦٦ الباب ٤ في فضل الحسنين (نشر دار الحياة) وهذا المطلب غير موجود في ما اعتمدناه في تخريج الروايات عن مسند زيد ، فانه ينتهي إلى آخر كتاب الفرائض ، وهو من منشورات دار الكتب العلمية.

٣٠٤

ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه «آيس من رحمة الله» ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يَشمَّ رائحة الجنّة» .... (١)

وقد نقل الرازي كلام الزمخشري في تفسيره معلقاً عليه بقوله :

وروى صاحب الكشّاف أنّه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، مَن قرابَتُك هؤلاء الذين وَجَبت علينا مودّتُهم؟

فقال : علي وفاطمة وابناهما.

فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي ، وإذا ثَبَت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيدِ التعظيم ، ويدل عليه وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني : لا شكّ أنّ النبي كان يحبّ فاطمة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمةُ بضعةُ مِنّي يُؤذيني ما يُؤذيها ، وثبَت بالنقل المتواتر أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين.

وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله ؛ لقوله (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ولقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ولقوله (قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) ولقوله سبحانه (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ

__________________

(١) تفسير الكشاف ٣ : ٤٠٣ ، وفي تفسير القرطبي ١٦ : ٢١ ـ ٢٣ في ذيل الآية حكى عن الثعلبي هذه الرواية فذيّله بـ (ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له من شفاعتي).

٣٠٥

اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

الثالث : إن الدعاء للآل مَنصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : «اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد».

وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدلّ على أن حبّ آل محمد واجب ، وقال الشافعي رضي الله عنه :

يا راكباً قِف بالُمحصَّبِ مِن مِنى

واهتُفْ بساكنِ خِيفها والناهضِ

سَحَراً إذا فاضَ الحجيجُ إلى مِنى

فَيضاً كمُلْتَطَمِ الفراتِ الفائضِ

إنْ كانَ رَفضاً حُبُّ آل محمد

فَلْيَشهدِ الثّقلاَنِ أنّي رافضي (١)

ولو تدبرت في خبر أبي عبيدة عن الإمام الصادق ـ والمروي في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ـ لعرفت مزيّة فاطمة الزهراء على عائشة وعلى غيرها من نساء النبيّ ، قال الصادق عليه‌السلام : كان رسول الله يكثر تقبيل فاطمة عليها‌السلام ، فغضبت من ذلك عائشة ، وقالت يا رسول الله : إنك تكثر تقبيل فاطمة! فقال رسول الله :

يا عائشة ، إنه لمّا أسري بي إلى السماء دخلتُ الجنّة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته ، فلما هبطت إلى الأرض ، حوّل الله ذلك ماءً في ظهري ، فلمّا هبطتُ إلى الأرض فواقعتُ بخديجة فحملت بفاطمة ، فما قبّلتها قطّ إلاّ وجدت رائحة شجرة طوبى منها (٢).

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي ٢٧ : ١٦٦ ، وديوان الشافعي : ٨٤.

(٢) تفسير عليّ بن إبراهيم كما في نور الثقلين ٣ : ١٣١ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٢ ، وانظر : الدّر

٣٠٦

وحسب هذا دليلاً لمعرفة صحة ما نقول من أنّ مودّتها ميزان للإسلام والإيمان.

وعليه ، فالأجر على الرسالة لابدّ أن يرتبط بأصل الرسالة ، ولا معنى لما يقال من إرادة التودّد العاطفي البحت لذوي القربى ، بل المعنيّ به هو أنّ هذه النخبة الصالحة هي التجسيد الواقعي للدين وصمّام الأمان للرسالة ، وأنّ التودّد إليهم سيعود بالنفع على الناس قبل النفع على القربى ، لأنّها لا تز يد القربى مقاماً ومنزلة إذ منزلتهم محفوظة من عند الله ، فهم مستودع العلم وظرف الرسالة ، وهذا ما صرّح به الذكر الحكيم بقوله (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) لا (المودة للقربى) ، وفي هذا إيماء لطيف إلى أنّهم غير محتاجين إلى مودة الناس ، بل إنّ مودّتهم تؤدّي بالناس إلى الخير والصلاح ، لأنّ التودّد الذي تكون القربى ظرفاً له سيربطهم بالرسالة وصاحبها ارتباطاً وثيقاً ترجع خيراته إلى الناس ، وهو لطف من الله للبشر ، إذ جعل مودّة أهل بيتِ رسولِهِ سبباً لنجاتهم من الهلكة ، وهي من قبيل جعل حب الإمام عليّ وبغضه مقياساً لمعرفة المؤمن من المنافق ، وقد كان المنافقون من الصحابة يُعرَفُون ببغضهم لعليّ بن أبي طالب ، فقد ثبت عن أبي سعيد الخدري قوله :

«إنّا كنّا نعرف المنافقين ـ نحن معاشَر الأنصار ـ ببغضهم عليّ بن أبي طالب» (١).

وورد عن عُبادة بن الصامت قوله : كنا نبور أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب ،

__________________

المنثور ٤ : ١٥٣ والمستدرك للحاكم ٣ : ١٥٦ ، والمناقب لابن المغازلي : ٣٥٧ ، وتاريخ الخميس ١ : ٢٧٧.

(١) أُسد الغابة ٤ : ٣٠.

٣٠٧

فإذا رأينا أحداً لا يحبّه علمنا أنّه ليس منّا وأنّه لغير رشدة (١).

وجاء عن ابن مسعود قوله : ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ ببغضهم عليّ بن أبي طالب (٢).

إذاً كان عليّ بن أبي طالب محكًّا للأنصار ولغيرهم (٣) ، وهذا بخلاف قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأنصار (لا يحبّهم إلاّ مؤمن ولا يبغضهم إلاّ منافق) (٤).

ففي النص الأوّل كان شخص عليّ بن أبي طالب هو المعيار لمعرفة المؤمن من المنافق ، بخلاف الأنصار الذين يرجع حبّهم إلى ما فعلوه من نصرتهم لنشر الدين الإسلامي والسعي في إيواء المسلمين وقيامهم في مهمات الدين.

قال النووي في شرح مسلم (إنّ من عرف مرتبة الأنصار .... وعرف من عليّ ابن أبي طالب قربه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحبّ النبيّ له ، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه ثمّ أحب الأنصار وعليّاً لهذا ، كان ذلك من دلائل صحّة إيمانه وصدقه في إسلامه ، لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله ...) (٥).

__________________

(١) الغريبين للهروي ١ : ٢٢٢ مادة «بور» ، ذكر اول الحديث ، تاج العروس ٣ : ٦١ مادة (بور) ، وغيرهما.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٦٦.

(٣) ومن هنا أنشأت عائشة تقول في حق علي عليه‌السلام :

إذا ما التِّبر حُكّ على محكٍّ

تبيّن غشّه من غير شكِّ

وفينا التبر والذهب المصفّى

عليّ بيننا شبه المَحكِّ

الكنز المدفون للسيوطي : ٦٨.

(٤) صحيح مسلم ١ : ٨٥ ح ١٢٩ كتاب الايمان.

(٥) شرح مسلم ١ ـ ٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٤ ، كتاب الايمان / باب ٣٣.

٣٠٨

وكلام النووي كما تراه فيه غفلة عن الفرق الشاسع بين الأمر بحب عليّ عليه‌السلام والأمر بحب الأنصار ، لأن حبّ عليّ عليه‌السلام مطلوب بذاته ، بخلاف حبّ الأنصار فإنّه مطلوب لسوابقهم ، ويؤكد ذلك أنّ في الأنصار منافقين ومنحرفين وأصحاب ارتباطات باليهود ـ وإن كانت غالبيّتهم من أنصار الإمام عليّ عليه‌السلام ومخالفين لقريش ـ فلا يعقل أن يكون حبّهم جميعاً لذواتهم ، وإنّما كان الحب لهم كمجموعة لها مواقف محمودة.

ومثل الإمام عليّ كانت الصدّيقة فاطمة الزهراء ، إذ علّق الباري عزّ وجلّ رضاه وغضبه على رضاها وغضبها ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» (١) ، فصار رضى فاطمة معياراً لرضى الله ، وهو دليل على نزاهتها المطلقة وعصمتها وطهارتها التامّة من كلّ ما يشين ، إذ لا يعقل تعلق رضى الله برضى إنسان غير معصوم.

ولا يفوتنك ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي ذر الغفاري ، قال : قال رسول الله : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني».

وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه (٢).

وفي هذا الحديث دلالة على كمال الإمام عليّ وعصمته ، لأنا نعلم أن رسول الله لا يداهن ولا يجامل ولا يبالغ ، وبذلك يكون معنى الحديث أن إرادة الإمام عليّ منبعثة من إرادة الله ولا يمكن أن تتخلف عن إرادته جل وعلا ، وكراهته منبعثة عن كراهة الله ، ولا يمكن أن تتخلف إحداهما عن الأُخرى ، إذ لو أمكن التخلّف لكان

__________________

(١) المعجم الكبير ١ : ١٠٨ و ٢٢ : ٤٠١ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٣ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٤ ، الإصابة ٨ : ٢٦٦.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١.

٣٠٩

قوله «من أطاعه فقد أطاع الله» غلطاً ، ولكان قوله : «من عصاه فقد عصى الله» باطلاً ، معاذ الله (١) ، حيث إن طاعة الرسول هي طاعة لله ، وعصيانه هو عصيان لله ، فيكون من أطاع علياً فقد أطاع الله ورسوله ، ومن عصاه فقد عصى الله ورسوله ..

وهكذا الحال بالنسبة إلى الإمامين الحسن والحسين ، فهما إمامان قاما أو قعدا ، وسيّدا شباب أهل الجنّة ، فهؤلاء هم القربى المعنيّون في آية المودّة.

وعلى هذا فالدعوة إلى المودّة في القربى ونقل فضائلهم هي مقدِّمة إلى لزوم الأخذ بنهجهم والاهتداء بهداهم ؛ لتعلّق أجر الرسالة بها ، بل هو تعبير آخر عمّا جاء في حديث الثقلين «ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» لانّ مفهوم السنّة لغة : هو الطريق ، والصراط ، والجادّة ، واصطلاحاً : هو اتّباع الرسول قولاً وفعلاً وتقريراً.

وقد أرشَدَنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى لزوم اتّباع العترة ، فيكون الابتعادُ عن هؤلاء ابتعاداً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإسلام ، وهو عين الضلالة والهلكة ، لأنّه لا هدى إلاّ بالقرآن والنبيّ والعترة ، فعلي مع القرآن ، والقرآن مع عليّ «لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض» (٢).

ولو تأمّلت في هذه العبارة لعرفت مكانة الإمام عليّ ولرأيته في رتبة المعيّة مع القرآن ، وهي نسبة تقوم بطرفين ، ويستحيل أن تقوم بطرف واحد ، وعندما قال النبيّ : «عليّ مع القرآن» ، فقد أثبتها ، فلماذا أعاد إثباتها بصيغة أخرى ، فقال : «والقرآن مع عليّ»؟

__________________

(١) الحق المبين : ٧٩ للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني.

(٢) المستدرك ٣ : ١٢٤ قال صحيح ولم يخرجاه ، الجامع الصغير ٢ : ١٧٧ ، كنز العمال ١١ : ٦٠٣.

٣١٠

حاشا أفصح مَن نطق بالضاد مِن اللغو في كلامه ، وحاشا أفصح من نطق بالضاد من التكرار في كلامه ، [دون معنى متوخّى ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله] أراد أن يُفهمنا أن مسألة معيّتهما [هي] معيّة من نوع خاص ، ويشير إلى أبعادها العميقة ، ذلك أن المعيّة بين شيئين أو أكثر ، عندما تطلق ، فيقال : زيد مع عمرو ، فهي أعمّ من أن يكون هذا الطرف في الإضافة متقدّماً رتبة على ذاك أو متأخّراً عنه ، بل تدلّ على أنهما معاً بقطع النظر عن رتبة كلّ منهما.

وربّما كان فيها إشارة إلى أنّ المَقْرون أقلّ رتبةً من المقرون به ، لهذا أعاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صياغة هذه المعية ، ليقول للمفكّرين : لا ينبغي أن تفهموا من قولي : «عليّ مع القرآن» أن عليّاً أقلّ رتبة من القرآن ، بل القرآن مع عليّ أيضاً ، فهما وجودان متعادلان» (١).

ويؤيّد هذا الاستنتاج ما جاء عن النبيّ : «عليّ مني وأنا من عليّ» (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ : «أنت مني وأنا منك» (٣).

ولو جمعنا آية المودة ، مع آية التطهير ، مع حديث الثقلين ، وما جاء في أهل الكساء ، وقوله : لا يزال الدين عزيزاً حتّى يكون منهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (٤) ، وقوله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (٥) ، وغيرها من الآيات والروايات ، لعرفنا دلالة هذه النصوص على الولاية التي هي بمعنى

__________________

(١) الحقّ المبين : ١٠٥ للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني.

(٢) سنن الترمذي ٥ : ٣٠٠ ح ٣٨٠٣ ، مصنف بن أبي شيبة ٧ : ٥٠٤ ح ٥٨ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٤ ح ١١٩.

(٣) صحيح البخاري ٣ ـ ٤ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ كتاب الصلح / باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان ...

(٤) صحيح مسلم ٦ : ٤ كتاب الامارة ، سنن بي داود ٤ : ١٠٦ ح ٤٢٨٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٦ : ٢٤٦ كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٣١١

الإمامة ، لا بمعنى الصاحب والُمحبّ ، وما شابه ذلك من المفاهيم التي تطرحها مدرسة الخلفاء ونهج الاجتهاد والرأي.

عرفنا إذاً أنّ الخطاب في آية المودّة هو لعموم المسلمين الذين آمنوا برسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا لخصوص المشركين من قر يش حسبما قاله البعض ؛ لكون الآية مدنية وإن كانت السورة مكية ، فلا يُعقل أن يخاطب الرسول أعداءه من المشركين ويطلب منهم أجراً على رسالته.

وكذا لا يصحّ ما قاله البعض الآخر : من أنّ الآية تشير إلى معنى تودّد المسلمين في التقرّب إلى الله ، ومعنى كلامهم هذا أنّ القربى استعملت بمعنى مطلق التقرّب ، وهذا باطل لغو ياً حيث لم يرد هذا المعنى في المعاجم.

ويضاف إليه : كيف يمكن للرسول أن يوقف أجر رسالته على نفسها ، لأنّ المسلم وباتّباعه الرسالة يحصل له القرب إلى الله ، فلا معنى للتودّد والإلحاح في القرب إليه ؛ لأنّه توقيف الشيء على نفسه ، وإن كان كذلك فلا يكون أجر الرسالة بل هو نتيجة الرسالة.

هذا ، وإنّك لو طالعت التاريخ الإسلامي لعرفت أنّ مفهوم القربى كان في الصدر الأوّل يطلق على عليّ وفاطمة والحسنين ، ثمّ أطلقت على أبنائهم المعصومين لاحقاً.

روى الحاكم النيسابوري في المستدرك عن الإمام الحسن قوله : وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم فقال تبارك وتعالى (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت (١).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٧٣.

٣١٢

وقال أبو إسحاق السبيعي : سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقال : قربى النبيّ ، رواهما ابن جرير الطبري (١).

وعن ابن عبّاس أنّه قال : لما نزلت هذه الآية (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودّتهم؟ قال : فاطمة وولدها : (٢).

وثبت عن عليّ بن الحسين أنّه قال للشامي رداً على تنكيل الشامي به : أما قرأت كتاب الله عزّوجلّ؟

قال الشامي : نعم.

فقال عليّ بن الحسين : أما قرأتَ هذه الآية (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

قال : بلى.

فقال له عليّ بن الحسين عليه‌السلام : فنحن أولئك ، فهل تجد لنا في سورة بني إسرائيل حقاً خاصّة دون المسلمين؟

فقال : لا.

فقال عليّ بن الحسين : أما قرات هذه الآية (وآت ذا القُربى حقَّه)؟

قال : نعم.

قال عليّ بن الحسين : فنحن أولئك الذين أمر الله عزّ وجلّ نبيه أن يؤتيهم حقهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٤ : ١١٣ سورة الشورى.

(٢) تفسير ابن أبي حاكم ١٠ ص ٣٢٧٧.

٣١٣

فقال الشامي : إنكم لاَنتم هُم؟

فقال عليّ بن الحسين : نعم ، فهل قرأت هذه الآية (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى).

فقال الشامي : بلى.

فقال عليّ بن الحسين : فنحن ذوو القربى ، فهل تجد لنا في سورة الأحزاب حقّاً خاصّة دون المسلمين؟

فقال : لا.

قال عليّ بن الحسين : أما قرأت هذه الآية (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

قال : فرفع الشامي يده إلى السماء ثمّ قال : اللّهمّ إنيّ أتوب إليك ـ ثلاث مرات ـ اللّهمّ إني أتوب إليك من عداوة آل محمّد ، وأبرأ إليك ممن قتل أهل بيت محمّد ، ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرتُ بها قبل اليوم (١).

وهذا النص يؤكّد لنا وضوح دلالة هذه الآيات المباركة ، حيث إن الشيخ الشامي فهم معانيها بأدنى تأمّل ، وبمجرّد إيضاح الإمام السجّاد عليه‌السلام له المراد من هذه الآيات. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية يبين هذا النص مدى التعتيم الإعلامي الأموي على أهل البيت ، وتحريفات السلطة لمعاني هذه الآيات المباركة ، ولذلك كأنّ الشيخ الشامي من قبل لم يشعر بها وبمعانيها. ولم يعرف المصداق الأكمل لها في زمانه.

ومثله روى حكيم بن جبير ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : كنت أجالس أشياخاً لنا إذ مر علينا عليّ بن الحسين وقد كان بينه وبين أناس من قريش منازعة

__________________

(١) الاحتجاج : ٣٠٧ ، وتفسير ابن كثير ٤ : ١٢٢ سورة الشورى.

٣١٤

في امرأة تزوّجها منهم لم يرض منكحها ، فقال أشياخ الأنصار : ألا دعوتنا أمس لما كان بينك وبين بني فلان ، إنّ أشياخنا حدّثونا أنّهم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمّد ، ألا نخرج إليك من ديارنا ومن أموالنا لِمَا أعطانا الله بك وفضّلنا بك وأكرمنا بك؟ فأنزل الله تعالى (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ونحن ندلكم على الناس ، أخرجه ابن منده (١).

وجاء في الكافي في حديث طويل عن الباقر عليه‌السلام فيه قوله : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ) يقول : أجر المودة الذي لم اسألكم غيره فهو لكم تهتدون به وتنجون به من عذاب يوم القيامة ، وقال لاعداء الله ، اولياء الشيطان أهل التكذيب والانكار : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٢).

وبعد هذا فلنا أن نحتمل أنّ الله تعالى قد ألمح في قوله (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (٣) ، إلى ما تُلاقيه هذه المجموعة الصالحة من قربى الرسول من أمّته بعده.

فعن خالد بن عرفطة ، قال : قال رسول الله : إنكم ستُبتَلَون في أهل بيتي من بعدي (٤).

وقال الإمام الباقر : بَليةُ الناس علينا عظيمة ؛ إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا (٥).

__________________

(١) اُسد الغابة ٥ : ٣٦٧.

(٢) الكافي ٨ : ٣٧٩/ ح ٥٧٤ ، البرهان ٧ : ٧٩.

(٣) سورة الشورى الآية : ٢٣.

(٤) كنز العمال ١١ : ١٢٤/٣٠٨٧٧.

(٥) الارشاد ٢ : ١٦٧ ، مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٠٦ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢٨٨ ح ١١ عن الارشاد.

٣١٥

وجاء عن إبراهيم النظّام قوله : عليّ بن أبي طالب محنة على المتكلم ؛ إن وفى حقَّه غلا ، وإن بخسه حقّه أساء ، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن حادة الشأن صعبة الترقي إلاّ على الحاذق الدين (١).

وقال الشعبي : ما ندري ما نصنع بعليّ ؛ إن أحببناه افتقرنا ، وإن أبغضناه كفرنا (٢).

واشتهر عن محمّد بن إدريس الشافعي قوله : ماذا أقول في رجل أخفت أصدقاؤه فضائله خوفاً ، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً ، وشاع له من بين ذَين ما ملأ الخافقين (٣).

من هذا يتبيّن لنا أنّ آية المودة هي معنىً آخر لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٤) والأخيرة صر يحة في نزولها في حجة الوداع ويوم غدير خُمّ.

ولا يصحّ ما قالوه من أنّها نزلت في أوّل البعثة لمّا خاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من التبليغ ، فهدّده الله وطمأنه.

أو ما قالوه من أنّها نزلت في مكّة قبل الهجرة فاستغنى بها النبيّ عن حراسة عمّه أبي طالب.

أو ما قالوه من نزولها في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢١٥ باب في حساده.

(٢) المناقب للخوارزمي : ٣٥٠ الفصل ١٩ وعنه في بحار الأنوار ٢٩ : ٤٨١.

(٣) حلية الابرار ٢ : ١٣٦ (للبحراني) ، مشارق أنوار اليقين للبرسي : ١٧١ ، وقيل هي للخليل بن أحمد اللغوي الشهير كما جاء في ملحقات السيّد المرعشي على إحقاق الحق ٣ : ٤٠٦ ، ٤ : ٢. وقد نسب العلاّمة الحلي هذه المقولة لأحد الفضلاء دون ذكر اسمه انظر : كشف اليقين : ٤.

(٤) المائدة : ٦٧.

٣١٦

أحد.

لأن القول الأوّل يكذّبه كون السورة مدنية ؛ فلا يعقل أن يأتي خبرٌ كان في أوّل البعثة في آخر سورة من القرآن ، ولو صحّ ذلك القول وما يليه وأنّ الله كان قد عصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما معنى صلاة الخوف وما فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع الأعداء في السنوات الأخيرة من حياته الشر يفة؟

وأكثر من ذلك ، هو أنّ الرسول لو كان قد حُمِيَ هذه الحماية في بدء الدعوة واستغنى عن حماية أبي طالب ، فما معنى تلك النصوص الصادرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى القبائل والتي يطلب منهم أن يحموه؟ بل ما معنى هجرته من مكّة إلى المدينة المنوّرة؟

فالآية صر يحة في نزولها في آخر حياته الشر يفة ، وبعد حجة الوداع ، إذ لو كانت في بدء الدعوة فلا معنى لعبارة (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إذ لم ينزل إليه إلاّ الشيء اليسير ، وهذه الجملة تدلّ على الماضي الحقيقي وهو يتطابق مع نزولها في آخر حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخصوصاً حينما نرى توقّف أمر الرسالة عليه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)!

وعليه فالآيتان ـ آية التبليغ وآية المودّة ـ دالتان على شيء واحد مرتبط بأجر الرسالة وتبليغها ، وهما أمران مَولَويّان من الباري جل شانه (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) و (وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) ، وكلاهما يرتبط بأمر الولاية والخلافة الإلهية ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخاف من رجوع أمّته القهقرى ـ وهي كائنة لا محالة ـ وذلك لاجتماع قريش على العصبية والقبلية وسعيهم لإبعاد الإمام عليّ عن الخلافة وإمرة المؤمنين ؛ لأنّه وَتَر قر يشاً وكَسَر شوكتها وعظمتها.

٣١٧

على أنّك لو تأمّلت كلمات الأنبياء : قبل النبيّ محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله لرأيتهم يوقفون أجرهم على الله ، ففي سورة الشعراء حكاية عن قول نوح وهود وصالح ولوط وشعيب قولهم (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (١).

وقوله (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ ألاَّ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٢).

وقوله (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَّ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا اسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٣).

وقوله (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٤).

وقوله (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمينَ) (٥).

وهكذا نجد أنّ كلمات هؤلاء الأنبياء الكرام : كانت واحدة متطابقة تعبّر عن معنىً واحد محدّد معلوم ، هو أنّهم لم يطلبوا من الناس أجراً على الرسالة ، وإنّما أجرهم «على ربّ العالمين».

أما الرسول المصطفى فيقول (قُل لاَأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (٦)

__________________

(١) الشعراء : ١٠٩.

(٢) الشعراء : ١٢٧.

(٣) الشعراء : ١٤٥.

(٤) الشعراء : ١٦٤.

(٥) الشعراء : ١٨٠.

(٦) الانعام : ٩٠.

٣١٨

وقال تعالى (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين) (١).

وقال على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢) فما يعني ذلك ، وعلى أيّ شيء يدل؟

إن المقدمة السابقة قد تكون وضحت جواب هذا الأمر ، خصوصاً بعدما عرفت أنّ رسالة المصطفى هي الرسالة الخاتمة ، فلا يمكن إبقاء هذه الرسالة إِلاَّ بـ (ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين) و (مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) وهما القرآن والعترة ، وذلك لوجود نصوص كثيرة تشير إلى أنّ أهل البيت هم (الذكر) و (السبيل) إلى الله ، وهو ما اصطلح عليه في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالثقلين ، فيصير معنى الآية وكلام النبيّ لزوم اتّخاذ السبيل إلى الله وهم القربى ، وأنّ اتّخاذ هذا السبيل سيعود نفعه على الناس ، (عليكم). أمّا أجر رسول الله فهو على الله لقوله سبحانه في سورة سبا (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ) (٣). ومعنى الآية : أني قمت بواجبي ، وأدّيت ما علَيَّ ، ولا أسألكم عليه من أجر بعد المودّة إن أجري إلاّ على الله ، لكن لو أردتم الانتفاع من هذه الرسالة والنجاة فاتصلوا بالسبب الممدود بين الأرض والسماء وهو القرآن والعترة.

وبهذا فلا تناف بين قوله (لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وبين قوله (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ) (٤).

إنّ هذا لَيقترب بنا من فهم المعنى العميق لـ «حيّ على خير العمل» الذي نصّ

__________________

(١) يوسف : ١٠٤.

(٢) الفرقان : ٥٧.

(٣) سبأ : ٤٧.

(٤) للإمام الباقر توضح بهذا الصدد انظر : روضة الكافي ٨ : ٣٧٩.

٣١٩

عليه أهل البيت : الذين هم أعلم الناس بدين الله بما فازوا به من تطهير الله تعالى إيّاهم تطهيراً شاملاً ، في المعرفة والمعتقد ، وفي المواقف والعمل. وهذا المعنى الذي يتضمنه «حيّ على خير العمل» هو الولاية أو برّ فاطمة وولدها أو ما شابه ذلك ، لما اتّضح لك في الصفحات السابقة من أنّ الأذان هو بيان لاُصول العقيدة ، ولمّا كانت الولاية امتداداً للرسالة فلا غرابة في أن تكون أجر الرسالة ، خصوصاً مع ما نعرف من تأكيدات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أهل بيته وقرباه المنتجبين.

لقد أكّد رسول الله على العترة بدءًا من (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١).

ومروراً بحجة الوداع التي خطب فيها رسول الله خمس مرات ، وختماً بالكتاب الذي منعوه من كتابته في آخر حياته الشر يفة.

قال الحلبي في سيرته : «خطب النبيّ خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة ، والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر ، والرابعة يوم القرّ بمنى ، والخامسة يوم النَّفر الأوّل بمنى» (٢).

وقد روى مسلم وأحمد وغيرهما ـ خطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله عند مرجعه من حجة الوداع إلى المدينة ـ عن زيد بن أرقم ، قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً خطيباً بماء يُدعى خُمّاً بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثمّ قال : ألا أيّها الناس ، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب الله منه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال : وأهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي.

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤ ، وانظر : في تفسيرها كتب التفاسير والتواريخ اخبار أول البعثة.

(٢) السيرة الحلبية ٣ : ٣٣٣.

٣٢٠