الأذان بين الإصالة والتحريف

السيد علي الشهرستاني

الأذان بين الإصالة والتحريف

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8166-82-X
الصفحات: ٤٩٦

القسم الثالث

إجماع العترة

مرّ عليك سابقاً في (تأذين الصحابة وأهل البيت) أن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان يقول ويأمر مؤذّنه أن يقول : حيّ على خير العمل.

والمدقق في حديث تشريع الأذان الذي رواه الإمام عليّ عن النبيّ يقف على جزئية «حيّ على خير العمل» فيه ، إذ جاء في حاشية الدسوقي ما نصه :

(كان عليّ يزيد حيّ على خير العمل بعد حيّ على الفلاح ، وهو مذهب الشيعة الآن) (١).

ومعنى كلامه أنّه عليه‌السلام كان يأتي بأمر أعرض عنه الخلفاء ، وهو فعل أبنائه من بعده كذلك حتّى استقرّت السيرة به عند الشيعة ؛ للاعتقاد بعدم الفصل بين فعل الإمام عليّ ومذهب الشيعة الآن ، لأنّ الشيعة يستقون فقههم وأحكامهم من الإمام عليّ وأبنائه المعصومين عليهم‌السلام.

وقد روى الحافظ العلوي (أبو عبدالله) بإسناده عن عبيدة السلماني ، قال :

كان عليّ بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين ، وعقيل بن أبي طالب ، وابن عباس ، وعبدالله بن جعفر ، ومحمّد بن الحنفية يؤذنون إلى أن فارقوا الدنيا فيقولون بـ «حيّ على

__________________

(١) حاشية الدسوقي ١ : ١٩٣.

٢٦١

خير العمل» ويقولون : لم تزل في الأذان (١).

وعنه كذلك عن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله :

أذاني وأذان آبائي ـ عليّ ، والحسن ، والحسين ، وعليّ بن الحسين ـ حيّ على خير العمل حيّ على خير العمل (٢).

وجاء في معجم الأدباء لياقوت الحموي في ترجمة عمر بن إبراهيم بن محمّد المتوفى سنة ٥٣٩ ـ من أحفاد الإمام زيد الشهيد ـ نقلاً عن السمعاني أنّه قال :

وكان خشن العيش ، صابراً على الفقر ، قانعاً باليسير ، سَمِعتُه يقول : أنا زيدي المذهب ولكنّي أفتي على مذهب السلطان ـ يعني أبا حنيفة ـ إلى أن يقول السمعاني : وكنت ألازمه طول مقامي بالكوفة في الكُوَرِ الخمس ، ما سمعت منه طول ملازمتي له شيئاً في الاعتقاد أنكرته ، غير أنّي كنتُ يوماً قاعداً في باب داره وأخرج لي شذرة من مسموعاته وجعلت أفتقد فيها حديث الكوفيين فوجدت فيها جزءاً مترجماً بتصحيح الأذان بحي على خير العمل ، فأخذته لأطالعه ، فأخذه من يدي وقال : هذا لا يصلح لك ، له طالبٌ غيرك ، ثمّ قال : ينبغي للعالم أن يكون عنده كلّ شي ، فإنّ لكلّ نوع طالباً (٣).

فلو جمعت هذا النص مع الذي مر عليك من أنّ زيداً كان يأمر مؤذنه بالحيعلة

__________________

(١) الأذان بحيّ على خير العمل : ١٠٩ الحديث ١٠٧ ، الاعتصام ١ : ٢٩٤.

(٢) مقدمة الأذان بحيّ على خير العمل لعزّان : ١٨.

(٣) معجم الادباء ١٥ : ٢٥٩.

٢٦٢

الثالثة عندما يأمن أهل الشام ، وكذا من أنّ يحيى بن زيد كان يأمر أصحابه بخراسان أن يحيعلوا فما زال مؤذنهم ينادي بها ، ومثله كلام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن وانه كان يأمر أصحابه ـ إذا كانوا بالبادية ـ أن يزيدوا في الأذان حيّ على خير العمل (١).

وما قاله أحمد بن عيسى في جواب من سأله عن التأذين بحيّ على خير العمل؟

قال : نعم ، ولكن أُخفيها (٢).

فلو جمعت هذه النصوص بعضها إلى بعض لوقفت على الظروف التي كان يعيشها الطالبيون ، وهي ظروف لم تكن مؤاتية لإبداء آرائهم ، حتّى ترى عمر ابن إبراهيم رغم كونه زيدياً يفتي على مذهب السلطان ؛ لأن الفقه السائد يومئذ كان فقه أبي حنيفة ، فلا يرتضي أن يطّلع السمعاني على الجزء المصحّح بالأذان بحيّ على خير العمل ، فيأخذه منه ويقول له : «هذا لا يصلح لك ، له طالب غيرك» ثمّ يعلل سر وجود مثل هذه الكتب والأجزاء مصحّحة عنده بأنّه ينبغي «للعالم أن يكون عنده كلّ شيء ، فإن لكل نوع طالباً» لأن عمر بن إبراهيم كان يعرف السمعاني واهتماماته ، وقد أشار السمعاني نفسه إلى توجهاته الشخصية بقوله «... وجعلت أفتقد فيها حديث الكوفيين فوجدت ...» وفي هذا كفاية لمن أراد التعرف على ملابسات التشريع وما دار بين الكوفة والشام والحجاز و .. من التخالف والتضاد.

هذا شيء عن ملابسات (حيّ على خير العمل) ، وهي تدلّ على دور الحكومة بعدم التأذين بها. والآن مع أقوال بعض العلماء عن إجماع العترة على التأذين بحيّ

__________________

(١) حيّ على خير العمل بتحقيق عزّان : ١٤٧ ح ١٨٦ و ١٨٧.

(٢) حيّ على خير العمل بتحقيق عزّان : ١٥٠ ح ١٩٠ واخرجه محمد بن منصور في الامالي [لابن عيسى] ١ : ١٩٤ رقم ٢٣٧ قال سألت أحمد ... الخ.

٢٦٣

على خير العمل.

قال الشوكاني في نيل الأوطار : (... والتثويب زيادة ثابتة فالقول بها لازم ، والحديث ليس فيه ذكر «حيّ على خير العمل» ، وقد ذهبت العترة إلى إثباته وأنّه بعد قول المؤذّن «حيّ على الفلاح» ، قالوا : يقول مرّتين : حيّ على خير العمل ، ونسبه المهديّ في البحر إلى أحد قولَي الشافعي ، وهو خلاف ما في كتب الشافعيّة ، فإنّا لم نجد في شيء منها هذه المقالة (١) ، بل خلاف ما في كتب أهل البيت (٢).

قال في الانتصار : إنّ الفقهاء الأربعة لا يختلفون في ذلك ، يعني في أنّ «حيّ على خير العمل» ليس من ألفاظ الأذان ، وقد أنكر هذه الرواية الإمام عزّالدين في شرح البحر وغيره ممّن له اطّلاع على كتب الشافعيّة.

«احتج القائلون بذلك» بما في كتب أهل البيت كامالي أحمد بن عيسى ، والتجريد ، والأحكام ، وجامع آل محمّد ـ من إثبات ذلك سنداً إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) يؤيّد صحّة كلام المهدّي ما قاله القاسم بن محمّد بن عليّ نقلاً عن توضح المسائل للمقري «قد ذكر الروياني أنّ للشافعي قولاً مشهوراً بالقول به» ، وما قاله الشافعي عن التثويب وأنّه لم يثبت عن ابي محذورة. ولو جمعنا هذين القولين وضممنا أحدهما إلى الآخر لاتّضح لنا ما نريد قوله من الملازمة وعدم الفصل بين القول (بحيّ على خير العمل) وعدم القول (بالصلاة خير من النوم) ، وكذا العكس ، إذ قد ثبت عن ابن عمر تأذينه بـ (حيّ على خير العمل) وكراهيته للتثويب ، ومثله الأمر بالنسبة إلى الإمام علي ، فالقائل بشرعية «حيّ على خير العمل» لا يقبل شرعية «الصلاة خير من النوم» ، والقائل بشرعية «الصلاة خير من النوم» ينكر شرعية «حيّ على خير العمل» ، فإنكار الشافعي للتثويب يرجح المنسوب إليه من القول بـ «حيّ على خير العمل».

هذا وقد أشار الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى (المتوفى ٨٤٠ هـ) في البحر الزخار ٢ : ١٩١ إلى أنّ أخير قولي الشافعي هو القول بالحيعلة الثالثة وذلك بعد أن اشار إلى إجماع العترة بذلك فقال : (.. العترة جميعاً ، وأخير قولي الشافعي حيّ على خير العمل) ، فتامل.

(٢) هذا قصور أو تقصير من الشوكاني ، فقد عرفت إجماع العترة على التأذين بـ «حيّ على خير العمل» ، وكان ينبغي له أن يحقّق في المسألة قبل أن يقطع برأيه هذا.

٢٦٤

قال في الأحكام : وقد صحّ لنا أنّ «حيّ على خير العمل» كانت على عهد رسول الله يؤذّن بها ، ولم تُطرح إلاّ في زمن عمر. وهكذا قال الحسن بن يحيى ؛ روي ذلك عنه في جامع آل محمّد.

وبما أخرج البيهقي في سننه الكبرى بإسناد صحيح عن عبدالله بن عمر أنّه كان يؤذّن بحيّ على خير العمل أحياناً.

وروى فيها عن عليّ بن الحسين أنّه قال : هو الأذان الأوّل.

وروى المحبّ الطبري في أحكامه عن زيد بن أرقم أنّه أذّن بذلك ، قال المحب الطبري : رواه ابن حزم ورواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة ابن سهل البدري ، ولم يَروِ ذلك من طريق غير أهل البيت مرفوعاً ، وقول بعضهم : وقد صحّح ابن حزم والبيهقي والمحبّ الطبري وسعيد بن منصور ثبوت ذلك عن عليّ بن الحسين ...» (١).

وجاء في كتاب الاعتصام بحبل الله : ... وفي الجامع الكافي : قال الحسن بن يحيى بن الحسين [بن زيد المتوفّى ٢٦٠] : أجمع آل رسول الله على أن يقولوا في الأذان والإقامة (حيّ على خير العمل) وأن ذلك عندهم سنّة ، قال : وقد سمعنا في الحديث أنّ الله سبحانه بعث ملكاً من السماء إلى الأرض بالأذان ، وفيه : حيّ على خير العمل .. ولم يزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤذن بحيّ على خير العمل حتّى قبضه الله إليه ، وكان يُؤَذَّنُ بها في زمان أبي بكر ، فلما وَلِيَ عمر قال : دعوا حيّ على خير العمل لا يشتغل [بها] الناس عن الجهاد. وكان أوّل من تركها (٢).

وقال الاستاذ عزّان في مقدمة كتاب (الأذان بحيّ على خير العمل) : ... وقال

__________________

(١) نيل الاوطار ٢ : ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) الاعتصام بحبل الله ١ : ٢٧٨ عن الجامع الكافي مخطوط.

٢٦٥

الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (المتوفى ٤١١ هـ) : ومذهب يحيى ـ يعني الهادي ـ وعامة أهل البيت التأذين بحيّ على خير العمل (١).

وقال القاضي زيد بن محمّد الكلاري ـ وهو من أتباع المؤيد بالله ولم يعاصره ـ : التأذين به ـ أي بحيّ على خير العمل ـ إجماع أهل البيت لا يختلفون فيه ، ولم يرد عن أحد منهم منعه وإنكاره ، وإجماعهم عندنا حجّة يجب اتّباعها (٢).

وقال الإمام محمّد بن المطهر المتوفى ٧٢٨ هـ : ويؤذن بحيّ على خير العمل ، والوجه في ذلك اجماع أهل البيت (٣) ...

وقال العلاّمة صلاح بن أحمد بن المهدي المتوفى ١٠٤٨ هـ : أجمع أهل البيت على التأذين بحيّ على خير العمل (٤).

وقال العلاّمة الشرفي المتوفى ١٠٥٥ : وعلى الجملة فهو ـ أي الأذان بحيّ على خير العمل ـ إجماع أهل البيت ، وإنّما قطعه عمر (٥).

وقال العلاّمة المحقق الحسن بن أحمد الحلال المتوفى ١٠٨٤ هـ ـ بعد أن ذكر اتفاق العترة على التأذين بحيّ على خير العمل ـ : وإجماع العترة وعليّ : ، وهما معصومان عن تعمد البدعة (٦).

وقال شيخنا (٧) السيّد العلاّمة مجد الدين حفظه الله : وقد صحّ إجماع أهل البيت

__________________

(١) شرح التجريد مخطوط.

(٢) شرح القاضي زيد للتحرير مخطوط.

(٣) المنهج الحلي شرح مسند الإمام زيد بن علي ١ : ٧٧ مخطوط.

(٤) شرح الهداية : ٢٩٤.

(٥) ضياء ذوي الابصار مخطوط ١ : ٦١.

(٦) ضوء النهار ١ : ٤٦٩.

(٧) الكلام لعزّان.

٢٦٦

على الأذان بحيّ على خير العمل (١).

وذكر في أمالي أحمد بن عيسى : ذهب آل محمّد أجمع إلى أثبات حيّ على خير العمل مرّتين في الأذان بعد حيّ على الفلاح.

وفي شرح الأزهار : ومنهما : حيّ على خير العمل ، يعني أنّ من جملة ألفاظ الأذان والإقامة حيّ على خير العمل ؛ للأدلّة الواردة المشهورة عند أئمّة العترة وشيعتهم وأتباعهم وكثير من الأمّة المحمديّة التي شحنت بها كتبهم.

قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسن في الأحكام : وقد صحّ لنا أن حيّ على خير العمل كانت على عهد رسول الله يؤذّنون بها ، ولم تُطرح إلاّ في زمن عمر بن الخطّاب ، فإنه أمر بطرحها وقال : أخاف أن يتّكل الناس عليها ويتركوا الجهاد ، وفي المنتخب : وأمّا «حيّ على خير العمل» فلم تزل على عهد رسول الله حتّى قبضه الله ، وفي عهد أبي بكر حتّى مات ، وانما تركها عمر وأمر بذلك فقيل له : لم تركتها؟ فقال : لئلا يتّكل الناس عليها ويتركوا الجهاد (٢). انتهى ما قاله عزّان.

وقال الصنعاني : إن صحّ إجماع أهل البيت ـ يعني على شرعية حيّ على خير العمل ـ فهو حجة ناهضة (٣).

وقال المقبلي عن أئمّة الزيديّة : ولو صحّ ما ادعي من وقوع إجماع أهل البيت في ذلك لكان أوضح حجّة (٤).

__________________

(١) المنهج الاقوم في الرفع والضم : ٣٥.

(٢) الاحكام ١ : ٨٤ ، شرح الازهار ١ : ٢٢٣ ، البحر الزخار ٢ : ١٩١ ، الأذان للعلوي بتحقيق عزّان : ١٥٣.

(٣) هذا ما حكاه عزّان في كتابه «حيّ على خير العمل بين الشرعية والابتداع» : ٦٨ عن كتاب منحة الغفار المطبوع بهامش ضوء النهار.

(٤) انظر : مقدمة الأذان بحيّ على خير العمل لعزّان : ١٧.

٢٦٧

ونحن في الفصل الرابع «حيّ على خير العمل وتاريخها العقائدي والسياسي» من هذا الباب سنوكّد هذا الإجماع عند أهل البيت ، وعند الشيعة بفرقها الثلاث ، ونوضّح سير هذه المسألة وكيف صارت شعاراً لنهج التعبد المحض في العصور المتأخرة بعد أن أُذِّن بها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف صار حذفها وإبدالها بـ «الصلاة خير من النوم» شعاراً لخصومهم ، وهو دليل قوي على ما نريد قوله من وقوع الملابسات في هذه الشعيرة الإسلامية.

موكّدين بأنّا ببياننا لهذه الأقسام الثلاثة أردنا أن نوضح وجهة نظرنا في جزئية هذا الفصل من فصول الأذان ، ولا نريد أن نحكّم آراءانا فوق كلام الباري وأقوال الرسول كما يفعله بعض متعصبي المذاهب الذين يرجّحون كلام إمام مذهبهم على القرآن والسنة المطهرة ، مثل ما فعله الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين إذ قال :

«ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قولَ الصحابة ، والحديثَ الصحيح ، والآيةَ ، فالخارجُ عن المذاهب الأربعة ضالٌّ مضلٌّ ، وربّما أدّاه ذلك للكفر ؛ لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر» (١).

يستبين ممّا سبق أنّ الشيعة لم ينفردوا بهذا القول ، بل هناك نقول عن الشافعي وبعض الأعلام في القول بجزئية «حيّ على خير العمل». ومن المفيد أن نقف قليلاً عند هذا الأمر لنؤكد على صحة ما قلناه من أنّ هذا الفصل «حيّ

__________________

(١) حاشية الصاوي على تفسير الجلالين ٣ : ١٠ ط دار احياء التراث العربي ، وقد رد الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي القاضي الأول بالمحكمة الشرعية بدولة قطر على كلام الصاوي في كتاب أسماه (تنزيه السنة والقرآن عن كونهما مصدر الضلال والكفران) هذا ما قاله العلاّمة الخليلي مفتي سلطنة عمان في كتابه الحق الدامغ : ١٠.

٢٦٨

على خير العمل» كان جزءاً من الأذان على عهد رسول الله إذ أمر النبيّ مؤذّنه بالتأذين به ، لكن المقدرات السياسية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاءت محوه وإزالته.

وممّا يؤيد قولنا هذا ما قاله القاسم بن محمّد بن عليّ نقلاً عن «توضيح المسائل» لعماد الدين يحيى بن محمّد بن حسن بن حميد المقرئ ما لفظه : ومنها إثبات حيّ على خير العمل ، قال : رواه الإمام المهدي أحمد بن يحيى في بحره عن أخير قولَي الشافعي قال : وقد ذكر الروياني أنّ للشافعي قولاً مشهوراً بالقول به. وقد قال كثير من علماء المالكية وغيرهم من الحنفية والشافعية إنّه كان «حيّ على خير العمل» من ألفاظ الأذان.

قال الزركشي في كتابه المسمى بالبحر ما لفظه :

«ومنها ما الخلاف فيه موجود [في المدينة] كوجوده في غيرها ، وكان ابن عمر ـ وهو عميد أهل المدينة ـ يرى إفراد الاذان ويقول فيه «حيّ على خير العمل» انتهى بلفظه (١).

إلى أن قال القاضي يحيى بن محمد بن حسن بن حميد [المقري] : فصحّ ما رواه الروياني أنّ للشافعي قولاً مشهوراً في إتيان «حيّ على خير العمل» (٢).

وفي الروض النضير : وقد قال كثير من علماء المالكية وغيرهم من الحنفية والشافعية أنّه كان «حيّ على خير العمل» من الفاظ

__________________

(١) الاعتصام بحبل الله المتين ١ : ٣٠٧.

(٢) الاعتصام بحبل الله ١ : ٣٠٨.

٢٦٩

الأذان (١).

وفي الاعتصام بحبل الله : وروى الإمام السروجي عن شرح الهداية للحنفية أحاديث «حيّ على خير العمل» بطرق كثيرة (٢).

وبعد هذا اتضح سقم ما انفرد به أهل السنة والجماعة من القول بكراهة الإتيان بحيّ على خير العمل في الأذان (٣) ؛ لأنّ فعل ابن عمر وإن قلنا بعدم دوامه فهو بيان لجواز الإتيان بها ، وفعل أبي أمامة بن سهل بن حنيف يؤكد جزئيتها وأنّها كانت على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا تأذين الإمام عليّ وعليّ بن الحسين ، فهو دليل على مشروعية هذا الفصل ، ويضاف إليها أقوال العلماء فإنّها تدل في أقل التقادير على عدم حرمة الإتيان بها.

ففي كتاب «الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر» على هامش يواقيت الجواهر للشعراني ، التصريح بعدم الكراهية ، قال فيه [أي الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية] : ما عرفتُ مستند مَن كره قول المؤذن «حيّ على خير العمل» فإنّه روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بها يوم حفر الخندق ...

وحكى الشيخ فخر الدين البلتستاني عن صاحب (حاشية منهية) من علماء الهند : إنّ ابن تيمية زعم في منهاجه على بدعة «حيّ على خير العمل» في الأذان ، فهذا تشدّد منه نحن لا نوافق معه في ذلك (٤).

وقال مهمّش مراتب الإجماع ما هذا نصه : فلا يكون هذا ـ حيّ على خير

__________________

(١) الروض النضير ١ : ٥٤٢.

(٢) الاعتصام ١ : ٣١١.

(٣) انظر المجموع للنووي ٣ : ٩٨.

(٤) حاشية منهية : ٢. انظر : كلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية ٤ : ١٦٥.

٢٧٠

العمل ـ بدعة الروافض كما يزعم ابن تيمية (١).

وبهذا عرفت أنّ «حيّ على خير العمل» فصل قد أُذِّن به على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمل به الصحابة وأهل البيت ، وذهب بعض الأعلام إلى شرعيته وعدم كراهة الإتيان به.

نعم ، إنّ أتباع النهج الحاكم تركوه ، ولم يرووا فيه إلاّ القليل ، وقالوا عن الموجود أنّه قد نسخ؟!

هذا وقد تمخض من كلّ ما سبق أُمور :

١ ـ اتفاق الفريقين على أصل شرعيتها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانفراد أهل السنة والجماعة بدعوى النسخ ، وقد تحدى السيّد المرتضى أن يأتوه بالناسخ ، بقوله :

وإنّما ادعي أنّ ذلك نُسخ ورفع ، وعلى من ادعى النسخ الدلالة وما يجدها.

٢ ـ ذكرنا في القسم الثاني الدليل الثاني من أدلّتنا على جزئية الحيعلة الثالثة وهو فعل الصحابة وأهل البيت ، فذكرنا فيه اسم ثلاثين شخصاً أذّنوا بـ «حيّ على خير العمل» من الصحابة والتابعين وأهل البيت.

٣ ـ إجماع العترة واتفاق الشيعة بفرقها الثلاث على الحيعلة.

٤ ـ واخيراً ختمنا الكلام عن جزئية الحيعلة الثالثة بما حكي عن الشافعي وبعض الاعلام من القول بجزئيتها. وسوف نُثبت لاحقاً ـ إن شاء الله ـ وجود ملازمة بين القول بـ «حيّ على خير العمل» وعدم القول بـ «الصلاة خير

__________________

(١) مراتب الاجماع لابن حزم : ٢٧ ، انظر : منهاج السنة النبوية ٦ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٢٧١

مشهوراً في إتيان «حيّ على خير العمل» (١).

وفي الروض النضير : وقد قال كثير من علماء المالكية وغيرهم من الحنفية والشافعية أنّه كان «حيّ على خير العمل» من الفاظ الأذان (٢).

وفي الاعتصام بحب الله : وروى الإمام مالسروجي عن شرح الهداية للحنفية أحاديث «حيّ على خير العمل» بطرق كثيرة (٣).

وبعد هذا اتضح سقم ما انفرد به أهل السنة والجمامة من القول بكراهة الإتيان بحيّ على خير العمل في الأذان (٤) ؛ لأنّ فعل ابن عمر وإن قلنا بعدم دوامه فهو بيان لجواز الإتيان بها ، وفعل أبي أمامة بن سهل بن حنيف يؤكد جزائيتهال وأنّها كانت على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا تأذين الإمام عليّ وعليّ بن الحسين ، فهو دليل على مشروعية هذا الفصل ، ويضاف إليها أقوال العلماء فإنّها تدل في أقل التقادير على عدم حرمة الإتيان بها.

ففي كتاب «الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر» على هامش يواقيت الجواهر للشعراني ، التصريح بعد الكراهية ، قال فيه [أي الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية] ؛ ما عرفتُ مستند من كره قوله المؤذن «حيّ على خير العمل» فإنّه روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بها يوم حفر الخندق ...

وحى الشيخ فخر الدين البلتستاني عن صاحب (حاشية منهية ÷ من علماء الهند : إنّ ابن تيمية زعم في منهاجه على بدعة «حيّ على خير العمل» في الأذان ،

__________________

(١) الاعتصام بحبل الله ١ : ٣٠٨.

(٢) الروض النضير ١ : ٥٤٢.

(٣)الاعتصام ١ : ٣١١.

(٤) انضر المموع للنووي ٣ : ٩٨.

٢٧٢

الفصل الثاني

حذف الحيعلة؟ وامتناع بلال عن التأذين؟

٢٧٣
٢٧٤

قبل البدء في بيان بحوث هذا الفصل لابدّ من معرفة معنى ما قاله أحد الصادِقَيْن (١) فيما رواه عنه أبو بصير ، أنّه قال : إنّ بلالاً كان عبداً صالحاً فقال : لا أُؤَذِّنُ لأحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتُرِكَ يومئذ «حيّ على خير العمل» (٢).

ولو ثبت هذا الخبر وصح الحديث لصار زمن سقوط حيّ على خير العمل من الأذان بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عهد أبي بكر بالذات ، وهذا يخالف المشهور بين الطالبيين والمتّفق عليه عند الشيعة الإمامية ، والزيديّة ، والاسماعيليّة ، فإنّهم جميعاً قد أطبقوا على إسقاطها في عهد عمر بن الخطّاب ، فما يعني ما رواه أبو بصير إذاً؟

الحديث الآنف هو بصدد التعريف ببلال الحبشي مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه كان صلب العود شجاعاً في مبادئه ، وعبداً صالحاً ، ومعناه : لو كان بلال مؤذناً في العصور اللاَّحقة لما تُرك حيّ على خير العمل ؛ وذلك لإيمانه وتقواه وثباته على العقيدة ، لكن لما ترك بلال ـ بل اضطُرَّ إلى ترك ـ الأذان بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في ذلك فرصة للآخرين بالزيادة والنقيصة فيه (٣).

ولك الحقّ أن تسأل عن علّة ترك بلال للأذان بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن الأقوال التي قيلت في ذلك ، وهل يصح حقاً ما نقل عن بلال بأنّه طلب من أبي بكر

__________________

(١) أي الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهم‌السلام.

(٢) من لا يحضره الفقيه باب الأذان والإقامة ١ : ١٨٤ ح ٨٧٢.

(٣) كزيادة (الصلاة خير من النوم) فيه أو نقيصة (حيّ على خير العمل) منه.

٢٧٥

أن يذهب إلى الشام كي يرابط على ثغور المسلمين ، أو أنّه قال : لا أطيق أن أؤذّن بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو غير ذلك؟

إنّ الدقّة في معرفة سير الأحداث تفرض علينا أن نقول : إنّ ترك بلال للأذان لم يكن لمجرّد حالة نفسية وردّة فعل تجاه وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ بلالاً كان أتقى وأورع من أن يترك منصباً نصبه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة حياته ، ذلك لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينصّبه مؤذِّناً شخصيّاً له ، بل أعطاه دور مؤذّن الإسلام ، فكيف يترك هذا الدَّور الشريف لمجرّد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! وهو أعلم الناس بما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل الأذان والمؤذنين.

بل كيف تعقل صياغة عذر ترجيحه للجهاد في الشام على التأذين للمسلمين ، مع أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر المسلمين أن ينضووا تحت لواء أُسامة وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة ، ومن الثابت أنّ بلالاً كان مستثنى من هذا الأمر الجهادي ، حيث أطبق التاريخ والمؤرّخون على أنّه كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤذّن له حتّى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة ، فكيف ترك التأذين ورجّح الجهاد؟!

إن هذا ما لا يعقل في حق بلال ، خصوصاً وأنّه لم يُعهد عنه اتخاذه موقفاً مرتبكاً عند موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما حدث ذلك لعمر بن الخطّاب (١) ، بل تلقّى الحادث كباقي المسلمين بألم وأسى ، واضعاً نصب عينيه قوله تعالى : (وَمَا مُحمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً) (٢) ، وقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ) (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ في أحداث سنة ١١ هـ ، وأُسد الغابة ٣ : ٢٢١.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) الزمر : ٣٠.

٢٧٦

فما قيل في ترك بلال للأذان لمجرّد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يمكن الركون إليه بحال من الأحوال ، خصوصاً وأنّ بلالاً لو بقي على أذانه لكان ذلك أقوى للمسلمين وأثبت لنفوسهم ، حيث يظلّون يعيشون مع الرسول وذكرياته السماوية العطرة ، بل يكون ذلك أبْعَثَ للمسلمين على الجهاد ، لأنّه يذكّرهم بأيّام كان ينادي فيها بمحضر النبيّ بالصلاة جامعة للجهاد والخروج والقتال.

على أنّنا نرى أنّهم يستعيضون عن بلال بسعد القرظ الذي لم يؤذن على عهد رسول الله إلاّ ثلاث مرّات بقباء ـ ان صح النقل ـ وأبي محذورة الذي كان يستهزئ بالأذان وبرسول الله (١) ، فلماذا لم يخرج سعد القرظ للجهاد إذا كان الجهاد أفضل من التأذين؟!

وإذا كان بلال قد ترك الأذان لترجيح الجهاد عليه ، فلماذا لا نرى له أيّ مشاركة في قتال المرتدين؟! ولماذا لم يرد اسمه مع أبي بكر في حروب الردّة؟ ونحن نعلم بأنّ حروب الردة قد طالت ـ بين موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبدء فتوح الشام ـ فاصلة زمنية تقارب سنة (٢) أو أقل.

ولماذا لم يؤذِّن بلال في هذه المدّة لأبي بكر ، إذ كان بوسعه أن يؤذّن له ، حتّى إذا بدأت مسيرة جيوش المسلمين للشام تركه واشتغل بالجهاد؟

إنّ بقاء بلال في المدينة ولو فترةً قصيرة لم يؤذّن فيها لأبي بكر ، إنّما يعني شيئاً؟ فما هو؟ حتّى إذا بدأت الجيوش بالزحف نحو الشام ، خرج بلال ـ طائعاً أو مكرها ـ إلى الشام وبقي فيها.

__________________

(١) هذا ما سنوضحه لك في الباب الثاني من هذه الدراسة «الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة» فانتظر.

(٢) بدأت حروب الردة بعد أربعين أو ستين أو سبعين يوماً من وفاة النبيّ ، وانتهت بمقتل مسيلمة في ربيع الاول سنة ١٢ هـ.

٢٧٧

وعليه لا يصح التبرير المطروح من ترك بلال الأذانَ ترجيحاً للجهاد عليه ، بل يبدو أنّ هذا العذر والتبرير اختُلِقَ لدعم فكرة حذف الحيعلة الثالثة ترجيحاً للجهاد عليها ـ وهي فكرة عمر بن الخطّاب التي صرّحت بها روايات عديدة ـ بدعوى أنّ الجهاد ـ لا الصلاة ـ هو خير العمل ، ومعنى كلامهم أن بلالاً ترك الأذان ترجيحاً للجهاد عليه!!

فإذا لم يصح هذا التبرير فلنا أن نقول : إنّ هناك أمراً آخر دعاه إلى اتخاذ هذا الموقف. فما هو؟

يبدو أنّ وراء ترك بلال للأذان سرّاً كامناً ، لأنّه ترك الأذان بمجرّد تسلّم أبي بكر للخلافة ، ويظهر أنّه بقي في المدينة مدّة يسيرة قد لا تتجاوز وقت وفاة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو تتجاوزها بأيام قلائل.

وما قيل من أنّ بلالاً أذّن لأبي بكر مدّة خلافته ، ثمّ رجّح الجهاد في زمان عمر فهو شيء لا يصحّ ؛ لأنّ بلالاً كانت له مشاركات في فتوح الشام ، وهذا يعني أنّه كان مع جيوش المسلمين ، وقد تفطّن ابن كثير إلى ذلك قائلاً :

ولمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك بلال الأذان ، ويقال : أذّن للصدّيق أيّام خلافته ، ولا يصحّ (١).

وقد علق النووي في المجموع على كلام ابن قسيط الذي قال بأن بلالاً كان يسلم على ابي بكر وعمر في آذانه يقول : وهذا النقل بعيد أو غلط ، فان المشهور المعروف عند أهل العلم بهذا الفن ان بلالاً لم يؤذن لابي بكر ولا عمر وقيل اذن لابي بكر رضي الله عنهم ، ورواية ابن قسيط هذه منقطعه فانه لم يدرك ابا بكر ولا عمر

__________________

(١) البداية والنهاية ٤ : ٧/١٠٤ احداث سنة عشرين من الهجرة.

٢٧٨

ولا بلالاً رضي الله عنهم (١).

وكأنّ امتناع بلال من التأذين لأبي بكر بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يَرُق لرجال النهج الحاكم ، لأنّه تبدو منه معالم معارضته للخلافة الجديدة ، من هنا وضعوا شتى المختلقات لتوجيه عدم تأذينه له ، وكأنّ الأقرب للواقع أنّه اضطُرّ إلى ترك المدينة متّجهَّا نحو الشام ، إذ كانت الشام منفى المعارضين ، وكان ستار الجهاد خير وسيلة لإبعاد المعارضين ، حيث ذهب سعد بن عبادة الأنصاري مكرهاً إلى الشام فقتل هناك غيلة ، ونفي في زمان عثمان أبو ذر ومالك الأشتر وغيرهما من المعارضين إلى الشام وحبوس معاوية (٢) ، ولا يستبعَد أن يكون بلال قد رأى ـ نتيجة ضغوط أبي بكر وعمر عليه كما ستعلم ـ أنّ الذهاب إلى الشام أسلَمَ له ، وأبعد عن عيون السلطة.

ويؤكد لنا أنّ وراء امتناع بلال من التأذين لأبي بكر أمراً مخفيّاً ، عدمُ امتناعه من التأذين لأهل البيت ، حيث أذَّن لفاطمة الزهراء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة ، وأذّن لولديها الحسن والحسين عليهما‌السلام مرّة أخرى بعد وفاة فاطمة ، وذلك ما لم يختلف فيه المؤرخون وأرباب السير.

روى الصدوق : أنّه لما قُبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله امتنع بلال من الأذان وقال : لا أؤذّن لأحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن فاطمة قالت ذات يوم : إنّي أشتهي أن أسمع صوت مؤذّن أبي بالأذان ، فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان ، فلمّا قال : «الله أكبر الله أكبر» ذكرت أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله وأيّامه فلم تتمالك

__________________

(١) المجموع ٣ : ١٢٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٢ وفيه نفي أبي ذر إلى الشام ، وتاريخ الطبري ٤ : ٣١٧ ـ ٣٢٦ / احداث سنة ٣٣ وذكر فيه تسير عثمان جماعة من أهل الكوفة إلى الشام منهم مالك الأشتر.

٢٧٩

من البكاء ، فلمّا بلغ إلى قوله «أشهد أنّ محمّداً رسول الله» شَهِقت فاطمة شهقةً وسقطت لوجهها وغُشي عليها ، فقال الناس لبلال : أمِسكْ يا بلال ، فقد فارقت ابنةُ رسول الله الدنيا ، وظنّوا أنّها قد ماتت ، فقَطَع أذانه ولم يُتمّه ، فأفاقت فاطمة وسألته أن يُتّم الأذان فلم يفعل ، وقال لها : يا سيّدة النسوان ، إني أخشى عليك مما تُنزلينه بنفسك إذا سمعتِ صوتي بالأذان ، فأعفته عن ذلك (١).

وهذا يدل على وجود بلال في المدينة قبل وفاة الزهراء عليها‌السلام ، ولم يكن قد خرج منها بعدُ إلى الشام ، وهذا يؤكد أنّ أبا بكر بقي أربعين يوماً (٢) ـ على أقل التقادير ـ يدبّر أموره قبل أن يجهز لقتال المرتدين ، وظل يقاتل المرتدين مدّة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنة قبل أن يسيِّر الجيوش التي فتحت الشام بعد أن كان جيش أسامة رجع عن وجهة الشام دون قتال.

وقد علمتَ أنّ بلالاً لم يشارك في قتال المرتدين ، بل صرّحوا بأنّه أقام في المدينة إلى أن خرجت بعوث الشام (٣).

كان بلال إذاً في المدينة ولم يؤذّن لأبي بكر ، فلماذا لم يؤذّن لأبي بكر؟! إنّه تساؤل يفرض نفسه ، ويبحث عن اجابة.

روى إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء ، حدثني أبي محمد بن سليمان ، عن أبيه سليمان

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٩٨ / ح ٩٠٧ ، وانظر : الدرجات الرفيعة : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٢) وقيل : ستين يوماً ، وقيل سبعين يوماً ، انظر : تاريخ الطبري ٣ : ٢٤١ ، واليعقوبي ٢ : ١٢٧.

(٣) انظر : كنز العمّال ١٣ : ٣٠٥ ح ٣٦٨٧٣ ، مختصر تاريخ دمشق ٥ : ٢٦٥. بل قال ابن أبي حاتم أنّه خرج إلى الشام في خلافة عمر. انظر : المراسيل : ١٠٨ ، وعنه في تهذيب الكمال ١٧ : ٣٧٣.

٢٨٠