الأذان بين الإصالة والتحريف

السيد علي الشهرستاني

الأذان بين الإصالة والتحريف

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8166-82-X
الصفحات: ٤٩٦

العبيدية ؛ لأنّه كان سنياً كأبيه ، لكنّه أظهر التمسّك بالإمام المنتظر وأبطل من الأذان «حيّ على خير العمل» وغيّر قواعد القوم ، فأبغضه الدعاة والقوّاد وعملوا عليه ، فركب للعب الكرة في المحرم فوثبوا عليه وطعنه مملوك الحافظ بحربة .. (١).

حلب (سنة ٥٤٣ هـ)

جاء في (زبدة الحلب من تاريخ حلب) : ... وشرع نور الدين (٢) في تجديد المدارس والرباطات بحلب ، وجلب أهل العلم والفقهاء إليها ، فجدّد المدرسة المعروفة بالحلاويين في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، واستدعى برهان الدين عليّ بن الحسن البلخي الحنفي وولاّه تدريسها ، فغيّر الأذان بحلب ، ومنع المؤذنين من قولهم «حيّ على خير العمل» ، وجلس تحت المنارة ومعه الفقهاء وقال لهم : من لم يؤذن الأذان المشروع فألقوه من المنارة على رأسه ، فأذنّوا الأذان المشروع واستمر الأمر من ذلك اليوم ... (٣)

قال الذهبي في سيرأعلام النبلاء (٤) في ترجمة عليّ بن الحسن بن محمّد أبي الحسن الحنفي الفقيه : سمع بما وراء النهر وتنتسب إليه المدرسة البلخية ويلقب بالبرهان ، وهو الذي أبطل من حلب الأذان بـ «حيّ على خير العمل» ، مات سنة ٥٤٨.

وكان المقدسي قد نوه عن إبطال الأذان بـ «حيّ على خير العمل» ، بقوله : ورد

__________________

(١) مرآة الجنان وعبرة اليقظان ٣ : ٢٥١.

(٢) هو نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكي بن آقسنقر ، المولود سنة ٥١١ هـ ، وكان حنفي المذهب داعية إلى مذهبه ، وهو مؤسس الدولة النورية في الشام.

(٣) زبدة الحلب في تاريخ حلب لابن العديم ٢ : ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

(٤) سير أعلام النبلاء ٢٠ : ٢٧٦.

٤٠١

الخبر من ناحية حلب بأنّ صاحبها نور الدين بن أتابك أمر بإبطال «حيّ على خير العمل» في أواخر تأذين الغداة والتظاهر بسب الصحابة وأنكر ذلك إنكاراً شديداً ، وساعده على ذلك جماعة من السنة بحلب ، وعظم هذا الأمر على الإسماعيلية وأهل التَّشَيُّع .. (١)

وفي (العبر في خبر من غبر) ، قال : أبو الحسن البلخي عليّ بن الحسن الحنفي ... وكان يلقّب برهان الدين ... وهو الذي قام في إبطال «حيّ على خير العمل» من حلب (٢).

وجاء في (البداية والنهاية) لابن كثير : افتتح نور الدين أبو القاسم التركي السلجوقي وكان حنفي المذهب .. وأظهر السنّة وأمات البدعة ، وأمر بالتأذين بـ «حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح» ، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجدّه وإنّما كان يؤذن بـ «حيّ على خير العمل» لأن شعار الرفض كان ظاهراً بها (٣).

وفي (النجوم الزاهرة) (٤) وكتاب الروضتين في أخبار الدولتين (٥) وخطط الشام لمحمد كرد عليّ (٦) وغيرها والنص للثاني : قال أبو يعلى التميمي : وفي رجب من هذه السنة [أي ٥٤٣ هـ] ورد الخبر من ناحية حلب بأنّ صاحبها نور الدين بن أتابك أمر بإبطال «حيّ على خير العمل» في أواخر تأذين الغداة ، والتظاهرِ بسب الصحابة ، وأنكر ذلك إنكاراً شديداً ، وساعده على ذلك جماعة من السنة بحلب ،

__________________

(١) الروضتين في أخبار الدولتين ١ : ٢٠٢.

(٢) العبر في خبر من غبر ٤ : ٦٣١ ، الدارس في تاريخ المدارس ١ : ٣٦٨.

(٣) البداية والنهاية ١٢ : ٢٩٨.

(٤) النجوم الزاهرة ٥ : ٢٨٢.

(٥) الروضتين في اخبار الدولتين ١ : ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٦) خطط الشام لمحد كرد علي ٢ : ٢١.

٤٠٢

وعظم هذا الأمر على الإسماعيلية وأهل التشيع ، وضاقت له صدورهم وهاجوا له وماجوا ، ثمّ سكنوا وأحجموا للخوف من السطوة النورية المشهورة والهيبة المحذورة ...

حلب (سنة ٥٥٢ هـ)

اشتد المرض في شهر رمضان بنور الدين وخاف على نفسه ، فاستدعى أخاه نصرة الدين أمير أميران ، وأسد الدين شيركوه ، وأعيان الأمراء والمقدمين ، وأوصى إليهم وقرر أن يكون أخوه نصرة الدين القائم في منصبه من بعده ويكون مقيماً في حلب ، ويكون أسد الدين في دمشق في نيابة نصرة الدين ... واتّفق وصول نصرة الدين إلى حلب فأغلق والي القلعة مجد الدين في وجهه الأبواب وعصى عليه ، فثارت أحداث حلب ... ، ودخل نصرة الدين في أصحابه وحصل في البلد ، وقامت الأحداث على والي القلعة باللوم والإنكار والوعيد ، واقترحوا على نصرة الدين اقتراحات من جملتها إعادة رسمهم في التأذين «حيّ على خير العمل ، محمّد وعليّ خير البشر» فأجابهم إلى ما رغبوا فيه وأحسن القول لهم والوعد .. (١).

وفي (زبدة الحلب من تاريخ حلب) : ... ثمّ عاد نور الدين إلى حلب فمرض بها في سنة أربع وخمسين مرضاً شديداً بقلعتها ، وأشفى على الموت ، وكان بحلب أخوه الأصغر نصر الدين أمير اميران محمّد بن زنكي ، وأرجف بموت نور الدين ، فجمع أمير اميران الناسَ واستمال الحلبيّ وملك المدينة دون القلعة ، وأذِن للشيعة أن يزيدوا في الأذان «حيّ على خير العمل محمّد وعليّ خير البشر» على عادتهم من

__________________

(١) الروضتين في اخبار الدولتين ١ : ٣٤٧ ، بغية الطلب في تاريخ حلب ٤ : ٢٠٢٤.

٤٠٣

قبل ، فمالوا إليه لذلك (١).

مصر (سنة ٥٦٥ هـ)

جاء في (نهاية الأرب في فنون الأدب) : ... قال المورخ : ولعشر مضين من ذي الحجة سنة خمس وستين وخمسمائة أمر الملك الناصر [أي صلاح الدين الأيوبي] أن يسقط من الأذان قولهم «حيّ على خير العمل ، محمّد وعليّ خير البشر» وكانت أول وصمة دخلت على الشيعة والدولة العبيدية ، ويئسوا بعدها من خير يصل إليهم من الملك الناصر ، ثمّ أمر أن يذكر في الخطبة بكلام مجمل ، ليلبس على الشيعة والعامة : اللّهم أصلح العاضد لدينك ... (٢)

ونقل أبو شامه عن ابن أبي طي فيما جرى في مصر سنة ٥٦٦ هـ قوله : في هذه السنة شرع السلطان ـ يعني صلاح الدين ـ في عمارة سور القاهرة لأنه كان قد تهدّم أكثره وصار طريقاً لا يردّ داخلاً ولا خارجاً ، وولاّه لقراقوش الخادم ، وقبض على القصور وسلّمها إليه ، وأمر بتغيير شعار الإسماعيلية وقطع من الأذان «حيّ على خير العمل» وشرع في تمهيد أسباب الخطبة لبني العباس (٣).

وجاء مثله عند ابن كثير في البداية والنهاية (٤).

وقال ابن الاثير : كان السبب في ذلك أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبت قدمه بمصر وأزال المخالفين له وضعف أمر العاضد وهو الخليفة بها .. كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية ،

__________________

(١) زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العديم ٢ : ٤٨٦.

(٢) نهاية الارب في فنون الادب الفن ٥/القسم ٥/الباب ١٢ أخبار الملوك العبيديون.

(٣) الروضتين في اخبار الدولتين ٢ : ١٨٤.

(٤) البداية والنهاية ١٢ : ٢٨٣.

٤٠٤

فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى العلويين ، فلم يصغ نور الدين إلى قوله وأرسل إليه يلزمه إلزاماً لا فسحة له فيه (١).

مصر (سنة ٥٦٧ هـ)

جاء في (نهاية الأرب في فنون الأدب) : ... كان انقراض هذه الدولة عند خلع العاضد لدين الله ، وذلك في يوم الجمعة لسبع مضين من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة ، وكان سبب ذلك أنّ صلاح الدين يوسف لمّا ثبتت قدمه في صلب الديار المصرية واستمال الناس بالأموال ، قتل مؤتمن الخلافة جوهراً ... ونصب مكانه قراقوس الأسدي الخصي خادم عمّه ، ثمّ كانت وقعة السودان فأفناهم بالقتل ... ثمّ أسقط من الأذان قولهم «حيّ على خير العمل» ، وأبطل مجلس الدعوة ، وضعف أمر العاضد معه إلى الغاية ، فعند ذلك كتب الملك العادل نور الدين إلى الملك الناصر صلاح الدين يأمره بالقبض على العاضد وأقاربه والخطبة للخليفة المستضي بنور الله ، وكان المستضيء قد راسله في ذلك فامتنع صلاح الدين ... (٢)

وذكر ابن العماد في الشذرات هذا الموضوع فيما جرى في سنة ٥٦٩ ، فقال : وفيها مات نور الدين الملك العادل أبو القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر ، تملَّك حلب بعد أبيه ثّم أخذ دمشق فملكها عشرين سنة وكان مولده في شوال سنة ٥١١ .... وأزال الأذان بـ «حيّ على خير العمل» وبنى المدارس وسور دمشق (٣).

__________________

(١) انظر الكامل ٩ : ١١١ وعنه في الروضتين في اخبار الدولتين ٢ : ١٩٠.

(٢) نهاية الارب في فنون الادب الفن ٥/القسم ٥/ الباب ١٢ أخبار الملوك العبيديون.

(٣) انظر : شذرات الذهب ٤ : ٢٢٨.

٤٠٥

حلب (سنة ٥٧٠ هـ)

وفي هذه السنة عزم صلاح الدين الأيوبي الدخول إلى الشام [وذلك بعد موت نور الدين] ، فلما استقرّت له دمشق نهض إلى حلب ونزل على أنف جبل جوشن ، وكان على حلب آنذاك ابن نور الدين ، والأخير جمع أهل حلب وقال لهم : يا أهل حلب ، أنا ربيبكم ونزيلكم ، واللاجئ إليكم ، كبيركم عندي بمنزلة الأب ، وشابّكم عندي بمنزلة الأخ ، وصغيركم عندي يحلّ محلّ الولد ، قال : وخنقته العبرة ، وسبقته الدمعة ، وعلا نشيجه ، فافتتن النَّاس وصاحوا صيحةً واحدة ، ورمَوْا بعمائمهم ، وضجُّوا بالبكاء والعويل ، وقالوا : نحن عبيدك وعبيد أبيك ، نقاتل بين يديك ، ونبذل أموالنا وأنفسنا لك. وأقبلوا على الدُّعاء له ، والترحُّم على أبيه.

وكانوا قد اشترطوا على الملك الصَّالح أنه يُعيد إليهم شرقية الجامع يُصَلُّون فيها على قاعدتهم القديمة ، وأن يُجهر بـ «حيّ على خير العمل» في الأذان ، والتذكير في الأسواق وقُدَّام الجنائز بأسماء الأئمة الاثني عشر ، وأن يصلُّوا على أمواتهم خمس تكبيرات ، وأن تكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطَّاهر أبي المكارم حمزة بن زُهْرة الحسيني ، وأن تكون العصبية مرتفعة ، والنَّاموس وازع لمن أراد الفتنة ، وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين رحمه الله تعالى ، فأُجيبوا إلى ذلك.

قال ابن أبي طيّ : فأذّن المؤذّنون في منارة الجامع وغيره بـ «حيّ على خير العمل» ، وصلّى أبي في الشَّرْقية مُسْبِلاً ، وصلَّى وجوه الحلبيين خلفه ، وذكروا في الأسواق وقُدَّام الجنائز بأسماء الأئمّة ، وصلّوا على الأموات خمس تكبيرات ، وأُذِنَ للشريف في أن تكون عقود الحلبيين من الإمامية إليه ، وفعلوا جميع ما وقعتِ الأيمان

٤٠٦

عليه (١).

مكّة (سنة ٥٧٩ هـ)

قال ابن جبير : وللحرم المكي أربعة أئمّة سنية وإمام خامس لفرقة تسمى الزيدية ، وأشراف أهل هذه البلدة على مذهبهم ، وهم يزيدون في الأذان «حيّ على خير العمل» إثر قول المؤذن «حيّ على الفلاح» ، وهم روافض سبّابون والله من وراء حسابهم وجزائهم ، ولا يجمعون مع الناس إنّما يصلون ظهراً أربعاً ، ويصلّون المغرب بعد فراغ الأئمة من صلاتها ، فأوّل الأئمّة السنية الشافعي ، وإنّما قدمنا ذكره لأنّه المقدم من الإمام العباسي وهو أوّل من يصلي وصلاته خلف مقام إبراهيم إلاّ صلاة المغرب فإن الأربعة الأئمّة يصلونها في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها ، يبدأ مؤذن الشافعي بالإقامة ثمّ يقيم مؤذنوا سائر الأئمّة ، وربما دخل في هذه الصلاة على المصلّين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كلّ جهة ، فربما ركع المالكي بركوع الشافعي أو الحنفي ، أو سلم أحدهم بغير سلام إمامه ، فترى كلّ أُذُن مصغية لصوت إمامها أو صوت مؤذّنه مخافَة السهو ، ومع هذا فيحدث السهو على كثير من الناس.

ثمّ المالكي وهو يصلي قبالة الركن اليماني ... (٢)

__________________

(١) الروضتين في اخبار الدولتين ٢ : ٣٤٨ ـ ٣٤٩ ، البداية والنهاية ١٢ : ٣٠٩ وفيه : شرط عليه الروافض. وانظر حاشية الشيخ اغا بزرك الطهراني على مستدرك وسائل الشيعة والمطبوع معه ٣ : ٨.

(٢) رحلة ابن جبير ١ : ٨٤ ـ ٨٥ ، وقد ذكر بعض ما يتعلق بأئمّة المذاهب الأربعة ، وأغفل ما يتعلق بإمام الزيدية!!

٤٠٧

مكّة (سنة ٥٨٢ هـ)

وفيها دخل سيف الإسلام أخو صلاح الدين إلى مكّة وضرب الدنانير فيها باسم أخيه ، ومنع من قولهم «حيّ على خير العمل» (١).

مكّة (سنة ٦١٧ هـ)

وفيها توفي الشريف أبو عزيز قتاده بن إدريس الزيدي الحسني المكّي أمير مكّة.

كان شيخاً عارفاً مصنفاً ، نقمةً على عبيد مكّة المفسدين ، وكان الحاج في أيامه في أمان على أموالهم ونفوسهم ، وكان يؤذّن في الحرم بـ «حيّ على خير العمل» على قاعدة الرافضة ، وما كان يلتفتُ إلى أحد من خلق الله تعالى ، ولا وطئ بساط الخليفة ولا غيره ، وكان يحمل إليه من بغداد في كلّ سنة الذهب والخلع وهو بداره في مكّة ، وهو يقول : أنا أحق بالخلافة من الناصر لدين الله ، ولم يرتكب كبيرة فيما قيل ... (٢)

مكّة (سنة ٧٠٢ هـ)

جاء في (الدرر الكامنة) قوله : أبطل [بزلغى التتري حينما كان على الحج] الأذان بـ «حيّ على خير العمل» وجمع الزيدية ومنعهم من الإمامة بالمسجد الحرام (٣).

__________________

(١) النجوم الزاهرة ٦ : ١٠٣ ، الروضتين في اخبار الدولتين ٣ : ٢٧١.

(٢) النجوم الزاهرة ٦ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٣) الدرر الكامنة ٢ : ٩.

٤٠٨

إيران (سنة ٧٠٧ هـ تقريباً)

كان مذهب أهل السنة والجماعة هو الغالب على إيران إلاّ في مناطق معينة كطبرستان ، والريّ ، وقم ، وأقسام من خراسان ، وقد ذكر المؤرخون عللاً وأسباباً في تشيع إيران (١) ، إلاّ أنّ الثابت هو حدوثه في عهد العلاّمة الحلّي «الحسن بن يوسف» المتوفى ٧٢٦ هـ الذي كان السبب في تشيع السلطان الجايتو محمّد المغولي الملقّب بشاه خدابنده المتوفى ٧١٧ أو ٧١٩ هـ.

فلما تشيع السلطان أمر في تمام ممالكه بتغيير الخطبة وإسقاط أسامي الثلاثة عنها ، وبذكر أسامي أمير المؤمنين عليه‌السلام وسائر الأئمّة : على المنابر ، وبذكر «حيّ على خير العمل» في الأذان ، وبتغيير السّكّة ونقش الأسامي المباركة عليها (٢).

المدينة [القرن الثامن]

نقل السمهودي في (وفاء الوفاء) : ... عن ابن فرحون المتوفى سنة ٧٩٩ هـ قوله : وقد تساهل من كان قبلنا فزادوا على الحجرة الشريفة مقصورة كبيرة ... وكانت بدعة وضلالة يصلي فيها الشيعة ... ولقد كنت أسمع بعضهم يقف على بابها ويؤذّن بأعلى صوته «حيّ على خير العمل» وكانت مواطن تدريسهم وخلوة علمائهم (٣).

وذكر صاحب التحفة اللطيفة في ترجمة عزاز ، أحد الاشراف : كان يقف على باب المقصورة المحيطة بالحجرة النبوية ويؤذّن بأعلى صوته من غير خوف ولا فزع

__________________

(١) طبع موخراً المؤرخ الحجة الشيخ رسول جعفريان رسالة الجايتو والتي ألفها باللغة الفارسية موضحاً فيها أسباب تشيعه فليراجع.

(٢) روضة المتقين للعلاّمة المجلسي ٩ : ٣٠ احقاق الحق ١ : ١١ ، أعيان الشيعة ٥ : ٣٩٦ ، مجالس المؤمنين ٢ : ٣٥٦. وانظر : خاتمة مستدرك الوسائل للنوري وغيرها.

(٣) وفاء الوفاء للسمهودي ١ ـ ٢ : ٦١٢ الفصل ٢٧.

٤٠٩

قائلاً «حيّ على خير العمل» ؛ قاله ابن فرحون في تاريخه (١).

القطيف (سنة ٧٢٩ هـ)

ذكر ابن بطوطة في رحلته سفره إلى القطيف ، فقال : ثمّ سافرنا إلى مدينة القُطَيف ـ وضبط اسمها بضم القاف كأنّه تصغير قَطِيف ـ وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير ، يسكنها طوائف العرب ، وهم رافضية غلاة ، يظهرون الرفض جهاراً لا يتّقون أحداً ، ويقول مؤذنهم في أذانه بعد الشهادتين : «أشهد أنّ عليّاً وليّ الله» ، ويزيد بعد الحيعلتين «حيّ على خير العمل» ويز يد بعد التكبير الأخير : «محمّد وعليّ خير البشر من خالفها فقد كفر» (٢).

مكّة (سنة ٧٩٣ هـ)

جاء في صبح الاعشى : ... وولي ابنه صلاح [بن عليّ بن محمّد] وتابعه الزيدية ، وكان بعضهم ينكر إمامته لعدم استكمال الشروط فيه ، فيقول : «أنا لكم ما شئتم إمام أو سلطان» ، ثمّ مات سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة ، وقام بعده ابنه نجاح فامتنع الزيدية من بيعته ... إلى أن يقول : قال في مسالك الأبصار : ولشيعة هذا الإمام فيه حُسْنُ الاعتقاد ، حتّى أنّهم يستشفون بدعائه ، ويُمرُّون يده على مرضاهم ، ويستسقون به المطر إذا اجدبوا ، ويبالغون في ذلك كلّ المبالغة ، ثمّ قال : ولا يَكْبُرُ لإمام هذه سيرته ـ في التواضع لله ، وحسن المعاملة لخلقه ، وهو من ذلك الأصل الطاهر والعنصر الطيب ـ أن يجاب دعاؤه ويتقبل منه ، قال : وزيُّ هذا الإمام

__________________

(١) التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة ٢ : ٢٦٠ الترجمة ٢٩٦٥.

(٢) رحلة ابن بطوطه : ١٨٦ / بعد ذكره لمدينة (البحر ين).

٤١٠

وأتباعه زيّ العرب في لباسهم والعمامة والحنك ، وينادى عندهم بالأذان «حيّ على خير العمل» (١).

صنعاء (سنة ٩٠٠ هـ تقريباً)

ذكر صاحب البدر الطالع في ترجمة محمّد بن الحسن بن مرغم الزيدي اليماني (المولود ٨٣٦ والمتوفى ٩٣١) ما نصّه : لما افتتح السلطان عامر بن عبدالوهاب صنعاء ومايليها من البلاد [كان] يجلّه ويقبل شفاعته لأجل اتصاله بالإمام الناصر الحسن بن عزالدين بن الحسن.

ولما صلّى السلطان عامرٌ بجامع صنعاء أوّلَ جمعة فأراد المؤذن أن يسقط من الأذان «حيّ على خير العمل» فمنعه محمّد بن الحسن الزيدي ، فالتفت إليه جميع من في المسجد من جند السلطان وهم ألوف مؤلّفة ، وعُدَّ ذلك من تصلّبه في مذهبه (٢).

حضرموت (سنة ١٠٧٠ هـ)

جاء في كتاب (سمط النجوم العوالي في أنباء الاوائل والتوالي) للعاصمي : قوله :

وفي سنة ١٠٦٥ جهز الإمام إسماعيل (٣) ابنَ أخيه الإمام أحمدَ بن الحسن على

__________________

(١) صبح الاعشى ٧ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(٢) البدر الطالع ٢ : ١٢٢.

(٣) ابن المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن الرشيد بن أحمد بن الحسين بن عليّ بن يحيى بن محمد بن يوسف الاشل بن القاسم بن محمد بن يوسف الاكبر بن المنصور بن يحيى بن الناصر بن أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ابن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب.

٤١١

حضرموت ونواحيها لكونهم لم يخطبوا له [بعد أن سيطر على أغلب اليمن] فالتقى هو والأمير حسين الرصاص ، لكون بلده أقرب البلدان إلى دولة الإمام إسماعيل ، وحصل منهم قتال ، فلما عجز الإمام أحمد بن الحسن اُرسل إلى قبيلة يافع ـ وهم قبائل كثيرون ـ بالأموال خفية ، وطلبوا منه أن يكونوا معه على الرصاص ... فتجهزوا على الرصاص وأتوه على غرة ... حتّى قتل ... واستولى الزيدية على غالب حضرموت.

ثمّ في سنة ١٠٧٠ استولى على حضرموت كلها ، وأمرهم أن يزيدوا في الأذان «حيّ على خير العمل» وترك الترضي عن الشيخين ... ثمّ لم يزل الإمام إسماعيل قائماً بأعباء الإمامة الكبرى إلى أن توفّاه الله تعالى إلى رحمته سنة ١٠٨٧ هـ (١).

نجد (سنة ١٢٢٤ هـ)

قال عبدالحي بن فخر الدين الحسيني (المتوفى ١٣٤١ هـ) في (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر) : ... الزيدية بعد ما خالف الشريف حمود بن محمّد على أهل نجد سنة أربع وعشرين ومائتين وألف أن يزيد أهلها قول «حيّ على خير العمل» في ندائهم للصلوات ويَدَعُوا ما توارثوه من السلف في أذان الفجر من قولهم «الصلاة خير من النوم» فإنه كان يراها بدعة إنّما أحدثها عمر رضي الله عنه في إمرته (٢).

وأختم حديثي بما نقله القلقشندي في صبح الأعشى عن الزيدية فقال : ... وهم

__________________

(١) سمط النجوم العوالي ٤ : ١٩٨ ـ ٢٠٠.

(٢) نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر : ١٦٤٦.

٤١٢

يقولون : إن نَصَّ الأذَانِ بَدَل الحَيْعَلَتينِ (١) : «حَيّ على خَيْر العَمَلِ» يقولونها في أَذانِهم مرّتين بدل الحَيْعلَتَيْن ، وربَّما قالوا قبل ذلك : «محمدٌ وعَلِيٌّ خَير البَشَر ، وعِتْرتُهما خير العِتَر» ومن رأَى أنّ هـذا بِدعةٌ فقد حاد عن الجَادَّة.

وهم يسوقون الإِمامة في أوْلاد عَلِيّ كَرَّم الله وَجْهَه من فاطمة عليها‌السلام ، ولا يُجوِّزونَ ثُبوتَ الإِمامة في غير بنيهما ؛ إلاّ أنَّهم جَوَّزُوا أن يكونَ كلُّ فاطميِّ عالِم زَاهِد شُجاع خَرج لطَلَب الإِمامة إماماً مَعْصُوماً واجِبَ الطاعة ، سواء كان من ولد الحَسَنِ أو الحُسَينِ عليهما‌السلام ، ومَن خلع طاعتَه فقد ضَلَّ. وهم يَرَوْن أن الإِمام المَهْدِيَّ المُنْتَظَر من ولَد الحُسَين دون ولد الحسَن رضي الله عنهما ، ومن خالف في ذلك فقد أخْطَأ. ومن قال : إِنَّ الشيخين أبا بَكْر وعُمَر أفضلُ من عَلِيٍّ وبَنِيه فقد أخْطأَ عندهم وخالَف زَيداً في مُعْتَقَدِه. ويقولون : إنّ تَسْلِيم الحَسَنِ الأمْرَ لمعَاويةَ كان لمصْلَحة آقتضاها الحال ، وإن كان الحقُّ له.

قال في «التعريف» : وأَيْمانُهم أَيْمانُ أهْلِ السُّنَّة ، يعني فيحلَّفون كما تقدّم ، ويزاد فيها : وإِلاَّ بَرِئْتُ من مُعْتَقَدِ زَيْد بن عَلِيّ ، ورأيتُ أنَّ قَوْلِي في الأذانِ : «حَيَّ على خَيْرِ العَمَل» بِدْعةٌ ، وخَلَعتُ طاعة الإِمام المعصوم الواجب الطَّاعة ، وآدّعَيْتُ أن المَهْدِيَّ المنتَظَر ليس من وَلَد الحُسَينِ بن عليّ ، وقلتُ بتَفْضِيل الشيخين على أمير المؤمنين عَلِيٍّ وبَنِيه ، وطعَنْتُ في رَأْي ابنِهِ الحسن لما اقتضته المَصْلَحةُ ، وطعَنتُ عليه فيه (٢).

__________________

(١) هذا غلط من القلقشندي فالزيدية تقول بالحيعلة الثالثة بعد الحيعلتين لا بدلهما.

(٢) صبح الاعشى في صناعة الإنشاء للقلقشندي ١٣ : ٢٣١.

٤١٣

النتيجة

وعليه فشرعية «حيّ على خير العمل» ثابتة عند الشيعة بفرقها الثلاث : ـ الإمامية الاثني عشرية ، والزيدية ، والإسماعيلية ـ وعند بعض الصحابة ، وإنّ هذه الجملة هي أصل لما فُسّر في كلام الأئمّة : بـ «محمّد وعليّ خير البشر» و «محمّد وآل محمّد خير البرية» و «أنّ عليّاً وليّ الله» ، فتارة كانت الشيعة تصرح بهذا التفسير ، وأخرى لا تصرح به ، نتيجة للظروف القاسية التي كانت تمر بها.

ويؤكد التفسيرية التي قلناها ما أجاب به السيّد المرتضى رحمه الله (ت ٤٣٦ هـ) فإنه سئل : هل يجب في الأذان بعد قول «حيّ على خير العمل» : «محمّد وعليّ خير البشر»؟ فأجاب : إن قال «محمّد وعليّ خير البشر» على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز ، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة ، وإنّ لم يكن فلا شيء عليه (١).

وقال ابن البراج (ت ٤٨١ هـ) في مهذبه : ويستحب لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند «حيّ على خير العمل» : «آل محمّد خير البرية» مرتين (٢).

وكذا يُفهم من كلام الشيخ الصدوق (ت ٣٨١ هـ) أن الذين كانوا يأتون بهذه الصيغ الثلاث أو الأربع! كانوا يأتون بها على أنّها صادرة عن أئمّة أهل البيت ؛ لقوله رحمه الله : «وفي بعض رواياتهم ... ومنهم من روى بدل ذلك ...» (٣).

فاختلاف الصيغ عند المؤذنين ، وإتيانها في بعض الأحيان بعد الحيعلة الثالثة وأخرى بعد الشهادة الثانية تشير إلى عدم جزئيتها وكونها تفسيرية.

إذاً عمل الشيعة وتفسيرهم هذا لم يكن عن هوى ورأي ، بل لما عرفوه ووقفوا

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٧٩. ومثله جواب القاضي ابن البراج في جواهر الفقه : ٢٥٧.

(٢) المهذب ١ : ٩٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٨٨ باب الأذان والإقامة وثواب المؤذنين ح ٣٥.

٤١٤

عليه في مرويات ائمتهم الموجودة عندهم ، وهذا لو جمع إلى سيرة المتشرعة من الشيعة في كل الازمان والاصقاع في «حيّ على خير العمل» وأنّ المعنيَّ به عندهم الولاية لوقفت على حقيقة أخرى لم تنكشف لك من ذي قبل (٤). وممّا يستأنس به لذلك أذان الشيعة بحلب سنة ٣٦٧ هـ حيث إنّهم كانوا يقولون في أذانهم «حيّ على خير العمل محمّد وعليّ خير البشر» ، وكذلك في أذانهم باليمامة سنة ٣٩٤ هـ ، ففيه «يقولون في الإقامة : محمّد وعليّ خير البشر وحيّ على خير العمل».

ومن هذا الباب ما ذُكر من أنّ الحسين بن عليّ بن محمّد ... بن علي بن أبي طالب ـ المعروف بابن شكنبة ـ كان أوّل من جهر في الأذان بـ «محمّد وعليّ خير البشر» في زمن سيف الدولة الحمداني سنة ٣٤٧ هـ ، ولا يخفى عليك بأنّ هذا المؤذّن والحمدانيين شيعة اثنا عشرية ، وقد عرفت بأنّ الأذان بذلك في حلب كان قبل هذا التاريخ.

ويضاف إليه ما قلناه قبل قليل من أن الشيعة الاثني عشرية (القطعية) أذنوا في بغداد (٢٩٠ ـ ٣٥٦ هـ) بـ «أشهد أن عليّاً ولي الله» ، وأعلوا هذا الإعلان على الماذن في القرن الثامن في القطيف كذلك ، وغير ذلك من النصوص ، فكلها تؤكد التفسيرية التي كان يبوح بها الشيعة أيّام قوتهم ، وأنّ كلّ ما كانوا يقولونه مأخوذ من كلمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة أهل البيت : وأنّ ذلك كله تفسير وتوضيح للحيعلة الثالثة (١) التي حذفها عمر وسار على نهجه الحذفيّ أتباعُهُ. ولذلك عظم على الرافضة!! وأهل التشيع حذف الحيعلة الثالثة من الأذان في سنة ٣٦٩ هـ من قبل نور الدين عم صلاح الدين الأيوبي.

__________________

(١) سنفصل هذا الأمر بإذن الله تعالى في الباب الثالث من هذه الدراسة «أشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع».

(٢) وقد تكون الشهادة الثالثة هي تفسير للشهادة الثانية كذلك وهذا ما سنوضحه لاحقاً في الباب الثالث «أشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع».

٤١٥

وبهذا فقد تبيّن لنا من كلّ ما سبق أنّ لـ «حيّ على خير العمل» أصلاً شرعيّاً ثابتاً ، لكنَّ الظروف السياسيّة العصيبة ونهي عمر بن الخطّاب ، لعبا دوراً كبيراً في طرح شرعيّتها جانباً ـ وقد مرّت عليك بعض الروايات التي صُرّح فيها بحذف الحيعلة الثالثة للتقية من الرواة الذين كانوا يخافون على أرواحهم عند اشتداد سطوة الظالمين ـ ومع كلّ ذلك العسف ترى الصمود الشيعي في جانب آخر ، لذلك راح أتباع الحَذْفِ بعد أن لمسوا شدّة المتمسّكين بها يدّعون بأنّها منسوخة ، وعلى الرغم من شراسة الحملة الموجّهة ضدّ هذا الأصل الشرعيّ وعنف وقسوة رموزها ، إلاّ بأنّ المنصفين لم يتمكّنوا من التجّرؤ والقول بأنَّ «حيّ على خيرالعمل» بدعة ، وأكثر ما توصّلوا إليه أن يقولوا عنها : إنّ ذلك الأمر لم يثبت ، و: ما لم يثبت فمن الأولى تركه وعدم الإتيان به!

ولكن ، هل مال جميع المسلمين إلى ذلك؟

أبداً ، فكثير من الصحابة وكل أهل البيت وعدّة من التابعين أصرّوا إصراراً شديداً على التمسّك بالإتيان بـ «حيّ على خير العمل» في أذانهم والتأكيد الحازم الجازم على شرعيّة الإتيان بها ، وأن ليس من عامل شرعيّ قطعيّ دعا إلى طرحها وإسقاطها .. وقد مرّت في مطاوي البحوث شواهد كثيرة تؤيِّد صحّة ذلك بموضوعية ، وقد كان هذا الفصل هو الموضّح لكيفية «تحوّل هذا الأصل الشرعيّ» إلى شعار يميّز الشيعة عن غيرهم ، وقد اتّضحت بين ثناياه الدوافع التي دعت أهل السنّة لأن يتّخذوا من (الصلاة خير من النوم) شعاراً لهم ، حيث كانت لهذه الجملة أبعادٌ متصلة باجتهاد الخليفة عمر! لا سنة رسول الله.

لقد تجسدت شعاريّة هذا الموضوع بوضوح في العصور المتأخِّرة ، ويمكن القول

٤١٦

بأنّها تجلّت واضحة في العصر العبّاسيّ الأوّل (١) ، وعلى الخصوص في زمن أبي جعفر المنصور الدوانيقيّ ، كما وتجسّدت معالم شعاريّة «حيّ على خير العمل» بوضوح أيضاً بعد وفاة المنصور بعد أن صار جلياً وجود تيّارين متباينين ، أحدهما يصرّ بإلحاح جادّ على الإتيان بـ «حيّ على خير العمل» ، بينما يحاول الآخر منع ذلك بشتى الطرق ولا يرضى بالإتيان بها.

وانطلاقاً من هذا الأساس المتشنّج كانت جميع الحركات الشيعيّة ودُولها في حال استلامها لزمام أُمور السياسة لا تتردّد في إعلاء «حيّ على خير العمل» من على المآذن في الأذان إعلاناً عن هويّتهم الحقيقيّة ، بل كان المدّ الجماهيري الشيعي في أحايين قوته يراهن على شرعيتها ، ولا يتنازل عن الهوية المحمدية العلوية.

نعم ، يمكن القول بذلك على أساس اتّخاذ الشيعة «حيّ على خير العمل» شعاراً لهم ، وإن كانت هذه الحيعلة الثالثة جزءاً من الأذان النبوي ، فشرعيتها أقدم من تاريخ شعاريتها بكثير ، حيث هي مسألة شرعيّة ثابتة منذ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بيّنّا ذلك بما فيه الكفاية.

وأ مّا فيما يخصّ ذِكر أذان الإمام زين العابدين عليه‌السلام الثابت للجميع وليس ثمّة منكر له ، فله ميزة خاصّة ، وذلك لمكانته بين المسلمين عموماً ، فالإماميّة والزيديّة ، بل مختلف فرق الشيعة ـ باستثناء الكيسانية المنقرضة ـ تذعن له وتستسلم لأوامره ونواهيه الشرعيّة ، ويقرّون له عليه‌السلام بأنّه إمام للمسلمين وحجّة لله على خلقه ، وبالنسبة لباقي الفرق فهم يتعاملون معه كأحد علماء المدينة على أقل ما يقال ..

__________________

(١) هي الفترة السياسيّة لخلافة بني العبّاس ؛ من خلافة أبي العبّاس السفّاح إلى خلافة الواثق بالله ، أي خلافة : أبي العبّاس السفّاح ، والمنصور الدوانيقيّ ، والمهدي العبّاسيّ ، والهادي العباسيّ ، وهارون الرشيد ، والأمين ، والمأمون ، والمعتصم ، وآخرهم الواثق بالله ، ومن بعد وفاته إلى الغزو المغوليّ لبغداد ، اصطلح عليه بين المؤرّخين بالعصر العبّاسيّ الثاني.

٤١٧

فإتيان الإمام زين العابدين عليه‌السلام بـ «حيّ على خير العمل» يمثِّل ـ بلا ريب ـ شرعيّتها وامتداد جذورها إلى عصر الرسالة الأوّل ، وخصوصاً بعد وقوفنا على قوله عليه‌السلام «إنّه الأذان الأول» والذي يوضّح بأنّ الأذان شرّع في الإسراء والمعراج ، وأن «حيّ على خير العمل» ، إشارة إلى ولاية الإمام عليّ وولده ، والذي كتب على ساق العرش.

وكذا الحال بالنسبة إلى فعل ابن عمر ، فإنّ إتيانه بها في أذانه ـ وهو فقيه أهل السنة والجماعة ـ ليؤكد شرعيتها ، ونحن لو أضفنا هذين الموردين إلى ما أورده الدسوقيّ في حاشيته عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأنّه كان يأتي بها ، وإلى ما ذُكر عن الإمامين الباقر والصادق : ، لاتّضح لنا ولغيرنا بأنّ هذه المسألة لها أصل أصيل في الدين ، بل هناك أصل لما نقول به في كتب أهل السنة والجماعة مستقى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيقين.

فـ «حيّ على خير العمل» أصلٌ من الأُصول الثابتة ، ذو جذور عريقة وراسخة تعود إلى عهد رسول الله ، وقد أتى بها الصحابة أيضاً ، إلاّ أنَّه قد دبّ الخلاف فيها منذ عهد عمر بن الخطّاب ، وهذا هو ما تثبته الأدلة والشواهد التاريخيّة والروائيّة ، إلاّ أنَّ التعصّب الأعمى دفع بالبعض دفاعاً عن اجتهاد عمر قبال السنّة النبويّة المباركة لأن يدّعي أنَّ الشيعة هم الذين أدخلوا هذه الروايات في كتبهم ، بل ودفع ذلك التعصب المقيت بالبعض الآخر لأن يدّعي ويزعم أنَّ كتبهم المعتبرة خالية من مثل هذه الروايات ، ولا ندري ما نقول لمن يريد إخفاء عين الشمس بغربال!

ونحن لو دققنا النظر في مسألة نهي عمر بن الخطاب عن متعة الحج ومتعة النساء وحيّ على خير العمل ـ على ما أورده القوشجي في «شرح التجريد» ـ لانكشف لنا الترابط فيما بين هذه المسائل الثلاث ، وأنّ مسألة «حيّ على خير العمل» تعني

٤١٨

ارتباطها بمسألة هامة ترتبط بصميم الخلافة والإمامة ، وهذا ما أثبتناه بالأرقام في الصفحات السابقة (١) ، وقد عرفت كيف تحوّلت الحيعلة الثالثة إلى شعار للطالبيين ولشيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ومحبّي الزهراء البتول عليها‌السلام عبر القرون ، وأنّ ثبات الشيعة عليها وتمسّكهم بها يمثّل بحثا استراتيجيّاً بين الفريقين وحدّاً فاصلاً بينهما ، ولعلّ ما روي عن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام عن تبيان علّتي النهي الظاهرة والخفية ـ التي مرّ ذكرها ـ جاء للكشف عن النوايا والتوجّهات الحكومية التي أرادت أن تطمس أنَّ خير العمل هو : «بر فاطمة وولدها».

وبعد أن بينا تعاريف «خير العمل» في روايات أهل البيت : سابقاً ، وانها تعني : «الولاية» و «بر فاطمة وولدها» ، نصل إلى أنّ نهي الخليفة يمثّل إعلاناً عن عدم الاعتناء ببر فاطمة ، وهو ما يعود بالنتيجة إلى الولاية والخلافة وأن عمر بن الخطاب لا يريد الإشارة إلى خلافة غيره ، بل إنه لا يريد الإشارة إلى كلّ ما يتعلق بها.

وممّا يدعم هذا المعنى ما تنطوي عليه العقوبة التي فرضها عمر بن الخطاب على القائل بها ، فقوله (أنهى عنها) أو (أُعاقِبُ عليها) بمثابة اعتراف مبدئيّ منه بشرعيّة «حيّ على خير العمل» ، واعتراف ضمني على ما يجول في دواخله ، ولذلك فقد ربط نهيه عن «حيّ على خير العمل» بنهييه عن متعتَي النساء والحجّ ، اللَّذَيْنِ أكد الإمام عليّ وابن عبّاس ورعيل من الصحابة على شرعيتها ، بخلاف عمر والنهج الحاكم اللذين دعيا إلى تركها ، فترك هذه الثلاث عُمَرِيٌّ ، وأمّا لزوم الإتيان بها أو جوازه فهو علوي ، إذاً الأمر لم يكن اعتباطاً ، بل جاء لوجود رابطة وعلاقة متينة بين كلّ الأمور المنهيّ عنها.

__________________

(١) انظر : الفصل الثالث (حيّ على خير العمل ، دعوة للولاية وبيان لاسباب حذفها).

٤١٩

لقد ، بلغ النزاع حول المسألة المبحوثة أوجه في القرنين الرابع والخامس الهجريّين ، حيث إنّ الصراع الفكريّ والاعتقاديّ في تلك الفترة الزمنيّة قد اشتدّ كثيراً ، فسيطر على الشارع العامّ جوٌّ من الخلاف الحادّ بين الشيعة والسنّة ، كلٌّ يدّعي أنَّ الحقّ في جانبه ، ولم يصلا لقاسم مشترك يرضي الطرفين في محاولة للعودة إلى حالة الألفة وعدم التنازع ، فكلٌّ منهما متمسِّك بصلابة بما توصّل إليه ؛ هؤلاء بأئمتهم ، وأولئك بحكوماتهم.

ولو ألقينا نظرة فاحصة على النصوص التي مرت في حوادث سنة ٣٥٠ ـ ٤٤٣ هـ ، ودرسنا وضع شدّة النعرة الطائفية واستفحالها ، لشاهدنا بوضوح دور مسألة «حيّ على خير العمل» الذي تزامن طرحها مع مسائل اعتقاديّة أُخرى بشكل لا يمكنك التفكيك بينها ، مثل مسألة الغدير ، ولبس السواد وما إلى ذلك. فلماذا يمنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح؟ ولماذا تقع الفتنة يوم الغدير؟

قال الذهبيّ في أحداث سنة ٣٨٩ هـ : (كانت قد جرت عادة الشيعة في الكرخ وباب الطاق بنصب القباب وإظهار الزينة يوم الغدير ، والوقيد (١) في ليلته ، فأرادت السنّة أن تعمل في مقابلة هذا أشياء ، فادّعت أنَّ اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي حصل فيه النبيّ وأبو بكر في الغار ، فعملت فيه ما تعمل الشيعة في يوم الغدير ، وجعلت بإزاء يوم عاشوراء يوماً بعده بثمانية أيّام إلى مقتل مصعب ...) (٢).

فانظر إلى الأصالة والتحر يف معاً ، وكيف تُغيّر الوقائع والأحداث عن

__________________

(١) أي إيقاد الشموع والقناديل والإضاءة.

(٢) تاريخ الاسلام : ٢٥ حوادث سنة ٣٨١ ـ ٤٠٠ هـ.

٤٢٠