الأذان بين الإصالة والتحريف

السيد علي الشهرستاني

الأذان بين الإصالة والتحريف

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8166-82-X
الصفحات: ٤٩٦

حدّثت عن النبي عليه‌السلام ، وأمّا معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال ، صغيراً ، ولم يحدّث عن النبيّ ... (١)

وقال ابن كثير : ... فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ، ولم يكن مستعظماً ، ولما بادرت قريش إلى تكذيبه ، ولما ارتدّت جماعة ممّن كان قد أسلم ، وأيضاً فإن «العبد» عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال : (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) ... (٢)

ويجري مجرى قوله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) ما في سورة النجم ، فقوله تعالى : (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (٣) لا يتّفق مع الرؤيا ، بل الآية في سياق الامتنان وبيان آيات ربّه الكبرى ، أمّا الرؤيا فهي نحو من التخيّل يتفق للصالح والطالح ولا منزلة للرسول في القول بهذا.

هذا ويمكن إجابة كلّ التساؤلات والتشكيكات بأنّ الأمر كان معجزةً ، والمعجزةُ لا تدركها العقول البسيطة ، فهي من قبيل إحياء الأموات ، وتبديل العصى ثعباناً ، وكولادة عيسى من غير أَب ، وخروج ناقة صالح من الجبل الاصم ، وقوله تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ

__________________

(١) المحرر الوجيز ٣ : ٤٣٥ ، وانظر : تفسير الثعالبي ٢ : ٢٤٨.

(٢) تفسير ابن كثير ٣ : ٢٣ سورة الإسراء آية ١.

(٣) النجم : ١٧ ـ ١٨.

٨١

ادْعُهُنَّ يَأْتِيَنَّكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١) ، وقوله تعالى : (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (٢) صريحٌ بإحضار (من عنده علم من الكتاب) لعرش بلقيس من اقصى اليمن إلى اقصى الشام في مقدار لمح البصر ، وهو يشبه ما قاله سبحانه عن الرياح وأنّها كانت تسير بسليمان (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) (٣) في لحظة واحدة ، إلى غيرها من عشرات بل مئات الموارد.

إذاً رسالة الإسلام هي رسالة الغيب والإيمان بما خلق الله من الجنِ والملك والروح و ... والمسلم هو الذي يسلم بالغيب ويؤمن به لقوله تعالى : (الذينَ يؤمنون بالغيب) (٤).

فلو كان معراج النبيّ محمّد في ليلة واحدة ممتنعاً لكان القول بنزول آدم من الجنّة وإصعاد عيسى إلى السماء ممتنعاً ، بل لسرى الشك في المعجزات لأنّها في أصلها خرقٌ للقوانين المادية.

وعليه فهذه الرؤية طرحت لبذر الشكّ في قلوب المؤمنين من قبل (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ) (٥) أو (الذينَ لا يؤمنون) (٦) في حين أنّ رسالة السماء معناها الغيب والماورائيات وهي تتفق مع الإسراء وما جاء فيه ، وهذا ما لا تدركه عقول هؤلاء من الامتحان الإلهيّ الذي سُنّ ليمحّص الله به المؤمنين ويميزهم عن الكافرين

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) النمل : ٤٠.

(٣) سبأ : ١٢.

(٤) البقرة : ٣.

(٥) المائدة : ٥٢ ، التوبة : ١٢٥ ، الأنفال : ٤٩.

(٦) النحل : ٢٢.

٨٢

والمنافقين.

هذا وقد أجاب العلاّمة الطباطبائي في (الميزان) عمّا قاله بعض المفسّرين من أنّ الشجرة الملعونة في القرآن تعني شجرة الزقّوم التي قال عنها الباري جلّ شأنه : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ) (١) ، بأنّ هذا الاحتمال بعيد جدّاً لأنّه جلّ شأنه لم يلعنها في موضع من القرآن الكريم ، ولو كان مجردّ كونها شجرةً تخرج من أصل الجحيم سبباً موجباً للعنها في القرآن الكريم لكانت النار وما أعدّ الله فيها من العذاب ملعونة وهذا ما لم يَقُله أحد ، ولكان ملائكةُ العذاب ـ الذين قال عنهم جل شأنه : (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) ـ ملعونين ، في حين نراه سبحانه قد أثنى عليهم بقوله : (عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (٣).

ولو صحّ هذا الاحتمال لكانت أيدي المؤمنين ملعونة كذلك ؛ لقوله : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ) (٤).

ومثله حال بقية المعاذير التي ذكرها مفسروا أهل السنة والجماعة للتخلّص من كيفية صحّة لعن الشجرة ، ومحاولتهم صرف الآية الكريمة عن لعن شجرة بني أميّة (٥).

وإنكّ لو تدبّرتَ في تفسير قوله تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً

__________________

(١) الصافّات : ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) المدّثر : ٣١.

(٣) التحريم : ٦.

(٤) التوبة : ١٤.

(٥) انظر : على سبيل المثال تفسير الميزان ١٣ : ١٤١ ـ ١٤٣ ففيه جواب تلك المعاذير المطروحة.

٨٣

لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) لعرفت أنّ المقصود منها بنو أميّةِ ؛ لما فعلوه من قبيح الأعمال ، ولا يصحّ ما قالوه بأنّ المعنيّ من الرؤيا هي الإسراء وغيرها من الأفكار الفاسدة.

وبهذا فقد عرفت أَنَّ جهلهم بالاُمور الغيبية ومكانة الرسول لم يكن عن قصور أو تقصير بَدْويَّينِ ، بل إنَّ جذوره ترجع إلى خلفيات هي أعمق ممّا قالوه بكثير.

مع الرسول ورؤياه

قال الالوسي في تفسير آية الرؤيا : ... وأخرج ابن جرير ، عن سهل بن سعد ، قال : «رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني أميّة يَنْزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتّى مات عليه الصلاة والسلام ، وأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا). وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب ، قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني أميّة على المنابر فساءه ذلك ، فأوحى الله إليه : إنّما هي دنيا أُعطُوها ، فقرّت عينه ، وذلك قوله تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا) ... الخ.

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن يعلى بن مرّة ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت بني أميّة على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء ، واهتمّ عليه الصلاة والسلام لذلك ، فأنزل الله سبحانه : (وَمَا جَعَلْنَا) ... الآية»

وأخرج عن ابن عمر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «رأيتُ ولد الحَكَم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة ، وأنزل الله تعالى في ذلك (وَمَا جَعَلْنَا) ... الخ ، والشجرة الملعونة الحكم وولده» وفي عبارة بعض المفسرين : هي بنو أميّة.

وأخرج ابن مردويه ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنّها قالت لمروان بن

٨٤

الحكم : «سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لأبيك وجدّك : إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن».

فعلى هذا معنى إحاطته تعالى بالناس إحاطة أقداره بهم ، والكلام على ما قيل على حذف مضاف ، أي «وما جعلنا تعبير الرؤيا» أو الرؤيا فيه مجاز عن تعبيرها ، ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبراً ، وبذلك فسره ابن المسيب.

وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا ، وعدلوا عن سنن الحقّ وما عدلوا ، وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ، ممن كان عندهم عاملاً وللخبائث عاملاً ، أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان.

ويحتمل أن يكون المراد «ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلاّ فتنة» ، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه. وجعل ضمير (وَنُخَوِّفُهُمْ) على هذا لما كان له أوّلاً ، أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أميّة ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة ، والفروج المحصنة ، وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها ، وتبديل الأحكام ، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام ، إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تُنسى ما دامت الليالي والأيام.

وجاء لعنهم في القرآن ، إما على الخصوص كما زعمته الشيعة ، أو على العموم كما نقول ، فقد قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) وقال عزّوجلّ : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) إلى آيات أخر ، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوّليّاً (١) ، انتهى موضع

__________________

(١) تفسير روح المعاني ١٥ : ١٠٧ ـ ١٠٨ ، هذا ومن المفيد الرجوع إلى التفسير الكبير للرازي

٨٥

الحاجة من كلام الآلوسي.

وقال القرطبي في تفسيره : «فنزلت الآية مخبرة أنّ ذلك من تملّكهم وصعودهم [أي نَزْوِهِم على منبره نزو القردة] يجعلها الله فتنة للناس وامتحاناً ، وقرأ الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين). قال ابن عطية : وفي هذا التأويل نظر ، ولا يدخل في هذه الرؤيا ، عثمان ، ولا عمر بن عبدالعزيز ، ولا معاوية» (١).

وعليه فلا يصحّ ما قالوه من تكلّفات في كلمة الرؤيا والشجرة الملعونة في الآية ، مع وضوح أنّ الملعونين في القرآن هم جند إبليس واليهود ، والمشركون ، والمنافقون ، والذين ماتوا وهم كفار ، والذين يكتمون ما أنزل الله ، والذين يؤذون الله ورسوله وغيرها لا شجرة الزقوم ولا غيرها من التأويلات التي صيغت بأخرة لإبعاد الآية الكريمة عن معناها الحقيقي (٢).

__________________

٢٠ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧ لملاحظة سائر الأقوال في الآية المباركة.

(١) تفسير القرطبي ١٠ : ٢٨٣ سورة الاسراء.

(٢) وللتاكيد انظر : كتاب المأمون العبّاسي في تاريخ الطبري ١٠ : ٥٧ ـ ٥٨ حتى تقف على الفهم السائد في القرون الأولى بالنسبة للشجرة الملعونة وأنّها تعني بني أميّه وأن أهل البيت هم العترة ـ والكتاب طو يل نأخذ من قوله ـ : ... فجعلهم الله أهل بيت الرحمة وأهل بيت الدين ، أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا ، ومعدن الحكمة ، وورثة النبوة ، وموضع الخلافة ، وأوجب لهم الفضيلة ، وألزم العباد لهم الطاعة ، وكان ممن عانده ونابذه وكذّبه وحاربه من عشيرته العدد الأكثر ، والسواد الأعظم ، يتلقّونه بالتكذيب والتثريب ، ويقصدونه بالأذيّة والتخو يف ، ويبادونه بالعداوة ، وينصبون له المحاربة ، ويصدّون عنه من قصده ، وينالون بالتعذيب مَن اتّبعه ، وأشدّهم في ذاك عداوة وأعظمهم له مخالفة ، وأوّلهم في كلّ حرب ومناصبة ، لا يرفع على الإسلام راية إلاّ كان صاحبها وقائدها ورئيسها في كلّ مواطن الحرب من بدر ، وأحد ، والخندق ، والفتح : أبو سفيان بن حرب ، وأشياعه من بني أميّة الملعونين في

٨٦

المجتهدون الأوائل ودورهم في التشريع :

أبانت دراساتنا السابقة عن (وضوء النبيّ) و (منع تدوين الحديث) و (تاريخ الحديث النبوي الشريف) (١) بروز نهجين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان موجودين في حياته :

أحدهما : يتّخذ المواقف من خلال الأصول ، ويتّبع القرآن والسنّة ، ولا يرتضي الرأي والاجتهاد مع وجود النصّ.

والآخر : يتّخذ الأصول من خلال مواقف الصحابة وإن خالفت النصوص ، فهؤلاء يشرّعون الرأي ويأخذون به مقابل النص ، ويتعاملون مع رسول الله كأنّه بشر غير كامل يصيب ويخطئ ويسبّ ويلعن ثمّ يطلب المغفرة للملعونين (٢) ، أو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خفي عليه أمر الوحي حتّى أخبره ورقة بن نوفل بذلك! وهذا يخالف ما ثبت من أنّ خاتم النبوة كان مكتوباً على كتفه.

__________________

كتاب الله ، ثمّ الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدّة مواضع ؛ لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم ، ونفاقهم ، وكفر أحلامهم ، فحارب مجاهداً ، ودافع مكابداً ، وأقام منابذاً حتّى قهره السيف ، وعلا أمر الله وهم كارهون ، فتقوَّل بالإسلام غير منطو عليه ، وأسرَّ الكفر غير مقلع عنه ، فعرفه بذلك رسول الله والمسلمون وميّز له المؤلفة قلوبهم فقبله ، وولده على علم منه ، ممّا لعنهم الله به على لسان نبيه وأنزل به كتاباً قوله : (والشجرةَ الملعونَة في القرانِ ونُخوّفهم فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيرا) ولا اختلاف بين أحد أنّه أراد بها بني أميّة ، ومنه قول الرسول عليه‌السلام وقد رآه مقبلاً على حمار ، ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به : لعن الله القائد ، والراكب ، والسائق ...

(١) طبع سابقا في مجلة تراثنا (الأعداد ٥٣ ـ ٦٠) تحت عنوان (السنّة بعد الرسول).

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٤٣٥ / كتاب الدعوات ، باب ٧٣٦ ، ح ١٢٣٠ سورة الإسراء ، مسند أحمد ٢ : ٣١٦ ـ ٣١٧ ، ٤١٩ ، وج ٣ : ٤٠.

٨٧

وبين هؤلاء من رفع صوته ـ في ممارساته اليومية ـ فوق صوت النبيّ ، واعترض على رسول الله في أعماله (١) ، وتعرّف المصلحة وهو بحضرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتنزّه في أمر رخّص فيه ، أو تزهّد في أمر نهى عنه.

فجاء في كتاب الآداب من صحيح البخاري أنّ النبيّ رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس ، فبلغ النبيّ فغضب ثمّ قال : ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إنّي لأعلمُهم وأشدّهم خشية (٢).

وفي خبر آخر : أُخبر رسول الله أنّ عبدالله بن عمرو بن العاص يقول : والله لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ، فقال له رسول الله : أنت الذي تقول : «لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت»؟!

قال : قد قلت ذلك يا رسول الله.

فقال رسول الله : إنّك لا تستطيع ذلك فصُمْ وأفطرِ ، ونَم وقُم ، وصُم من الشهر ثلاثة أيّام ، فإنّ الحسنة بعشر أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر.

قال ، قلت : إنّي أُطيق أفضلَ من ذلك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فصم يوماً وأفطِر يومين.

قال : قلت : إنّي أطيق أفضل من ذلك.

فقال : قال : فَصُم يوماً وأفطِر يوماً ، فذلك صيام داود عليه‌السلام وهو أفضل الصيام.

__________________

(١) كاعتراض عمر بن الخطاب على رسول الله لمّا أراد أن يصلّي على المنافق ، وقوله له : أتصلّي عليه وهو منافق؟! وإنكاره على رسول الله فعله في أخذ الفداء من أسرى بدر وغيرها. انظر : صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب فضائل عمر.

(٢) انظر : صحيح البخاري ٨ : ٣٥٣ كتاب الأدب ، باب من لم يواجه الناس بالعتاب ، ح ٩٧٩.

٨٨

فقلت : أطيق أفضل من ذلك.

فقال النبيّ : لا أفضل من ذلك (١).

إن مثل هذا التحكيم للرأي الشخصي في مقابل قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل في طياته مخاطر عديدة ، ويفتح مسارات للتحريف والتبديل ، ومن شأنه أن يحول الدين الالهي إلى دين مشوب بآراء الناس ووجهات نظرهم الشخصية ، وهو يجرّ من ثمّ إلى تجزئ الدين والى النزعة التلفيقية في الشريعة ، ومن هنا ظهرت في الصدر الأوّل وما بعده الأحكام المبتدعة والأهواء المتّبعة التي ليست من دين الله في شيء ، ولا تمت إلى الحياة الإسلامية النزيهة بصلة ، وهو الذي كان رسول الله يتخوف على اُمته منه. وقد صرّح الإمام عليّ في خطبة له بأنّه لو أتيحت له الفرصة لأرجع بعض الأُمور إلى أصلها ، فقال : (... وإنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، يتولّى فيها رجالٌ رجالاً ... إلى أن يقول : .. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ، ورددت صاع رسول الله كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد (٢) ، ورددت قضايا من الجور قضي بها (٣) ، ونزعت نساء تحت رجال بغير حقّ فرددتهن إلى أزواجهن (٤) واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام ، وسبيت

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ٣ : ٩١ كتاب الصوم ، باب صوم الدهر ، ح ٢٣٣.

(٢) كأنّهم غصبوها وأدخلوها في المسجد.

(٣) كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الإرث وسواهما.

(٤) كمن طلّق زوجته بغير شهود وعلى غير طهر ، وقد يكون فيه إشارة إلى قوله بعد بيعته : ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به. إلخ ، وانظر : نهج البلاغة ١ : ٤٢ خ ١٤.

٨٩

ذراري بني تغلب (١) ، ورددت ما قسّم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا (٢) ، وأعطيت كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي بالسويّة ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء. وألقيت المساحة (٣) ، وسوّيت بين المناكح (٤) ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل عزّوجلّ وفرضه (٥) ، ورددت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما كان عليه (٦) ، وسددت ما فُتح فيه من الأبواب (٧) ، وفتحت ما سُدّ منه ، وحرّمت المسح على الخفين (٨) ، وحَدَدت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المُتعتيَن (٩) ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات (١٠) ، وألزمتُ الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (١١) ،

__________________

(١) لأنّ عمر رفع الجزية عنهم فهم ليسوا بأهل ذمّة ، فيحلّ سبي ذراريهم ، قال محيي السنّة البغويّ : روي أنّ عمر بن الخطّاب رام نصارى العرب على الجزية ، فقالوا : نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم ، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض ، بعنوان الصدقة. فقال عمر : هذا فرض الله على المسلمين. قالوا : فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجز ية ، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة.

(٢) إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من وضعه الخراج على أرباب الزراعة والصناعة والتجارة لأهل العلم والولاة والجند ، بمنزلة الزكاة المفروضة ، ودوّن دواوين فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء.

(٣) راجع تفصيل هذا الأمر في كتاب الشافي للسيّد المرتضى.

(٤) ربّما كان إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من منع غير القرشيّ الزواج من القرشيّة ، ومنعه العجم من التزوّج من العرب.

(٥) إشارة إلى منع عمر أهل البيت خُمسَهم.

(٦) يعني أخرجت منه ما زاده عليه غصباً.

(٧) إشارة إلى ما نزل به جبرئيل من الله تعالى بسدّ الأبواب المفضية إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ باب عليّ.

(٨) إشارة إلى ما أجازه عمر في المسح على الخفّين ، ومخالفة عائشة وابن عبّاس وعليّ وغيرهم له في هذا الصدد.

(٩) يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.

(١٠) لِما كبّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خمساً في رواية حذيفة وزيد بن أرقم وغيرهما.

(١١) والجهر بالبسملة ممّا ثبت قطعاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاتهِ ، وروى الصحابة في ذلك آثاراً صحيحة مستفيضة متظافرة.

٩٠

وأخرجت من أُدخل بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجده ممّن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخرجه ، وأدخلت من أُخرج بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أدخله (١) ، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة (٢) ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها (٣) ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها (٤) ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم (٥) ، ورددت سبايا فارس وسائر الأُمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .. إذن لتفرّقوا عنّي (٦).

وقد أعلن الأئمّة من آل البيت أنهم كانوا يتبعون النصوص ولا يرتضون الرأي ..

فعن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال لجابر : والله يا جابر لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نُفتيهم بآثار من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُصول علم عندنا ، نتوارثها كابراً عن كابر ، نَكنِزُها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم (٧).

__________________

(١) يحتمل أن يكون المراد إشارة إلى الصحابة المخالفين الذين أُخرجوا بعد رسول الله من المسجد في حين كانوا مقرّبين عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا إنّه عليه‌السلام يخرج من أخرجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كالحكم بن العاص وغيره.

(٢) ينظر عليه‌السلام إلى الاجتهادات المخالفة للقرآن وما قالوه في الطلاق ثلاثاً.

(٣) أي من أجناسها التسعة ، وهي : الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والغنم والبقر.

(٤) وذلك لمخالفتهم هذه الأحكام. وقد أوضّحنا حكم الوضوء منه في كتابنا (وضوء النبيّ) فراجع ، نأمل أن نوفّق في الكتابة عن الغسل والصلاة وغيرها من الأحكام الشرعية التي أشار الإمام علي بن أبي طالب إلى التحريف والابتداع فيها إنّ شاء الله تعالى.

(٥) وهم الذين أجلاهم عمر عن مواطنهم.

(٦) الكافي ٨ : ٥٨ ، الروضة ح ٢١.

(٧) بصائر الدرجات : ٣٠٠ ح ٤ والنص عنه ، و ٢٩٩ ح ١.

٩١

وسأل رجلُ الإمام الصادق عليه‌السلام عن مسألة فأجابه فيها ، فقال الرجل : أرأيتَ إن كان كذا وكذا ، ما يكون القول فيها؟

فقال له : مَه! ما أجبتك فيه شيء فهو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لسنا من «أرأيت» في شيء (١).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : ما أحدٌ أكذب على الله وعلى رسوله ممّن كذّبنا أهلَ البيت أو كذب علينا ؛ لأنّا إنّما نحدِّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الله. فإذا كُذّبنا فقد كُذّب الله ورسوله (٢).

وقال : لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا ، ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه فبيّنها لنا (٣).

وعن أبي بصير ، قال : قلت للصادق : تَرد علينا أشياءُ ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّة ، فننظر فيها؟ قال : لا ، أما إنّك إن أصبتَ لم تُؤجَر ، وإن أخطأتَ كذبتَ على الله عزّ وجلّ (٤).

نعم ، إنّ نهج الاجتهاد كان له دعاة وأتباع استمدّوا جذورهم من مصدر غير التعبد والتسليم ، وهو أقرب إلى ما عرفوه في الجاهلية ممّا عرفوه في الإسلام وكان لهؤلاء وجود ملحوظ أيضاً في صدر الإسلام ، فقد اقترح بعض المشركين على رسول الله أن يبدل بعض الأحكام الشرعية وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : (مَايَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) (٥).

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨. كتاب فضل العلم باب البدع والرأي والمقاييس ح ٢١.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ١ : ١٨١. باب حجيّة فتوى الأئمّة المعصومين ، ح ١١٤.

(٣) بصائر الدرجات : ٢٩٩ ح ٢ وانظر : ٣٠١ ح ١.

(٤) الكافي ١ : ٥٦. كتاب فضل العلم باب البدع والرأي ح ١١.

(٥) يونس : ١٥.

٩٢

وقد أثبتنا سابقاً أنّ عمر بن الخطّاب كان من المجتهدين الأوائل الذين تعرّفوا المصلحة وهم بحضرة الرسول المصطفى ، فأنكر عليه أخذَه الفداءَ من أسارى بدر (١) ، واعترض عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته على المنافق (٢) ، وواجه النبيَّ بلسان حادّ في صلح الحديبية (٣) ، وطالب النبيَّ أن يزداد علماً إلى علمه وأن يستفيد من مكتوبات اليهود في الشريعة (٤) وقال لرسول الله في مرض موته : (إنه لَيَهجُر) أو غَلَبه الوجع (٥)!

المجتهدون الاوائل والأذان!

والآن لنرى موقف عمر بن الخطاب وموقف غيره من المجتهدين في الأذان ، وهل لهؤلاء دور في هذا التغيير ، أم تقع تبعات التحريف على اللاحقين من بني أميّة وبني العبّاس؟ وغيرهم من المتأخّرين حسب تعبير الصنعاني (٦).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ١١ ـ ١٢ : ١٢ / ٨٢ ، باب نكت من كلام عمر وسيرته وأخلاقه.

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١٨٦٥ كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عمر ح ٢٥ و ٤ : ٢١٤١ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ح ٣.

(٣) صحيح البخاري ٤ / ٣٨١ كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة ، ح ٩٣٢.

(٤) المصنّف لعبد الرزاق ١٠ : ٣١٣ كتاب أهل الكتابين ، باب هل يسأل أهل اليهود بشيء / ح ١٩٢١٣ ، مجمع الزوائد ١ : ١٧٤ باب ليس لاحد قول مع رسول الله صلى الله عليه وآله.

(٥) صحيح البخاري ١ : ١١٩/١٢٠ كتاب العلم ، باب ٨٢ ، ح ١١٢ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ ، ١٢٥٩ ، كتاب الوصية باب ترك الوصية ...

(٦) انظر : كلامه المتقدم في صفحه ٢٣ من هذه الدراسة. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم وبعد أن اتى بخبر عبدالله بن زيد قال : ... فيكون الواقع الاعلام اولاً ثمّ راى عبدالله بن زيد الأذان فشرعه النبيّ بعد ذلك اما بوحي واما باجتهاده صلى‌الله‌عليه‌وآله على مذهب الجمهور في جواز

٩٣

إنّ النّصوص السابقة أوقفتنا على وجود اتّجاه في الصحابة وموقف من الأذان يقترح على الرسول أن يتّخذ ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، أو بُوقاً مثل بوق اليهود ، فيستاء رسول الله من هذا ويغتمّ لاقتراحات هذا الاتجّاه من الصحابة الذين وصل الأمر بهم إلى أن يقترحوا على الرسول المصطفى إدخال بعض أحكام وأفكار شريعتي موسى أو عيسى المحرَّفتين في منهج الإسلام ، وكأنّ أطروحة الإسلام غير قادرة على أن تفي بالأعباء ؛ فقد رووا عن عمر أنّه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «يا رسول الله إنّي مررتُ بأخ لي من يهود فكتب لي جوامع من التوراة ، أفلا أعرضها عليك؟ فتغيّر وجه رسول الله.

فقال عمر : رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمّد رسولاً ، فسُرّي عن النبيّ ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي نفسي بيده ، لو أصبح فيكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنّكم حظّي من الأمم وأنا حظّكم من النبيّين» (١).

فهؤلاء المجتهدون في الصدر الأوّل كانوا يتعاملون مع الأحكام وفق ما عرفوه من الشرائع السابقة ، وكانوا يتصورون بأنّ الأمر بيدهم يفعلون ما يشاؤون ، فكانوا هم الذين اقترحوا على رسول الله البوق ، الناقوس «فنقسوا أو كادوا أن ينقسوا» حتّى رأى عبدالله بن زيد أو غيره في المنام ....

إذاً فكرة كون تشريع الأذان كان بـ «رؤيا» جاءت من قبل الصحابة المجتهدين ، ثمّ تطوّرت حتّى وصل بها الأمر إلى ما وصل لاحقاً ، وهذا ما يجب

__________________

الاجتهاد الاجتهاد له صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس هو عملاً بمجرد اتمام هذا ما لا يشك فيه بلا خلاف والله اعلم.

(١) المصنّف لعبدالرزّاق ١٠ : ٣١٣ رقم ١٩٢١٣ ، مجمع الزوائد ١ : ١٧٤ وفيه : يا رسول الله ، جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زُرَيق ، فتغيّر وجه رسول الله ...

٩٤

الوقوف عليه في مطاوي بحوثنا ..

إذ جاء عن كثير بن مرة الحضرمي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أوّل من أذّن في السماء جبرئيل عليه‌السلام ، قال : فسمعه عمر وبلال ، فأقبل عمر فأخبر النبيّ بما سمع ، ثمّ أقبل بلال فأخبر النبيّ بما سمع ، فقال له رسول الله : سبقك عمر يا بلال ....

أو قول ابن عمر : إنّ بلالاً كان يقول أوّل ما أذّن : «أشهد أن لا إله إلاّ الله ، حيّ على الصلاة» ، فقال له عمر : قل في أثرها «أشهد أنّ محمّداً رسول الله» ...

نعم إنّهم رفعوا بضبع الصحابة الحالمين الرائين للأذان إلى مرتبة النبوة والمعاينة الحقيقيّة حتّى قال عبدالله : «يا رسول الله ، إنّي لَبينَ يقظان ونائم» ، وفي آخر : «لقلت : إني كنت يقظاناً غير نائم» ، وبعكس ذلك نراهم يحطّون من منزلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المعاينة الحقيقية في المعراج ـ (ثُمّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْأَدْنَى) ـ إلى مرتبة التشكيك ، مستخدمين العبارة نفسها «بين النائم واليقظان» ، ورووا ذلك في الصحيح!!

ففي صحيح مسلم بسنده عن قتادة ، عن أنس بن مالك ـ لعله قال : عن مالك بن صعصعة (رجل من قومه) ، قال ـ قال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ....

ثمّ أتيت بدابة أبيض يقال له البُراق فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه عند أقصى طرفه ، فحُمِلتُ عليه ، ثمّ انطلقنا حتّى أتَينا السماء الدنيا .... ثمّ سرد قصة المعراج (١).

__________________

(١) صحيح مسلم ١ : ١٥٠ ، باب الإسراء من كتاب الإيمان ـ ح ٢٦٤. وانظر : مثله في صحيح البخاري ٤ : ٥٤٩ ، كتاب بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم ، ح ١٣٧١.

٩٥

بل في رواية شريك في حديثه عن أنس التصريح بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان نائماً. قال : «وهو نائم بالمسجد الحرام» وذكر القصة الواردة ليلة الإسراء ، ثمّ قال في آخرها : «استيقظت» ـ أي انتبهت ـ من منامي وأنا في المسجد الحرام (١).

قال الصالحي الشامي : وهذا المذهب يعزى إلى معاوية بن أبي سفيان ... ويُعزى أيضاً إلى عائشة (٢).

بل صرّح إمام الشافعية القاضي أبو العبّاس بن سريج بوضع هذا الحديث على عائشة فقال : هذا حديث لا يصحّ وإنّما وُضِعَ ردّاً للحديث الصحيح (٣).

ترى من هو الواضع؟

وما هو غرضه من التحر يف في مقابل ما هو أصيل؟

ولماذا جَحْدُ منزلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومحاولة جعل القضية مناماً عاديّاً؟

ولماذا يختص ذلك بمعاوية وعائشة؟!

وهل يكمن في ذلك إنكارٌ مُبَطَّن لرؤيا النبيّ بني أميّة ـ أو تيماً وعديّاً ـ يردون الناس عن الإسلام القهقرى؟! (٤) إذ ليس في الرؤيا المناميّة كبير أمر ولا كثير طائل ، وإذا كان المعراج رؤيا فلماذا لم يَرَها الآخرون كما رأى الأذان سبعة أو أربعة عشر أو عشرون شخصاً؟! لكي لا يكذّب المشركون النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لكي لا يرتدّ من

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ٣ : ٦٩ والنص عنه. وانظر : رواية شريك في صحيح البخاري ٩ : ٨٢٤ ـ ٨٢٦ / كتاب التوحيد / باب قوله (وكلم الله موسى تكليماً) / ح ٢٣١٦ ، وانظر : صحيح مسلم ١ : ١٤٨ ح ٢٦٢ / كتاب الإيمان ـ باب الاسراء برسول الله.

(٢) سبل الهدى والرشاد ٣ : ٦٩.

(٣) سبل الهدى والرشاد ٣ : ٧٠ ، نقلاً عن المعارج الصغير لابن الخطاب بن دحية.

(٤) الكافي ٨ : ٣٤٣ ـ ٣٤٥ باب رؤيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٩٦

أسلم من المسلمين؟ ألم يقولوا مثل هذا التعليل في سرّ رؤى الصحابة للأذان؟!

فهذه النصوص ترفع هؤلاء إلى السماء وتجعلهم قرب الوحي ، وتحاول إنزال مقامات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المعراج إلى حدّ الرؤيا العادية ، فنحن لو لحظنا دور المجتهدين في الشريعة ووقفنا على اجتهادات الصحابة واقتراحاتهم على رسول الله في الأذان وغيرها ، وعرفنا الدواعي التي دفعت بعمر بن الخطّاب أن يرفع (حيّ على خير العمل) أو يضع (الصلاة خير من النوم) في الأذان لآمَنَّا بأن الشرارة الأولى لهذا التحريف جاءت من قبل هذا القسم من الصحابة ، وأن فكرة كون الأذان رؤيا تتّفق مع فكر هذا الصنف لا المتعبّدين ، وذلك لاجتهادهم وعدم تعبّدهم بالنصوص. ونظرة هؤلاء تختلف عن نظرة أهل البيت إلى الشريعة والإسراء والمعراج وغيرها.

الأمويّون والأذان

لقد تطوّرت فكرة الرؤيا وما جاء في تشريع الأذان في العهد الأموي وتأطّرت بإطارها الخاص ؛ إذ لو جمعنا القرائن والشواهد لعرفنا بأن معاوية ومن بعده هم الذين تبنوا هذه الفكرة وأنّهم كانوا قد سعوا لتثقيف الناس حسبما يريدونه ، وهذا ما نلاحظه في نصوص الأذان بعد الإمام عليّ ، إذ لم يشر عليّ عليه‌السلام إلى هذا التضاد في الأذان في ما رواه عن النبيّ ، بل لم يردنا خبرٌ صريحٌ في تكذيب الروايات المدّعية لثبوت تشريع الأذان بالرؤيا قبل الإمام الحسن بن عليّ عليه‌السلام.

فأوّل ما تطالعنا النصوص بهذا الصدد هو كلام سفيان بن الليل حينما قدم على الإمام الحسن بعد الصلح ، قال : فتذاكرنا عنده الأذان فقال بعضنا : إنّما كان بدء

٩٧

الأذان برؤيا عبدالله بن زيد.

فقال له الحسن بن عليّ : إنّ شأن الأذان أعظم من ذلك ، أذَّن جبرئيل ..

وهذا يرشدنا إلى تذاكر المسلمين في أمر الأذان بعد الصلح لقوله (لما كان من أمر الحسن بن عليّ ومعاوية ما كان قدمت المدينة وهو جالس في أصحابه).

فبعضهم في هذا الخبر يقول : (إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبدالله) ، لكنّ الإمام الحسن صحّح رؤيتهم الخاطئة قائلاً : إن شأن الأذان أعظم من ذلك.

ونحن لو واصلنا السير التاريخي وانتقلنا من خبر الإمام الحسن إلى ما جاء عن الإمام الحسين وأنه سئل عمّا يقول الناس؟ فقال عليه‌السلام : «الوحي ينزل على نبيكم ، وتزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبدالله بن زيد» ؛ لعرفنا استمرار هذا النزاع بين الناس وأهل البيت في كيفية نشوء وبدء تشريع الأذان.

وقد مر عليك كلام أبي العلاء سابقاً حيث قال : قلت لمحمّد بن الحنفية : إنا لنتحدث أنّ بدء الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الانصار في منامه.

قال : ففزع لذلك محمّد ابن الحنفية فزعاً شديداً وقال : عمدتم إلى ما هو الاصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنّه إنّما كان رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه يحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام.

قال : فقلت : هذا الحديث قد استفاض في الناس؟

قال : هذا والله هو الباطل ...

فبدءُ النزاع العلني وانتشاره كان في زمن معاوية بعد صلح الإمام الحسن ، وفزعُ محمّد بن الحنفية الفزع الشديد ، وإخبارهم إياه باستفاضة هذا الحديث ، ليدلاّن على أنّ وضع تلك الأحاديث الأذانية أو بدء انتشارها كان في زمان معاوية

٩٨

بن أبي سفيان ، الّذي كان حسّاساً إلى درجة كبيرة من ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ كيف يُقرنُ اسم بشر «محمد» باسم ربّ العالمين «الله»؟! (١) مع أنّ كلّ الأنبياء الذين جاؤوا بشرائع سابقة لم يقرن اسم أحدهم باسم رب العزة في إعلامهم للطقوس الدينية ، بل كان الناقوس والبوق والشبّور.

إذن لم يكن معنىً ـ بنظر معاوية ـ لمقارنة اسم النبيّ لاسم الربّ في السماء وفي المعراج ، بل يكفي بذلك أن يكون مناماً ، أو اقتراحاً من عمر ، أو ....

وعلى ذلك فلا ضير إذن في الزيادة أو الحذف في الأذان ، فلَكَ أن تحذف «حيّ على خير العمل» كما فعل عمر وتضع موضعها «الصلاة خير من النوم» ، ولك أن تفرد الإقامة ولا تثنّيها «لحاجة لَهُمْ» ، ولك أن تزيد النداء الثالث يوم الجمعة ، ووو ... إلى آخر هذه الاجتهادات ، إن كان لها آخِر.

ومن هذا الباب كان معاوية أوّل من أفشى مقولة التثويب الثاني ، وهي دعوة المؤذّنُ للخليفة أو الأمير ـ لكثرة مشاغله ـ إلى الصلاة بقوله «السلام على أمير المؤمنين ، الصلاة الصلاة رحمك الله» ، وسار المغيرة بن شعبة على نهج معاوية في هذا أيضاً ، بل قيل إنّه أوّل من فعل ذلك.

ولكن صرّح الأعلام بأنّ معاوية كان أوّل من أحدث هذا ، وتبعه المغيرة بن شعبة ومَن حذا حذوه (٢).

فشاع الأمر واستفاض ، وصار كأنّه حقيقة لا مناص عن الإذعان لها ـ مع أنّ الحقيقة الإسلامية هي شيء آخر ـ وراحت أصداء هذا الحدث الأذاني تمتد وتمتد إلى

__________________

(١) سيأتي خبر معاوية لاحقاً في صفحة ١٠٦ ـ ١٠٨.

(٢) انظر : الوسائل إلى معرفة الاوائل ، للسيوطي : ٢٦.

٩٩

العصر العباسي ، ومنه وصلت إلى يومنا الحاضر.

روى عبد الصمد بن بشير ، قال : ذُكر عند أبي عبد الله [الصادق] بدء الأذان فقيل : إنّ رجلاً من الأنصار رأى في منامه الأذان ، فقصه على رسول الله فأمره رسول الله أن يعلّمه بلالاً ، فقال أبو عبدالله : كذبوا ، إنّ رسول الله كان نائماً في ظلّ الكعبة فأتاه جبرئيل ومعه طاس فيه ماء من الجنَّة (١) ....

ولو تدبرنا في هذه النصوص وما جاء في تاريخ بني أميّة لعرفنا إمكان تطابق هذه الرؤية مع ما يحملون من أفكار أكثر من غيرهم ، خصوصاً بعد أن وقفنا على تاريخ النزاع وأنّه بدأ في عهدهم ، وإنّك لو تتّبعّت مجريات الأحداث لعرفت تضاد بني أميّة مع رسالة الإسلام وعدم تطابق مفاهيمهم مع مفاهيم الوحي ورسول الله ، وأنّهم كانوا على طرفي نقيض مع بني هاشم في الجاهلية وفي الإسلام ، إذ التزم بنو أميّة جانب المشركين أمام بني هاشم الذين لم يفارقوا الرسول في جاهلية ولا إسلام.

فقد قال رسول الله عن بني هاشم : «أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام ، وإنّما نحن وهم شيء واحد» وشبك بين أصابعه. (٢)

نعم كان الأمر كذلك ، فرسول الله كان لا يرتضيهم ، وهُم لم يدخلوا الإسلام إلاّ مكرهين.

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ١٥٧ ، ح ٥٣٠.

(٢) سنن أبي داود ٣ : ١٤٦ كتاب الخراج والامارة و .. ، باب في بيان مواضع قسم الخمس .. ، ح ٢٩٨٠ ، وانظر : سنن النسائي ٧ : ١٣١ كتاب قسم الفيء.

١٠٠