الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

حجابا مضروبا لا يجمعهم معه جامع وفيه تمام الإياس.

وقوله : « فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ » تفريع على ما سبق ، ولا يخلو من شوب تهديد ، وعليه فالمعنى إذا كان لا سبيل إلى التفاهم بيننا فاعمل بما يمكنك العمل به في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك.

وقيل : المعنى فاعمل على دينك فإننا عاملون على ديننا ، وقيل : المعنى فاعمل في هلاكنا فإننا عاملون في هلاكك ، ولا يخلوان من بعد.

قوله تعالى : « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ » في مقام الجواب عن قولهم : « قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ » على ما يعطيه السياق فمحصله قل لهم : إنما أنا بشر مثلكم أعاشركم كما يعاشر بعضكم بعضا وأكلمكم كما يكلم أحدكم صاحبه فلست من جنس يباينكم كالملك حتى يكون بيني وبينكم حجاب مضروب أو لا ينفذ كلامي في آذانكم أو لا يرد قولي في قلوبكم غير أن الذي أقول لكم وأدعوكم إليه وحي يوحى إلي وهو إنما إلهكم الذي يستحق أن تعبدوه إله واحد لا آلهة متفرقون.

وقوله : « فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ » أي فإذا لم يكن إلا إلها واحدا لا شريك له فاستووا إليه بتوحيده ونفي الشركاء عنه واستغفروه فيما صدر عنكم من الشرك والذنوب.

قوله تعالى : « وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ » تهديد للمشركين الذين يثبتون لله شركاء ولا يوحدونه ، وقد وصفهم من أخص صفاتهم بصفتين هما عدم إيتائهم الزكاة وكفرهم بالآخرة.

والمراد بإيتاء الزكاة مطلق إنفاق المال للفقراء والمساكين لوجه الله فإن الزكاة بمعنى الصدقة الواجبة في الإسلام لم تكن شرعت بعد عند نزول السورة وهي من أقدم السور المكية.

وقيل : المراد بإيتاء الزكاة تزكية النفس وتطهيرها من أوساخ الذنوب وقذارتها وإنماؤها نماء طيبا بعبادة الله سبحانه ، وهو حسن لو حسن إطلاق إيتاء الزكاة على ذلك.

٣٦١

وقوله : « وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ » وصف آخر للمشركين هو من لوازم مذهبهم وهو إنكار المعاد ، ولذلك أتى بضمير الفصل ليفيد أنهم معروفون بالكفر بالآخرة.

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ » أي غير مقطوع بل متصل دائم كما فسره بعضهم ، وفسره آخرون بغير معدود كما قال تعالى : « يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ » المؤمن : ـ ٤٠.

وجوز أن يكون المراد أنه لا أذى فيه من المن الذي يكدر الصنيعة ، ويمكن أن يوجه هذا الوجه بأن في تسمية ما يؤتونه بالأجر دلالة على ذلك لإشعاره بالاستحقاق وإن كان هذا الاستحقاق بجعل من الله تعالى لا لهم من عند أنفسهم قال تعالى : « إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً » الدهر : ـ ٢٢.

قوله تعالى : « قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً » الآية. أمره ثانيا أن يستفهم عن كفرهم بالله بمعنى شركهم مع ظهور آيات وحدانية في خلق السماوات والأرض وتدبير أمرهما بعد ما أمره أولا بدفع قولهم : « قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ » إلخ.

والاستفهام للتعجيب ولذا أكد المستفهم عنه بأن واللام كأن المستفهم لا يكاد يذعن بكفرهم بالله وقولهم بالأنداد مع ظهور المحجة واستقامة الحجة.

وقوله : « وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً » تفسير لقوله : « لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ » إلخ ، والأنداد جمع ند وهو المثل ، والمراد بجعل الأنداد له اتخاذ شركاء له يماثلونه في الربوبية والألوهية.

وقوله : « ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ » في الإشارة بلفظ البعيد رفع لساحته تعالى وتنزيهه عن أمثال هذه الأوهام فهو رب العالمين المدبر لأمر الخلق أجمعين فلا مسوغ لأن يتوهم ربا آخر سواه وإلها آخر غيره.

والمراد باليوم في قوله : « خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ » برهة من الزمان دون مصداق اليوم الذي نعهده ونحن على بسيط أرضنا هذه وهو مقدار حركة الكرة الأرضية حول نفسها مرة واحدة فإنه ظاهر الفساد ، وإطلاق اليوم على قطعة من الزمان تحوي حادثة من الحوادث كثير الورود شائع الاستعمال ، ومن ذلك قوله تعالى : « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ

٣٦٢

نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ » آل عمران : ـ ١٤٠ ، وقوله : « فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ » يونس : ـ ١٠٢ ، وغير ذلك.

فاليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض قطعتان من الزمان تم فيهما تكون الأرض أرضا تامة ، وفي عدهما يومين لا يوما واحدا دليل على أن الأرض لاقت زمان تكونها الأولي مرحلتين متغايرتين كمرحلة النيء والنضج أو الذوبان والانعقاد أو نحو ذلك.

قوله تعالى : « وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها » إلى آخر الآية. معطوف على قوله : « خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ » ولا ضير في تخلل الجملتين : « وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ » بين المعطوف والمعطوف عليه لأن الأولى تفسير لقوله : « لَتَكْفُرُونَ » والثانية تقرير للتعجيب الذي يفيده الاستفهام.

والرواسي صفة لموصوف محذوف والتقدير جبالا رواسي أي ثابتات على الأرض وضمائر التأنيث الخمس في الآية للأرض.

وقوله : « وَبارَكَ فِيها » أي جعل فيها الخير الكثير الذي ينتفع به ما على الأرض من نبات وحيوان وإنسان في حياته أنواع الانتفاعات.

وقوله : « وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ » قيل : الظرف أعني قوله : « فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ » بتقدير مضاف وهو متعلق بقدر ، والتقدير قدر الأقوات في تتمة أربعة أيام من حين بدء الخلق ـ فيومان لخلق الأرض ويومان ـ وهما تتمة أربعة أيام ـ لتقدير الأقوات.

وقيل : متعلق بحصول الأقوات وتقدير المضاف على حاله ، والتقدير قدر حصول أقواتها في تتمة أربعة أيام ـ فيها خلق الأرض وأقواتها جميعا ـ.

وقيل : متعلق بحصول جميع الأمور المذكورة من جعل الرواسي من فوقها والمباركة فيها وتقدير أقواتها والتقدير وحصول ذلك كله في تتمة أربعة أيام وفيه حذف وتقدير كثير.

وجعل الزمخشري في الكشاف ، الظرف متعلقا بخبر مبتدإ محذوفين من غير تقدير مضاف والتقدير كل ذلك كائن في أربعة أيام فيكون قوله : « فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ » من قبيل الفذلكة كأنه قيل : خلق الأرض في يومين وأقواتها وغير ذلك في يومين فكل ذلك في أربعة أيام.

٣٦٣

قالوا : وإنما لم يجز حمل الآية على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأن لازمه كون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن السماوات خلقت في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام وقد تكرر في كلامه تعالى أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام فهذا هو الوجه في حمل الآية على أحد الوجوه السابقة على ما فيها من ارتكاب الحذف والتقدير.

والإنصاف أن الآية أعني قوله : « وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ » ظاهرة في غير ما ذكروه والقرائن الحافة بها تؤيد كون المراد بها تقدير أقواتها في الفصول الأربعة التي يكونها ميل الشمس الشمالي والجنوبي بحسب ظاهر الحس فالأيام الأربعة هي الفصول الأربعة.

والذي ذكر في هذه الآيات من أيام خلق السماوات والأرض أربعة أيام يومان لخلق الأرض ويومان لتسوية السماوات سبعا بعد كونها دخانا وأما أيام الأقوات فقد ذكرت أياما لتقديرها لا لخلقها ، وما تكرر في كلامه تعالى هو خلق السماوات والأرض في ستة أيام لا مجموع خلقها وتقدير أمرها فالحق أن الظرف قيد للجملة الأخيرة فقط ولا حذف ولا تقدير في الآية والمراد بيان تقدير أقوات الأرض وأرزاقها في الفصول الأربعة من السنة.

وقوله : « سَواءً لِلسَّائِلِينَ » مفعول مطلق لفعل مقدر أي استوت الأقوات المقدرة استواء للسائلين أو حال من الأقوات أي قدرها حال كونها مستوية للسائلين يقتاتون بها جميعا وتكفيهم من دون زيادة أو نقيصة.

والسائلون هم أنواع النبات والحيوان والإنسان فإنهم محتاجون في بقائهم إلى الأرزاق والأقوات فهم سائلون ربهم (١) قال تعالى : « يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الرحمن : ـ ٢٩ ، وقال : « وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ » إبراهيم : ـ ٣٤.

قوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ »

__________________

(١) ظاهر الآيتين وإن كان اختصاصهما بذوي العقول لكنهما وخاصة الثانية تفيدان أن المراد بالسؤال هو الحاجة والاستعداد وعليه فالآية تعم النبات والإتيان بضمير أولي العقل للتغليب.

٣٦٤

الاستواء ـ على ما ذكره الراغب ـ إذا عدي بعلى أفاد معنى الاستيلاء نحو ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) ، وإذا عدي بإلى أفاد معنى الانتهاء إليه.

وأيضا في المفردات ، أن الكره بفتح الكاف المشتقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه ، والكره بضم الكاف ما تناله من ذاته وهو يعافه.

فقوله : « ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ » أي توجه إليها وقصدها بالخلق دون القصد المكاني الذي لا يتم إلا بانتقال القاصد من مكان إلى مكان ومن جهة إلى جهة لتنزهه تعالى على ذلك.

وظاهر العطف بثم تأخر خلق السماوات عن الأرض لكن قيل : إن « ثُمَ » لإفادة التراخي بحسب الخبر لا بحسب الوجود والتحقق ويؤيده قوله تعالى : « أَمِ السَّماءُ بَناها ـ إلى أن قال ـ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها » النازعات : ـ ٣٢ فإنه يفيد تأخر الأرض عن السماء خلقا.

والاعتراض عليه بأن مفاده تأخر دحو الأرض عن بناء السماء ودحوها غير خلقها مدفوع بأن الأرض كروية فليس دحوها وبسطها غير تسويتها كرة وهو خلقها على أنه تعالى أشار بعد ذكر دحو الأرض إلى إخراج مائها ومرعاها وإرساء جبالها وهذه بعينها جعل الرواسي من فوقها والمباركة فيها وتقدير أقواتها التي ذكرها في الآيات التي نحن فيها مع خلق الأرض وعطف عليها خلق السماء بثم فلا مناص عن حمل ثم على غير التراخي الزماني فإن قوله في آية النازعات : « بَعْدَ ذلِكَ » أظهر في التراخي الزماني من لفظة « ثُمَ » فيه في آية حم السجدة والله أعلم.

وقوله : « وَهِيَ دُخانٌ » حال من السماء أي استوى إلى السماء بالخلق حال كونها شيئا سماه الله دخانا وهو مادتها التي ألبسها الصورة وقضاها سبع سماوات بعد ما لم تكن معدودة متميزا بعضها من بعض ، ولذا أفرد السماء فقال : « اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ».

وقوله : « فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً » تفريع على استوائه إلى السماء والمورد مورد التكوين بلا شك فقوله لها وللأرض : « ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً » كلمة إيجاد وأمر تكويني كقوله لشيء أراد وجوده : كن ، قال تعالى : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ » يس : ـ ٨٣.

٣٦٥

ومجموع قوله لهما : « ائْتِيا » إلخ وقولهما له : « أَتَيْنا » إلخ تمثيل لصفة الإيجاد والتكوين على الفهم الساذج العرفي وحقيقة تحليلية بناء على ما يستفاد من كلامه تعالى من سراية العلم في الموجودات وكون تكليم كل شيء بحسب ما يناسب حاله ، وقد أوردنا بعض الكلام فيه فيما تقدم من المباحث ، وسيجيء شطر من الكلام فيه في تفسير قوله : « قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ » الآية ـ ٢١ من السورة إن شاء الله.

وقول بعضهم : إن المراد بقوله : « ائْتِيا » إلخ أمرهما بإظهار ما فيهما من الآثار والمنافع دون الأمر بأن توجدا وتكونا مدفوع بأن تكون السماء مذكور فيما بعد ولا معنى لتقديم الأمر بإظهار الآثار والمنافع قبل ذكر التكون.

وفي قوله : « ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً » إيجاب الإتيان عليهما وتخييرهما بين أن تفعلا ذلك بطوع أو كره ، ولعل المراد بالطوع والكره ـ وهما بوجه قبول الفعل ونوع ملاءمة وعدمه ـ هو الاستعداد السابق للكون وعدمه فيكون قوله : « ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً » كناية عن وجوب إتيانهما بلا مناص وأنه أمر لا يتخلف البتة أرادتا أو كرهتا سألتاه أو لم تسألا فأجابتا أنهما يمتثلان الأمر عن استعداد سابق وقبول ذاتي وسؤال فطري إذ قالتا : ( أَتَيْنا طائِعِينَ ).

وقول بعضهم : إن قوله : « طَوْعاً أَوْ كَرْهاً » تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما. مدفوع بقوله بعد : « قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » إذ لو كان الترديد المذكور تمثيلا فقط من غير إثبات كما ذكره لم يكن لإثبات الطوع في الجواب وجه.

وقوله : « قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » جواب السماء والأرض لخطابه تعالى باختيار الطوع ، والتعبير باللفظ الخاص بأولي العقل ـ طائعين ـ لمكان المخاطبة والجواب وهما من خواص أولي العقل ، والتعبير بلفظ الجمع دون أن تقولا : أتينا طائعتين لعله تواضع منهما بعد أنفسهما غير متميزة من سائر مخلوقاته تعالى المطيعة لأمره فأجابتا عن لسان الجميع ، نظير ما قيل في قوله تعالى : « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » الحمد : ـ ٥.

ثم إن تشريك الأرض مع السماء في خطاب « ائْتِيا » إلخ مع ذكر خلقها وتدبير أمرها قبلا لا يخلو من إشعار بأن بينهما نوع ارتباط في الوجود واتصال في النظام الجاري

٣٦٦

فيهما وهو كذلك فإن الفعل والانفعال والتأثير والتأثر دائر بين أجزاء العالم المشهود.

وفي قوله : « فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ » تلويح على أي حال إلى كون « ثُمَ » في قوله : « ثُمَّ اسْتَوى » للتراخي بحسب رتبة الكلام.

قوله تعالى : « فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها » الأصل في معنى القضاء فصل الأمر ، وضمير « فَقَضاهُنَ » للسماء على المعنى ، و « سَبْعَ سَماواتٍ » حال من الضمير و « فِي يَوْمَيْنِ » متعلق بقضاهن فتفيد الجملة أن السماء لما استوى سبحانه إليها وهي دخان كان أمرها مبهما غير مشخص من حيث فعلية الوجود ففصل تعالى أمرها بجعلها سبع سماوات في يومين.

وقيل : إن القضاء في الآية مضمن معنى التصيير و « سَبْعَ سَماواتٍ » مفعوله الثاني ، وقيل فيها وجوه أخر لا يهمنا إيرادها.

والآية وما قبلها ناظرة إلى تفصيل ما أجمل في قوله : « أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما » الأنبياء : ـ ٣٠.

وقوله : « وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها » قيل : المراد بأمر السماء ما تستعد له أو تقتضيه الحكمة فيها من وجود ملك أو كوكب وما أشبه ذلك ، والوحي هو الخلق والإيجاد ، والجملة معطوفة على قوله : « فَقَضاهُنَ » مقيدة بالوقت المذكور للمعطوف عليه ، والمعنى وخلق في كل سماء ما فيها من الملائكة والكواكب وغيرها.

وأنت خبير بأن إرادة الخلق من الوحي وأمثال الملك والكوكب من الأمر تحتاج إلى عناية زائدة لا تثبت إلا بدليل بين ، وكذا تقيد الجملة المعطوفة بالوقت المذكور في المعطوف عليها.

وقيل : المراد بالأمر التكليف الإلهي المتوجه إلى أهل كل سماء من الملائكة والوحي بمعناه المعروف والمعنى وأوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة.

وفيه أن ظاهر الآية وقد قال تعالى : « فِي كُلِّ سَماءٍ » ولم يقل : إلى كل سماء لا يوافقه تلك الموافقة.

وقيل : المراد بأمرها ما أراده الله منها ، وهذا الوجه في الحقيقة راجع إلى أحد

٣٦٧

الوجهين السابقين فإن أريد بالوحي الخلق والإيجاد رجع إلى أول الوجهين وإن أريد به معناه المعروف رجع إلى ثانيهما.

والذي وقع في كلامه تعالى من الأمر المتعلق بوجه بالسماء يلوح إلى معنى أدق مما ذكروه فقد قال تعالى : « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ » الم السجدة : ـ ٥ ، وقال : « اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ » الطلاق : ـ ١٢ ، وقال : « وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ » المؤمنون : ـ ١٧.

دلت الآية الأولى على أن السماء مبدأ لأمره تعالى النازل إلى الأرض بوجه والثانية على أن الأمر يتنزل بين السماوات من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى الأرض ، والثالثة على أن السماوات طرائق لسلوك الأمر من عند ذي العرش أو لسلوك الملائكة الحاملين للأمر إلى الأرض كما يشير إليه قوله : « تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ » القدر : ـ ٤ ، وقوله : « فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ » الدخان : ـ ٤.

ولو كان المراد بالأمر أمره تعالى التكويني وهو كلمة الإيجاد كما يستفاد من قوله : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ » يس : ـ ٨٢ ، أفادت الآيات بانضمام بعضها إلى بعض أن الأمر الإلهي الذي مضيه في العالم الأرضي هو خلق الأشياء وحدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش تعالى وتسلك في تنزيله طرق السماوات فتنزله من سماء إلى سماء حتى تنتهي به إلى الأرض.

وإنما تحمله ملائكة كل سماء إلى من دونهم كما يستفاد من قوله : « حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ » سبأ : ـ ٢٣ وقد تقدم الكلام فيه والسماوات مساكن الملائكة كما يستفاد من قوله : « وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ » النجم : ـ ٢٦ ، وقوله : « لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ » الصافات : ـ ٨.

فللأمر نسبة إلى كل سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها ، ونسبة إلى كل قبيل من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم وهو وحيه إليهم فإن الله سبحانه سماه قولا كما قال : « إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ » النحل : ـ ٤٠.

فتحصل بما مر أن معنى قوله : « وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها » أوحى في كل

٣٦٨

سماء إلى أهلها من الملائكة الأمر الإلهي. المنسوب إلى تلك السماء المتعلق بها ، وأما كون اليومين المذكورين في الآية ظرفا لهذا الوحي كما هما ظرف لخلق السماوات سبعا فلا دليل عليه من لفظ الآية.

قوله تعالى : « وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ » توصيف هذه السماء بالدنيا للدلالة على أنها أقرب السماوات من الأرض وهي طباق بعضها فوق بعض كما قال : « خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً » الملك : ـ ٣.

والظاهر من معنى تزيينها بمصابيح وهي الكواكب كما قال : « إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ » الصافات : ـ ٦ أن الكواكب في السماء الدنيا أو دونها كالقناديل المعلقة ولو كانت متفرقة في جميع السماوات من غير حجب بعضها بعضا لكون السماوات شفافة كما قيل كانت زينة لجميعها ولم تختص الزينة ببعضها كما يفيده السياق فلا وجه لقول القائل : إنها في الجميع لكن لكونها ترى متلألئة على السماء الدنيا عدت زينة لها.

وأما قوله : « أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً » نوح : ـ ١٦ فهو بالنسبة إلينا معاشر المستضيئين بالليل والنهار كقوله : « وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً » النبأ : ـ ١٣.

وقوله : « وَحِفْظاً » أي وحفظناها من الشياطين حفظا كما قال : « وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ » الحجر : ـ ١٨.

وقوله : « ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ » إشارة إلى ما تقدم من النظم والترتيب.

( كلام فيه تتميم )

قد تحصل مما تقدم :

أولا : أن المستفاد من ظاهر الآيات الكريمة ـ وليست بنص ـ أن السماء الدنيا من هذه السبع هي عالم النجوم والكواكب فوقنا.

وثانيا : أن هذه السماوات السبع المذكورة جميعا من الخلق الجسماني فكأنها طبقات

٣٦٩

سبع متطابقة من عالم الأجسام أقربها منا عالم النجوم والكواكب ، ولم يصف القرآن شيئا من السماوات الست الباقية دون أن ذكر أنها طباق.

وثالثا : أن ليس المراد بالسماوات السبع الأجرام العلوية أو خصوص بعضها كالشمس والقمر أو غيرهما.

ورابعا : أن ما ورد من كون السماوات مساكن للملائكة وأنهم ينزلون منها بأمر الله حاملين له ويعرجون إليها بكتب الأعمال ، وأن للسماء أبوابا لا تفتح للكفار وأن الأشياء والأرزاق تنزل منها وغير ذلك مما تشير إليه متفرقات الآيات والروايات يكشف عن أن لهذه الأمور نوع تعلق بهذه السماوات لا كتعلق ما نراه من الأجسام بمحالها وأماكنها الجسمانية الموجبة لحكومة النظام المادي فيها وتسرب التغير والتبدل والدثور والفتور إليها.

وذلك أن من الضروري اليوم أن لهذه الأجرام العلوية كائنة ما كانت كينونة عنصرية جسمانية تجري فيها نظائر الأحكام والآثار الجارية في عالمنا الأرضي العنصري والنظام الذي يثبت للسماء وأهلها والأمور الجارية فيها مما أشرنا إليه يباين هذا النظام العنصري المشهود. أضف إلى ذلك ما ورد أن الملائكة خلقوا من نور ، وأن غذاءهم التسبيح ، وما ورد من توصيف خلقهم ، وما ورد في توصيف خلق السماوات وما خلق فيها إلى غير ذلك.

فللملائكة عوالم ملكوتية سبعة مترتبة سميت سماوات سبعا ونسبت ما لها من الخواص والآثار إلى ظاهر هذه السماوات بلحاظ ما لها من العلو والإحاطة بالنسبة إلى الأرض تسهيلا للفهم الساذج.

( بحث روائي )

في الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : اجتمع قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر ـ فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا وعاب ديننا ـ فليكلمه ولينظر ما ذا يرد

٣٧٠

عليه؟ فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة ـ قالوا : أنت يا أبا الوليد ـ.

فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك ـ فقد عبدوا الآلهة التي عبدت ـ وإن كنت تزعم أنك خير منهم ـ فتكلم حتى نسمع منك ـ.

أما والله ما رأينا سلحة قط أشأم على قومك منك ـ فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ـ حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ـ والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى ـ أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك ـ حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا ـ وإن كان نما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت ـ فلنزوجك عشرا ـ.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فرغت؟ قال : نعم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ـ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ـ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » حتى بلغ « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً ـ مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ».

فقال عتبة : حسبك. ما عندك غير هذا؟ قال : لا ـ فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته ـ قالوا : فهل أجابك؟ قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال ـ غير أنه قال : « أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.

أقول : ورواه عن عدة من الكتب قريبا منه ، وفي بعض الطرق : قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : والله إني قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، والله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، وفي بعضها غير ذلك.

وفي تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وآله آيات أول السورة على الوليد بن المغيرة رواية أخرى ستوافيك إن شاء الله في تفسير سورة المدثر في ذيل قوله تعالى : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً » الآيات.

وفيه ، أخرج ابن جرير عن أبي بكر قال : جاء اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمد ـ أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟ فقال : خلق الله

٣٧١

الأرض يوم الأحد والإثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق المدائن والأقوات والأنهار ـ وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء ، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس ـ إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة ، وخلق في أول ساعة الآجال ـ وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم. قالوا : صدقت إن تممت ـ فعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يريدون فغضب فأنزل الله « وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ».

أقول : وروي ما يقرب منه عن ابن عباس وعبد الله بن سلام وعن عكرمة وغيره وقد ورد في بعض أخبار الشيعة ، وقوله : قالوا : صدقت إن تممت أي تممت كلامك في الخلق بأن تقول : إنه تعالى فرغ من الخلق يوم السبت واستراح فيه.

والروايات لا تخلو من شيء :

أما أولا : فمن جهة اشتمالها على تصديق اليهود ما ذكر فيها من ترتيب الخلق وهو مخالف لما ورد في أول سفر التكوين من التوراة مخالفة صريحة ففيها أنه خلق النور والظلمة ـ النهار والليل ـ يوم الأحد ، وخلق السماء يوم الإثنين ، وخلق الأرض والبحار والنبات يوم الثلاثاء وخلق الشمس والقمر والنجوم يوم الأربعاء وخلق دواب البحر والطير يوم الخميس ، وخلق حيوان البر والإنسان يوم الجمعة وفرغ من الخلق يوم السبت واستراح فيه ، والقول بأن التوراة الحاضرة غير ما كان في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ترى.

وأما ثانيا : فلأن اليوم من الأسبوع وهو نهار مع ليلته يتوقف في كينونته على حركة الأرض الوضعية دورة واحدة قبال الشمس فما معنى خلق الأرض في يومين ولم يخلق السماء والسماويات بعد ولا تمت الأرض كرة متحركة؟ ونظير الإشكال جار في خلق السماء والسماويات ومنها الشمس ولا يوم حيث لا شمس بعد.

وأما ثالثا : فلأنه عد فيها يوم لخلق الجبال وقد جزم الفحص العلمي بأنها تخلق تدريجا ، ونظير الإشكال جار في خلق المدائن والأنهار والأقوات.

وفي روضة الكافي ، بإسناده عن محمد بن عطية عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه ـ وهو الماء الذي خلق الأشياء منه ـ فجعل نسب كل شيء إلى الماء ـ ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه ، وخلق الريح من الماء ـ.

ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء ـ حتى ثار من الماء زبد على قدر

٣٧٢

ما شاء أن يثور ـ فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ـ ليس فيها صدع ولا ثقب ـ ولا صعود ولا هبوط ولا شجرة ـ ثم طواها فوضعها فوق الماء ـ.

ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء ـ حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور ـ فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ـ ليس فيها صدع ولا ثقب ـ وذلك قوله : « السَّماءُ بَناها ».

أقول : وفي هذه المعنى بعض روايات أخر ، ويمكن تطبيق ما في الرواية وكذا مضامين الآيات على ما تسلمته الأبحاث العلمية اليوم في خلق العالم وهيئته غير أنا تركنا ذلك احترازا من تحديد الحقائق القرآنية بالأحداس والفرضيات العلمية ما دامت فرضية غير مقطوع بها من طريق البرهان العلمي.

وفي نهج البلاغة : فمن شواهد خلقه خلق السماوات ـ موطدات بلا عمد قائمات بلا سند ، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات ـ غير متلكئات ولا مبطئات ، ولو لا إقرارهن له بالربوبية ، وإذعانهن له بالطواعية ـ لما جعلهن موضعا لعرشه ، ولا مسكنا لملائكته ـ ولا مصعدا للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه.

وفي كمال الدين ، بإسناده إلى فضيل الرسان قال : كتب محمد بن إبراهيم إلى أبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرنا ما فضلكم أهل البيت؟ فكتب إليه أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الكواكب جعلت أمانا لأهل السماء ـ فإذا ذهبت نجوم السماء ـ جاء أهل السماء ما كانوا يوعدون ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : جعل أهل بيتي أمانا لأمتي ـ فإذا ذهب أهل بيتي جاء أمتي ما كانوا يوعدون.

أقول : وورد هذا المعنى في غير واحد من الروايات.

وفي البحار ، عن كتاب الغارات بإسناده عن ابن نباتة قال : سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام كم بين السماء والأرض؟ قال : مد البصر ودعوة المظلوم.

أقول : وهو من لطائف كلامه عليه‌السلام يشير به إلى ظاهر السماء وباطنها كما تقدم.

* * *

( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ـ ١٣.

٣٧٣

إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ـ ١٤. فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ـ ١٥. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ـ ١٦. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ـ ١٧. وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ـ ١٨. وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ـ ١٩. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ـ ٢٠. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ـ ٢١. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ـ ٢٢. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ

٣٧٤

أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ـ ٢٣. فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ـ ٢٤. وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ـ ٢٥. )

( بيان )

الآيات تتضمن الإنذار بالعذاب الدنيوي الذي ابتليت به عاد وثمود بكفرهم بالرسل وجحدهم لآيات الله ، وبالعذاب الأخروي الذي سيبتلى به أعداء الله من أهل الجحود الذين حقت عليهم كلمة العذاب ، وفيها إشارة إلى كيفية إضلالهم في الدنيا وإلى استنطاق أعضائهم في الآخرة.

قوله تعالى : « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » قال في المجمع : الصاعقة المهلكة من كل شيء انتهى ، وقال الراغب : قال بعض أهل اللغة : الصاعقة على ثلاثة أوجه : الموت كقوله : « فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ » وقوله : « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ » والعذاب كقوله : « أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » والنار كقوله : « وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ » وما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد ، وهذه الأشياء تأثيرات منها. انتهى.

وعلى ما مر تنطبق الصاعقة على عذابي عاد وثمود وهما الريح والصيحة ، والتعبير بالماضي في قوله : « أَنْذَرْتُكُمْ » للدلالة على التحقق والوقوع.

قوله تعالى : « إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ » إلخ ظرف للصاعقة الثانية فإن الإنذار بالصاعقة بالحقيقة إنذار بوقوعها وحلولها فالمعنى مثل حلول صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم إلخ.

ونسبة المجيء إلى الرسل وهو جمع ـ مع أن الذي ذكر في قصتهم رسولان هما هود وصالح ـ باعتبار أن الرسل دعوتهم واحدة والمبعوث منهم إلى قوم مبعوث لآخرين

٣٧٥

وكذا القوم المكذبون لأحدهم مكذبون لآخرين قال تعالى : « كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ » الشعراء : ـ ١٢٣ وقال : « كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ » الشعراء : ـ ١٤١ ، وقال : « كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ » الشعراء : ـ ١٦٠ إلى غير ذلك.

وقول بعضهم : إن إطلاق الرسل وهو جمع على هود وصالح عليه‌السلام وهما اثنان من إطلاق الجمع على ما دون الثلاثة وهو شائع ، ومن هذا القبيل إرجاع ضمير الجمع في قوله : « إِذْ جاءَتْهُمُ » إلى عاد وثمود.

ممنوع بما تقدم ، وأما إرجاع ضمير الجمع إلى عاد وثمود فإنما هو لكون مجموع الجمعين جمعا مثلهما.

وقوله : « مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ » أي من جميع الجهات فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع ، وجوز أن يكون المراد به الماضي والمستقبل فقوله : « جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ » كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطرق الممكنة خلوة وجلوة وفرادى ومجتمعين بالتبشير والإنذار ولذلك فسر مجيئهم كذلك بعد بقوله : « أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ » وهو التوحيد.

وقوله : « قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً » رد منهم لرسالتهم بأن الله لو شاء إرسال رسول إلينا لأرسل من الملائكة ، وقد تقدم كرارا معنى قولهم هذا وأنه مبني على إنكارهم نبوة البشر.

وقوله : « فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ » تفريع على النفي المفهوم من الجملة السابقة أي فإذا لم يشأ ولم يرسل فإنا بما أرسلتم به وهو التوحيد كافرون.

قوله تعالى : « فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ » إلخ رجوع إلى تفصيل حال من كل الفريقين على حدته ، من كفرهم ووبال ذلك ، وقوله : « بِغَيْرِ الْحَقِ » قيد توضيحي للاستكبار في الأرض فإنه بغير الحق دائما ، والباقي ظاهر.

قوله تعالى : « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ » إلخ فسر الصرصر بالريح الشديدة السموم ، وبالريح الشديدة البرد ، وبالريح الشديدة الصوت وتلازم شدة الهبوب ، والنحسات بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس ينحس نحسا خلاف سعد فالأيام النحسات الأيام المشئومات.

٣٧٦

وقيل : أيام نحسات أي ذوات الغبار والتراب لا يرى فيها بعضهم بعضا ، ويؤيده قوله في سورة الأحقاف : « فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ » الأحقاف : ـ ٢٤.

وقوله : « وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ » أي لا منج ينجيهم ولا شفيع يشفع لهم. والباقي ظاهر.

قوله تعالى : « وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى » إلخ المراد بهدايتهم إراءتهم الطريق ودلالتهم على الحق ببيان حق الاعتقاد والعمل لهم ، والمراد بالاستحباب الإيثار والاختيار ، ولعله بالتضمين ولذا عدي إلى المفعول الثاني بعلى والمراد بالعمى الضلال استعارة ، وفي مقابله الهدى له إيماء إلى أن الهدى بصر كما أن الضلالة عمى ، والهون مصدر بمعنى الذل وتوصيف العذاب به للمبالغة أو بحذف ذي والتقدير صاعقة العذاب ذي الهون.

والمعنى : وأما قوم ثمود فدللناهم على طريق الحق وعرفناهم الهدى بتمييزه من الضلال فاختاروا الضلال الذي هو عمى على الهدى الذي هو بصر فأخذتهم صيحة العذاب ذي المذلة ـ أو أخذهم العذاب بناء على كون الصاعقة بمعنى العذاب والإضافة بيانية ـ بما كانوا يكسبون.

قوله تعالى : « وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ » ضم التقوى إلى الإيمان معبرا عن التقوى بقوله : « وَكانُوا يَتَّقُونَ » الدال على الاستمرار للدلالة على جمعهم بين الإيمان والعمل الصالح وذلك هو السبب لنجاتهم من عذاب الاستئصال على ما وعده الله بقوله : « وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ » الروم : ـ ٤٧.

والظاهر أن الآية متعلقة بالقصتين جميعا متممة لهما وإن كان ظاهر المفسرين تعلقها بالقصة الثانية.

قوله تعالى : « وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ » الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها. كذا قال الراغب ، و « يُوزَعُونَ » من الوزع وهو حبس أول القوم ليلحق بهم آخرهم فيجتمعوا.

قيل : المراد بحشرهم إلى النار إخراجهم إلى المحشر للسؤال والحساب ، وجعل

٣٧٧

النار غاية لحشرهم لأن عاقبتهم إليها ، والدليل عليه ما ذكره من أمر شهادة الأعضاء فإنها في الموقف قبل الأمر بهم إلى النار.

وقيل : المراد حشرهم إلى النار نفسها ومن الممكن أن يستشهد عليهم مرتين مرة في الموقف ومرة على شفير جهنم وهو كما ترى.

والمراد بأعداء الله ـ على ما قيل ـ المكذبون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من مشركي قومه لا مطلق الكفار والدليل عليه قوله الآتي : « وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ » الآية.

قوله تعالى : « حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » « ما » في « إِذا ما جاؤُها » زائد للتأكيد والضمير للنار.

وشهادة الأعضاء أو القوى يوم القيامة ذكرها وإخبارها ما تحملته في الدنيا من معصية صاحبها فهي شهادة أداء لما تحملته ، ولو لا التحمل في الدنيا حين العمل كما لو جعل الله لها شعورا ونطقا يوم القيامة فعلمت ثم أخبرت بما عملته أو أوجد الله عندها صوتا يفيد معنى الإخبار من غير شعور منها به لم يصدق عليه الشهادة ، ولا تمت بذلك على العبد المنكر حجة وهو ظاهر.

وبذلك يظهر فساد قول بعضهم : إن الله يخلق يوم القيامة للأعضاء علما وقدرة على الكلام فتخبر بمعاصي صاحبيها وهو شهادتها وقول بعضهم : إنه يخلق عندها أصواتا في صورة كلام مدلوله الشهادة ، وكذا قول بعضهم : إن معنى الشهادة دلالة الحال على صدور معصية كذائية منهم.

وظاهر الآية أن شهادة السمع والبصر أداؤهما ما تحملاه وإن لم يكن معصية مأتيا بها بواسطتهما كشهادة السمع أنه سمع آيات الله تتلى عليه فأعرض عنها صاحبه أو أنه سمع صاحبه يتكلم بكلمة الكفر ، وشهادة البصر أنه رأى الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى فأعرض عنها صاحبه أو أنه رأى صاحبه يستمع إلى الغيبة أو سائر ما يحرم الإصغاء إليه فتكون الآية على حد قوله تعالى : « إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً » إسراء : ـ ٣٦.

٣٧٨

وعلى هذا يختلف السمع والأبصار والجلود فيما شهدت عليه فالسمع والأبصار تشهد على معصية العبد وإن لم تكن بسببهما والجلود تشهد على المعصية التي كانت هي آلات لها بالمباشرة ، وهذا الفرق هو السبب لتخصيصهم الجلود بالخطاب في قولهم : « لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا » على ما سيجيء.

والمراد بالجلود على ظاهر إطلاق الآية مطلق الجلود وشهادتها على أنواع المعاصي التي تتم بالجلود من التمتعات المحرمة كالزنا ونحوه ، ويمكن حينئذ أن تعمم الجلود بحيث تشمل شهادتها ما شهدت الأيدي والأرجل المذكورة في قوله : « الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ » يس : ـ ٦٥ على بعد.

وقيل : المراد بالجلود الفروج وقد كني بها عنها تأدبا.

قوله تعالى : « وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا » اعتراض وعتاب منهم لجلودهم في شهادتها عليهم ، وقيل : الاستفهام للتعجب فهو سؤال عن السبب لرفع التعجب وإنما خصوها بالسؤال دون سمعهم وأبصارهم مع اشتراكها في الشهادة لأن الجلود شهدت على ما كانت هي بنفسها أسبابا وآلات مباشرة له بخلاف السمع والأبصار فإنها كسائر الشهداء تشهد بما ارتكبه غيرها.

وقيل : تخصيص الجلود بالذكر تقريع لهم وزيادة تشنيع وفضاحة وخاصة لو كان المراد بالجلود الفروج وقيل غير ذلك.

قوله تعالى : « قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ » إلخ إرجاع ضمير أولي العقل إلى الجوارح لمكان نسبة الشهادة والنطق إليها وذلك من شئون أولي العقل.

والمتيقن من معنى النطق إذا استعمل على الحقيقة من غير تجوز هو إظهار ما في الضمير من طريق التكلم فيتوقف على علم وكشفه لغيره ، قال الراغب : ولا يكاد يستعمل النطق في غير الإنسان إلا تبعا وبنوع من التشبيه وظاهر سياق الآيات وما فيها من ألفاظ القول والتكلم والشهادة والنطق أن المراد بالنطق ما هو حقيقة معناه.

فشهادة الأعضاء على المجرمين كانت نطقا وتكلما حقيقة عن علم تحملته سابقا بدليل قولها : « أَنْطَقَنَا اللهُ ». ثم إن قولها : « أَنْطَقَنَا اللهُ » جوابا عن قول المجرمين :

٣٧٩

« لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا »؟ إراءة منها للسبب الذي أوجب نطقها وكشف عن العلم المدخر عندها المكنون في ضميرها فهي ملجؤه إلى التكلم والنطق ، ولا يضر ذلك نفوذ شهادتها وتمام الحجة بذلك فإنها إنما ألجئت إلى الكشف عما في ضميرها لا على الستر عليه والإخبار بخلافه كذبا وزورا حتى ينافي جواز الشهادة وتمام الحجة.

وقوله : « الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ » توصيف لله سبحانه وإشارة إلى أن النطق ليس مختصا بالأعضاء حتى تختص هي بالسؤال بل هو عام شامل لكل شيء والسبب الموجب له هو الله سبحانه.

وقوله : « وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » من تتمة الكلام السابق أو هو من كلامه ، وهو احتجاج على علمه بأعمالهم وقد أنطق الجوارح بما علم.

يقول : إن وجودكم يبتدئ منه تعالى وينتهي إليه تعالى فعند ما تظهرون من كتم العدم ـ وهو خلقكم أول مرة ـ يعطيكم الوجود ويملككم الصفات والأفعال فتنسب إليكم ثم ترجعون وتنتهون إليه فيرجع ما عندكم من ظاهر الملك الموهوب إليه فلا يبقى ملك إلا وهو لله سبحانه.

فهو سبحانه المالك لجميع ما عندكم أولا وآخرا فما عندكم من شيء في أول وجودكم هو الذي أعطاكموه وملكه لكم وهو أعلم بما أعطى وأودع ، وما عندكم من شيء حينما ترجعون إليه هو الذي يقبضه منكم إليه ويملكه فكيف لا يعلمه ، وانكشافه له سبحانه حينما يرجع إليه إنطاقه لكم وشهادتكم على أنفسكم عنده.

وبما مر من البيان يظهر وجه تقييد قوله : « وَهُوَ خَلَقَكُمْ » بقوله : « أَوَّلَ مَرَّةٍ » فالمراد به أول وجودهم.

ولهم في قوله : « قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ » في معنى الإنطاق نظائر ما تقدم في قوله : « شَهِدَ عَلَيْهِمْ » من الأقوال فمن قائل : إن الله يخلق لهم يومئذ العلم والقدرة على النطق فينطقون ، ومن قائل : إنه يخلق عند الأعضاء أصواتا شبيهة بنطق الناطقين وهو المراد بنطقهم ، ومن قائل : إن المراد بالنطق دلالة ظاهر الحال على ذلك.

وكذا في عموم قوله : « أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ » فقيل : هو مخصص بكل حي نطق إذ

٣٨٠