ابن عربي سنّيّ متعصّب

السيد جعفر مرتضى العاملي

ابن عربي سنّيّ متعصّب

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : التراجم
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

الكشف عن الله ، وقابلوهم في الأحكام والكرامات ، وما دروا : أن الأرض لو عطل جيدها عن الحجة لساخت بأهلها ، وبطل التكليف ..» (١).

عيسى عليه‌السلام هو ختم الولاية العامة :

٥٩ ـ وقد ادعى أن ختم الولاية على الإطلاق هو عيسى عليه‌السلام ، وأما ختم الولاية المحمدية ، فهو لرجل من العرب ، أكرمها أصلاً ، وبدءاً ..

وقال : إن ختم الولاية الخاصة له صلى الله عليه [وآله] وسلم ، إنما تكون لرجل يواطئ اسمه اسمه ، وما هو بالمهدي المسمى المعروف المنتظر ، فذلك من عترته ، وسلالته الحسِّية ، والختم ليس من سلالته الحسِّية ، ولكن من سلالة أعراقه وأخلاقه ، وقد ذكر القيصري : أنه يقصد بذلك كله نفسه .. (٢).

وفي هذا رد على الله ورسوله ، فإن الولاية إلى يوم القيامة منحصرة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ..

٦٠ ـ ويذكر أن كذبات ابراهيم الثلاث قد أثرت عنده يوم القيامة فاستحى أن يطلب من الله فتح باب الشفاعة (٣).

يتهم علياً عليه‌السلام بالكذب :

٦١ ـ ويقول : إنه حين عرج إلى السماء ، رأى علياً أسفل درجة من أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فلما رجع قال لعلي : كيف كنت تدعي في الدنيا أنك أفضل من هؤلاء ، وقد رأيت أنك أسفل درجة منهم .. (٤).

__________________

(١) الردود والنقود ص ٤٠٦ و ٤٠٧.

(٢) راجع : منهاج البراعة ج ١٣ ص ٢٧٠.

(٣) راجع : الفتوحات المكية ج ٢ ص ٤٩٧ ط دار العلمية الكبرى بمصر.

(٤) منهاج البراعة ج ١٣ ص ٣٧٨ و ٣٧٩.

١٨١
١٨٢

الفصل الثالث

أئمته .. ومقاماتهم؟!

١٨٣
١٨٤

بداية :

إن من خصوصيات مذهب التشيع قوله : إن الإمام علياً عليه‌السلام هو الإمام والخليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن ذلك ثابت بالنص القاطع ، والبرهان الساطع .. وإنكار صحة خلافة المتقدمين عليه ، والغاصبين لحقه ..

ولأجل ذلك : فإن الشيعة لا يعظِّمون من تعدى على الإمام علي عليه‌السلام في هذا الأمر ، ويرونه مخالفاً للنص ، ناقضاً للعقدة التي عقدها الله ورسوله ، ويعتبرون أن من يعظم هؤلاء الناس ، ومن ناصرهم وأعانهم ، ويناصرهم ويدافع عنهم ليس شيعياً. وهذا أمر عقلي عقلائي ، يدركه الناس ، ويعرفونه ، ويتوقعونه ..

والأمر بالنسبة لابن عربي لا يشذ عن هذه الضابطة ، وبالرجوع إلى كلماته ، في مختلف مؤلفاته ، نجد : أنه لم يزل يعظم المناوئين للإمام علي عليه‌السلام ، مثل أبي بكر ، وعمر ، والمتوكل ، وعائشة ، وطلحة ، والزبير ، ومالك ، والشافعي ، وحتى الحجاج بن يوسف ، وأمثال هؤلاء ، في عشرات ، بل في مئات الموارد .. وهو يذكر ذلك بمناسبة ، وبدون مناسبة.

وأما أهل البيت عليهم‌السلام فنادراً ما يأتي على ذكرهم ، وإن ذَكَرَهم ، فبصورة عابرة ، أو تكاد ، حتى إننا إذا أردنا مقايسة كلامه فيهم بكلامه في الإمام علي عليه‌السلام ، فلا يعدو كونه بمثابة قطرة من بحر ، أو غرفة من نهر.

وليس هذا هو دأب الشيعة مع مناوئي أهل البيت ، فإن لهم موقفاً معروفاً من هؤلاء ، فهم لا يطرونهم ـ كما قلنا ـ بسبب ما ارتكبوه في حق السيدة

١٨٥

فاطمة الزهراء ، وعلي عليهما‌السلام. وبسبب أخذهم الخلافة غصباً ، وبسبب جرأتهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقولهم في الدين بآرائهم ، وبسبب سياساتهم ، ولغير ذلك من أمور ..

فإذا أردنا معرفة حقيقة مذهب ابن عربي ، فما علينا إلا أن نقرأ اليسير مما أوردناه في هذا الفصل من أقواله في خصوص الخلفاء أولاً ، وسنجد أنه يعطيهم أعظم المقامات وأعلاها ، وأجلها وأسناها ..

غير اننا قبل أن ندخل في ذلك ، نحب لفت نظر القارئ الكريم إلى أن ما ننقله عن ابن عربي من أول هذه الدراسة إلى آخرها قد اشتمل احياناً على عبارات يتعمد إبهامها ، وتعميتها ، لتكون مثار رهبة ، وإعجاب لدى أمثاله من أهل التصوف.

وقد أضربنا عن التعرض لبيان مقاصده منها ، لألا يطول بذلك الكتاب ، مع عدم وجود ضرورة لذلك ، ما دام أنه لا يعكر صفو صراحة النصوص في عقائده التي يتبناها ويجهد في الدفاع عنها وترسيخها ، وهذا فقط هو ما يهمنا ، بيانه وترتكز عليه مقاصد هذه الدراسة ..

وفي جميع الأحوال ، فإننا نذكر هنا طائفة من النصوص التي تتحدث عن مقامات مناوئي الإمام علي عليه‌السلام ، وتظهر حقيقة اعتقاده بهم ، ونظرته إليهم ..

فنقول :

الخلافة الظاهرة والباطنة لمن؟! :

١ ـ قال : «.. ولكن الأقطاب المصطلح على أن يكون لهم هذا الإسم مطلقاً ، من غير إضافة ، لا يكون منهم في الزمان إلا واحد. وهو الغوث أيضاً. وهو من «المقربين». وهو سيد الجماعة في زمانه.

ومنهم من يكون ظاهر الحكم ، ويحوز الخلافة الظاهرة ، كما حاز

١٨٦

الخلافة الباطنة من جهة المقام :

كأبي بكر ..

وعمر ..

وعثمان ..

وعلي ..

والحسن ..

ومعاوية بن يزيد ..

وعمر بن عبد العزيز ..

والمتوكل.

ومنهم من له الخلافة الباطنة خاصة ، ولا حكم له في الظاهر :

كأحمد بن هرون الرشيد السبتي ..

وكأبي يزيد البسطامي.

وأكثر الأقطاب لا حكم لهم في الظاهر ..» (١).

فهؤلاء هم أئمة ابن عربي ، ويرى أن لهم الخلافة الظاهرة والباطنة ، وهو لا يتورع عن أن يعد في جملتهم حتى المتوكل ، الذي حرث قبر الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام .. وفعل بشيعة أهل البيت الأفاعيل ..

__________________

(١) راجع كتاب : الفتوحات المكية ج ١١ ص ٢٧٤ و ٢٧٥ تحقيق عثمان يحيى وإبراهيم مدكور .. وراجع : الإثنا عشرية للحر العاملي ص ١٧٠ و ١٧١ وفيه : «معاوية ، ويزيد ، وعمر بن عبد العزيز الخ ..».

١٨٧

المنورون في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٢ ـ إنه قد ذكر في رسالة له اسمها الأسفار : أن المنورين في زمن رسول الله كانوا قليلين جداً ، مثل أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب .. (١).

مقامات للخلفاء :

٣ ـ ويقول عن مشاهداته في عالم المثال ، في حضرة الجلال : «ولمَّا شهدته صلى الله عليه [وآله] وسلم في ذلك العالم سيداً معصوم المقاصد ، محفوظ المشاهد ، منصوراً مؤيداً ، وجميع الرسل بين يديه مصطفون ، وأمته التي هي خير أمة عليه ملتفون ، وملائكة التسخير من حول عرش مقامه حافون ، والملائكة المولدة من الأعمال بين يديه صافون ..

والصديق على يمينه الأنفس ، والفاروق على يساره الأقدس ، والختم بين يديه قد جثا ، يخبره بحديث الأنثى ، وعلي صلى الله عليه [وآله] وسلم يترجم عن الختم بلسانه ، وذو النورين مشتمل برداء حيائه ، مقبل على شأنه ..

فالتفت السيد الأعلى ، والمورد العذب الأحلى ، والنور الأكشف الأجلى ، فرآني وراء الختم ، لاشتراك بيني وبينه في الحكم ، فقال له السيد : هذا عديلك وابنك وخليلك» الخ ..» (٢).

الخلفاء هم أصول الإسلام :

٤ ـ ويقول : «فكان أصل الأيدي خمسة أشياء ، كل منها خمس ، فالأصل الأول ما بني عليه ، قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم : بني الإسلام على خمس» ..

إلى أن قال :

__________________

(١) راجع كتاب الأسفار ص ٨

(٢) الفتوحات المكية ج ١ ص ٤٤ و ٤٥ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

١٨٨

«والأصل الرابع : محمد رسول الله ، والذي معه أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي. فهم خمسة برسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم» (١).

أنوار الخلفاء في أصابع آدم عليه‌السلام :

٥ ـ ويقول : «واجعل أصابعك الخمس في عينيك. بمنزلة محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم ، والذين معه ، وهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي.

وأن آدم عليه‌السلام ، لما خلق نور سيدنا محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم في جبينه كانت الملائكة تستقبله ، وتسلم على نور محمد. وآدم عليه‌السلام لم يره.

فقال : يا رب ، أحب أن أنظر إلى نور ولدي محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم ، فحوله إلى عضو من أعضائي لأراه.

فحوله إلى سبابته في يده اليمنى ، فنظر إليه يتلألأ في مسبحته فرفعها فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ..

فلذلك سميت المسبحة.

فقال : يا رب هل بقي في صلبي من هذا النور شيئ؟

قال : نعم. نور أصحابه ، وهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، فجعل نور علي في إبهامه ، ونور أبي بكر في الوسطى ، ونور عمر في البنصر ، ونور عثمان في الخنصر.

وقيل : إنما جعلت في يدك لتقبض برؤوسهن على حب هؤلاء الخمسة ، ولا تفرق بينهم وبين محمد. فإن الله جمع بينهم بقوله تعالى : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (٢).

ختم الأولياء ، والصديق ، والفاروق :

٦ ـ وبعد أن ذكر : أنه عند فراقه للشمس المغربية تلقاه الختم (أي النبي)

__________________

(١) شجرة الكون ص ٧٢.

(٢) الآية ٢٩ من سورة الفتح. وراجع : شجرة الكون ص ٧٥.

١٨٩

برحيقه ، «وأوضح لي التسنيم مزاج طريقه ، فرأيت ختم أولياء الله حق ، في مقعد الإمامة الإحاطية والصدق ، فكشف لي عن سر محتده ، وأمرت بتقبيل يده ، ورأيته متدلياً على الصديق والفاروق ، متدانياً من الصادق المصدوق ، محاذياً له من جهة الأذن ، قد ألقى السمع لتلقي الإذن الخ ..» (١).

مشاهد للخلفاء :

٧ ـ ويقول : «فإن كنت في موقف أبي بكر الصديق ، قلت : ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله ، فتكون ممن رآه قبل الزوال ، فالحكم للماضي ، وأنت بالحال في أول الشهر ، وذلك اليوم هو أوله.

وإن كنت عثماني المشهد ، أو صاحب دليل فكرٍ ، فتقول : ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله بعده .. الخ ..» (٢).

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبايع نفسه عن عثمان :

٨ ـ ثم هو يذكر : أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قد بايع عن عثمان لنفسه ، وكان عثمان غائباً ، فجعل يده على يد نفسه (٣).

عثمان أيضاً .. وشفاعة ابن عربي :

٩ ـ ويقول : «أرسل رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم عثمان رضي الله عنه آمراً بالكلام في المنام ، بعدما وقعت شفاعتي على جماعتي ، ونجا الكل من أسر الهلاك ، وقرِّب المنبر الأسنى ، وصعدت عليه الخ ..» (٤).

__________________

(١) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثالثة) ص ١٦.

(٢) الفتوحات المكية ج ٩ ص ١٢٨ بتحقيق إبراهيم مدكور ، وعثمان يحيى.

(٣) راجع : الفتوحات المكية ج ١١ ص ١٨٤ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

(٤) الفتوحات المكية ج ٢ ص ١٨٨ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

١٩٠

الفصل الرابع

مقامات أبي بكر ..

١٩١
١٩٢

بداية :

قد ذكرنا في الفصل السابق طائفة من النصوص التي تبين بعض مقامات أبي بكر مما تشارك فيه مع غيره من الخلفاء ، وغيرهم .. ونذكر في هذا الفصل طائفة أخرى تظهر لنا : أن أبا بكر يحتل المقام الأول عند ابن عربي ، وأنه يقدسه أعظم تقديس ، ويعظمه أجلَّ تعظيم.

وسنرى أنه لا يتقيد بشيء محدد فيما يثبته له ولغيره ، فقد يستشهد لذلك بحديث منسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد يعتمد على منام ، أو على قول صوفي مثله ، أو على استحسان غير ظاهر الوجه ، أوعلى ابتداع واقتراح فيه ، وما إلى ذلك ..

وقد تقدم في الفصل السابق وغيره بعض من ذلك ، ونذكر هنا ، من النصوص التي توضح مدى عظمة وحقيقة موقع أبي بكر عنده ، ما يلي :

أبو بكر من أهل الباطن :

١ ـ قال : «وهذه الطائفة في الرجال قليلون ، فإنه مقام ضيق جداً ، يحتاج صاحبه إلى حضور دائم ، وأكبر من كان فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه في حرب اليمامة : فما هو إلا أن رأيت أن الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق. لمعرفة عمر باشتغال أبي بكر بباطنه ..» (١).

__________________

(١) الفتوحات المكية ج ٣ ص ٣٠٧ و ٣٠٨ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى ..

١٩٣

الرب يصلي بصوت أبي بكر :

٢ ـ وقال : «رضي الله عن الصديق الأكبر ، صاحب السر ، العلم الأزهر ، في قيامه على منبر الطرفاء ، يوم الداهية الدهياء ، بموت سيد الأنبياء ، أمين الأمناء ، وعلم الاهتداء ، وقد ذهل من كان عندنا أقوى الأقوياء ، فما ظنك بالضعفاء.

وصار الرفيق الأسيف ، على مذهب السيدة الحميراء (١) ، لما كان يظهر عليه من شد التلهف والبكاء ، فكان أضعفهم عيناً ، وأقواهم في صميم السويداء ، فقال :

«من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فالله حي لا يموت».

ثم تلا استشهاداً على مقالته الزهراء : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (١) .. إلى آخر الآية الغراء ، ثم تلاها بقوله جل ثناؤه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (٢) ..

ثم خاطب جميع الخصماء ..

فهذه القوة الإلهية من زهده في القوت ، وسوقه جميع ما ملكته يده لله ورسوله ، فملكه مفاتيح التابوت.

فمن غيرته عليه وأمانته ، إخفاؤه إياه إلى يوم فقد صاحب رسالته ، ففتح تابوت صدره ، وأبدى مكنون سره ، ونبه بعلمه على مكانته من الله وقدره ..

__________________

(١) أي من حيث ظهور الضعف عليه أمام المصيبة ، لأن النساء يضعفن ، ويغلب عليهن البكاء.

(٢) الآية ١٤٤ من سورة آل عمران.

(٣) الآية ٣٠ من سورة الزمر.

١٩٤

وأقر له الفاروق بالشرح ، لما بدت لعينه أعلام الفتح ، ولم يزل الصديق مفتوحاً له قبل ذلك من حين ملك المفتاح ، ورسم ديوان الممالك ، وإنما كان ينتظر رحلة السيد صلى الله عليه [وآله] وسلم إلى حضرة المحبوب ، الرفيق الأعلى ، المالك ..

فحلاه بزينته ، لما شاركه في نوره وطينته ، ثم سلك في الهين واللين على مدرجته ، لما دعى له أن يكون معه وفي درجته ، ثم أبان له برهان الموافقة بما ذكره عن نفسه صلى الله عليه [وآله] وسلم وعنه إلى المقام من المسابقة ..

فسبق النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم الصديق ، ولذلك قيل له هناك ..

قف إن ربك يصلي بصوت عتيق. فاستأنس وحن ، من جهة إحساس البدن.

وقد اتضحت أسرار ، ولمعت في علية هذا الوجه بوارق الأنوار» (١).

ونقول :

إننا نلاحظ : أنه لم يكتف بتمدّح وبتزيين ما صدر من أبي بكر بحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فور استشهاده ، من كلام قد جاء في منتهى القسوة والجفاء .. كما سنشير إليه في فصل قبائح أم مدائح ، بل هو أضاف إليه :

١ ـ أن الله خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبا بكر من طينة واحدة وقد صرح بهذا الأمر في غير هذا المورد أيضاً.

مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما قال ذلك لعلي عليه‌السلام.

٢ ـ والأعجب من ذلك ، أنه زعم : أن الله يصلي ، وأنه يصلي بصوت عتيق!!

ولعل كلام ابن عربي هذا ، يهدف إلى الإتيان بالنظير أو البديل للحديث الذي يقول : إن الله سبحانه قد كلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين المعراج

__________________

(١) مجموع رسائل ابن عربي (المجموعة الأولى) ص ١٥٠ و ١٥١.

١٩٥

بصوت علي عليه‌السلام ، تأنيساً له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣ ـ إنه اعتبر أن إخبار أبي بكر بموت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد كان من الخوارق ، وأنه من الأمور الغامضة التي كانت عنده .. مع أن هذا الأمر قد عرفه جميع الصحابة ، ولم ينكره إلا عمر بن الخطاب لحاجة في نفسه ، كسباً للوقت ، وانتظاراً لوصول من يريد أن يستعين بهم على تحقيق غاياته ، ونيل أمنياته ..

مقام صوفي آخر لأبي بكر :

٣ ـ وقال أيضاً : «.. وقال : أبو بكر الصديق رضي الله عنه في هذا المقام ، وكان من رجاله : «العجز عن درك الإدراك إدراك ..» (١).

إنه رغم أننا نقول : مما لم نعثر على هذا الكلام منسوباً إلى أبي بكر ، إلا عند ابن عربي ، فإنه كلام غير دقيق ، وغير صالح ، فلاحظ المفردات وكيفية تركيبها ..

فضل أبي بكر على لسان علي عليه‌السلام :

٤ ـ ثم إنه يروي عن الإمام علي عليه‌السلام : أنه قال : ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة ، ولا صيام ، ولكن بشيء وقع (وقر) في صدره ، ولم يبين ما ذاك الشيء ، فكتمه عليه .. (٢).

أعلم الصحابة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٥ ـ ويقول : إنه لما تلا النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم سورة النصر «بكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه وحده ، دون من كان في ذلك المجلس ، وعلم أن الله تعالى قد نعى إلى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم نفسه ،

__________________

(١) الفتوحات المكية ج ٤ ص ٢١٧ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

(٢) رسائل ابن عربي : كتاب الفناء ص ٣.

١٩٦

وهو كان أعلم الناس به ، وأخذ الحاضرون يتعجبون من بكائه الخ ..» (١).

فضل عيسى عليه‌السلام على أبي بكر :

٦ ـ وقال وهو يتحدث عن ختم الأولياء بعيسى عليه‌السلام ، وأن عيسى «هو أفضل هذه الأمة المحمدية ، وقد نبه عليه الترمذي الحكيم في كتاب ختم الأولياء له ، وشهد له بالفضيلة على أبي بكر الصديق ، وغيره ..» (٢).

وواضح : أن نبينا وأئمتنا عليهم‌السلام ، هم أفضل من النبي عيسى عليه‌السلام .. فلا يصح قوله : ان عيسى عليه‌السلام هو افضل هذه الأمة المحمدية ..

أبو بكر يدخل الجنة من جميع أبوابها :

٧ ـ ويقول : «ولذلك لما ذكر رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم الثمانية الأبواب من الجنة أن يدخل من أيها شاء ، قال أبو بكر : يا رسول الله ، وما على الإنسان أن يدخل من الأبواب كلها؟!

قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم : أرجو أن تكون منهم يا أبا بكر» (٣).

ونقول :

إن الدخول من جميع الأبواب إنما يصح لو كانت الأبواب في طول بعضها البعض .. وفيما عدا ذلك فإنه لا يمكن ذلك إلا بالدخول ثم الخروج والعود من الباب الثاني .. وهذا لعب لا يليق بأهل الجنة ..

__________________

(١) الفتوحات المكية ج ٣ ص ١٥٧ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

(٢) الفتوحات المكية ج ٣ ص ١٧٥ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

(٣) الفتوحات المكية ج ٥ ص ٦٧ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

١٩٧

فلا بد من حمله : إما على دخول معنوي صوفي .. أو على أن جوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد جاء على سبيل السخرية ، أو الدعابة ..

فلا بد من دليل : يثبت حقيقة الوجه الذي جرى عليه الكلام!! ..

تأويلات أبي بكر حقائق :

٨ ـ ثم هو يستشهد بالحديث الذي رووه ، من رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للظلة ، وما يزعمونه ، من أن أبا بكر قد أولها بالإسلام ، قال :

«وذلك كله يحقق أن حقائق الظل هي آيات الله وشرائعه الخ ..» (١).

أبو بكر أفضل من عمر :

٩ ـ قال : «وبين حال أبي بكر الصديق (رضي الله تعالى عنه) حين جاء إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم بجميع ماله ، فقال له النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم : ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟

قال : الله ورسوله.

وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله ، فقال : ما أبقيت لأهلك؟

قال : النصف ، وتصدقت بالنصف.

قال : ما بينكما كما بين كلمتكما ..» (٢).

التركيز على أبي بكر وصديقيته :

١٠ ـ وبعدما تقدم : فإنك تجده يستشهد بكلام أبي بكر ، ويصفه بالصديق

__________________

(١) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثانية) ص ٣٩٨.

(٢) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الأولى) ص ٥٢٩ وراجع الفتوحات المكية ج ٨ ص ٤٢٨ و ٤٢٩ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

١٩٨

في العديد من المواضع من كلامه .. (١).

١١ ـ وقال : «والصديقية لا ينالها إلا أهل الولاية ، ومن كان له عند الله أزلاً سابق عناية».

إلى أن قال :

«كما أن الختم فوق الصديق ، إذا كان الممهد للطريق ، الذي مشى عليه عتيق ..

فالختم نبوي المحتد ، علوي (٢) المشهد ، فلهذا جعلناه فوق الصديق ، كما جعله الحق ، فالآخذ نوره من مشكاة النبوية أكبر مما أخذه من مشكاة الصديقية الخ ..» (٣).

١٢ ـ وقال : «فخطب حميرة من عتيقه ، وانتزعها من يدي صديقه» (٤).

١٣ ـ وقال : «وهذا الحق قد انبلج صبحه فالزم ، واقتد بالنبي ، والصديق ، إذ قال صلى الله عليه [وآله] وسلم :

«لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» ..

وهذا غاية الفخر ، أو معرفة من وقف عند حجاب العز ..» (٥).

١٤ ـ وقال الصديق الأكبر : العجز عن درك الإدراك إدراك .. الخ .. (٦).

__________________

(١) راجع : الفتوحات المكية ج ٢ ص ٨٥ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى. وراجع كتاب الأسفار ص ١٠ و ١١ في رسائل ابن العربي ..

(٢) بضم العين وسكون اللام على الظاهر.

(٣) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثالثة) ص ١٨.

(٤) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثالثة) ص ٢١.

(٥) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثالثة) ص ٢٦.

(٦) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثالثة) ص ٢٦.

١٩٩

فهو يراه الصديق الأكبر ، مع أن الإمام علياً عليه‌السلام قد كذب هذه المقولة بشدة .. حيث قال :

«أنا الصديق الأكبر ، وأنا فاروق هذه الأمة ، لا يقولها بعدي إلا .. الخ ..» (١).

الحضرات التي دخلها أبو بكر :

١٥ ـ «واعلم يا بني ، أن القلب إذا تحقق بالأسرار المكتتمة التي حصلت في منزل الأنبياء ، أدخله الله سبحانه وتعالى من الحضرات الإلهية ستمائة حضرة ، وستة وعشرين حضرة ، إلا أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) ، فإنه أدخله الله سبحانه وتعالى في هذا المقام ستمائة حضرة وخمساً وعشرين حضرة.

وأما السادسة والعشرون ، فهي له حضرة العزة خاصة.

ونحن لنا حضرة العزة ، وهي لنا السادسة والعشرون ، غير أن هذه الحضرة العزية التي لنا متفاضلة بيننا ، وما بها على الكمال إلا الصديق الأكبر (رضي الله عنه) ، ووجودها كمال في حقنا ، أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم له في هذه الحضرة ستمائة حضرة وأربع وعشرون حضرة ، ينقص عن الصديق بدرجة وهو الكمال في حقه. والخامسة والعشرون له حضرة القرب الكلي. وغيره من الأنبياء ، ليس مثله في هذا المقام ، أعطاه الله تعالى في كل حضرة سراً ، لا يجده في حضرة أخرى ، بعضها أرفع من بعض ، على التفاضل الذي بين الحضرات ..» (٢).

ليس بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر رجل :

١٦ ـ وقال : «اعلموا : أن كثيراً من أهل طريقتنا ، كأبي حامد الغزالي ،

__________________

(١) راجع مصادر ذلك في : الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٤ ص ٤٥ / ٤٩.

(٢) مجموعة رسائل ابن عربي (المجموعة الثالثة) ص ٣٥٢.

٢٠٠