السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : التراجم
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
أشهده الله أعيان رسله :
١٩ ـ وقال : «واعلم : أنه لما أطلعني الحق ، وأشهدني أعيان رسله عليهمالسلام ، وأنبياءه كلهم البشريين ، من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين ، في مشهد أُقِمْتُ فيه بقرطبة سنة ست وثمانين وخمسة مئة ، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود عليهالسلام ، فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم.
ورأيته رجلاً ضخماً في الرجال ، حسن الصورة ، لطيف المحاورة ، عارفاً بالأمور كاشفاً لها ، ودليلي على كشفه لها قوله : (مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (١) ..».
الملائكة أفضل من رسول الله صلىاللهعليهوآله :
٢٠ ـ وقال : «وأما المسألة الطبولية ، التي بين الناس ، واختلافهم في فضل الملائكة على البشر ، فإني سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم في الواقعة ، فقال لي : إن الملائكة أفضل.
فقلت له : يا رسول الله ، فإن سُئِلْت : ما الدليل على ذلك ، فما أقول؟!
فأشار إلي : أن قد علمتم أني أفضل الناس ، وقد صح عندكم ، وثبت ـ وهو صحيح ـ أني قلت عن الله تعالى ، أنه قال : «من ذكرني في نفسه ذكرته
__________________
الباب ٣٦٦. ومجالس المؤمنين للقاضي نور الله التستري ج ٢ ص ٢٨١ الطبعة الحجرية. وقد ذكر الطهراني في الروح المجرد ص ٢٢١ : أن الظاهر هو أن هذه العبارة التي ذكرنا قد التقطها الشيخ البهائي من كلمات ابن عربي وليست هي عين عبارته .. فراجع : الفتوحات المكية ط دار الكتب العربية الكبرى ـ بمصر ج ٣ ص ٣٢٧ و ٣٣٦.
(١) الآيتين ٥٦ و ٥٧ من سورة هود.
في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم».
وكم من ذاكر لله تعالى ذكره في ملأ أنا فيهم ، فذكره الله في ملأ خير من ذلك الملأ الذي أنا فيهم.
فما سررت بشيء سروري بهذه المسألة الخ .. (١).
كنز الكعبة وصل إليه بسبب بينه وبين الله :
٢١ ـ وقال : «واعلم أن الله تعالى أودع الكعبة كنزاً ، أراد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أن يخرجه ، فينفقه ، ثم بدا له في ذلك أمر آخر لمصلحة رآها.
ثم أراد عمر بعدُ أن يخرجه ، فامتنع ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ، فهو فيه إلى الآن ..
وأما أنا فسيق لي منه لوح من ذهب ، جيء به إلي ، وأنا بتونس ، سنة ثمان وتسعين وخمس مئة ، فيه شق ، وغلظه إصبع ، عرضه شبر ، وطوله شبر أو أزيد ، مكتوب فيه بقلم لا أعرفه.
وذلك لسبب طرأ بيني وبين الله.
فسألت الله أن يرده إلى موضعه ، أدباً مع رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم.
ولو أخرجته إلى الناس لثارت فتنة عمياء ، فتركته أيضاً لهذه المصلحة ، فإنه صلى الله عليه [وآله] وسلم ما تركه سدى ، وإنما تركه ليخرجه القائم بأمر الله في آخر الزمان ، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً الخ ..» (٢).
__________________
(١) الفتوحات المكية ج ١٢ ص ٢١٠ و ٢١١ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
(٢) راجع : الفتوحات المكية ج ١٠ ص ٥٨ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
فقه الرضيعة ونطقها :
٢٢ ـ ويقول : «واتفق لي مع بنت كانت لي ترضع ، يكون عمرها دون السنة ، فقلت لها : يا بنية ـ فأصغت إلي ـ ما تقولين في رجل جامع امرأته ، فلم ينزل ، ما يجب عليه؟
فقالت : يجب عليه الغسل.
فغشي على جدتها من نطقها. هذا شهدته بنفسي ..» (١).
بحر المعارف في صدره :
٢٣ ـ ويقول : «ولما رأيت الله تعالى قد فتح إلى قلبي باب الحكمة ، وأجرى فيه بحارها ، وسبح سري في سبحها ، حتى إني والله ، لأنظر إلى معظم البحر ، إذا اشتدت عليه الرياح الزعازع ، فعلا موجه ، وارتفع دربه.
ثم انظر إلى تموّج بحر المعارف والأسرار في صدري ، فأجد معظم ذلك البحر بما وصفناه ، من تلاطم الأمواج ، ساكناً لا حراك به ، عند تموج بحر العلم في صدري ، واصطفاقه ، لاسيما في مكة المشرفة ، فداخلني من ذلك رعب شديد ، وجزع عظيم ، وخوف متلف ، فعزمت على قطع الميعاد ، وأن لا أقعد للناس.
فأُمِرْتُ بالقعود والنصيحة للحق ، قسراً ، وحتماً واجباً ، فقعدت الخ ..» (٢).
قال بعض الإخوة ـ جاداً أو مازحاً ـ : لربما يكون لكلامه حقيقة ، بأن يكون بعض شياطين الجن قد أمره بذلك!! ولعله هو الذي زين له وأراه بحر المعارف في صدره!!
__________________
(١) راجع : الفتوحات المكية ج ١٠ ص ٧٩ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
(٢) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الأولى) ص ١٢٣.
واحد عصره :
٢٤ ـ وقد كُتِبَ على باب مدخل سرداب قبر محيي الدين ابن العربي بيت من الشعر ، يمدح فيه ابن عربي نفسه ، فيقول :
ولكل عصر واحد يسمو به |
|
وأنا لباقي العصر ذاك الواحد |
وقد كان يمكن أن يُعَدُّ هذا من خيالات الشعراء ، ولكننا بعد أن قرأنا ما قرأناه ، عرفنا : أنه قاصد لما يقول ، مريد لصريح دلالته اللفظية.
مع أن واحد العصر ، هو صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، دون سواه ، وقد خزي وخسئ من يدعي غير ذلك ..
إشتراكه مع النبي صلىاللهعليهوآله في الحكم :
وقال وهو يتحدث عن مقامٍ شهده في عالم المثال في حضرة الجلال ، وأنه رأى فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، والصديق على يمينه صلىاللهعليهوآله ، والفاروق على يساره .. و .. و .. قال :
٢٥ ـ «فالتفت السيد الأعلى ، والمورد العذب الأحلى ، والنور الأكشف الأجل ، فرآني وراء الختم ، لاشتراك بيني وبينه في الحكم.
فقال له السيد : هذا عديلك ، وابنك ، وخليلك الخ ..» (١).
حضرة العزة للصوفية :
٢٦ ـ ويقول : ونحن لنا حضرة العزة ، وهي لنا السادسة والعشرون ، غير أن هذه الحضرة العزية التي لنا متفاضلة بيننا الخ ..» (٢).
__________________
(١) الفتوحات المكية ج ١ ص ٤٤ و ٤٥ تحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
(٢) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثالثة) ص ٣٥٢.
ابن عربي أعلى من النبي صلىاللهعليهوآله مقاماً :
٢٧ ـ ونقل القيصري في شرح الفص الشيثي عن ابن عربي : أنه قال في فتوحاته : «أنه رأى حائطاً من ذهب وفضة ، وقد تحمل إلا موضع لبنتين ، إحداهما من فضة ، والأخرى من ذهب ، فانطبع موضع تلك اللبنتين. قال : «وأنا لا أشك أنني أنا الرائي ، ولا أشك أني أنا المنطبع موضعهما ، وبي كمل الحائط ، ثم عُبِّرت الرؤيا بانختام الولاية به» (١).
وسيأتي في الفصل التالي عن كتاب الفصوص ، الفص الشيثي قوله : إن النبي يرى أن الحائط ينقص لبنة واحدة ، وخاتم الأنبياء يراه ينقص لبنتين ، إحداهما من ذهب ، والأخرى من فضة .. وأنه يرى نفسه تنطبع موضع تينك اللبنتين فيكمل الحائط ..
وهذا معناه : أنه يرى نفسه فوق النبي صلىاللهعليهوآله ..
٢٨ ـ وقال في الفتوحات : «.. ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف ، فقد سمعنا (رأينا خ ل) الأحجار تذكر الله ، رؤية عين ، بلسان نَطِق ، تسمعه آذاننا منها ، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله ، مما ليس يدركه كل إنسان» (٢).
٢٩ ـ وله مدائح أخرى لنفسه ، لا مجال لتتبعها. فراجع على سبيل المثال كتابه : «الفتوحات المكية» (٣). ففيه وفي غيره الشيء الكثير ، والكثير جداً.
__________________
(١) منهاج البراعة ج ١٣ ص ٢٦٩.
(٢) راجع الفتوحات المكية ط دار الكتب العلمية الكبرى ج ١ ص ١٤٧.
(٣) الفتوحات المكية ج ١٠ ص ٤٥٢ و ٤٥٣ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
الفصل الثاني
الأولياء والأقطاب .. أنبياء لا أرباب ..
معجزات أولياء الصوفية :
قد ذكرنا في هذه الدراسة ، أو أشرنا إلى نصوص قد صرحت : بأن محيي الدين ابن عربي يدّعي لأولياء الصوفية مقام النبوة ، ولكن من دون تشريع ، كما أنه يدعي لهم من الكرامات والأفعال العجيبة التي تصل إلى حد الإعجاز الشيء الكثير .. (١).
ونحن نعلم : أن سياسة جعل البدائل وتكثيرهم ، توجب إضعاف بل إسقاط ، المقامات المعنوية ، والحط من الكرامات ، فتكثير المراجع مثلاً يوجب ضعف أو سقوط مقام المرجعية في النفوس .. وتكثير ادعاء المقامات لكثير من الأشخاص ، يجعل هذا الأمر موهوناً ومبتذلاً. ويتضاءل الإحساس بقيمة ، وتفرد ، وامتياز الأنبياء والأولياء الحقيقيين ، كما أن تكثير المزارات والمقامات ، من شأنه أن يضعف القيمة المعنوية التي تليق بمقامات ومشاهد أهل البيت عليهمالسلام ..
كما أن شيوع ادعاء الكرامات والمعجزات يجعل موضوع الكرامة والمعجزة أمراً مبتذلاً وموهوناً ، يتداوله الناس فيما بينهم ، كما يتداولون طعامهم وشرابهم ..
وتسقط بذلك قيمة النبوات ويصبح رسول الله الذي هو علة وجود
__________________
(١) راجع على سبيل المثال : مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثالثة) ص ٣٢٠ و ٣٢١ والفتوحات المكية.
العالم ، والنبي الخاتم بمثابة واحدٍ من أولياء الصوفية ، وتزول مرتبته صلىاللهعليهوآله ، ومراتب سائر الأنبياء من النفوس ، وتتضاءل قداستهم ، ولا تبقى أية ميزة لهم ..
كما ويصبح أهل الإمامة العظمى ، وآيات الله الكبرى ، كسائر الناس ، لا يصل أعظمهم ، وأكرمهم ، إلى أدنى مرتبة يصل إليها أي ولي من أولياء الصوفية المنتشرين في طول البلاد وعرضها ..
وتضيع الإمامة ، ومعانيها ، في خضم هذا البحر المتلاطم من الدعاوى العريضة ، وليس ثمة أية ضابطة أو علامة يعرف بها الصادق من الكاذب ، والولي من الشقي ، وأهل الإيمان من أولياء الشيطان ..
ولعل هذا التضييع الذي يتكفل به هذا الأسلوب الذكي ، لم يكن بالأمر العفوي ، بل كان هناك من يرغب بإشاعته واستمراره وتوسعته فهو مقيد لكثير من طلاب اللبانات في الحياة الدنيا حيث أنه أمر ، له في جميع فئات وطبقات الناس الطالب والراغب ، ما دام أنه سبيل سهل لادِّعاء هذه المقامات المغرية ، ونيل درجات خيالية من التقديس ، من دون أن يحتاج إلى بذل جهد ، أو مال ، أو غير ذلك ..
ولو أننا لم نستطع أن نستيقن أن هناك من شجع هذا الاتجاه ونماه ، ورعاه وغذاه ، فلا أقل ، من أن ذلك لم يزعج أحداً من أهل الدنيا ، بل هو قد نال رضاهم ، بل وإعجابهم في كثير من الأحيان ..
وما دمنا بصدد الإشارة إلى فقرات يسيرة وتعطي المنحى العام للمتصوفة فيما يضفونه على أنفسهم من هالات التقديس ، واختراع الكرامات ، حيث يظهرون التنكر للذات ، والزهد في الدنيا ، مع أن جوهر هذا السلوك هو التسويق للأشخاص ، والمزيد من التسلط على عقول الناس ، واستئسار عقولهم ،
ونيل أعلى درجات الكرامة لدى البسطاء منهم ، واستحداث مواقع في وجدانهم البريء ، تقوم على الإيحاء والادعاء للمقامات ، وللتصرفات ، وللمعجزات ، والكرامات.
فكان أن اخترعوا لهم سلاسل مقامات ، هياكل موهومة ، ومراتب ، وألقاب ، وطبقات غير مفهومة ، تتجلى بوضوح فيما ذكره محيي الدين بن عربي في كتابه : «الفتوحات المكية» حول طبقات الأولياء ، وأسمائهم ، ومراتبهم ، وأعدادهم ، ومواصفاتهم ، وهي لا تعدو أن تكون مجرد ترتيبات اقتراحية ، واصطلاحات ذوقية ، ليس عليها دليل ، وليس لهم إلى إثباتها سبيل ، لا من آية ، ولا من أثر عن سيد الخلق ، وأفضل الكائنات والبشر ، محمد وآله الأئمة الميامين الغرر ..
ونذكر هنا مفردات يسيرة من بحر عجاج ، متلاطم الأمواج ، من الادعاءات العريضة للكرامات ، والمعجزات ، والتصرفات مما زخرت به كتب ومؤلفات ابن عربي ، فنقول :
إستغناء المتصوفة عن المعصوم :
الأولياء فوق الأنبياء :
إن ما يدعيه الصوفية من نيل المعارف عن طريق الكشف ، قد أفسح المجال أمام ادّعاء الاستغناء عن المعصوم ، ثم هو قد مكنهم من ادّعاء نيل العلوم والمعارف ، التي قد لا يصل إليها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ..
١ ـ قال ابن عربي : «فمنا من جهل في علمه ، فقال : «والعجز عن درك الإدراك إدراك ، ومنا من علم ، فلم يقل مثل هذا ، وهو أعلى القول ، بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز.
وهذا هو أعلى عالم بالله ، وليس هذا إلا لخاتم الرسل ، وخاتم الأولياء.
وما رآه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم ، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم ، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء. فإن الرسالة والنبوة ، أعني نبوة التشريع ورسالته تنقطعان ، والولاية لا تنقطع أبداً.
فالمرسلون مم كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه من مشكاة خاتم الأولياء ، فكيف من دونهم من الأولياء؟!
وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع ، فذلك لا يقدح في مقامه ، ولا يناقض ما ذهبنا إليه ، فإنه من وجه يكون أنزل ، كما أنه من وجه يكون أعلى ..
وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم ، وفي تأبير النخل.
فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء ، وفي كل مرتبة ، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله ، هنالك مطلبهم ..
وأما حوادث الأكوان ، فلا تعلق لخواطرهم بها ، فتحقق ما ذكرناه ..
ولما مثل النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم النبوة بالحائط من اللبن ، وقد كمل سوى موضع لبنة ، فكان صلى الله عليه [وآله] وسلم تلك اللبنة.
وأما خاتم الأولياء ، فلا بد له من هذه الرؤيا ، فيرى ما مثله به رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ، ويرى في الحائط موضع لبنتين. واللبن من ذهب وفضة ، فيرى اللبنتين اللتين تنقص الحائط عنهما ، وتكمل بهما : لبنة ذهب ، ولبنة فضة ، فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين ، فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين فيكمل الحائط ..
والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في
الظاهر ، وهو موضع اللبنة الفضة ، وهو ظاهره ، وما يتبعه فيه من الأحكام.
كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه ، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه ، فلا بد أن يراه هكذا ، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن ، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك ، الذي يوحي به إلى الرسول ..
فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع بكل شيء.
فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ، ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين ، وإن تأخر وجود طينته ، فإنه بحقيقته موجود ، وهو قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم : كنت نبياً وآدم بين الماء والطين. وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلا حين بعث ..
وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين ، وغيره من الأولياء ما كان ولياً إلا بعد تحصيله شرائط الولاية الخ ..» (١).
٢ ـ وبعد أن ذكر انقطاع نبوة التشريع ، قال :
«إلا أن الله لطف بعباده ، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها ، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام ، وأبقى لهم الوراثة في التشريع ، فقال : العلماء ورثة الأنبياء ، وما ثم ميراث في ذلك إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه ..
فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع ، فمن حيث هو ولي وعارف. ولهذا مقامه من حيث هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول ، أو ذو تشريع وشرع.
فإذا سمعت أحداً من أهل الله يقول ، أو ينقل إليك عنه أنه قال : الولاية
__________________
(١) فصوص الحكم ص ٦٢ و ٦٣ و ٦٤.
أعلى من النبوة ، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه.
أو يقول : إن الولي فوق النبي والرسول ، فإنه يعني بذلك في شخص واحد ، وهو أن الرسول عليهالسلام من حيث هو ولي أتم من حيث هو نبي رسول ، لا أن الولي التابع له أعلى منه ..» (١).
٣ ـ إلى أن يقول : «إن الشرع تكليف بأعمال مخصوصة ، أو نهي عن أفعال مخصوصة ، ومحلها هذه الدار ، فهي منقطعة.
والولاية ليست كذلك ، إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي ، كما انقطعت الرسالة من حيث هي ، وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم.
والولي اسم باق لله تعالى ، فهو لعبيده تخلقاً وتحققاً ، وتعلقاً ، فقوله للعزير : لئن لم تنته عن السؤال عن ماهية الله لأمحون اسمك من ديوان النبوة ، فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي ..».
٤ ـ إلى أن قال : «إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب الخ ..» (٢).
وتصريحاته بثبوت النبوة العامة للأولياء ، وأنها لم تنقطع. والذي انقطع هو نبوة التشريع ، كثيرة وغزيرة (٣).
__________________
(١) فصوص الحكم ص ١٣٥
(٢) فصوص الحكم ص ١٣٦.
(٣) الفتوحات المكية : ج ١٢ ص ١٤٧ و ١٤٨ و ١٤٩ و ١٨٥ و ١٨٦ و ٣١٧ و ٣١٨ و ٣٣٦ و ٣٣٧ و ٣٣٨ و ٣٣٩ و ٣٤٠ و ٣٤١ و ٣٤٢ و ٣٤٤ و ٣٤٥ و ٤٢٤ و ٤٢٥. وج ١١ ص ٢٥١ حتى ص ٢٥٥ و ٣٥٨ و ٣٩١ و ٣٩٨ وج ١٠ ص ١١٩ تحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
خلفاء الرسل :
٥ ـ ويقول : «ولهذا مات رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ولم ينص بخلافة عنه إلى أحد ، ولا عينه ، لعلمه أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه ، فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع.
فلما علم صلى الله عليه [وآله] وسلم ذلك لم يحجز الأمر ، فلله خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرسول والرسل الخ ..» (١).
عبدة العجل ، عبدة لله تعالى :
٦ ـ وعن عبدة العجل في زمن النبي موسى عليهالسلام ، يقول : «فكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل ، لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه ، وما حكم الله بشيء إلا وقع ..».
العجل بعض المجالي الإلهية :
٧ ـ إلى أن قال : «أنظر إلى إلهك» فسماه إلهاً بطريق التنبيه وللتعليم ، لما علم أنه بعض المجالي الإلهية (٢).
خاتم الأولياء .. هو خاتم النبوة المطلقة :
٨ ـ وقال : «وأما ختم الولاية المحمدية ، فهي لرجل من العرب ، من أكرمها أصلاً ويداً ، وهو في زماننا اليوم موجود عرفت به سنة خمس وتسعين وثمان مئة ، ورأيت العلامة التي قد أخفاها الحق فيه عن عيون عباده ، وكشفها لي بمدينة فاس ، حتى رأيت خاتم الولاية منه ، وهو خاتم النبوة المطلقة ، لا يعلمه كثير من الناس.
__________________
(١) فصوص الحكم ص ١٦٣.
(٢) راجع فصوص الحكم ص ١٩٢.
وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه ، فيما يتحقق به من الحق في سره من العلم به.
وكما أن الله ختم بمحمد صلى الله عليه [وآله] وسلم نبوة الشرايع ، كذلك ختم الله بالختم المحمدي الولاية التي تحصل من الورث المحمدي ، لا التي تحصل من سائر الأنبياء ، فإن من الأولياء من يرث إبراهيم وموسى وعيسى ، فهؤلاء يوجدون بعد هذا الختم المحمدي ..» (١).
خاتم الأولياء ، ليس هو المهدي :
٩ ـ ويقول : «استحق أن يكون لولايته الخاصة ختم يواطئ اسمه اسمه صلى الله عليه [وآله] وسلم ، ويجوز خلفه ، وما هو بالمهدي المسمى ، المعروف بالمنتظر ، فإن ذلك من سلالته وعترته ، والختم ليس من سلالته الحسية ، ولكنه من سلالة أعراقه وأخلاقه صلى الله عليه [وآله] وسلم» .. (٢).
الكفار هم الأولياء :
١٠ ـ وفي كلام له حول «الأولياء في صفة الأعداء» يقول :
«انظر كيف أخفى سبحانه أولياءه في صفة أعدائه؟ وذلك أنه لما أبدع الأمناء من اسمه اللطيف ، وتجلى لهم في اسمه الجميل ، فأحبوه تعالى ..
والغيرة من صفات المحبة ، في المحبوب والمحب ، بوجهين مختلفين. فستروا محبته تعالى غيرة منهم عليه ، كالشبلي وأمثاله ، وسترهم الحق بهذه الغيرة عن أن يُعرفوا.
__________________
(١) راجع : الفتوحات المكية ج ١٢ ص ١٢١ تحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
(٢) راجع : الفتوحات المكية ج ١٢ ص ١٢٨ تحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ) (١) .. أي ستروا ما بدا لهم في مشاهدتهم من أسرار الوصلة ، فقال : لا بد من أن أحجبكم عن ذاتي بصفاتي. فتاهوا كذلك فما استعدوا. فأنذرتهم على ألسنة أنبيائي الرسل ، في ذلك العالم ، فما عرفوا : لأنهم في عين الجمع ، وخاطبهم الحق من عين التفرقة ، وهم ما عرفوا عالم التفصيل ، فلم يستعدوا. وكان الحب قد استولى على قلوبهم سلطانه ، غيرة من الحق في ذلك الوقت.
فأخبر تعالى نبيه صلى الله عليه [وآله] وسلم ، روحاً وقرآناً ، بالسبب الذي أصمهم عن إجابة ما دعاهم إليه ، فقال : (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ) (٢) .. فلم يسمعها غيره ، (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) .. فلا يسمعون سوى كلامه على ألسنة العالم ، فيشهدونه في العالم متكلماً بلغاتهم : (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) .. من سناه ـ إذ هو النور ـ وبهائه ، إذ له الجلال والهيبة : يريد الصفة التي تجلى لهم فيها المتقدمة ..
فأبقاهم الحق غرقى في بحور اللذات بمشاهدة الذات ، فقال لهم : لا بد لكم من (عَذَابٌ عظِيمٌ) فما فهموا ما العذاب ، لاتحاد الصفة عندهم.
فأوجد لهم الحق عالم الكون والفساد ، وحينئذ علمهم «جميع الأسماء» ، وأنزلهم على العرش الرحماني ، وفيه عذابهم ، وقد كانوا مخبوئين عنده في خزائن غيوبه ، فلما أبصرتهم الملائكة خرت سجوداً لهم ، فعلموهم الأسماء ..
فأما أبو يزيد ، فلم يستطع الاستواء ، ولا أطاق العذاب ، فصعق من حينه. فقال تعالى : «ردوا علي حبيبي ، فإنه لا صبر له عني».
فحجب بالشوق والمخاطبة.
__________________
(١) الآية ٦ من سورة البقرة.
(٢) الآية ٧ من سورة البقرة.
وبقي للكفار ، فنزلوا من العرش إلى الكرسي. فبدت لهم القدمان ، فنزلوا عليهما في «الثلث الباقي من ليلة» هذه النشأة الجسمية ..».
١١ ـ وقال : «إن أبا يزيد نفخ في النملة التي قتلها فحييت ، فكان عيسوي المشهد» (١).
وكتاب تذكرة الأولياء مشحون بما يدعونه كرامات ومعجزات للصوفية .. فمن أراد المزيد الذي لا يكاد يحصره عدّ ، أو ينتهي إلى حد ، فعليه بمراجعة ذلك الكتاب وغيره ..
__________________
(١) فصوص الحكم ص ١٤٢.
القسم الثالث
ابن عربي .. سني متعصب ..
وهو يشتمل على :
الفصل الأول : سمات ومناهج ..
الفصل الثاني : نبذة من عقائده ..
الفصل الثالث : أئمته .. ومقاماتهم؟!
الفصل الرابع : مقامات أبي بكر ..
الفصل الخامس : عمر بن الخطاب الولي المعصوم ..
الفصل السادس : شخصيات يعظمها إلى حد التقديس
الفصل السابع : قبائح أم مدائح ..