ابن عربي سنّيّ متعصّب

السيد جعفر مرتضى العاملي

ابن عربي سنّيّ متعصّب

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : التراجم
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

السلام» ، فإذا ثبتت بقيت.

ويكون للإمام علي عليه‌السلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منزلة هارون من موسى ما دام الإمام علي عليه‌السلام حياً ، حتى بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله .. وليس المراد التشبيه بموسى وهارون من جميع الجهات ، حتى في الحياة والممات ، وحتى في مواجهة هارون لعبادة العجل الذي صنعه السامري لبني إسرائيل .. وما إلى ذلك ..

ثالثاً : إنه إذا جاز أن يكون لهذا التلويح المدعى أي أثر في معرفة حقيقة اعتقاد ابن عربي ، فلماذا لا يكون لتلك التصريحات التي وردت في هذه الدراسة ، وهي تعد بالعشرات ، بل بالمئات ، دلالة على ضد ذلك؟! ..

خصوصاً مع تصريحه بعدم استخلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأحد من بعده ، وغير ذلك مما سيأتي ..

٧ ـ مودة ذوي القربى :

قد نسبوا إلى هذا الرجل قوله :

رأيت ولائي آل طه وسيلة

على رغم أهل البعد يورثني القربى

فما طلب المبعوث أجراً على الهدى

بتبليغه إلا المودة في القربى (١)

وقد اعتبروا ذلك من دلائل تشيعه ..

ونقول :

أولاً : إن هذين البيتين لا يدلان على أكثر من إظهار الحب والولاء لأهل البيت عليهم‌السلام ، ولا يدلان على الاعتقاد بإمامتهم.

__________________

(١) مجالس المؤمنين للقاضي التستري ج ٢ ص ٢٨١ عن كتاب إحياء علوم الدين.

٤١

وقد مدح الشافعي أهل البيت عليهم‌السلام ، والشافعي ليس من الشيعة قطعاً .. ومدحهم أيضاً وغالى فيهم ابن أبي الحديد المعتزلي ، وهو ما فتئ يبذل جهده في نقض عقائد الشيعة ، حتى إنه ليتشبث بما هو أوهى من بيت العنكبوت ، فهل صار المعتزلي شيعياً ، وكذلك كل من أظهر الولاء والحب لأهل البيت صلوات الله عليهم؟! ..

ثم إن من المعلوم : أن إظهار الحب لهم عليهم‌السلام واجب على كل مسلم ، بنص آية المودة وغيرها ، فمن لا يواليهم لا يكون مسلماً بإجماع الأمة ، لأنه يكون صريح المعاندة للقرآن الكريم ..

ثانياً : لو كان هذان البيتان يدلان على التشيع بمعناه الاعتقادي والفقهي لدخلت في التشيع أمم عظيمة من الناس من أهل السنة الذين مدحوا أهل البيت عليهم‌السلام ، مع أن منهم من هو من أشد الناس على شيعة أهل البيت ، وأحرص الناس على نقض عقائدهم ، مثل الفضل بن رزوبهان ، وابن حجر الهيتمي ..

بل يدخل فيهم من حارب أهل البيت عليهم‌السلام أنفسهم ، فقد ورد في التاريخ : مدح عمرو بن العاص علياً ، وورد أيضاً مدحه عليه‌السلام من قبل معاوية ، وعمر بن الخطاب ، وغير هؤلاء أيضاً ..

ثالثاً : قد تقدم أن ابن عربي نفسه قد صرح بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف أحداً .. (١) وأي تأويل لكلامه مرفوض ، لأن سائر كلماته الصريحة تؤيد وتؤكد عدم تشيعه ..

رابعاً : إننا نشك في صحة نسبة هذا الشعر لابن عربي ، إذ قد قال

__________________

(١) راجع : فصوص الحكم ص ١٦٣.

٤٢

الكنجي ما يلي : «وأنشد بعض مشايخنا ، وهو محمد بن العربي ، شيخ المحققين : رأيت ولائي آل طه وسيلة .. الخ ..» (١).

وقال ابن حجر الهيتمي :

«وللشيخ الجليل شمس الدين ابن العربي : رأيت ولائي آل طه الخ ..» (٢).

ونحن نسجل هنا الملاحظات التالية :

ألف : إننا لم نجد هذين البيتين فيما بأيدينا من مؤلفات لابن عربي ، رغم أنه قد ضمن كتبه الكثير من أشعاره ..

ب : هناك اثنان باسم ابن عربي ، وابن العربي ..

أحدهما : القاضي محمد بن عبد الله ، بن محمد المعافري ، الأشبيلي ، المالكي ، أبو بكر ابن العربي. وهو من حفاظ الحديث ، وهو صاحب كتاب العواصم من القواصم. وكتاب عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي ، وغير ذلك ، وقد رحل إلى المشرق أيضاً ، وتوفي سنة ٥٤٣ .. (٣).

الثاني : محمد بن علي ، بن محمد ابن العربي ، أبو بكر الحاتمي ، الطائي الأندلسي ، المعروف بمحيي الدين بن عربي ، والملقب بالشيخ الأكبر. زار بلاد الشام ، وبلاد الروم ، والعراق ، والحجاز ، ومصر ، وغيرها ..

ويقول محمد قطة العدوي : إن أهل المشرق قد اصطلحوا على التعبير عن محيي بكلمة «ابن عربي» بدون ألف ولام ، فرقاً بينه وبين القاضي ابن

__________________

(١) كفاية الطالب ص ٣١٣.

(٢) الصواعق المحرقة ص ٢٥٩ ط سنة ١٤٠٣ هـ. ق. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان.

(٣) راجع : الأعلام للزركلي ج ٦ ص ٢٣٠.

٤٣

العربي .. (١).

وبعدما تقدم نقول :

إن الملاحظ هو : أن الكنجي الشافعي ، وهو مشرقي ، قد عبر بـ : «ابن العربي» وهذا هو نفس التعبير الذي ورد في الصواعق أيضاً ..

فإذا صح ما قاله العدوي ، فإن قائل هذين البيتين يكون هو ابن العربي ، أي القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله ، بن محمد المعافري ، وليس محيي الدين محمد بن علي ، ابن عربي الطائي ..

ج ـ إن اللقب الذي أطلقه الهيتمي على قائل هذين البيتين هو «شمس الدين» ، ومن الواضح أن لقب صاحب الفتوحات هو محيي الدين .. وهذه قرينة أخرى على أن المراد هو ابن عربي آخر ، فإما أن يكون القاضي المعافري ، وهو محمد ابن العربي ، أو يكون شخصاً غير هذين الاثنين ..

٨ ـ سلمان منا أهل البيت :

استدلوا بما قاله في حق سلمان المحمدي (الفارسي) ، وهو ما يلي :

«هذا شهادة من النبي لسلمان الفارسي بالطهارة ، وحفظ الآل ، حيث قال فيه رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم : سلمان منا أهل البيت.

وشهد الله لهم بالتطهير ، وذهاب الرجس عنهم. وإذا كان لا يضاف إليهم إلا مطهر مقدس ، وحصلت له العناية الإلهية بمجرد الإضافة ، فما ظنك بأهل البيت في نفوسهم ، وهم المطهرون ، بل عين الطهارة».

ونقول :

إنه لا يصح الاستناد إلى هذا القول وأمثاله لإثبات تشيع هذا الرجل ،

__________________

(١) راجع : الفتوحات المكية ج ٤ ص ٥٥٤.

٤٤

وذلك لما يلي :

أولاً : إن مدائحه لغير أهل البيت عليهم‌السلام ، لا تقلُّ عن ذلك ، إن لم تكن تزيد عليه ..

بل هو يمدح نفسه ، ويثبت لنفسه أموراً ومقامات عظيمة جداً. تفوق مقامات الأنبياء والأوصياء ، كما أنه يمدح أولياء الصوفية ، بما هو أعظم من ذلك بمراتب ، أما مدحه لأبي بكر وعمر ، وغيرهما .. فهو يتجاوز حدود الخيال.

ثانياً : إنه كما أثبت لأهل البيت عليهم‌السلام صفة العصمة بهذه الآية ، فإنه قد أثبت لعمر بن الخطاب صفة العصمة أيضاً ، ولكن من دون أن يحتاج إلى آية أو إلى دليل يستند إليه في ذلك ، وسنقرأ ذلك في الفصل الخاص بعمر بن الخطاب ..

ثالثاً : إن العصمة لا تلازم الإمامة ، وقد كان سلمان ـ حسبما ذكره ـ معصوماً ، ولم يكن إماماً ..

رابعاً : إنه يرى أن المراد بأهل البيت عليهم‌السلام جميع أولاد السيدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام إلى يوم القيامة ، ويُدْخِل فيهم جعفراً وسلمان الفارسي ، مع أنهما ليسا من أولاد السيدة الزهراء عليها‌السلام.

ثم هو يفرق بين آل وأهل ، فيقول : إن آل البيت هم العلماء والصالحون من أمته ، كما سيأتي ..

وبذلك يكون قد خرب ـ بزعمه ـ عقيدة التشيع ، أو هو على الأقل قد خرج عنها بنفس كلامه هذا ، إذ أن الشيعة يعتقدون اختصاص أهل البيت بالنبي والزهراء والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام ..

خامساً : إنه يصرح بأن تطهير أهل البيت عليهم‌السلام ، لا يمنع من صدور المعاصي الظاهرية منهم ، مثل الكذب ، والسرقة ، والزنا ، وغير ذلك ..

٤٥

فتجري عليهم الحدود ، والأحكام في الدنيا ، أما في الآخرة ، فإن المعاصي لا تضرهم ، ولا تنقص من مقامهم هناك ..

٩ ـ كتاب : دوازده إمام :

إن البعض ينسب إلى ابن عربي كتاباً باسم : «دوازده إمام» أي «اثنا عشر إماماً» ، وقد اعتبر هذا دليلاً على تشيع هذا الرجل (١).

ونقول :

أولاً : إن كثيرين غير ابن عربي أيضاً قد ألفوا كتباً في مناقب الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ، مع أن أحداً لا يشك في أنهم من علماء أهل السنة ، مثل الشبلنجي ، وابن الصباغ ، والشبراوي ، والقندوزي ، وابن طلحة ، والكنجي ، وغيرهم من علماء السنة.

بل إن بعض من ألَّف في الأئمة الاثني عشر قد كان من المعلنين بعداء الشيعة ، والجادين في إطفاء نور الله ، والمحاربين لأولياء الله .. مثل ابن حجر الهيتمي صاحب الصواعق المحرقة ، والفضل بن رزوبهان صاحب كتاب : إبطال نهج الباطل ، الذي رد فيه على كتاب : نهج الحق .. ودلس فيه وكذب ، وافترى ما شاءت له قريحته ..

ثانياً : إن تأليف هذا النوع من الكتب حول أهل البيت عليهم‌السلام ، وفي خصوص الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ، إنما كان يهدف إلى الحفاظ على مذهب التسنن ، كما أوضحناه فيما سبق. إذ الحديث الذي يثبت أن الأئمة اثنا عشر ، قد أعجز أهل السنة ، فتشبثوا بكل حشيش لكي يجيبوا عنه ، وكان الحل لدى هؤلاء المتعصبين ، هو القول بأن المراد به أئمة لهم مقام

__________________

(١) راجع : شرح مناقب محيي الدين ابن عربي ص ٣٧ ـ ٤٨.

٤٦

رفيع في الهداية والتقوى والعلم ، والصلاح ، شرط أن لا يبلغ الأمر إلى إعطائهم مقام الخلافة ، والإمامة بمعناها الصحيح .. وبعد هذا ، فلا مانع من تطبيق الحديث على أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ..

ثالثاً : إنه يُشَكُّ في صحة نسبة الكتاب المذكور إلى ابن عربي ، فقد قال المرحوم الشيخ آقا بزرك الطهراني ما يلي :

«المناقب» مر بعنوان : «دوازده إمام» ، منسوباً إلى محيي الدين بن العربي ، ولعله من إنشاء العيّاني الخفري المذكور في ج ٩ ص ٧٧٧» (١).

رابعاً : إنهم إذا كانوا يدَّعون أن ما ظهر من ابن عربي مما يدل على تسننه ، وهو بهذه القوة والكثرة ، والصراحة ، إنما جاء على سبيل التقية .. أو أنه قد دس في كتبه ..

فإننا نقول لهم : هل إن التقية تفرض أن تكون تأليفات هذا الرجل زاخرة بالشواهد والدلائل والمؤيدات للمذهب الذي لا يؤمن به ، وأن تكون جميعها مبنية في مختلف فصولها ، ومطالبها على قواعد المذهب السني ، ومسوقة لتأكيده ، وتشييده؟!

وأية ضرورة تفرض عليه التصدي لأصل التأليف ، إذا كانت جميع مؤلفاته سوف تكون في خدمة وتأكيد صحة مذهب لا يرى المؤلف صحته ، ولا يعتقد به؟! ..

ولماذا يستعمل التقية بهذا المستوى ، وبمثل هذا الإغراق والإستغراق في جميع مؤلفاته ، ثم ينسى التقية هنا ، فيؤلف كتاباً في الأئمة الإثني عشر؟! وهو أمر قد يودي بحياته ، لا سيما إذا كان عملاً متكاملاً ، ومستقلاً ، وظاهراً!!

__________________

(١) راجع : الذريعة ج ٢٢ ص ٣١٧ و ٣١٨.

٤٧

١٠ ـ ذكر مناقب أهل البيت عليهم‌السلام :

وقد استدلوا على تشيعه بذكره مناقب أهل البيت عليهم‌السلام في كتبه ، فقد قال الطهراني :

«بالرغم من أن كتب محيي الدين مشحونة بمناقب أهل البيت عليهم‌السلام ، ككتاب : «محاضرة الأبرار ، ومسامرة الأخيار» ، إلا أن أساس مطالبه على أصول أهل السنة ، كمثل هذا الفص الداودي الذي ذكره ، أما في فتوحاته المكية ، الذي ألفه في مكة ، فليس فيه ما يوافق أصول السنة» (١).

وأقول :

أولاً : إن جميع ما ذكره في كتبه من مناقب العترة إذا كان أساسه هو أصول أهل السنة ، فهو دليل على تسننه.

لأن المائز بين التشيع والتسنن ليس هو رواية مناقبهم عليهم‌السلام ، أو قبولها ، أو إنكارها ، بل هو القبول بأحقيتهم عليهم‌السلام بمقام الخلافة بعد رسول الله ، وبطلان خلافة من تقدم عليهم ..

ثانياً : إن قوله : إن كتاب الفتوحات لم يتضمن شيئاً يوافق أصول السنة .. لا يفيد في إثبات تشيعه. بل المفيد هو إثبات : أنه موافق لأصول مذهب الشيعة الإمامية ، ليمكن الحكم بتشيع مؤلفه ، حين تأليفه لذلك الكتاب على الأقل ..

فإن كان قد ألف تلك الكتب الموافقة لأصول مذهب السنة بعد ذلك الكتاب ، فيحكم بتسننه من أجل ذلك.

وإن كان ذلك الكتاب هو آخر مؤلفاته ، فإنه يحكم بتشيعه في آخر حياته. على فرض تضمن ذلك الكتاب أي شيء يدل على تشيعه ..

__________________

(١) الروح المجرد ص ٣٣٧.

٤٨

ثالثاً : إنه ليس صحيحاً قوله : إنه ليس في كتاب الفتوحات ما يوافق أصول أهل السنة .. والصحيح هو أن كل ذلك الكتاب مبني على أصولهم في الاعتقادات ، وفي الفقه ، والتاريخ ، والرجال ، و .. و .. الخ .. وأدنى مراجعة له خير شاهد على ما نقول ، وتتضمن دراستنا الموجزة هذه ، عشرات الموارد من ذلك الكتاب بالذات ، وكلها قد جاءت مبنية على أصول السنة ..

رابعاً : إن ذكر مناقب أهل البيت عليهم‌السلام ، في المواقع المناسبة ، لهو مما يلتزم به كل مسلم ، ولكن المهم هو التصريح بلوازم ومعاني تلك المناقب. وهو دلالتها على بطلان خلافة المتقدمين على الإمام علي عليه‌السلام ، وعلى أنهم كانوا معتدين عليه ، وغاصبين لحقه ..

وقد ذكر مؤلفوا كتب الصحاح وغيرها ، مثل صحيح مسلم ، ومسند أحمد ، وسنن ابن ماجة ، وأبي داود ، وصحيح البخاري ، وغير ذلك .. الكثير من مناقبهم عليهم‌السلام ، مع الالتزام الشديد منهم بأصول التسنن ومناهجه ..

١١ ـ علي إمام العالم :

وقد استدلوا على تشيعه بكلمة نسبوها إليه ، يصرح فيها ـ بحسب قولهم ـ : بأن الإمام علياً عليه‌السلام : «إمام العالم».

وقالوا : إن الفيض والشعراني يقولان : إن صاحب الفتوحات بعد أن ذكر أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله أول ظاهر في الوجود ، قال :

«وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب ، إمام العالم ، وسر الأنبياء أجمعين» (١).

__________________

(١) الردود والنقود ص ٣٤٥ ط سنة ١٤٢٣ ه‍ للشيخ إبراهيم آل عرفات القطيفي القريحي المتوفي أواسط القرن الثالث عشر .. وكلمات مكنونة ص ١٨١ وراجع اليواقيت والجواهر ، للشعراني ج ٢ ص ٢٠ المبحث ٣٢ ، والروح المجرد ص ٣٤٦.

٤٩

ونقول :

أولاً : قد ذكرنا في فصل : «هكذا يدافعون عن ابن عربي» ، تحت عنوان : «الدس في كتاب الفتوحات» وغيره : أن كتب ابن عربي قد تعرضت للدس والتحريف ، فزادوا فيها ما يخالف مذهب أهل السنة ، فإذا صح قولهم هذا ، فلا بد أن تكون هذه الكلمة من أوضح مصاديق هذا المدسوس عليه .. لأن أهل السنة لا يرضون بمضمونها حتماً وجزماً ، ويسعون إلى تكريس هذا الأمر في أبي بكر ..

إلا إذا أريد منها معنى يتناسب مع اعتقاداتهم ومناهجهم.

ثانياً : إن الشعراني وغيره يدَّعون : أنه قد زيد في كتاب الفتوحات المكية ما يخالف مذهب أهل السنة ، ولا يدعون وجود نقيصة فيه. ورغم ذلك ، فإن هذه العبارة المنسوبة إليه لا توجد في الفتوحات ، وهذا معناه : أن التحريف بالنقيصة حاصل أيضاً .. والظاهر : أنها عبارة مستنبطة بصورة خاطئة سنشير إليها بعد صفحات يسيرة ..

ثالثاً : إن ما ذكره ابن عربي حول أبي بكر ، وعمر ، وطلحة ، والزبير ، وعائشة ، وحتى معاوية ، والمتوكل ، فضلاً عن الحجاج ، لا يبقي مجالاً لاعتقاد : أنه يقصد بالإمامة للعالم هو الإمامة بمعناها الشيعي ، بل هو ـ لو صحت نسبة هذه الكلمة إليه ـ يقصد إمامة لا تتعارض مع جلوس أبي بكر على العرش ، ومع عصمة عمر ، ومع تعظيم المتوكل ، والحجاج ، وما إلى ذلك ..

رابعاً : قد ذكرنا : أنه قد صرح بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف أحداً من بعده .. (١) ، وأن تأويل كلامه بإرادة الخلافة الصوفية ، لا

__________________

(١) راجع : فصوص الحكم ص ١٦٣.

٥٠

يصار إليه إلا بدليل. والدليل قائم على خلافه ، كما أشرنا إليه غير مرة ..

فإن صح أن يكون ابن عربي قد قال : إن علياً عليه‌السلام ، إمام العالم ، فلا بد أن لا يكون مقصوده الإمامة الدينية بالمعنى الشيعي ، بل مراده إمامة صوفية ـ لا تصل إلى مستوى ما يدّعيه لنفسه ولغيره ممن يطلق عليهم اسم الأولياء ـ أو إمامة بمعناها اللغوي حيث يراد بها مجرد التعظيم ، ولا تتعارض مع خلافة خلفائهم ، بل تكون كإمامة الغزالي ، والرازي ، وما إلى ذلك ..

وإنما قلنا : لا تصل إلى مستوى ما يدّعيه لنفسه ولغيره من أولياء الصوفية ، لأنه يدّعي لنفسه درجات النبوة من دون تشريع ، ويصر على ذلك أيما إصرار .. كما سنرى ..

خامساً : من أين جاء القطيفي والفيض بعبارة «إمام العالم» ، فإن الموجود في «الفتوحات المكية» غير ذلك ، فقد قال ابن عربي :

«قال تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) (١) ، فشبه نوره بالمصباح ، فلم يكن أقرب إليه قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المسماة بالعقل ، فكان سيد العالم بأسره ، وأول ظاهر في الوجود ، فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ، ومن الهباء ، والحقيقة الكلية وفي الهباء وجد عينه ، وعين العالم من تجليه ..

وأقرب الناس إليه ، علي بن أبي طالب ، وأسرار الأنبياء أجمعين ..» (٢).

وليس في هذه عبارة : أن علياً «إمام العالم» .. بل الموجود هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو سيد العالم بأسره ..

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة النور.

(٢) الفتوحات المكية ج ١ ص ١١٩ ط دار صادر أفست عن دار الكتب العربية الكبرى بمصر. والردود والنقود ص ٣٤٥.

٥١

كما أن الشعراني قد نقل هذه الفقرة عن الفتوحات ، ولم يذكر أن هذه الكلمة منسوبة إلى الإمام علي عليه‌السلام ، وإن كانت عبارته تختلف عن عبارة الفتوحات أيضاً ، فقد قال : «فكان صلى الله عليه [وآله] وسلم مبدأ ظهور العالم ، وأول موجود. قال الشيخ محيي الدين. وكان أقرب الناس إليه في ذلك الهباء علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، الجامع لأسرار الأنبياء أجمعين .. (١).

سادساً : وكما أنه ليس في هذه الفقرة : أن علياً عليه‌السلام إمام العالم. ليس فيها أيضاً : إنه الجامع لأسرار الأنبياء ، بل فيها : إن القريب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو علي وأسرار الأنبياء. وشتان ما بينهما ..

سابعاً : أضف إلى ذلك : أن مجرد قرب علي عليه‌السلام من حيث الظهور في الوجود لا يعني أنه الأفضل بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. فإن النبي آدم عليه‌السلام كان أباً للبشر كلهم ، ولم يكن أفضل من النبي إبراهيم ، أو من نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى النبي إبراهيم وآله ..

ويضاف إلى ذلك : أن الأفضلية بعد رسول الله ـ بنظر ابن عربي ـ هي لأبي بكر ، لأنه يصرح بأنه ليس بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أبي بكر رجل ، كما أن سائر ما ذكره عن أبي بكر مما سنورده في فصل مستقل يدل على أن مقصوده بالعبارة المشار إليها آنفاً هو قربه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث النسب ، لا الفضل ..

وأخيراً نقول :

إن الظاهر هو : أنهم قد استنبطوا هذه الكلمة استنباطاً ، فإن ابن عربي قد وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه سيد العالم بأسره ، ثم قال : إن أقرب

__________________

(١) اليواقيت والجواهر ص ٣٣٩ ط دار إحياء التراث مؤسسة التاريخ العربي ..

٥٢

الناس إليه هو علي ، فاستفادوا من قربه إليه إمامته وسيادته للعالم أيضاً مثله صلى‌الله‌عليه‌وآله ..

مع أن استفادة ذلك غير ظاهرة ، ولا صحيحة ، فإنه إذا وصف النبي بالنبوة ، فإن هذا الوصف لا يثبت لأقرب الناس إليه أيضاً ..

١٢ ـ التنويه بحديث الغدير :

وقد استدلوا أيضاً بكلام ابن عربي حول الغدير ، فقالوا :

«وقد أعرض في رسالته المشهودة عن ذكر إيمانه بإمامة الخلفاء ، ونوه بلطف إلى وجوب الاعتقاد بالأمور الواقعة في يوم الغدير ، ومن جملتها تعيين خلافة الأمير عليه‌السلام ، حتى يصل إلى قوله :

«ووقف في حجة وداعه على كل من حضر من أتباعه ، فخطب وذكَّر ، وخوف وحذَّر ، ووعد وأوعد .. إلى أن قال : هل بلغت؟!

فقالوا : بلغت يا رسول الله.

فقال : اللهم اشهد» (١).

ونقول :

أولاً : قد يكون سبب إعراضه عن ذكر إيمانه بإمامة الخلفاء هو عدم وجود مناسبة تقتضي ذلك ، لا لأجل وجود تحفظ لديه على إمامتهما.

ثانياً : إن ذكر واقعة الغدير بدقائقها وتفاصيلها في كتاب لا يدل على التزام مؤلفه بمضمونها وفق التفسير الشيعي الإمامي لها. فإن كثيراً من علماء أهل السنة ، قد أوردوها في كتبهم ، وبقوا على تسننهم ، وحاولوا تأويلها ، والخروج من تبعات الالتزام بها ..

__________________

(١) الروح المجرد ص ٣٢٩.

٥٣

وقد تقدم التصريح من قبل الراغبين بإثبات تشيع ابن عربي : بأنه قد شحن بعض كتبه بمناقب أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكن أساس مطالبه قد جرى وفق أصول أهل السنة ..

ونحن نتيقن : أنه قد جرى في هذا المورد ـ أي في حديثه عن الغدير ـ على نفس هذا النهج ، وهو نهج التسنن أيضاً؟! وذلك لما نجده من دلائل وشواهد على تسننه ، تعد بالمئات ، وربما تزيد ..

ثالثاً : هل صرح ابن عربي ، وهو يتحدث عن قضية الغدير بالمضامين الصحيحة ، الدالة على أمر الإمامة ، فلم يتصرف بها بالحذف والتشويه؟!! ـ كما فعل بالنسبة لحديث الثقلين ، وكما فعل في غيره؟! ..

والجواب : إنه لم يفعل ذلك ، ولم يصرح باسم علي عليه‌السلام ، وأقحم في كلامه جملة لا ربط لها بموضوع الإمامة .. فراجع النص الذي ذكره المستدل آنفاً ..

ويبقى السؤال حائراً وتائها ، عن أنه ، كيف رأوا خصوص تلك الإيحاءات الضعيفة والواهية كافية للدلالة على تشيعه؟ ولم يروا هذا الحشد العظيم ، والكم الهائل مما هو صريح في رسوخ قدمه في التسنن؟! .. كافياً للتشكيك في دلالة وصحة تلك الشواهد الواهية والمريضة!!

رابعاً : إنه هو نفسه ـ كما تقدم ـ قد صرح : بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يستخلف أحداً من بعده ، فكيف تكون إشارته لحديث الغدير دليلاً على تشيعه؟!

إلا أن يدَّعى أن مراده : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف ولياً صوفياً ، كما ألمحنا إليه وقلنا : إنه تأويل بارد ، والمتاجرة به متاجرة بكاسد ، والإعتماد عليه اعتماد على أمر فاسد. بعد ما أوردناه في هذه الدراسة من دلائل

٥٤

وشواهد ، على أن ابن عربي ، عن التشيع حائد ، وبه زاهد.

١٣ ـ يكني عن علي عليه‌السلام ، بفلان :

وقالوا : إن ابن عربي قال في معرفة أسرار (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .. وأسرار الفاتحة.

«فالياء في الرحيم ترمز لليالي العشر ، والنقتطتان الشفع ، والألف الوتر .. والاسم الرحيم ، مالكيته : الفجر. ومعناه الباطن الجبروتي : والليل إذا يسر ، وهو الغيب الملكوتي. وترتيب النتقطتين الواحدة مما يلي الميم ، والثانية مما يلي الألف : وجود العالم الذي بعث إليهم ، والنقطة التي تليه (أي الميم) فلان .. والنقطة التي تلي الألف محمد ..» (١).

قالوا : أراد بفلان علياً عليه‌السلام ، لأنه هو الذي يناسب التقية فيه ..

ونقول :

أولاً : إن النص الموجود في الفتوحات المكية ج ١ ص ١١٠ (ط دار صادر ـ أوفست عن دار الكتب العربية الكبرى بمصر). هكذا :

«والنقطة التي تليه أبو بكر رضي الله عنه الخ ..».

وليس هذا من موارد الدس المدعى ، لأن الدس المدعى حصوله ، إنما هو لما يخالف عقيدة أهل السنة فقط ..

ثانياً : إن تقدير كلمة (علي) تأباه القرينة الموجودة في الكلام نفسه ، فإن العبارة هكذا :

«والنقطة التي تليه أبو بكر رضي الله عنه ، والنقطة التي تلي الألف محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم. وقد تقببت الباء عليهما كالغار (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ

__________________

(١) راجع : كتاب الردود والنقود ص ٣٢٣.

٥٥

لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) (١) .. فإنه واقف مع صدقه ، ومحمد عليه‌السلام واقف مع الحق ، في الحال الذي هو عليه في ذلك الوقت ، فهو الحكيم ، كفعله يوم بدر في الدعاء والإلحاح ، وأبو بكر عن ذلك صاح ، فإن الحكيم يوفي المواطن حقها ..

ولما لم يصح اجتماع صادقين معاً ، لذلك لم يقم أبو بكر في حال النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم ، وثبت مع صدقه به ..

فلو فقد النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم في ذلك الموطن ، وحضره أبو بكر ، لقام في ذلك المقام الذي أقيم فيه رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ، لأنه ليس ثم أعلى منه يحجبه عن ذلك ، فهو صادق ذلك الوقت وحكيمه ، وما سواه تحت حكمه ..

فلما نظرت نقطة أبي بكر إلى الطالبين أسف عليه ، فأظهر الشدة وغلب الصدق ، وقال : (لاَ تَحْزَنْ) لأثر ذلك الأسف (إِنَّ اللهَ مَعَنَا) كما أخبرتنا!»

ويستمر الكلام على هذا المنوال ومحوره ، أبو بكر ، لا الإمام علي عليه‌السلام ، فراجع .. (٢).

فكيف يكون المراد من كلمة فلان هو علي ، وليس أبا بكر؟!

١٤ ـ بركة أهل البيت عليهم‌السلام :

وقد يستدل على ذلك بأنه يرى : أن الموحدين لا يبقون في النار ، ولو بقوا فيها لعادت عليهم برداً وسلاماً ببركة أهل البيت عليهم‌السلام .. (٣).

__________________

(١) الآية ٤٠ من سورة التوبة.

(٢) الفتوحات المكية ط دار الكتب العربية الكبرى ج ١ ص ١١٠.

(٣) الفتوحات المكية ج ٤ ص ١٤٨ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.

٥٦

فهذا يدل : أن قلبه مملوء بحب أهل البيت عليهم‌السلام ، وعلى أنه يعتقد فيهم هذا المستوى من التأثير ، حتى إن النار تكون برداً وسلاماً ببركتهم ..

ونقول :

ألف ـ إنه يثبت لأبي بكر ، وعمر ، وسواهما ، ولأولياء الصوفية بركات ومقامات أعظم. وبعضها لم يثبته لأهل البيت عليهم‌السلام ولا لغيرهم ..

ب ـ إن حبه لأهل البيت عليهم‌السلام هو المفروض على كل مسلم بنص القرآن ، ولكن ، ليس هذا هو كل المطلوب ، بل المطلوب هو أن يعتقد إمامتهم ، وأن يصرح بعدم صحة إثبات الإمامة لغيرهم ، ممن غصب هذا الحق منهم .. وليس في إثبات هذه البركات العظيمة لهم ما يدل على اعتقاده بهذا ، أو بذاك ..

ج ـ إن الشفاعة في يوم القيامة تكون لكل مؤمن ، حتى إن المؤمن الواحد قد يشفع لأمم كبيرة ، حتى لو كانت مثل قبيلتي ربيعة ومضر .. ولكن ذلك لا يعني ثبوت الإمامة لهذا الشافع.

والسيدة الزهراء عليها‌السلام أيضاً ، تشفع لشيعتها ومحبيها ، مع أنها ليس لها مقام الإمامة الظاهرية ، وإن كان لها مقام من نوع آخر ، يقتضي شراكتها في حفظ الدين ، وصيانة الأمة ، وهدايتها ، ورعايتها ..

وقد ورد أيضاً في إمام الجماعة : أن أئمتكم شفعاؤكم ..

والأحاديث في الشفاعة كثيرة ومتنوعة ..

٥٧
٥٨

الفصل الثاني

من هم أهل البيت عليهم‌السلام ..

وحقيقة عصمتهم.

٥٩
٦٠