ابن عربي سنّيّ متعصّب

السيد جعفر مرتضى العاملي

ابن عربي سنّيّ متعصّب

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : التراجم
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

القسم الأول

أهل البيت .. والتشيُّع

دفاعات .. واستدلالات :

وهو يشتمل على فصول :

الفصل الأول : تشيُّع ابن عربي : دليل ونقد ..

الفصل الثاني : من هم أهل البيت, وحقيقة عصمتهم ..

الفصل الثالث : ما يذم به الشيعة ..

الفصل الرابع : هكذا يدافعون عن ابن عربي ..

٢١
٢٢

الفصل الأول

تشيُّع ابن عربي .. دليل ونقد ..

٢٣
٢٤

من هو الشيعي؟! :

قال الشيخ المفيد : «التشيع في أصل اللغة هو الإتِّباع على وجه التدين ، والولاء للمتبوع على الإخلاص ، قال الله تعالى : (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) (١).

ففرق بينهما في الإسم بما أخبر به من فرق ما بينهما في الولاية والعداوة ، وجعل موجب التشيع لأحدهما هو الولاء بصريح الذكر له في الكلام» ..

إلى أن قال :

«.. فأما إذا أدخل فيه علامة التعريف ، فهو على التخصيص لا محالة لأتباع أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، على سبيل الولاء والاعتقاد بإمامته بعد الرسول صلوات الله عليه وآله ، بلا فصل. ونفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة ، وجعله في الاعتقاد متبوعاً لهم غير تابع لأحد منهم على وجه الاقتداء ..» (٢).

أي أن الحكم بالتشيع يحتاج إلى توفر أمرين ، لا مجال للحكم على شخص بالتشيع إذا فقد أي منهما :

أحدهما : أن يكون من أتباع الإمام علي عليه‌السلام على سبيل الولاء ،

__________________

(١) الآية ١٥ من سورة القصص.

(٢) أوائل المقالات ص ٢ و ٣.

٢٥

والاعتقاد لإمامته بعد الرسول بلا فصل ..

الثاني : نفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة.

وهذا الركن الثاني هو الركن الأهم ، إذ إن الولاية الحقيقية لا تتحقق إلا به ، فإن إظهار المحبة الولاء أمر شائع ، وهو خفيف المؤونة ، يبادر الناس لإظهاره لأدنى مناسبة ، حتى من يعتقد بإمامة على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أما رفض ولاية من استأثروا لأنفسهم بالخلافة ، فهو الأصعب ، والأشد. وهو الذي يميز الشيعي حقيقة عن غيره ..

فهل كان ابن عربي مستجمعاً لهذين الركنين؟! ليمكن الحكم بتشيعه بالمعنى العام؟

أم أنه فاقد لهما أو لأحدهما؟! لكي لا يحكم عليه بذلك ..

ونقصد بالمعنى العام ، ما يشمل الإمامية والجارودية من الزيدية ، والإسماعيلية أيضاً ..

وأما التشيع بمعناه الأخص ، وهو كونه إمامياً اثنا عشرياً ، فله سمات ، وعلامات ، وخصوصيات أخرى أيضاً ، لا بد من التأكد من توافرها في أي شخص ليحكم بكونه شيعياً إمامياً ..

وعلى كل حال ، فإن بيان حال ابن عربي ، والتأكد من صحة نسبة التشيع إليه ، هو ما سيتضح في الفصول التالية ..

بداية وتوطئة :

إن الذين قالوا عن ابن عربي : إنه شيعي يكتم تشيعه ، قد استدلوا على مدَّعاهم هذا بعدة أمور ، رأوا أنها مفيدة في إثباته ، ونحن نوردها ، وفقاً لما يستفاد من كلماتهم ، ونسجل ملاحظاتنا عليها في ضمن المطالب التالية :

٢٦

استدلوا بما يلي :

١ ـ الاجتهاد ومقلدة العلماء ..

٢ ـ أسعد الناس به أهل الكوفة ..

٣ ـ الخليفة الموعود ..

نقلوا عن محيي الدين بن عربي عبارة ، ذكروا أنها تدل على تشيعه ، وصحة عقيدته ، من عدة وجوه ، وهذه العبارة هي التالية :

«إن لله خليفة يخرج من عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من ولد فاطمة عليها‌السلام ، يواطئ اسمه اسم رسول الله ، جده الحسين بن علي عليه‌السلام ، يبايع بين الركن والمقام. يشبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخلق ـ بفتح الخاء ـ وينزل عنه في الخلق ـ بضم الخاء. أسعد الناس به أهل الكوفة ، يعيش خمساً ، أو سبعاً ، أو تسعاً. يضع الجزية ، ويدعو إلى الله بالسيف ، ويرفع المذاهب عن الأرض ، فلا يبقى إلا الدين الخالص.

أعداؤه مُقلِّدة العلماء ، أهل الاجتهاد ، ولِما يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمتهم ، فيدخلون كرهاً تحت حكمه ، خوفاً من سيفه.

يفرح به عامة المسلمين أكثر من خواصهم. يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهودٍ وكشفٍ بتعريفٍ إلهي.

له رجال إلهيون ، يقيمون دعوته وينصرونه. ولولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله. ولكن الله يُظهره بالسيف والكرم ، فيطمعون ، ويخافون ، ويقبلون حكمه من غير إيمان ، ويضمرون خلافه ، ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهب أئمتهم أنه على ضلالٍ في ذلك.

لأنهم يعتقدون أن أهل الاجتهاد وزمانه قد انقطع ، وما بقي مجتهد في

٢٧

العالم ، وأن الله لا يُوجد بعد أئمتهم أحداً له درجة الاجتهاد.

وأما من يدعي التعريف الإلهي بالأحكام الشرعية ، فهو عندهم مجنون فاسد الخيال» .. (١). انتهى ..

حيث استدلوا على صحة عقيدته بالفقرات التالية :

أولاً : استدلوا بقوله : «إن لله خليفة يخرج الخ ..» ، إذ إن أهل السنة مع اعتقادهم بظهور المهدي الموعود ، إلا أنهم يقولون : إنه سيولد. أما الاعتقاد بحياة ووجود الإمام المهدي فهو من مختصات الإمامية من الشيعة.

ثانياً : استدلوا بقوله : «وأسعد الناس به أهل الكوفة» ، حيث إن هذه العقيدة من مختصات الشيعة الإمامية أيضاً ، فإنهم يقولون : إنه عليه‌السلام يخرج من مكة ، ثم يقدم الكوفة ، ويرسل الجيوش منها إلى سائر البلاد.

ثالثاً : قالوا : إن التشنيعات الواردة في هذه الفقرة على مقلدة المجتهدين ، تدل على أنه يشنع على أهل السنة ، لأنهم هم الذين يقولون : إن الاجتهاد وزمانه قد انقطع ..

ونقول :

إن جميع ما ذكروه لا يصلح للإستدلال به على صحة عقيدة ابن عربي ، وذلك لما يلي :

أولاً : إن هناك جماعات من أهل السنة قد ألفوا كتباً في أحوال الأئمة

__________________

(١) الروح المجرد ص ٣١٩ ط سنة ١٤٢٣ ه‍ عن كتاب «الأربعين» للشيخ البهائي ص ٣١٢ و ٣١٣ خاتمة الحديث رقم ٣٦ عن الفتوحات لابن عربي ، في الباب ٣٦٦ ومجالس المؤمنين للقاضي نور الله التستري ج ٢ ص ٢٨١ ط حجرية وقد ذكر الطهراني في الروح المجرد ص ٢٢١ : أن الظاهر هو أن الشيخ البهائي قد التقط فقرات هذه العبارة من كتاب الفتوحات المكية ج ٣ ص ٣٢٧ و ٣٣٦ ط دار الكتب العربية الكبرى مصر.

٢٨

الاثني عشر ، مثل ابن الصباغ المالكي ، والشبلنجي الشافعي ، والشبراوي الشافعي ، والفضل بن رزوبهان ، وابن حجر الهيتمي ، والقندوزي الحنفي .. وغيرهم كثير ، فهل يمكن عد هؤلاء من الشيعة أيضاً؟!

ثانياً : إنه لم يصرح بأن هذا الخليفة لله (وهو المهدي) ، الذي يتحدث عنه : على قيد الحياة أولاً ، بل ذكر أن لله خليفة ، ولم يزد على ذلك ..

فلماذا يتبرع المستدل بإضافة أنه «على قيد الحياة» ..

ثالثاً : ما معنى قوله : يعيش خمساً ، أو سبعاً ، أو تسعاً ..

فهل يقصد : أن هذا هو تمام عمره الشريف؟ أم يقصد أنه يعيش بصفته حاكماً هذا المقدار من السنين؟ ولكن العبارة خانته ، ولم يصلحها .. فإذا كان يقصد الشق الثاني ، وأن العبارة قد خانته ، فنقول :

لماذا لم يصلحها له كشفه ، خصوصاً وأنه يدعي ـ كما سيأتي ـ أنه قد كتب الفتوحات منقاداً فيه إلى الجبر الإلهي ، وكانت مضامينه تملى على سبيل الإلهام ، فيلقي إليه ما يشاء ، ويمسك ما يشاء. كما سنشير إليه في فصل : مادح نفسه ..

فكيف يخطئ هذا الإلهام الإلهي؟! ولماذا لم يلتفت هو إلى هذا الخطأ ، فيراجع فيه ربه ليأذن له بإصلاحه؟! أو يصلحه هو بنفسه؟! أو يعتذر عن إصلاحه بعدم الإذن له فيه؟!

رابعاً : إن ذهاب الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى الكوفة بعد ظهوره ، وإرسال جيوشه إلى سائر البلاد ، ليس من اعتقادات الشيعة ، وإنما هو مجرد رواية وردت في كتبهم ، كسائر الروايات.

كما أنها قد وردت في كتب أهل السنة أيضاً .. (١).

__________________

(١) راجع الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٦ ص ١٠ وينابيع المودة ج ٣ ص ١٧٣ و ٢١٤

٢٩

فلماذا لا ينسبه إليهم من أجل ذلك؟!!. أو فليحكم بتشيع جميع أهل السنة ، لأنهم قد رووا هذه الرواية في كتبهم!! ..

خامساً : بالنسبة لمهاجمته للقائلين بانقطاع الإجتهاد ، نقول :

ألف ـ إن ذلك لا يدل على تشيعه ، حتى لو تفرد هو بهذا النقد لهم .. لأن فتح باب الاجتهاد وسدِّه ، لا ينافي شيئاً من عقائد الشيعة ، فلا يدل مثلاً على أحقية من غصب الخلافة ..

ب ـ إنه ليس هو الوحيد من علماء أهل السنة الذي أعلن بنقد هذا الموضوع ، ورفضه جملة وتفصيلاً ..

فقد ذكر الشيخ آقا بزرك الطهراني «رحمه الله» : أن هناك من كان يدعو إلى فتح باب الاجتهاد ، ويعترض على سده منذ القرون التي أعلن فيها انسداد بابه حتى يومنا هذا ، أمثال :

أبي الفتح الشهرستاني المتوفى سنة ٥٤٨ هـ.

وأبي إسحاق الشاطبي المتوفى سنة ٧٩٠ هـ.

والسيوطي المتوفى سنة ٩١١ هـ.

وقد ألف السيوطي رسالة سماها : «الرد على من أخلد إلى الأرض ، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض» وقدم لهذا الرسالة بقوله :

«إن الناس قد غلب عليهم الجهل ، وعمهم ، وأعماهم حب العناد ، وأصمهم. فاستعظموا دعوى الاجتهاد ، وعدوه منكراً بين العباد. ولم يشعر هؤلاء الجهلة : أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر ، وواجب

__________________

و ٣٠٠ و ٣٩٩ و ٣٩٤.

٣٠

على أهل كل زمان ، أن يقوم به طائفة في كل قطر» (١).

وقال الشوكاني : «ومن حصر فضل الله على بعض خلقه ، وقصر فهم هذه الشريعة على من تقدم عصره ، فقد تجرأ على الله عز وجل ، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده ، ثم على عباده الذين تعبدهم الله بالكتاب والسنة».

هذا بالإضافة إلى غير هؤلاء من العلماء الكبار ، الذين كانوا يدعون إلى فتح باب الاجتهاد ، ويقفون أمام غلقه.

وقد استمر هذا الصمود أمام غلق باب الاجتهاد إلى القرون المتأخرة ، حيث اعترض على هذا الاغلاق أيضاً أمثال :

جمال الدين الأفغاني.

والشيخ محمد عبده.

ومحمد رشيد رضا (٢).

والسيد سابق (٣).

وغيرهم ..

سادساً : بالنسبة لما ذكره عن خليفة الله نقول : إنه حتى لو كان يقصد به الإمام المهدي عليه‌السلام ، وأنه حي فعلاً ، وأنه ابن الإمام العسكري عليه‌السلام ..

فإن ذلك لا يدل أيضاً على تشيعه ، وذلك لأن الحديث القائل : إنه يكون

__________________

(١) وقد طبع هذا الكتاب مؤخراً في مصر نشر مكتبة الثقافة الدينية.

(٢) راجع فيما تقدم : تاريخ حصر الاجتهاد ، للشيخ آقا بزرك الطهراني ص ٢٦ و ٢٧ و ٢٨ ، والاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي ص ٧٤ و ٩٤ و ٣٥٦ و ٣٧٧ و ٣٩٠.

(٣) راجع : فقه السنة ص ٧ و ١٤.

٣١

بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اثنا عشر خليفة ، أو أميراً ، أو إماماً ، كلهم من قريش ، قد أحرج أهل السنة بدرجة كبيرة ، حيث إنه مروي في أصح الكتب والمسانيد ، وعلى رأسها كتب الصحاح عندهم ، مثل البخاري ، ومسلم ، وأبي داود ، ومسند أحمد بن حنبل ، وغير ذلك كثير ، بل ذكر في ينابيع المودة : أنه مروي عن بضعة وعشرين صحابياً ..

وقد حير هذا الحديث علماء أهل السنة ، وشرّقوا وغرّبوا في بيان المراد منه ، فجاء أمثال ابن الصباغ المالكي ، والشبلنجي الشافعي ، والكنجي الشافعي ، والقندوزي الحنفي ، والشبرواي الشافعي ، وابن روزبهان ، والهيتمي و .. و .. وتكفلوا بحل الإشكال بطريقة تحفظ لهم تسننهم العميق ، وعصبيتهم للخلفاء ، وتدفع عنهم غائلة إلزام الشيعة لهم ، فقالوا :

نحن نقبل بتطبيق الحديث المذكور على الاثني عشر إماماً الذين يقول بهم الشيعة ، والذين أولهم علي عليه‌السلام ، وآخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه ، ولكننا نفسر خلافتهم ، وإمارتهم ، وإمامتهم ، بما يتناسب مع حفظ سائر الخصوصيات الاعتقادية لأهل السنة ، خصوصاً بالنسبة لأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وغيرهم من الحاكمين .. فنقول :

إن المراد بالخلافة هو الخلافة في التقوى ، والصلاح ، والكرامات ، تماماً كما يعتقد أهل التصوف في أولياء الصوفية .. أو حتى أدنى من ذلك بمراتب ..

أما الإمامة بمعناها الصحيح الذي يقول به الشيعة الإمامية ، تبعاً لأئمتهم الطاهرين ، وكذلك الإمامة بمعنى الحاكمية ، فهي لأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، و .. و .. بل إن لهؤلاء مقام العصمة ، وأعظم مراتب الكرامة عند الله ، حتى إنه سيأتي أن أبا بكر يكون على العرش على يمين الله ، وغير ذلك ..

وماذا على أهل السنة لو قالوا لأنفسهم ، إذا تم لهم ذلك : لا ضير علينا

٣٢

بعد اليوم ، من تجويز كل فضيلة في حق أبي بكر ، وعمر ، وليتوسع الناس ، وليترخصوا في هذا الأمر ما شاؤا ، فقد حلت مشكلة ذلك الحديث المحرج ، وقد أسكتنا الشيعة باعترافنا بصلاح أئمتهم ، وباعطائهم درجة أولياء الصوفية ، وتمكنا بذلك من حفظ كل خصوصياتنا الاعتقادية ، وحفظ التسنن بمعناه الدقيق والعميق ..

وابن عربي كما يظهر من كلماته الكثيرة جداً هو من هذا الفريق العريق في التسنن ، الذين هم في الحقيقة ، الأصلب في التسنن والأصعب .. والأبعد عن إمكانية اقناعهم بالحق ..

إن نفس الباب الذي ذكر فيه ابن عربي تلك الفقرات ، قد اشتمل على أمور تخالف عقيدة الشيعة ، وأحاديثهم ، مثل أن عيسى ينزل من السماء بالمنارة البيضاء بشرق دمشق ، وأن المهدي هو الذي يصلي خلف عيسى .. (١) وغير ذلك ..

٤ ـ لا يعمل بالقياس :

واستدلوا على تشيع ابن عربي ، بأنه لا يعمل بالقياس ، ولا يقول به .. (٢) ، وغير الشيعة هم الذين يعملون بالقياس.

ونقول :

إن ذلك لا يدل على تشيعه أيضاً ، وذلك للأمور التالية :

أولاً : إن الشافعي ، وآخرين من أئمة أهل السنة أيضاً ، لا يعملون

__________________

(١) راجع : الفتوحات المكية ج ٣ ص ٣٢٧ ط دار صادر أفست عن دار الكتب العربية الكبرى بمصر.

(٢) راجع كتاب : شرح مناقب محيي الدين ابن عربي ص ٢٩ ـ ٣١ ط حجرية.

٣٣

بالقياس ، ولا يقولون به ، فهل صار الشافعي شيعياً ، فضلاً عن غيره؟!

ثانياً : لنفترض : أن ابن عربي كان وحده الذي وافق الشيعة في رفض العمل بالقياس ، فإن هذا لا يجعله في جملة «الشيعة»؟! فإن للتشيع عقائده ، وأسسه ، وأركانه .. وعلى رأسها رفض صحة خلافة أحد سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، واعتبار التعدي على السيدة الزهراء عليها‌السلام أمراً يوجب غضب الله ورسوله ، ويَحْرِم فاعله من أي مقام. فضلاً عن أن يتصدى لمقام الخلافة والإمامة؟!

ولم يكن ابن عربي ممن يرى ذلك في شأن من تعدى على السيدة الزهراء عليه‌السلام ، واغتصب مقام الخلافة ، كما ستظهره النصوص التي أوردناها في هذه الدراسة الموجزة إن شاء الله تعالى ..

ثالثاً : إنهم ينسبون إلى ابن الجنيد الإسكافي ، أنه كان يعمل بالقياس في الفقه أيضاً (١) ، فلو صح هذا الأمر عنه ، فهل يجعله في جملة أهل السنة ، ويخرجه عن مذهب التشيع؟! ..

هذا إن لم نقل : إن القياس الذي عمل به ابن الجنيد ، هو قياس الأولوية القطعية ، الداخل في باب الظهورات ، والذي من أمثلته قوله تعالى : (لاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ) (٢) الدالة على حرمة ضربهما ..

ولعله قد اشتبه عليه الأمر أحياناً فتخيل ما هو ظني ـ بحسب الفهم النوعي ـ قطعياً ، حين حصل له القطع الشخصي به.

أو نقول : كما احتمله بعضهم : إنه كان يستعمل القياس في مناقضاته مع

__________________

(١) روضات الجنات ج ٦ ص ١٤٥ والكنى والألقاب ص ٢٦ وراجع الفهرست للطوسي أيضاً.

(٢) الآية ٢٣ من سورة الإسراء.

٣٤

أهل السنة ليلزمهم بما يلزمون به أنفسهم (١).

هذا وقد نسب العمل بالقياس ، إلى الحسن بن علي ابن أبي عقيل أيضاً (٢).

فلعله بقي متأثراً بهم بهذا المقدار ، ولعل الأمر بالنسبة إليه هو نفس ما قدمناه بالنسبة للإسكافي.

وروي القول بالقياس عن الفضل بن شاذان ، ويونس بن عبد الرحمان ، وجماعة (٣).

رابعاً : قد أظهرت كلمات ابن عربي : أنه لا يرضى بالاعتراض على من يعمل بالقياس ، ويعتبر العامل به عاملاً بشرع الله أيضاً .. وليس هذا هو رأي الشيعة في هذه المسألة ..

وستأتي طائفة من عباراته الصريحة في ذلك في فصل : «سمات ومناهج ..»

خامساً : إن ابن عربي حين استدل على ضرورة استبعاد القياس ، قد وجه ما قد يدخل في عداد الإهانات لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال :

«بل عاتبه سبحانه ، لما حرم على نفسه باليمين في قصة عائشة وحفصة ، بقوله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) (٤) ..

وكان هذا مما أرته نفسه ، فلو كان هذا الدين بالرأي ، لكان رأي النبي

__________________

(١) روضات الجنات ج ٦ ص ١٤٧.

(٢) راجع : روضات الجنات ج ٦ ص ١٤٥.

(٣) روضات الجنات ج ٦ ص ١٤٨.

(٤) الآية ١ من سورة التحريم.

٣٥

أولى من رأي من ليس بمعصوم ..».

فإن كلامه هذا يتضمن تخطئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واعتبار ما يفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأياً له ، وليس بدلالة إلهية .. مع أن هذه الآية التي هي في صورة عتاب إلهي ، إنما جاءت لتسجل غاية الثناء والمدح ، والتكريم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أراد الله تعالى من خلالها أن يجعل الرسول لنا أسوة وقدوة في نفس فعله هذا ..

إنه تعالى يقول : إن هاتين المرأتين اللتين تواجهان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأعظم الأذى ، قد تظاهرتا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى الحد الذي أوجب التدخل الإلهي ، لفضح أمر المتظاهرتين ، وإعلان : أن (اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (١).

والمتظاهرتان هما اللتان أفشتا سره ، وتفننتا في الإضافة على هذا السر ، والزيادة فيه ، حتى عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعضه ، وأعرض عن بعض ..

واللافت هو : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنما يلقى هذه المعاملة من امرأة ، وممن هي زوجته ، التي له حق القوامة عليها ، وهو نبيها ، وأولى بها من نفسها ..

هذا النبي ـ برغم ذلك كله ـ يعاملها أحسن معاملة ، ويكون موقفه منها ليس مجرد الصفح والعفو ، بل يصل إلى حد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يَحْرِم نفسه مما هو حلال له ، لتبقى نفس تلك الزوجة المؤذية له ، مرتاحة ، ومسرورة ، وإنما كان سرورها في محروميته وعذابه ..

فالله تعالى يريد أن يظهر لنا هذا الخلق العظيم لرسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) الآية ٤ من سورة التحريم.

٣٦

وآله» ، فيقول له على مسمع منا :

«لماذا أنت حليم وكريم ، وسموح ونبيل ، إلى هذا الحد»؟!

فهل من يكون حليماً ، وكريماً ، وصاحب نبل ، وخلق رفيع ، يكون قد ارتكب ذنباً بذلك؟!

وهل يصح أن يعّد هذا النوع من الكلام معه لوماً له ، وانتقاصاً لشأنه ، وإنقاصاً من قدره ومقامه؟! ..

حاشا وكلا!! ..

بل هو غاية التكريم له ، والثناء عليه ، وهو إعلان بمقامه السامي ، وتنويه عظيم به ، وإظهار لمآثره الجليلة ، لنجد نحن فيه الأسوة الحسنة الفضلى ، والقدوة المثلى ..

ولكن ابن عربي أراد أن يفسر كلام الله ، بما يناقض المقصود الحقيقي ، بل لقد وصل الأمر به إلى حد أن ينسب النقص والخلاف لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!!

٥ ـ شعره في الوصية :

واستدلوا على تشيع هذا الرجل بأشعاره التي يذكر فيها الوصية ، وهي :

وصّى الإله ، ووصت رسله فلذا

كان التأسي بهم من أفضل العمل

لولا الوصية كان الخلق في عمه

وبالوصية دام الملك في الدول

فاعمد إليها ولا تهمل طريقتها

إن الوصية حكم الله في الأزل (١)

__________________

(١) راجع : الروح المجرد ص ٣٢٧ الفتوحات المكية صدر الباب ٥٦٠ ج ٤ ص ٤٤٤ ط دار صادر أفست عن طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر ، وروضات الجنات ج ٤ ص ١٩٣ طبعة حجرية عن كتاب الوصايا لابن عربي.

٣٧

حيث قالوا : إن هذه الأبيات قد تضمنت تلويحاً بحسن طويته ، وصفاء عقيدته.

ونقول :

أولاً : إنه إن كان يتحدث عن وصي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنه لم يعين من هو هذا الوصي ، فهل هو أبو بكر؟! أم هو علي؟! أم شخص ثالث سواهما؟!

ثانياً : سلمنا أن المراد به الإمام علي عليه‌السلام ، بقرينة أنه قد صرح بذلك في بعض مؤلفاته ، حيث قال : «فلا الحق رضيها لنبيه ، ولا النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم ، رضيها لابنته ووصيه» (١) ..

فإننا نقول :

ولكن ليت شعري ، ما هو مقصوده من كونه وصيا؟! ، فإن ظاهر كلامه ، بل صريحه ، يتحدث في هذا المورد ، عن أصل الوصية ، التي هي مطلوبة للشارع من كل أحد ، ولذلك قال مخاطباً سامعه وقارئه : «فاعمد إليها ولا تهمل طريقتها» ..

فإنه لا يريد أن يقول : إن على كل مسلم أن يوصي بالخلافة من بعده.

وأما بالنسبة لوصف الإمام علي عليه‌السلام بالوصي في بعض مؤلفاته الأخرى ، فإننا نقول :

إنه ليس ثمة ما يثبت : أنه يقصد أيضاً الوصية في أمر الإمامة ، أو الخلافة.

ولذلك تجد أهل السنة لا ينكرون ، بل هم يصرحون بكون علي عليه‌السلام هو الوصي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنهم يصححون خلافة

__________________

(١) مجموعة رسائل ابن عربي ج ١ ص ١٤٢ و ١٤٣ ط دار المحجة البيضاء سنة ١٤٢١ ه‍ بيروت ـ لبنان.

٣٨

أبي بكر وعمر أيضاً ، باعتبار أن الوصاية لعلي ـ عندهم ـ إنما هي في الأمور المتعلقة بشخص النبي ، كالديون ، والودائع ، وبعض ما يرتبط بالتعامل مع أبنائه ، أو مع غيرهم ، وما إلى ذلك ..

ثالثاً : إنه هو نفسه يصرح بأنه لم يكن بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أبي بكر رجل! ألا يدل ذلك على أنه يرى أبا بكر في المقام الأول بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!.

يضاف إلى ذلك : ما سوف نورده في هذه الدراسة ، من نصوص فإنها تكفي لإظهار حقيقة اعتقاده في أبي بكر وعمر ، وعائشة ، وسائر المناوئين للإمام علي عليه‌السلام. الأمر الذي لا ينسجم مع اعتقاده بالوصاية لعلي في تولي أمور الناس بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلا إذا كان يرى الجمع بين الأضداد.

رابعاً : إنه يصرح أيضاً بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف أحداً بعده ، فراجع .. (١).

إلا أن يدعى : أن مقصوده هو الخلافة الصوفية ، ولكنه تأويل تحكمي تعسفي ، يخالفه ظاهر كلامه ..

والغريب في الأمر ، أنهم يلجأون إلى كلام مبهم ومجمل ، ويرون أن فيه تلويحاً أو دلالة على حسن طويته ، ويتركون تصريحاته التي لا بد من عدها في ضد ذلك .. مع أنها لا مجال لتأويلها!!

إن هذا لشيء عجاب؟! ..

__________________

(١) فصوص الحكم ص ١٦٣.

٣٩

٦ ـ حديث المنزلة :

وقالوا : «لقد أومأ بدقة إلى حديث المنزلة ، تحت عنوان «فص هاروني» من كتاب الفصوص ، والعبارة هي قوله :

«فص حكمة إمامية في كلمة هارونية».

حيث دلت عبارته هذه ـ بزعمهم ـ على أمرين :

أحدهما : أن ظاهر الكلمة يوهم : أن حكمة الطائفة الإمامية في الكلمة الهارونية ، وهي حديث المنزلة ، ولفظ أخلفني.

ثانيهما : إنه أورد في عبارته المقام الهاروني صريحاً بلفظ «الإمامة» ، ولم يبال بمخالفة علماء أهل السنة ، وإنكارهم الخلافة الهارونية ..» (١).

ونقول :

أولاً : إن هذا الإستدلال غريب أيضاً .. فإنه لم يورد في ذلك الفصل أي شيئ يشير إلى هذه التفاصيل التي ذكروها سوى هذا العنوان الآنف الذكر ، فهو لم يشر إلى الإمام علي عليه‌السلام ، ولا إلى حجة الوداع ، ولا إلى حديث المنزلة ، ولا لغير ذلك ، مما يدل على أمر الإمامة ، لا من قريب ولا من بعيد ..

ثانياً : إن كلمة الإمامة تستعمل عند أهل السنة في معنى الخلافة أيضاً .. وأهل السنة ينكرون خلافة هارون لأخيه موسى ، وصيرورته بذلك إماماً لقومه بعده .. بحجة أن النبي هارون عليه‌السلام ، قد مات قبل النبي موسى عليه‌السلام ، فلا معنى لأن يكون خليفة له من بعده ..

ونقول لهم : إن المراد من حديث المنزلة هو إثبات المنزلة التي كانت لهارون النبي من النبي موسى عليهما‌السلام ـ إثباتها لأمير المؤمنين «عليه

__________________

(١) راجع : الروح المجرد ص ٣٣٠ ـ ٣٣٢.

٤٠