السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : التراجم
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
السلام» ، فإذا ثبتت بقيت.
ويكون للإمام علي عليهالسلام من النبي صلىاللهعليهوآله منزلة هارون من موسى ما دام الإمام علي عليهالسلام حياً ، حتى بعد وفاته صلىاللهعليهوآله .. وليس المراد التشبيه بموسى وهارون من جميع الجهات ، حتى في الحياة والممات ، وحتى في مواجهة هارون لعبادة العجل الذي صنعه السامري لبني إسرائيل .. وما إلى ذلك ..
ثالثاً : إنه إذا جاز أن يكون لهذا التلويح المدعى أي أثر في معرفة حقيقة اعتقاد ابن عربي ، فلماذا لا يكون لتلك التصريحات التي وردت في هذه الدراسة ، وهي تعد بالعشرات ، بل بالمئات ، دلالة على ضد ذلك؟! ..
خصوصاً مع تصريحه بعدم استخلاف رسول الله صلىاللهعليهوآله لأحد من بعده ، وغير ذلك مما سيأتي ..
٧ ـ مودة ذوي القربى :
قد نسبوا إلى هذا الرجل قوله :
رأيت ولائي آل طه وسيلة |
|
على رغم أهل البعد يورثني القربى |
فما طلب المبعوث أجراً على الهدى |
|
بتبليغه إلا المودة في القربى (١) |
وقد اعتبروا ذلك من دلائل تشيعه ..
ونقول :
أولاً : إن هذين البيتين لا يدلان على أكثر من إظهار الحب والولاء لأهل البيت عليهمالسلام ، ولا يدلان على الاعتقاد بإمامتهم.
__________________
(١) مجالس المؤمنين للقاضي التستري ج ٢ ص ٢٨١ عن كتاب إحياء علوم الدين.
وقد مدح الشافعي أهل البيت عليهمالسلام ، والشافعي ليس من الشيعة قطعاً .. ومدحهم أيضاً وغالى فيهم ابن أبي الحديد المعتزلي ، وهو ما فتئ يبذل جهده في نقض عقائد الشيعة ، حتى إنه ليتشبث بما هو أوهى من بيت العنكبوت ، فهل صار المعتزلي شيعياً ، وكذلك كل من أظهر الولاء والحب لأهل البيت صلوات الله عليهم؟! ..
ثم إن من المعلوم : أن إظهار الحب لهم عليهمالسلام واجب على كل مسلم ، بنص آية المودة وغيرها ، فمن لا يواليهم لا يكون مسلماً بإجماع الأمة ، لأنه يكون صريح المعاندة للقرآن الكريم ..
ثانياً : لو كان هذان البيتان يدلان على التشيع بمعناه الاعتقادي والفقهي لدخلت في التشيع أمم عظيمة من الناس من أهل السنة الذين مدحوا أهل البيت عليهمالسلام ، مع أن منهم من هو من أشد الناس على شيعة أهل البيت ، وأحرص الناس على نقض عقائدهم ، مثل الفضل بن رزوبهان ، وابن حجر الهيتمي ..
بل يدخل فيهم من حارب أهل البيت عليهمالسلام أنفسهم ، فقد ورد في التاريخ : مدح عمرو بن العاص علياً ، وورد أيضاً مدحه عليهالسلام من قبل معاوية ، وعمر بن الخطاب ، وغير هؤلاء أيضاً ..
ثالثاً : قد تقدم أن ابن عربي نفسه قد صرح بأن النبي صلىاللهعليهوآله لم يستخلف أحداً .. (١) وأي تأويل لكلامه مرفوض ، لأن سائر كلماته الصريحة تؤيد وتؤكد عدم تشيعه ..
رابعاً : إننا نشك في صحة نسبة هذا الشعر لابن عربي ، إذ قد قال
__________________
(١) راجع : فصوص الحكم ص ١٦٣.
الكنجي ما يلي : «وأنشد بعض مشايخنا ، وهو محمد بن العربي ، شيخ المحققين : رأيت ولائي آل طه وسيلة .. الخ ..» (١).
وقال ابن حجر الهيتمي :
«وللشيخ الجليل شمس الدين ابن العربي : رأيت ولائي آل طه الخ ..» (٢).
ونحن نسجل هنا الملاحظات التالية :
ألف : إننا لم نجد هذين البيتين فيما بأيدينا من مؤلفات لابن عربي ، رغم أنه قد ضمن كتبه الكثير من أشعاره ..
ب : هناك اثنان باسم ابن عربي ، وابن العربي ..
أحدهما : القاضي محمد بن عبد الله ، بن محمد المعافري ، الأشبيلي ، المالكي ، أبو بكر ابن العربي. وهو من حفاظ الحديث ، وهو صاحب كتاب العواصم من القواصم. وكتاب عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي ، وغير ذلك ، وقد رحل إلى المشرق أيضاً ، وتوفي سنة ٥٤٣ .. (٣).
الثاني : محمد بن علي ، بن محمد ابن العربي ، أبو بكر الحاتمي ، الطائي الأندلسي ، المعروف بمحيي الدين بن عربي ، والملقب بالشيخ الأكبر. زار بلاد الشام ، وبلاد الروم ، والعراق ، والحجاز ، ومصر ، وغيرها ..
ويقول محمد قطة العدوي : إن أهل المشرق قد اصطلحوا على التعبير عن محيي بكلمة «ابن عربي» بدون ألف ولام ، فرقاً بينه وبين القاضي ابن
__________________
(١) كفاية الطالب ص ٣١٣.
(٢) الصواعق المحرقة ص ٢٥٩ ط سنة ١٤٠٣ هـ. ق. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان.
(٣) راجع : الأعلام للزركلي ج ٦ ص ٢٣٠.
العربي .. (١).
وبعدما تقدم نقول :
إن الملاحظ هو : أن الكنجي الشافعي ، وهو مشرقي ، قد عبر بـ : «ابن العربي» وهذا هو نفس التعبير الذي ورد في الصواعق أيضاً ..
فإذا صح ما قاله العدوي ، فإن قائل هذين البيتين يكون هو ابن العربي ، أي القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله ، بن محمد المعافري ، وليس محيي الدين محمد بن علي ، ابن عربي الطائي ..
ج ـ إن اللقب الذي أطلقه الهيتمي على قائل هذين البيتين هو «شمس الدين» ، ومن الواضح أن لقب صاحب الفتوحات هو محيي الدين .. وهذه قرينة أخرى على أن المراد هو ابن عربي آخر ، فإما أن يكون القاضي المعافري ، وهو محمد ابن العربي ، أو يكون شخصاً غير هذين الاثنين ..
٨ ـ سلمان منا أهل البيت :
استدلوا بما قاله في حق سلمان المحمدي (الفارسي) ، وهو ما يلي :
«هذا شهادة من النبي لسلمان الفارسي بالطهارة ، وحفظ الآل ، حيث قال فيه رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم : سلمان منا أهل البيت.
وشهد الله لهم بالتطهير ، وذهاب الرجس عنهم. وإذا كان لا يضاف إليهم إلا مطهر مقدس ، وحصلت له العناية الإلهية بمجرد الإضافة ، فما ظنك بأهل البيت في نفوسهم ، وهم المطهرون ، بل عين الطهارة».
ونقول :
إنه لا يصح الاستناد إلى هذا القول وأمثاله لإثبات تشيع هذا الرجل ،
__________________
(١) راجع : الفتوحات المكية ج ٤ ص ٥٥٤.
وذلك لما يلي :
أولاً : إن مدائحه لغير أهل البيت عليهمالسلام ، لا تقلُّ عن ذلك ، إن لم تكن تزيد عليه ..
بل هو يمدح نفسه ، ويثبت لنفسه أموراً ومقامات عظيمة جداً. تفوق مقامات الأنبياء والأوصياء ، كما أنه يمدح أولياء الصوفية ، بما هو أعظم من ذلك بمراتب ، أما مدحه لأبي بكر وعمر ، وغيرهما .. فهو يتجاوز حدود الخيال.
ثانياً : إنه كما أثبت لأهل البيت عليهمالسلام صفة العصمة بهذه الآية ، فإنه قد أثبت لعمر بن الخطاب صفة العصمة أيضاً ، ولكن من دون أن يحتاج إلى آية أو إلى دليل يستند إليه في ذلك ، وسنقرأ ذلك في الفصل الخاص بعمر بن الخطاب ..
ثالثاً : إن العصمة لا تلازم الإمامة ، وقد كان سلمان ـ حسبما ذكره ـ معصوماً ، ولم يكن إماماً ..
رابعاً : إنه يرى أن المراد بأهل البيت عليهمالسلام جميع أولاد السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام إلى يوم القيامة ، ويُدْخِل فيهم جعفراً وسلمان الفارسي ، مع أنهما ليسا من أولاد السيدة الزهراء عليهاالسلام.
ثم هو يفرق بين آل وأهل ، فيقول : إن آل البيت هم العلماء والصالحون من أمته ، كما سيأتي ..
وبذلك يكون قد خرب ـ بزعمه ـ عقيدة التشيع ، أو هو على الأقل قد خرج عنها بنفس كلامه هذا ، إذ أن الشيعة يعتقدون اختصاص أهل البيت بالنبي والزهراء والأئمة الطاهرين عليهمالسلام ..
خامساً : إنه يصرح بأن تطهير أهل البيت عليهمالسلام ، لا يمنع من صدور المعاصي الظاهرية منهم ، مثل الكذب ، والسرقة ، والزنا ، وغير ذلك ..
فتجري عليهم الحدود ، والأحكام في الدنيا ، أما في الآخرة ، فإن المعاصي لا تضرهم ، ولا تنقص من مقامهم هناك ..
٩ ـ كتاب : دوازده إمام :
إن البعض ينسب إلى ابن عربي كتاباً باسم : «دوازده إمام» أي «اثنا عشر إماماً» ، وقد اعتبر هذا دليلاً على تشيع هذا الرجل (١).
ونقول :
أولاً : إن كثيرين غير ابن عربي أيضاً قد ألفوا كتباً في مناقب الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام ، مع أن أحداً لا يشك في أنهم من علماء أهل السنة ، مثل الشبلنجي ، وابن الصباغ ، والشبراوي ، والقندوزي ، وابن طلحة ، والكنجي ، وغيرهم من علماء السنة.
بل إن بعض من ألَّف في الأئمة الاثني عشر قد كان من المعلنين بعداء الشيعة ، والجادين في إطفاء نور الله ، والمحاربين لأولياء الله .. مثل ابن حجر الهيتمي صاحب الصواعق المحرقة ، والفضل بن رزوبهان صاحب كتاب : إبطال نهج الباطل ، الذي رد فيه على كتاب : نهج الحق .. ودلس فيه وكذب ، وافترى ما شاءت له قريحته ..
ثانياً : إن تأليف هذا النوع من الكتب حول أهل البيت عليهمالسلام ، وفي خصوص الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام ، إنما كان يهدف إلى الحفاظ على مذهب التسنن ، كما أوضحناه فيما سبق. إذ الحديث الذي يثبت أن الأئمة اثنا عشر ، قد أعجز أهل السنة ، فتشبثوا بكل حشيش لكي يجيبوا عنه ، وكان الحل لدى هؤلاء المتعصبين ، هو القول بأن المراد به أئمة لهم مقام
__________________
(١) راجع : شرح مناقب محيي الدين ابن عربي ص ٣٧ ـ ٤٨.
رفيع في الهداية والتقوى والعلم ، والصلاح ، شرط أن لا يبلغ الأمر إلى إعطائهم مقام الخلافة ، والإمامة بمعناها الصحيح .. وبعد هذا ، فلا مانع من تطبيق الحديث على أئمة أهل البيت عليهمالسلام ..
ثالثاً : إنه يُشَكُّ في صحة نسبة الكتاب المذكور إلى ابن عربي ، فقد قال المرحوم الشيخ آقا بزرك الطهراني ما يلي :
«المناقب» مر بعنوان : «دوازده إمام» ، منسوباً إلى محيي الدين بن العربي ، ولعله من إنشاء العيّاني الخفري المذكور في ج ٩ ص ٧٧٧» (١).
رابعاً : إنهم إذا كانوا يدَّعون أن ما ظهر من ابن عربي مما يدل على تسننه ، وهو بهذه القوة والكثرة ، والصراحة ، إنما جاء على سبيل التقية .. أو أنه قد دس في كتبه ..
فإننا نقول لهم : هل إن التقية تفرض أن تكون تأليفات هذا الرجل زاخرة بالشواهد والدلائل والمؤيدات للمذهب الذي لا يؤمن به ، وأن تكون جميعها مبنية في مختلف فصولها ، ومطالبها على قواعد المذهب السني ، ومسوقة لتأكيده ، وتشييده؟!
وأية ضرورة تفرض عليه التصدي لأصل التأليف ، إذا كانت جميع مؤلفاته سوف تكون في خدمة وتأكيد صحة مذهب لا يرى المؤلف صحته ، ولا يعتقد به؟! ..
ولماذا يستعمل التقية بهذا المستوى ، وبمثل هذا الإغراق والإستغراق في جميع مؤلفاته ، ثم ينسى التقية هنا ، فيؤلف كتاباً في الأئمة الإثني عشر؟! وهو أمر قد يودي بحياته ، لا سيما إذا كان عملاً متكاملاً ، ومستقلاً ، وظاهراً!!
__________________
(١) راجع : الذريعة ج ٢٢ ص ٣١٧ و ٣١٨.
١٠ ـ ذكر مناقب أهل البيت عليهمالسلام :
وقد استدلوا على تشيعه بذكره مناقب أهل البيت عليهمالسلام في كتبه ، فقد قال الطهراني :
«بالرغم من أن كتب محيي الدين مشحونة بمناقب أهل البيت عليهمالسلام ، ككتاب : «محاضرة الأبرار ، ومسامرة الأخيار» ، إلا أن أساس مطالبه على أصول أهل السنة ، كمثل هذا الفص الداودي الذي ذكره ، أما في فتوحاته المكية ، الذي ألفه في مكة ، فليس فيه ما يوافق أصول السنة» (١).
وأقول :
أولاً : إن جميع ما ذكره في كتبه من مناقب العترة إذا كان أساسه هو أصول أهل السنة ، فهو دليل على تسننه.
لأن المائز بين التشيع والتسنن ليس هو رواية مناقبهم عليهمالسلام ، أو قبولها ، أو إنكارها ، بل هو القبول بأحقيتهم عليهمالسلام بمقام الخلافة بعد رسول الله ، وبطلان خلافة من تقدم عليهم ..
ثانياً : إن قوله : إن كتاب الفتوحات لم يتضمن شيئاً يوافق أصول السنة .. لا يفيد في إثبات تشيعه. بل المفيد هو إثبات : أنه موافق لأصول مذهب الشيعة الإمامية ، ليمكن الحكم بتشيع مؤلفه ، حين تأليفه لذلك الكتاب على الأقل ..
فإن كان قد ألف تلك الكتب الموافقة لأصول مذهب السنة بعد ذلك الكتاب ، فيحكم بتسننه من أجل ذلك.
وإن كان ذلك الكتاب هو آخر مؤلفاته ، فإنه يحكم بتشيعه في آخر حياته. على فرض تضمن ذلك الكتاب أي شيء يدل على تشيعه ..
__________________
(١) الروح المجرد ص ٣٣٧.
ثالثاً : إنه ليس صحيحاً قوله : إنه ليس في كتاب الفتوحات ما يوافق أصول أهل السنة .. والصحيح هو أن كل ذلك الكتاب مبني على أصولهم في الاعتقادات ، وفي الفقه ، والتاريخ ، والرجال ، و .. و .. الخ .. وأدنى مراجعة له خير شاهد على ما نقول ، وتتضمن دراستنا الموجزة هذه ، عشرات الموارد من ذلك الكتاب بالذات ، وكلها قد جاءت مبنية على أصول السنة ..
رابعاً : إن ذكر مناقب أهل البيت عليهمالسلام ، في المواقع المناسبة ، لهو مما يلتزم به كل مسلم ، ولكن المهم هو التصريح بلوازم ومعاني تلك المناقب. وهو دلالتها على بطلان خلافة المتقدمين على الإمام علي عليهالسلام ، وعلى أنهم كانوا معتدين عليه ، وغاصبين لحقه ..
وقد ذكر مؤلفوا كتب الصحاح وغيرها ، مثل صحيح مسلم ، ومسند أحمد ، وسنن ابن ماجة ، وأبي داود ، وصحيح البخاري ، وغير ذلك .. الكثير من مناقبهم عليهمالسلام ، مع الالتزام الشديد منهم بأصول التسنن ومناهجه ..
١١ ـ علي إمام العالم :
وقد استدلوا على تشيعه بكلمة نسبوها إليه ، يصرح فيها ـ بحسب قولهم ـ : بأن الإمام علياً عليهالسلام : «إمام العالم».
وقالوا : إن الفيض والشعراني يقولان : إن صاحب الفتوحات بعد أن ذكر أن نبينا صلىاللهعليهوآله أول ظاهر في الوجود ، قال :
«وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب ، إمام العالم ، وسر الأنبياء أجمعين» (١).
__________________
(١) الردود والنقود ص ٣٤٥ ط سنة ١٤٢٣ ه للشيخ إبراهيم آل عرفات القطيفي القريحي المتوفي أواسط القرن الثالث عشر .. وكلمات مكنونة ص ١٨١ وراجع اليواقيت والجواهر ، للشعراني ج ٢ ص ٢٠ المبحث ٣٢ ، والروح المجرد ص ٣٤٦.
ونقول :
أولاً : قد ذكرنا في فصل : «هكذا يدافعون عن ابن عربي» ، تحت عنوان : «الدس في كتاب الفتوحات» وغيره : أن كتب ابن عربي قد تعرضت للدس والتحريف ، فزادوا فيها ما يخالف مذهب أهل السنة ، فإذا صح قولهم هذا ، فلا بد أن تكون هذه الكلمة من أوضح مصاديق هذا المدسوس عليه .. لأن أهل السنة لا يرضون بمضمونها حتماً وجزماً ، ويسعون إلى تكريس هذا الأمر في أبي بكر ..
إلا إذا أريد منها معنى يتناسب مع اعتقاداتهم ومناهجهم.
ثانياً : إن الشعراني وغيره يدَّعون : أنه قد زيد في كتاب الفتوحات المكية ما يخالف مذهب أهل السنة ، ولا يدعون وجود نقيصة فيه. ورغم ذلك ، فإن هذه العبارة المنسوبة إليه لا توجد في الفتوحات ، وهذا معناه : أن التحريف بالنقيصة حاصل أيضاً .. والظاهر : أنها عبارة مستنبطة بصورة خاطئة سنشير إليها بعد صفحات يسيرة ..
ثالثاً : إن ما ذكره ابن عربي حول أبي بكر ، وعمر ، وطلحة ، والزبير ، وعائشة ، وحتى معاوية ، والمتوكل ، فضلاً عن الحجاج ، لا يبقي مجالاً لاعتقاد : أنه يقصد بالإمامة للعالم هو الإمامة بمعناها الشيعي ، بل هو ـ لو صحت نسبة هذه الكلمة إليه ـ يقصد إمامة لا تتعارض مع جلوس أبي بكر على العرش ، ومع عصمة عمر ، ومع تعظيم المتوكل ، والحجاج ، وما إلى ذلك ..
رابعاً : قد ذكرنا : أنه قد صرح بأن رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يستخلف أحداً من بعده .. (١) ، وأن تأويل كلامه بإرادة الخلافة الصوفية ، لا
__________________
(١) راجع : فصوص الحكم ص ١٦٣.
يصار إليه إلا بدليل. والدليل قائم على خلافه ، كما أشرنا إليه غير مرة ..
فإن صح أن يكون ابن عربي قد قال : إن علياً عليهالسلام ، إمام العالم ، فلا بد أن لا يكون مقصوده الإمامة الدينية بالمعنى الشيعي ، بل مراده إمامة صوفية ـ لا تصل إلى مستوى ما يدّعيه لنفسه ولغيره ممن يطلق عليهم اسم الأولياء ـ أو إمامة بمعناها اللغوي حيث يراد بها مجرد التعظيم ، ولا تتعارض مع خلافة خلفائهم ، بل تكون كإمامة الغزالي ، والرازي ، وما إلى ذلك ..
وإنما قلنا : لا تصل إلى مستوى ما يدّعيه لنفسه ولغيره من أولياء الصوفية ، لأنه يدّعي لنفسه درجات النبوة من دون تشريع ، ويصر على ذلك أيما إصرار .. كما سنرى ..
خامساً : من أين جاء القطيفي والفيض بعبارة «إمام العالم» ، فإن الموجود في «الفتوحات المكية» غير ذلك ، فقد قال ابن عربي :
«قال تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) (١) ، فشبه نوره بالمصباح ، فلم يكن أقرب إليه قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلىاللهعليهوآله ، المسماة بالعقل ، فكان سيد العالم بأسره ، وأول ظاهر في الوجود ، فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ، ومن الهباء ، والحقيقة الكلية وفي الهباء وجد عينه ، وعين العالم من تجليه ..
وأقرب الناس إليه ، علي بن أبي طالب ، وأسرار الأنبياء أجمعين ..» (٢).
وليس في هذه عبارة : أن علياً «إمام العالم» .. بل الموجود هو أن النبي صلىاللهعليهوآله هو سيد العالم بأسره ..
__________________
(١) الآية ٣٥ من سورة النور.
(٢) الفتوحات المكية ج ١ ص ١١٩ ط دار صادر أفست عن دار الكتب العربية الكبرى بمصر. والردود والنقود ص ٣٤٥.
كما أن الشعراني قد نقل هذه الفقرة عن الفتوحات ، ولم يذكر أن هذه الكلمة منسوبة إلى الإمام علي عليهالسلام ، وإن كانت عبارته تختلف عن عبارة الفتوحات أيضاً ، فقد قال : «فكان صلى الله عليه [وآله] وسلم مبدأ ظهور العالم ، وأول موجود. قال الشيخ محيي الدين. وكان أقرب الناس إليه في ذلك الهباء علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، الجامع لأسرار الأنبياء أجمعين .. (١).
سادساً : وكما أنه ليس في هذه الفقرة : أن علياً عليهالسلام إمام العالم. ليس فيها أيضاً : إنه الجامع لأسرار الأنبياء ، بل فيها : إن القريب من النبي صلىاللهعليهوآله هو علي وأسرار الأنبياء. وشتان ما بينهما ..
سابعاً : أضف إلى ذلك : أن مجرد قرب علي عليهالسلام من حيث الظهور في الوجود لا يعني أنه الأفضل بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله .. فإن النبي آدم عليهالسلام كان أباً للبشر كلهم ، ولم يكن أفضل من النبي إبراهيم ، أو من نبينا الأعظم صلىاللهعليهوآله وعلى النبي إبراهيم وآله ..
ويضاف إلى ذلك : أن الأفضلية بعد رسول الله ـ بنظر ابن عربي ـ هي لأبي بكر ، لأنه يصرح بأنه ليس بين النبي صلىاللهعليهوآله وبين أبي بكر رجل ، كما أن سائر ما ذكره عن أبي بكر مما سنورده في فصل مستقل يدل على أن مقصوده بالعبارة المشار إليها آنفاً هو قربه منه صلىاللهعليهوآله من حيث النسب ، لا الفضل ..
وأخيراً نقول :
إن الظاهر هو : أنهم قد استنبطوا هذه الكلمة استنباطاً ، فإن ابن عربي قد وصف النبي صلىاللهعليهوآله بأنه سيد العالم بأسره ، ثم قال : إن أقرب
__________________
(١) اليواقيت والجواهر ص ٣٣٩ ط دار إحياء التراث مؤسسة التاريخ العربي ..
الناس إليه هو علي ، فاستفادوا من قربه إليه إمامته وسيادته للعالم أيضاً مثله صلىاللهعليهوآله ..
مع أن استفادة ذلك غير ظاهرة ، ولا صحيحة ، فإنه إذا وصف النبي بالنبوة ، فإن هذا الوصف لا يثبت لأقرب الناس إليه أيضاً ..
١٢ ـ التنويه بحديث الغدير :
وقد استدلوا أيضاً بكلام ابن عربي حول الغدير ، فقالوا :
«وقد أعرض في رسالته المشهودة عن ذكر إيمانه بإمامة الخلفاء ، ونوه بلطف إلى وجوب الاعتقاد بالأمور الواقعة في يوم الغدير ، ومن جملتها تعيين خلافة الأمير عليهالسلام ، حتى يصل إلى قوله :
«ووقف في حجة وداعه على كل من حضر من أتباعه ، فخطب وذكَّر ، وخوف وحذَّر ، ووعد وأوعد .. إلى أن قال : هل بلغت؟!
فقالوا : بلغت يا رسول الله.
فقال : اللهم اشهد» (١).
ونقول :
أولاً : قد يكون سبب إعراضه عن ذكر إيمانه بإمامة الخلفاء هو عدم وجود مناسبة تقتضي ذلك ، لا لأجل وجود تحفظ لديه على إمامتهما.
ثانياً : إن ذكر واقعة الغدير بدقائقها وتفاصيلها في كتاب لا يدل على التزام مؤلفه بمضمونها وفق التفسير الشيعي الإمامي لها. فإن كثيراً من علماء أهل السنة ، قد أوردوها في كتبهم ، وبقوا على تسننهم ، وحاولوا تأويلها ، والخروج من تبعات الالتزام بها ..
__________________
(١) الروح المجرد ص ٣٢٩.
وقد تقدم التصريح من قبل الراغبين بإثبات تشيع ابن عربي : بأنه قد شحن بعض كتبه بمناقب أهل البيت عليهمالسلام ، ولكن أساس مطالبه قد جرى وفق أصول أهل السنة ..
ونحن نتيقن : أنه قد جرى في هذا المورد ـ أي في حديثه عن الغدير ـ على نفس هذا النهج ، وهو نهج التسنن أيضاً؟! وذلك لما نجده من دلائل وشواهد على تسننه ، تعد بالمئات ، وربما تزيد ..
ثالثاً : هل صرح ابن عربي ، وهو يتحدث عن قضية الغدير بالمضامين الصحيحة ، الدالة على أمر الإمامة ، فلم يتصرف بها بالحذف والتشويه؟!! ـ كما فعل بالنسبة لحديث الثقلين ، وكما فعل في غيره؟! ..
والجواب : إنه لم يفعل ذلك ، ولم يصرح باسم علي عليهالسلام ، وأقحم في كلامه جملة لا ربط لها بموضوع الإمامة .. فراجع النص الذي ذكره المستدل آنفاً ..
ويبقى السؤال حائراً وتائها ، عن أنه ، كيف رأوا خصوص تلك الإيحاءات الضعيفة والواهية كافية للدلالة على تشيعه؟ ولم يروا هذا الحشد العظيم ، والكم الهائل مما هو صريح في رسوخ قدمه في التسنن؟! .. كافياً للتشكيك في دلالة وصحة تلك الشواهد الواهية والمريضة!!
رابعاً : إنه هو نفسه ـ كما تقدم ـ قد صرح : بأن النبي صلىاللهعليهوآله ، لم يستخلف أحداً من بعده ، فكيف تكون إشارته لحديث الغدير دليلاً على تشيعه؟!
إلا أن يدَّعى أن مراده : أنه صلىاللهعليهوآله لم يستخلف ولياً صوفياً ، كما ألمحنا إليه وقلنا : إنه تأويل بارد ، والمتاجرة به متاجرة بكاسد ، والإعتماد عليه اعتماد على أمر فاسد. بعد ما أوردناه في هذه الدراسة من دلائل
وشواهد ، على أن ابن عربي ، عن التشيع حائد ، وبه زاهد.
١٣ ـ يكني عن علي عليهالسلام ، بفلان :
وقالوا : إن ابن عربي قال في معرفة أسرار (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .. وأسرار الفاتحة.
«فالياء في الرحيم ترمز لليالي العشر ، والنقتطتان الشفع ، والألف الوتر .. والاسم الرحيم ، مالكيته : الفجر. ومعناه الباطن الجبروتي : والليل إذا يسر ، وهو الغيب الملكوتي. وترتيب النتقطتين الواحدة مما يلي الميم ، والثانية مما يلي الألف : وجود العالم الذي بعث إليهم ، والنقطة التي تليه (أي الميم) فلان .. والنقطة التي تلي الألف محمد ..» (١).
قالوا : أراد بفلان علياً عليهالسلام ، لأنه هو الذي يناسب التقية فيه ..
ونقول :
أولاً : إن النص الموجود في الفتوحات المكية ج ١ ص ١١٠ (ط دار صادر ـ أوفست عن دار الكتب العربية الكبرى بمصر). هكذا :
«والنقطة التي تليه أبو بكر رضي الله عنه الخ ..».
وليس هذا من موارد الدس المدعى ، لأن الدس المدعى حصوله ، إنما هو لما يخالف عقيدة أهل السنة فقط ..
ثانياً : إن تقدير كلمة (علي) تأباه القرينة الموجودة في الكلام نفسه ، فإن العبارة هكذا :
«والنقطة التي تليه أبو بكر رضي الله عنه ، والنقطة التي تلي الألف محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم. وقد تقببت الباء عليهما كالغار (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ
__________________
(١) راجع : كتاب الردود والنقود ص ٣٢٣.
لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) (١) .. فإنه واقف مع صدقه ، ومحمد عليهالسلام واقف مع الحق ، في الحال الذي هو عليه في ذلك الوقت ، فهو الحكيم ، كفعله يوم بدر في الدعاء والإلحاح ، وأبو بكر عن ذلك صاح ، فإن الحكيم يوفي المواطن حقها ..
ولما لم يصح اجتماع صادقين معاً ، لذلك لم يقم أبو بكر في حال النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم ، وثبت مع صدقه به ..
فلو فقد النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم في ذلك الموطن ، وحضره أبو بكر ، لقام في ذلك المقام الذي أقيم فيه رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ، لأنه ليس ثم أعلى منه يحجبه عن ذلك ، فهو صادق ذلك الوقت وحكيمه ، وما سواه تحت حكمه ..
فلما نظرت نقطة أبي بكر إلى الطالبين أسف عليه ، فأظهر الشدة وغلب الصدق ، وقال : (لاَ تَحْزَنْ) لأثر ذلك الأسف (إِنَّ اللهَ مَعَنَا) كما أخبرتنا!»
ويستمر الكلام على هذا المنوال ومحوره ، أبو بكر ، لا الإمام علي عليهالسلام ، فراجع .. (٢).
فكيف يكون المراد من كلمة فلان هو علي ، وليس أبا بكر؟!
١٤ ـ بركة أهل البيت عليهمالسلام :
وقد يستدل على ذلك بأنه يرى : أن الموحدين لا يبقون في النار ، ولو بقوا فيها لعادت عليهم برداً وسلاماً ببركة أهل البيت عليهمالسلام .. (٣).
__________________
(١) الآية ٤٠ من سورة التوبة.
(٢) الفتوحات المكية ط دار الكتب العربية الكبرى ج ١ ص ١١٠.
(٣) الفتوحات المكية ج ٤ ص ١٤٨ بتحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
فهذا يدل : أن قلبه مملوء بحب أهل البيت عليهمالسلام ، وعلى أنه يعتقد فيهم هذا المستوى من التأثير ، حتى إن النار تكون برداً وسلاماً ببركتهم ..
ونقول :
ألف ـ إنه يثبت لأبي بكر ، وعمر ، وسواهما ، ولأولياء الصوفية بركات ومقامات أعظم. وبعضها لم يثبته لأهل البيت عليهمالسلام ولا لغيرهم ..
ب ـ إن حبه لأهل البيت عليهمالسلام هو المفروض على كل مسلم بنص القرآن ، ولكن ، ليس هذا هو كل المطلوب ، بل المطلوب هو أن يعتقد إمامتهم ، وأن يصرح بعدم صحة إثبات الإمامة لغيرهم ، ممن غصب هذا الحق منهم .. وليس في إثبات هذه البركات العظيمة لهم ما يدل على اعتقاده بهذا ، أو بذاك ..
ج ـ إن الشفاعة في يوم القيامة تكون لكل مؤمن ، حتى إن المؤمن الواحد قد يشفع لأمم كبيرة ، حتى لو كانت مثل قبيلتي ربيعة ومضر .. ولكن ذلك لا يعني ثبوت الإمامة لهذا الشافع.
والسيدة الزهراء عليهاالسلام أيضاً ، تشفع لشيعتها ومحبيها ، مع أنها ليس لها مقام الإمامة الظاهرية ، وإن كان لها مقام من نوع آخر ، يقتضي شراكتها في حفظ الدين ، وصيانة الأمة ، وهدايتها ، ورعايتها ..
وقد ورد أيضاً في إمام الجماعة : أن أئمتكم شفعاؤكم ..
والأحاديث في الشفاعة كثيرة ومتنوعة ..
الفصل الثاني
من هم أهل البيت عليهمالسلام ..
وحقيقة عصمتهم.