ابن عربي سنّيّ متعصّب

السيد جعفر مرتضى العاملي

ابن عربي سنّيّ متعصّب

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : التراجم
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

بحاجة إلى ذكرها ، والتنويه بها.

وعلى فرض الحاجة إلى ذلك ، فإن كيفية الحديث عنها ، وطريقة التعاطي معها قد كانت فريدة ، وغير سديدة ، ولا رشيدة .. بل هي في أحيان كثيرة مجرد تمحلات تافهة ، وبعيدة.

والتقية إنما تفرض عليه السكوت ، أو التصريح بأدنى المراتب التي يمكن بها دفع غائلة أهل البغي والباطل ، ولا تفرض هذا القدر من الإصرار ، ومن الإكثار من الكلام التسويقي لأمورٍ لا حقيقة لها ، ولا لما يدعيه في تسويقها ..

الروافض من الشيعة :

وزعم البعض : أن ابن عربي قد ذكر وهو يتكلم عن رؤية الروافض بصورة خنازير : أن الروافض من الشيعة. وهذا يؤيد أن يكون مراده بالروافض هم الخوارج ، لأن معنى هذه العبارة : أن الروافض هم طائفة انفصلت من الشيعة ، واتبعت مذهب النصب والانحراف .. (١).

ونقول :

إن حبهم لابن عربي قد دعاهم إلى أن يجعلوا من نفس دليل إدانته دليلاً على صحة عقيدته!! ..

فإن قوله : إن الروافض هم من الشيعة ، صريح في أنه يعرف فرق الشيعة المختلفة ، كالزيدية ، والإسماعيلية ، وغير ذلك .. ويعرف أن الروافض هم خصوص فرقة الإمامية ، التي هي أهم الفرق ، وأكثرها اتساعاً ، وأصعبها مراساً

__________________

(١) راجع : الروح المجرد ص ٤٢٧.

١٠١

في الدفاع عن الحق والدين ..

فما معنى ادعاء : أن قوله : «الروافض من الشيعة» يدل على : أنه يقصد بالروافض النواصب ..

وهل إذا قلت : إن الأحناف من أهل السنة يكون معناه : أن الأحناف فرقة منفصلة عن أهل السنة ، ويصيرون من الشيعة؟!

وإذا قلت الكاثوليك من المسيحيين ، يصبح الكاثوليك فرقة منفصلة عن المسيحية ، ومن أعدائها؟! ..

وإذا قلت : إن بني عبد المطلب من بني هاشم ، يصبح بنو عبد المطلب جماعة منفصلة عن الهاشميين ، وتنصب العداوة لهم؟!! ..

ابن عربي مستضعف :

إن البعض يعترف : بأن ابن عربي قد ولد وعاش سُنيِّاً ، وفي بيئة سُنِّية .. ولكنه ادعى أنه قد جاهد نفسه ، فاكتشف الحقائق تدريجياً بالشهود والوجدان ، وصار من مخلصي الموحدين ، ومن الشيعة الذين يفدون أرواحهم في محبة أمير المؤمنين عليه‌السلام .. لكن التسمي باسم الشيعة ، وإظهار البغض والعداء للخلفاء الغاصبين كان أمراً محالاً ..

«والأمر إلى الآن كذلك ، فلو أن أحداً وقف في مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونادى : أشهد أن علياً ولي الله ، لسفكوا دمه ، ولتناهبت القبائل والطوائف دمه ولحمه تبركاً ، ولكنه لو وقف ساعة كاملة يتحدث في مدح عائشة لنثروا عليه الحلوى ، واستقبلوه بالزغاريد والأهاليل الخ ..».

وبعد أن ادعى أيضاً : أن مكتبات أهل تلك البلاد كانت مليئة بكتب العامة ، قال :

١٠٢

«فلم يكن يوجد في جميع مدنهم ، ولو كتاب شيعي واحد» (١).

وذكر أيضاً : أنه حين جرى الحديث أمام السيد الطباطبائي حول ما زعمه ابن عربي ، من أن المتوكل من أولياء الله ، قال الطهراني له :

«إن علينا في أمثال هذا النمط من المطالب أن نعده في زمرة المستضعفين ..

فضحك العلامة مستنكراً ، وقال : أمحيي الدين من المستضعفين؟!

فقال الطهراني : ما المانع من ذلك ، فحين يكون مناط الاستضعاف عدم الوصول إلى متن الحقيقة ، وواقع الأمر ، مع كون الطالب في صدد الوصول إليها ، فلا فرق بين عالم كبير ، كمحيي الدين ، وعامي ..» (٢).

ونقول :

إن هذا الكلام وإن سلمنا بصحة بعض مقدماته ، ولكنه غير دقيق في بعض مقدماته الأخرى ، ولا ينتج تشيُّع ابن عربي ، وذلك للأمور التالية :

أولاً : قوله : «لم يكن يوجد في جميع مدنهم كتاب شيعي واحد» ، لا يمكن قبوله إلا من عالم الغيب والشهادة تبارك وتعالى.

ثانياً : إن مؤلفات علماء تلك البلاد مشحونة بذكر عقائد الشيعة ، والسعي إلى إبطالها .. فراجع : مؤلفات ابن حزم الذي قرأ ابن عربي كتبه ، وراجع : كتب ابن عبد ربه ، وأبي عمر بن عبد البر ، والقاضي أبي بكر ابن العربي ، وغير هؤلاء كثيرون .. فكيف عرف هؤلاء بعقائد الشيعة ، ودونوها في كتبهم وجهلها ابن عربي ، إلى حد أنه أصبح يعد في جملة المستضعفين؟!

ثالثاً : لا شك في أن ابن عربي كان ـ كغيره ـ يعرف : أن هناك طائفة من

__________________

(١) الروح المجرد ص ٣٥٠.

(٢) راجع : الروح المجرد هامش ص ٤٢٠ وهامش ص ٣٦٧.

١٠٣

الناس يقال لهم : «الروافض» ، وأنهم «إمامية».

وقد تحدث عن أن بعض الصوفية من «الرجبيين» يرون «الرافضة» بصورة خنازير ، أو كلاب ..

وذكر أن الشيطان يأتيهم عن طريق حب أهل البيت عليهم‌السلام ، وغير ذلك.

كما أن ابن عربي قد سافر إلى البلاد المختلفة ومنها : مصر ، والعراق ، والموصل ، والحجاز ، والشام ، وغيرها .. وعاش فيها سنين طويلة ، وهاجس الخوف من الفكر الشيعي كان على درجة كبيرة من القوة والوضوح خصوصاً لدى علماء تلك البلاد ، فلماذا لا يسأل عن هذه الفرقة «الرافضة» ، وعن اعتقاداتها ، وآرائها؟! ..

وكيف لم يتفق له أن يعرف شيئاً عنها ، لا في بغداد ، ولا في غيرها؟! حتى انتهى به الأمر إلى هذا الإستضعاف الذي يأنف الناس العاديون من أن ينسبوا لإليه ، فضلاً عن أمثال ابن عربي.

مع العلم بأن تسنن أهل السنة لا ينفصل عن مقارعة الشيعة ، وخصوصاً الإمامية ، الذين هم الرافضة ، ولا يكف علماؤهم عن تداول آرائهم ، والهجوم عليهم.

وكتب العامة مليئة بما يثير الفضول ، ويلهب المشاعر ، ويستحث العقول لمعرفة شيء عن الشيعة والتشيع ، وعن الرفض والرافضة ..

رابعاً : إن من يعرف هذه التفاصيل الدقيقة عن مذهب التسنن ، ويكتب الفتوحات المكية استظهاراً ، بدون أن يراجع كتاباً في العقائد والفقه ، والحديث ، والتاريخ ، وغير ذلك ـ كما يزعمون ـ لا بد أن يمر عليه من خلال تحصيله لهذه المعارف الشيء الكثير عن الشيعة ، وعن التشيع.

١٠٤

ولو أنه قد حصل معارفه هذه عن طريق الكشف والعلم اللدني ، فلماذا لم يحصِّل قليلاً من المعرفة بالشيعة عن هذا الطريق أيضاً.

فما الذي أوجب أن يبقى في دائرة الجهل إلى حد الإستضعاف في أمر هذه الطائفة التي تشغل بال العالم السني من أقصاه إلى أقصاه ، بسبب فكرها القوي ، وحجتها البالغة؟!

وهل يمكن أن يعد أمثاله من العلماء الواسعي الإطلاع إلى هذا الحد من المستضعفين؟!

وماذا بقي لغيرهم من سائر الناس؟!

وأفلا يحق للسيد الطباطبائي «رحمه الله» أن يضحك مستنكراً لمثل هذه الدعاوى؟!

خامساً : لو قبلنا جدلاً : أن ابن عربي مستضعف ، فإن هذا لا يجعله في جملة الشيعة ، ولا يخرجه عن دائرة التسنن ، حيث لا بد من ترتيب أحكامه عليه ، ومعاملته على أساسه .. ولابد أن يكون مثله مثل المستضعفين في سائر الأديان .. فإن استضعاف المسيحي أو اليهودي لا يجعله في عداد المسلمين.

سادساً : إذا كان شهوده قد أوصله إلى هذا الحد من التشيع ، والحب للإمام علي عليه‌السلام ، الذي أشار إليه المستدل ، فلماذا لم يوصله إلى حقيقة أعداء علي ، ومناوئيه؟! خصوصاً من هم مثل المتوكل ، ومعاوية ، والحجاج ، و .. و ..؟!

وإذا كان قد عرفهم ، وتحقق حالهم ، فلماذا ملأ كتبه بكراماتهم ، وشحنها بفضائلهم المزعومة؟!

ولماذا أنكر استخلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأحد حتى لعلي عليه‌السلام ، من بعده؟! ..

١٠٥

ولماذا لم يعرف ما جرى على السيدة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها ، من ظلم واضطهاد؟!

ولماذا؟! ولماذا؟! ..

وإذا كان قد كشف ذلك كله بالشهود والوجدان ، فلماذا أيضاً لم يكتشف إمامة وحقيقة أهل البيت عليهم‌السلام الثابتة بالأحاديث الصحيحة والمتواترة؟! ..

ولماذا عمم المراد بأهل البيت ليشمل جعفراً وسلمان الفارسي ، وغيرهما ، ولم يكتشف أنهم هم أهل الكساء؟! ويلحق بهم يأتي الأئمة الطاهرين.

بل إن ذلك لا يحتاج لا إلى شهود ولا إلى وجدان ، ولا يحتاج فيه إلى كتب الشيعة ، فإن كتب السنة التي قرأها ، أو قرئت عليه ، خير شاهد ودليل على ذلك.

وأخيراً .. لماذا لم يكتشف بكشفه ووجدانه حقيقة الشيعة ، وأنهم ليسوا كلاباً ولا خنازير ، بل هم خيرة أهل الإيمان ، وهم عز الإسلام.

وقد ذكرنا في فقرة : مدائحه لنفسه. ما يكفي لإقامة الحجة عليه ، لو كان صادقاً فيما يدعيه ..

سابعاً : إن هذا المستدل يريد أن يدعي علينا : أن ما نطلبه من ابن عربي ، هو أن يتحدى أهل السنة في مقدساتهم ، وأن يعلن بسب خلفائهم ، وقد أورد مثال من ينادي في شوارع المدينة بالشهادة بالولاية لعلي عليه‌السلام ، للتدليل على ما يرمي إليه ..

والحقيقة هي أنه يعلم أن هذا ليس هو المطلوب لنا ولا لغيرنا ، بل المطلوب ـ لو كان موقف ابن عربي يرتكز إلى التقية ـ هو أدنى حدّ من المداراة للآخرين التي تدفع شرَّهم عنه ، وأن لا يبادر بمناسبة وغير مناسبة إلى اقتراح الفضائل لمناوئيهم ، وإعلان أمور ليس لها أي أساس من الصحة ،

١٠٦

وإلى أن يسجل عدم وصاية النبي للإمام علي عليه‌السلام ، وإلى أن يذكر رؤية العرفاء للشيعة بصورة خنازير.

وأن يكون كل همه في جميع كتبه منصرفاً إلى تدعيم ، وترسيخ مذهب يدعون أنه لا يراه حقاً ، ولا يؤمن به.

ويتأكد هذا المطلوب ، ويصبح أكثر إلحاحاً بملاحظة : أن كتابه مجرد كتاب تربية روحية ، وتصوف ، ودعوة إلى الزهد ، ولا يطالبه أحد لو سكت عن مثل هذه الأمور التي جعلها كل همه ، وأساس رسالته التبشيرية.

فإن عقلاء أهل السنة إنما يغضبون إذا تجرأ المتجرئ على أعيان مذهبهم ، من دون حق. ولا يغضبون من بيان الحق بالدليل ، إذا كان ذلك بالكلمة الرضية والصحيحة ، والصريحة ، والصادقة ..

كما أنهم لا يغضبون لو سكت الإنسان عن التعرض لأي شيء ، ولأجل ذلك لا نجدهم يطلبون من الطبيب ، أو النحوي أن يكتب فضائل أبي بكر أو عمر في كتابه في الطب ، أو في علم النحو مثلاً ، ولا يفرضون على عالم الفيزياء مثل ذلك ..

فاتضح أن سَوْق البحث حول هذا الأمر بهذا الاتجاه ، قد كان غير منصف ، ولا مقبول ..

ابن عربي .. عند الشهيد مطهري :

وربما يتمسك البعض بما صدر من الشهيد مرتضى مطهري من تعظيم لشأن ابن عربي إلى حد : أنه اعتبره :

«أعظم عرفاء الإسلام ، فلم يصل أحد إلى ما وصل إليه ، لا من قبله ، ولا من بعده» ..

إلى أن قال :

١٠٧

«إنه كان من عجائب الدهر ، إنسان محير ، ومدهش» .. (١).

وقال عن كتابه : «فصوص الحكم» : «لعله لا يظهر في كل عصر أكثر من اثنين ، أو ثلاثة ، ممن يمكنهم أن يفهموه» (٢).

والشهيد مطهري عالم عظيم ، لا يلقي الكلام جزافاً ، وبلا دليل.

فإذا قبلنا كلامه ، فإن علينا أن نقبل بأننا لم نفهم ما يرمي إليه ابن عربي في المواضع التي يظهر منها أنه ليس بشيعي.

ونقول :

أولاً : إن هذا الكلام إنما يصح بعد التسليم بتشيعه ، وحيث لابد في هذه الحالة من يتمحض السعي باتجاه فهم سبب تصريحه بما يخالف مذهبه ..

أما إذا كان أصل ابن عربي وفصله هو التسنن ، وقد جاءت كتبه مرتكزة إلى أصول مذهبه المعروف عنه ، ثم جاء من يريد أن يدعي خلاف ذلك ، فإن طبيعة البحث تفرض التمسك بظواهر كلامه ، ـ فكيف بصريحه ـ إلى أن يأتي الدليل القاطع ، والبرهان الساطع على ضد ذلك ..

وهذا هو المفقود حقاً في أمر النزاع في تشيع ابن عربي.

ثانياً : إن كلام الشهيد مطهري لا يفيد في اثبات تشيع ابن عربي ، حيث إنه لم يشر إلى ذلك ، لا من قريب ولا من بعيد. لأنه قد كان بصدد الثناء عليه في خصوص علم التصوف والعرفان الصوفي ، ولم يكن بصدد بيان مذهبه ، ولا كان يريد بيان عيوبه ..

فالإرتكاز إلى كلامه في هذا الأمر ، ما هو إلا تحكم ، واقتراح بلا مبرر.

__________________

(١) العرفان ص ٧٤ تأليف الشهيد مرتضى المطهري ط بيروت سنة ١٤١٣ هـ.

(٢) العرفان ص ٧٥ تأليف الشهيد مرتضى المطهري ط بيروت سنة ١٤١٣ هـ.

١٠٨

ثالثاً : إن كلام الشهيد مطهري لا يمكن قبوله من دون تمحيص علمي ، إذ إن من يقرأ كلامه يتخيل : أن علماء الإسلام ليس لهم هَّم إلا حل رموز كتب ابن عربي ، خصوصاً كتاب : «فصوص الحكم» ، وأنهم قد اجتمعوا بقضهم وقضيضهم لمعالجة مبهماتها ، وحل مشكلاتها ، ثم ظهر عجزهم ، وبانت خيبتهم.

مع أن الحقيقة ليست كذلك ، فإن من يظهرون الاهتمام بهذا العلم الذي لابن عربي ، نوع معرفة أو درجة من البراعة فيه ، هم أقل القليل من العلماء ..

أما الذين يمارسونه بصورة جدية ، ومقبولة ، ومعقولة ، فهم أفراد قلائل في كل زمان ..

فإذا لم يفهم كتاب الفصوص إلا اثنان أو ثلاثة ، في كل عصر ، فإن ذلك هو الأمر الطبيعي بالنسبة إلى علم يقل المهتمون به ، ويندر الذين يسعون إلى التعمق والتبحر فيه .. وإن كان يكثر المدّعون له ، رغبة في الحصول على شرف الانتساب ، دون بذل جهد في سبيل نيل حقائق ذلك العلم ، وتحصيل دقائقه ..

رابعاً : إن كلام الشهيد مطهري لا يفيد شيئاً في رفع إبهام أمر ابن عربي فيما يرتبط بحقيقة مذهبه الاعتقادي .. فإن عدم فهم الكثيرين لكلام هذا الرجل في الفصوص ـ لو صح ـ فليس معناه : أن جميع ما أورده في ذلك الكتاب أو في غيره ، غير مفهوم لهم أيضاً ..

بل المراد : أن كثيراً من موارد ذلك الكتاب تبقى مبهمة على القارئ ، غير المتخصص في ذلك العلم ، مع قلة أولئك المتخصصين في خصوص العرفان الصوفي لدى أهل السنة .. فالابهام إنما هو في موارد لا ترتبط بما يدل على حقيقة مذهبه الإعتقادي.

ولم نجد أحداً قال : إن أياً من المفردات الصريحة في دائرة ما يستعصي فهمه على العلماء؟! أو حتى على العامة من الناس ، فضلاً

١٠٩

عن الخاصة؟! ..

بل الأمر على خلاف ذلك تماماً ، فإنها قد جاءت في غاية الصراحة والوضوح حتى للجاهل غير العالم ..

والنصوص التي أوردناها في هذه الدراسة لا شك في أنها خير شاهد على ذلك ..

خامساً : إن الكلام إنما هو في حقيقة الأدلة والشواهد على تشيع هذا الرجل ، وليس قول هذا أو ذاك من العلماء بالذي يصلح دليلاً على ذلك ، ما دام أن العلماء ، يتساوون في كونهم يتلمسون تلك الشواهد ، وهاتيك الأدلة على هذا الأمر ، إذ أن أحداً منهم لايدعي أنه قد عاش مع ابن عربي ، وسمع منه ، واطلع على دخيلة نفسه.

فإذا كان قول الشهيد مطهري دليلاً على تشيعه ـ مع كونه غير دال على ذلك ـ فليكن قول جميع الآخرين ممن هم فحول وأساطين العلم ، مع وضوحه وصراحته ، ومع قرب مأخذه ، الدليل الأقوى على ذلك. لمن ألقى السمع وهو شهيد ..

١١٠

القسم الثاني

جنون العظمة ..

وهو يشتمل على فصلين :

الفصل الأول : مادح نفسه يقرؤك السلام ..

الفصل الثاني : الأولياء والأقطاب .. أنبياء لا أرباب ..

١١١
١١٢

الفصل الأول

مادح نفسه يقرؤك السلام ..

١١٣
١١٤

أدلة وشواهد :

إننا نذكر في هذا الفصل ، وفي ما يلي من فصول شواهد وأموراً تدل على أن ابن عربي مجانب للصواب في اعتقاداته ، وللصدق في ادعاءاته ، ونخصص هذا الفصل لإيراد بعض ما مدح به نفسه ، وما ادعاه لها من مقامات ، مما لو أردنا استقصاءه في مؤلفاته لبلغ مجلداً ضخماً ، يثير دهشة القارئ ، ويزيد من إعجابه بقدرة هذا الرجل على التخيل ، وسوف تدهشه تهويمات أوهامه ، وسعة أحلامه ، وجرأته على التبجح والإدعاء لمعجزة النبي ولمقامه ..

فنقول ، وعلى الله نتوكل ، إنه خير مأمول ، وأكرم مسؤول ..

إسراء ومعراج ابن عربي :

١ ـ ادَّعى في فتوحاته : أنه أسري به إلى السماء تسع مرات .. (١).

قال الحر العاملي : «ويظهر منه : أنه يدعي المزية والفضيلة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ..» (٢) ..

ادّعاء ختم الولاية لمنامٍ :

٢ ـ وقال الحر العاملي : إنه ادعى أنه خاتم الولاية لرؤيا رآها في منامه ..

__________________

(١) راجع : كتاب الإسرا إلى مقام الإسرى ط سنة ١٣٦٧ ه‍ ضمن رسائل ابن عربي.

(٢) الإثنا عشرية ص ١٦٩ / ١٧٠.

١١٥

٣ ـ قال شارح الفصوص : إنه بقي تسعة أشهر في الخلوة لم يأكل طعاماً ، وبعدها بُشّر بأنه خاتم الولاية المحمدية ، وقيل له : دليلك أن العلامة التي كانت بين كتفي الرسول الدالة على أنه خاتم النبوة ، هي نفسها بين كتفيك ، تدل على أنك خاتم الولاية .. (١).

دعاوى علم الغيب :

٤ ـ قال الحر العاملي : ذكر في الفتوحات المكية أخباراً يحيلها العقل ، ويجزم بكذبها ، ويظهر منه دعوى علم الغيب ، والجرأة على الإفتراء والكذب (٢) ..

ابن عربي ركن العالم :

٥ ـ ويقول عن نفسه : «فكنا [الأربعة الأركان] التي قام عليها شخص العالم والإنسان ..» (٣).

من الأوتاد وله ركن الحجر الأسود :

٦ ـ إنه يدعي لنفسه : أنه من الأوتاد الأربعة ، وأن له ركن الحجر الأسود (٤).

كشف الحقائق له :

٧ ـ يدعي في عشرات الموارد أيضاً : أن الحقائق قد كشفت له .. فراجع كتابه الفتوحات المكية وغيره ..

__________________

(١) الموارد المتقدمة ذكرها الحر العاملي في كتاب : الإثنا عشرية ص ١٦٩ / ١٧٠.

(٢) الإثنا عشرية ص ١٦٩ / ١٧٠.

(٣) الفتوحات المكية ج ١ ص ٧٢ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

(٤) راجع : الفتوحات المكية ج ٢ ص ٤٠١ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

١١٦

يتلقى معارفه من الروح الأمين :

٨ ـ ومدائحه لنفسه في كتابه : «عنقاء مغرب» ، كثيرة ، ويذكر فيه أيضاً : أنه قد كتبه بأمر قد صدر له ، وكانت تسميته بهذا الإسم بعد أخذ ورد ، حتى لقد قال : «كل ما أبرزناه لعين الناقد البصير ، إنما هو من تلقيات الروح الأمين الخ ..».

٩ ـ وذكر أيضاً : أن كتاب عنقاء مغرب ، قد أنزله الله عليه ، وأبرزه للعباد على يديه .. (١).

تأليف «فصوص الحكم» بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

١٠ ـ ادَّعى في فصوص الحكم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو الذي أمره به ، وأنه إنما أودع فيه ما حده له .. (٢).

يؤلف «الفتوحات» بأمر ربه :

١١ ـ وقال : «فالله تعالى رتب على يدنا هذا الترتيب ، فتركناه ، ولم ندخل فيه برأينا ، ولا بعقولنا. فالله يملي على القلوب بالإلهام جميع ما يسطره العالم في الوجود ، فإن العالم كتاب مسطور إلهي» (٣).

١٢ ـ ويدعي في الفتوحات أيضاً أنه حين تكلم حول أوائل السور ، فإنه إنما فعله عن أمر ربه ، قال :

«لا أتكلم إلا عن طريق الإذن ، كما أني سأقف عند ما يُحَدُّ لي ، فإن تأليفنا هذا وغيره لا يجري مجرى التواليف ، ولا نجري منه نحن مجرى المؤلفين ، فإن كل مؤلف إنما هو تحت اختياره ، وإن كان مجبوراً في اختياره ،

__________________

(١) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثالثة) ص ١٧ و ٢٠ و ٢١.

(٢) فصوص الحكم ص ٤٧ و ٤٨ و ٥٦ و ٥٧.

(٣) راجع : الفتوحات المكية ج ١٣ ص ٤٥٠ و ٤٥١ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

١١٧

أو تحت العلم الذي يبثه خاصة ، فيلقي ما يشاء ، ويمسك ما يشاء ..» (١).

ولا بأس بمراجعة العبارة في المصدر إلى آخرها.

وقد علق عليه القديحي ، بعد أن أورد عبارته بتمامها ، بقوله :

«انظر إلى هذه الدعوى التي لا تتم إلا لنبي مرسل ، فإن صريحها : أنه لا ينطق إلا عن وحي يوحى في قلبه ، علمه شديد القوى.

ومقتضاها الإستغناء عن مضامين القرآن والحديث ، وإنما يجب عليه الإيمان بها كما آمن الرسول بالأنبياء ، والرسل ، وكتبهم الخ ..» (٢).

وقد ذكر ابن عربي نظير ذلك حين تكلم عن معاني (ألم ـ البقرة) وأنه لا يقيد مسألة عن هوى واختيار ، إلا عن وحي من ربه وائتمار .. (٣).

الخضر عليه‌السلام ، وابن عربي :

١٣ ـ وهو يزعم : أنه قد اجتمع مع الخضر عليه‌السلام أكثر من مرة (٤).

يرى الله في المنام :

١٤ ـ ويزعم : أنه قد رأى ربه في عالم الرؤيا ، وهو يقول له : إنصح عبادي (٥).

وقد تكررت رؤيته لربه في المنام في مناسبات عديدة ، فراجع (٦).

__________________

(١) الفتوحات المكية ج ١ ص ٢٦٤ و ٢٦٥ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى ، وراجع : الردود والنقود ص ١٤٩ و ١٥٠.

(٢) راجع : الردود والنقود ص ١٥٠ و ١٥١.

(٣) راجع : الردود والنقود ص ١٧٠ و ١٧١.

(٤) الفتوحات المكية ج ٣ ص ١٨١ و ١٨٢ و ١٨٣ و ١٨٤ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

(٥) الفتوحات المكية ج ٥ ص ١٥٦ و ١٥٧ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

(٦) الفتوحات المكية ج ٩ ص ١٠٦ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

١١٨

معرفته بالدقائق :

١٥ ـ ويقول : «غير أن هنا دقيقة ، لا يعلمها إلا أمثالنا» (١).

حالات الغيبوبة :

١٦ ـ ويقول عن نفسه : «.. وأما اعتبار المغمى عليه ، فهو صاحب الحال ، الذي أفناه الجلال ، أو هيَّمه الجمال ، فلا يعقل. فيكون الحق متوليه في تلك الغيبة في حسه ، بما شاء أن يجريه عليه.

وقد أقمت أنا في هذه الحالة مدة ، ولم أُخِلَّ بشيء من حركات الصلاة الظاهرة بالجماعة ، على أتم ما يمكن إماماً. ولا علم لي بشيء من هذا كله.

فلما أفقت ورددت إلى حسي في عالم الشهادة ، أعلمني الحاضرون : أنه ما فاتني شيء مما توجه علي من التكليف ، كما توجه على العاقل الذاكر.

ومن أهل طريقنا من لا تكون له هذه الحالة ، وهي حالة شريفة ، حيث لم يجر عليه لسان ذنب».

ثم يذكر نظير ذلك للشبلي أيضاً (٢).

لكنه لم يبين لنا ما حكم عباداته ، وصلواته ، وهو في تلك الحال ، هل هو حكم من يدخل في إغماء أو غيبوبة ، فيجب عليه إعادتها؟!

أم هو حكم الإنسان الصاحي الذي لا يجب عليه شيء؟! ..

وبأيٍ من هاتين المقولتين التزم؟!

__________________

(١) فصوص الحكم ص ١٦٢.

(٢) الفتوحات المكية ج ٧ ص ١٨٧ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

١١٩

وريث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى من خلفه :

١٧ ـ ثم هو يدّعي : وراثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حالاته النبوية ، حتى إنه يرى من خلفه ، فهو يقول :

«ولما ورثته صلى الله عليه [وآله] وسلم في هذا المقام ، كانت لي هذه الحالة ، كنت أصلي بالناس في المسجد الأزهر ، بمدينة فاس ، فإذا أدخلت المحراب أرجع بذاتي كلها عيناً واحداً ، فأرى من جميع جهاتي ، كما أرى قبلتي ، ولا يخفى علي الداخل ولا الخارج ، ولا واحد من الجماعة ، حتى إنه ربما يسهو من أدرك معي ركعة من الصلاة ، فإذا سلمت ، ورددت وجهي إلى الجماعة أدعو ، أرى ذلك الرجل يجبر ما فاته ، فيخل بركعة ، فأقول : فاتك كذا وكذا. فيتم صلاته ، ويتذكر ، فلا يعرف الأشياء ، ولا هذه الأحوال إلا من ذاقها.

ومن كانت هذه حاله ، فحيث كانت القبلة فهو مواجهها ، هكذا ذقته نفسي ، فلا ينبغي أن يصلى على الراحلة إلا صاحب هذا الحال» (١).

الخرس :

١٨ ـ ويقول : «وكان لنا تلميذ ، غير أنه لم يحفظ عليه الخرس ، فلم يتحقق بحيوانيته.

ولما أقامني الله هذا المقام ، تحققت بحيوانيتي ، فكنت أرى وأريد النطق بما أشاهده فلا أستطيع ، فكنت لا أفرق بيني وبين الخرس الذين لا يتكلمون ..» (٢).

__________________

(١) الفتوحات المكية ج ٧ ص ٢٦٧ و ٢٦٨ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

(٢) الروح المجرد ص ٣١٩ ط سنة ١٤٢٣ ه‍ عن كتاب الأربعين للشيخ البهائي ، خاتمة الحديث السادس والثلاثين ص ٣١٢ و ٣١٣ عن الفتوحات المكية لابن عربي في

١٢٠