الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع ومنه قوله تعالى في الريح المرسلة إلى عاد : « تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ » الأحقاف : ـ ٢٥.

وقيل : النطق في « أَنْطَقَنَا » بمعناه الحقيقي وفي قوله : « أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ » بمعنى الدلالة فيبقى الإطلاق على حاله.

ويرد عليهما أن تخصيص الآية أو حملها على المعنى المجازي مبني على تسلم كون غير ما نعده من الأشياء حيا ناطقا كالإنسان والحيوان والملك والجن فاقدا للعلم والنطق على ما نراه من حالها.

لكن لا دليل على فقدان الأشياء غير ما استثنيناه للشعور والإرادة سوى أنا في حجاب من بطون ذواتها لا طريق لنا إلى الاطلاع على حقيقة حالها ، والآيات القرآنية وخاصة الآيات المتعرضة لشئون يوم القيامة ظاهرة في عموم العلم.

( بحث إجمالي قرآني في سراية العلم )

كررنا الإشارة في الأبحاث المتقدمة إلى أن الظاهر من كلامه تعالى أن العلم صار في الموجودات عامة كما تقدم في تفسير قوله تعالى : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » إسراء : ـ ٤٤ فإن قوله : « وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ » نعم الدليل على كون التسبيح منهم عن علم وإرادة لا بلسان الحال.

ومن هذا القبيل قوله : « فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » وقد تقدم تفسيره في السورة.

ومن هذا القبيل قوله : « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ » الأحقاف : ـ ٦ فالمراد بمن لا يستجيب الأصنام فقط أو هي وغيرها ، وقوله : « يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها » الزلزال : ـ ٥.

ومن هذا القبيل الآيات الدالة على شهادة الأعضاء ونطقها وتكليمها لله والسؤال

٣٨١

منها وخاصة ما ورد في ذيل الآيات الماضية آنفا من قوله : « أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ » الآية.

لا يقال : لو كان غير الإنسان والحيوان كالجماد والنبات ذا شعور وإرادة لبانت آثاره وظهر منها ما يظهر من الإنسان والحيوان من الأعمال العلمية والأفعال والانفعالات الشعورية.

لأنه يقال : لا دليل على كون العلم ذا سنخ واحد حتى تتشابه الآثار المترشحة منه فمن الممكن أن يكون ذا مراتب مختلفة تختلف باختلافها آثارها.

على أن الآثار والأعمال العجيبة المتقنة المشهودة من النبات وسائر الأنواع الطبيعية في عالمنا هذا لا تقصر في إتقانها ونظمها وترتيبها عن آثار الأحياء كالإنسان والحيوان.

( بحث إجمالي فلسفي )

حقق في مباحث العلم من الفلسفة أن العلم وهو حضور شيء لشيء يساوق الوجود المجرد لكونه ما له من فعلية الكمال حاضرا عنده من غير قوة فكل وجود مجرد يمكنه أن يوجد حاضرا لمجرد غيره أو يوجد له مجرد غيره وما أمكن لمجرد بالإمكان العام فهو له بالضرورة.

فكل عالم فهو مجرد وكذا كل معلوم وينعكسان بعكس النقيض إلى أن المادة وما تألف منها ليس بعالم ولا معلوم.

فالعلم يساوق الوجود المجرد ، والوجودات المادية لا يتعلق بها علم ولا لها علم بشيء لكن لها ، على كونها مادية متغيرة متحركة لا تستقر على حال ، ثبوتا من غير تغير ولا تحول لا ينقلب عما وقع عليه.

فلها من هذه الجهة تجرد والعلم سار فيها كما هو سار في المجردات المحضة العقلية والمثالية فافهم ذلك.

قوله تعالى : « وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ »

٣٨٢

إلخ لا شك أن الله سبحانه خالق كل شيء لا موجد غيره فلا يحول بين خلقه وبينه شيء ولا يحجب خلقه من حاجب فهو تعالى مع كل شيء أينما كان وكيفما كان قال تعالى : « إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » الحج : ـ ١٧ وقال : « وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً » الأحزاب : ـ ٥٢.

فالإنسان أينما كان كان الله معه ، وأي عمل عمله كان الله مع عمله ، وأي عضو من أعضائه استعمله وأي سبب أو أداة أو طريق اتخذه لعمله كان مع ذلك العضو والسبب والأداة والطريق قال تعالى : « وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ » الحديد : ـ ٤ ، وقال : « أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » الرعد : ـ ٣٣ ، وقال : « إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ » الفجر : ـ ١٤.

ومن هنا يستنتج أن الإنسان ـ وهو جار في عمله ـ واقع بين مراصد كثيرة يرصده من كل منها ربه ويرقبه ويشهده فمرتكب المعصية وهو متوغل في سيئته غافل عنه تعالى في جهل عظيم بمقام ربه واستهانة به سبحانه وهو يرصده ويرقبه.

وهذه الحقيقة هي التي تشير إليه الآية أعني قوله : « وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ » إلخ على ما يعطيه السياق.

فقوله : « وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ » نفي لاستتارهم وهم في المعاصي قبلا وهم في الدنيا وقوله : « أَنْ يَشْهَدَ » إلخ منصوب بنزع الخافض والتقدير من أن يشهد إلخ.

وقوله : « وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ » استدراك في معنى الإضراب عن محذوف يدل عليه صدر الآية ، والتقدير ولم تظنوا أنها لا تعلم أعمالكم ولكن ظننتم إلخ والآية تقريع وتوبيخ للمشركين أو لمطلق المجرمين يوجه إليهم يوم القيامة من قبله تعالى.

ومحصل المعنى وما كنتم تستخفون في الدنيا عند المعاصي من شهادة أعضائكم التي تستعملونها في معصية الله ولم يكن ذلك لظنكم أنها لا إدراك فيها لعملكم بل لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أي لم تستهينوا عند المعصية بشهادة أعضائكم وإنما استهنتم بشهادتنا.

فالاستدراك ومعنى الإضراب في الآية نظير ما في قوله تعالى : « وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى » الأنفال : ـ ١٧ ، وقوله : « وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ

٣٨٣

يَظْلِمُونَ » البقرة : ـ ٥٧.

وقوله : « كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ » ولم يقل : لا يعلم ما تعملون ولعل ذلك لكونهم معتقدين بالله وبصفاته العليا التي منها العلم فهم يعتقدون فيه العلم في الجملة لكن حالهم في المعاصي حال من لا يرى علمه بكثير من أعماله.

ويستفاد من الآية أن شهادة الشهود شهادته تعالى بوجه قال تعالى : « وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ » يونس : ـ ٦١.

ولهم في توجيه معنى الآية أقوال أخر لا يساعد عليها السياق ولا تخلو من تكلف أضربنا عن التعرض لها.

قوله تعالى : « وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ » الإرداء من الردى بمعنى الهلاك ، و « ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ » مبتدأ وخبر و « أَرْداكُمْ » خبر بعد خبر ، ويمكن أن يكون « ظَنُّكُمُ » بدلا من ( ذلِكُمْ ).

ومعنى الآية على الأول وذلكم الظن الذي ذكر ظن ظننتموه لا يغني من الحق شيئا والعلم والشهادة على حالها أهلككم ذلك الظن فأصبحتم من الخاسرين.

وعلى الثاني وظنكم الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي وأدى بكم إلى الكفر فأصبحتم من الخاسرين.

قوله تعالى : « فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ » في المفردات : الثواء الإقامة مع الاستقرار. انتهى ، وفي المجمع ، الاستعتاب طلب العتبى وهي الرضا وهو الاسترضاء ، والإعتاب الإرضاء ، وأصل الإعتاب عند العرب استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ ثم أستعير فيما يستعطف به البعض بعضا لإعادته ما كان من الألفة. انتهى.

ومعنى الآية فإن يصبروا فالنار مأواهم ومستقرهم وإن يطلبوا الرضا ويعتذروا لينجوا من العذاب فليسوا ممن يرضى عنهم ويقبل أعتابهم ومعذرتهم فالآية في معنى قوله : « اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ » الطور : ـ ١٦.

قوله تعالى : « وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ » إلى آخر

٣٨٤

الآية. أصل التقييض ـ كما في المجمع ، ـ التبديل ، والقرناء جمع قرين وهو معروف.

فقوله : « وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ » إشارة إلى أنهم لو آمنوا واتقوا لأيدهم الله بمن يسددهم ويهديهم كما قال : « أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » المجادلة : ـ ٢٢ لكنهم كفروا وفسقوا فبدل الله لهم قرناء من الشياطين يقارنونهم ويلازمونهم ، وإنما يفعل ذلك بهم مجازاة لكفرهم وفسوقهم.

وقيل : المعنى بدلناهم قرناء سوء من الجن والإنس مكان قرناء الصدق الذين أمروا بمقارنتهم فلم يفعلوا ، ولعل ما قدمناه أحسن.

وقوله : « فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ » لعل المراد التمتعات المادية التي هم مكبون عليها في الحال وما تعلقت به آمالهم وأمانيهم في المستقبل.

وقيل : ما بين أيديهم ما قدموه من أعمالهم السيئة حتى ارتكبوها ، وما خلفهم ما سنوه لغيرهم ممن يأتي بعدهم ، ويمكن إدراج هذا الوجه في سابقه.

وقيل : ما بين أيديهم هو ما يحضرهم من أمر الدنيا فيؤثرونه ويقبلون إليه ويعملون له ، وما خلفهم هو أمر الآخرة حيث يدعوهم قرناؤهم إلى أنه لا بعث ولا نشور ولا حساب ولا جنة ولا نار ، وهو وجه بعيد إذ لا يقال لمن ينكر الآخرة أنها زينت له.

وقوله : « وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ » أي ثبت ووجب عليهم كلمة العذاب حال كونهم في أمم مماثلين لهم ماضين قبلهم من الجن والإنس وكلمة العذاب قوله تعالى : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » كقوله البقرة : ـ ٣٩ : « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ » ـ ص : ـ ٨٥. وقوله : « إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ » تعليل لوجوب كلمة العذاب عليهم أو لجميع ما تقدم.

ويظهر من الآية أن حكم الموت جار في الجن مثل الإنس.

٣٨٥

( بحث روائي )

في الفقيه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيته لابن الحنفية : قال الله تعالى : « وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ـ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ » يعني بالجلود الفروج.

وفي تفسير القمي ، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الآية : يعني بالجلود الفروج والأفخاذ.

وفي المجمع ، قال الصادق عليه‌السلام : ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار ، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة ـ إن الله تعالى يقول : « وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ » الآية ، ثم قال : إن الله عند ظن عبده ـ إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وفي تفسير القمي ، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس من عبد يظن بالله عز وجل خيرا ـ إلا كان عند ظنه به وذلك قوله عز وجل : « وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ » الآية.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد والطبراني وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ـ فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله عز وجل ـ قال الله : « وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ـ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ».

أقول : وقد روي في سبب نزول بعض الآيات السابقة ما لا يلائم سياقها تلك الملاءمة ولذلك أغمضنا عن إيراده.

* * *

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ـ ٢٦. فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ـ ٢٧. ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ

٣٨٦

الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ـ ٢٨. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ـ ٢٩. إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ـ ٣٠. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ـ ٣١. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ـ ٣٢. وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ـ ٣٣. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ـ ٣٤. وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ـ ٣٥. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ـ ٣٦. وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ـ ٣٧. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ـ ٣٨. وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ

٣٨٧

خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ٣٩. )

( بيان )

رجوع إلى حديث كفرهم بالقرآن المذكور في أول السورة وذكر كيدهم لإبطال حجته ، وفي الآيات ذكر الكفار وبعض ما في عقبى ضلالتهم وأهل الاستقامة من المؤمنين وبعض ما لهم في الآخرة ومتفرقات أخر.

قوله تعالى : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » اللغو من الأمر ما لا أصل له ومن الكلام ما لا معنى له يقال : لغا يلغى ويلغو لغوا أي أتى باللغو ، والإشارة إلى القرآن مع ذكر اسمه دليل على كمال عنايتهم بالقرآن لإعفاء أثره.

والآية تدل على نهاية عجزهم عن مخاصمة القرآن بإتيان كلام يعادله ويماثله أو إقامة حجة تعارضه حتى أمر بعضهم بعضا أن لا ينصتوا له ويأتوا بلغو الكلام عند قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن ليختل به قراءته ولا تقرع أسماع الناس آياته فيلغو أثره وهو الغلبة.

قوله تعالى : « فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً » إلخ اللام للقسم ، والمراد بالذين كفروا بحسب مورد الآية هم الذين قالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن وإن كانت الآية مطلقة بحسب اللفظ.

وقوله : « وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ » قيل : المراد العمل السيئ الذي كانوا يعملون بتجريد أفعل عن معنى التفضيل ، وقيل : المراد بيان جزاء ما هو أسوأ أعمالهم وسكت عن الباقي مبالغة في الزجر.

قوله تعالى : « ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ » إلخ « ذلِكَ جَزاءُ » مبتدأ وخبر و « النَّارُ » بدل أو عطف بيان من « ذلِكَ » أو خبر مبتدإ محذوف والتقدير هي النار أو مبتدأ خبره « لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ».

وقوله : « لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ » أي النار محيطة بهم جميعا ولكل منهم فيها دار

٣٨٨

تخصه خالدا فيها.

وقوله : « جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ » مفعول مطلق لفعل مقدر ، والتقدير يجزون جزاء أو للمصدر المتقدم أعني قوله : « ذلِكَ جَزاءُ » نظير قوله : « فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً » إسراء : ـ ٦٣.

قوله تعالى : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ » محكي قول يقولونه وهم في النار ، يسألون الله أن يريهم متبوعيهم من الجن والإنس ليجعلوهما تحت أقدامهم إذلالا لهما وتشديدا لعذابهما كما يشعر به قولهم ذيلا : « نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ».

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ » إلخ قال الراغب : الاستقامة تقال في الطريق الذي يكون على خط مستو ، وبه شبه طريق الحق نحو « اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ». قال : واستقامة الإنسان لزومه المنهج المستقيم نحو قوله : « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ». انتهى. وفي الصحاح : الاستقامة الاعتدال يقال : استقام له الأمر. انتهى.

فالمراد بقوله : « ثُمَّ اسْتَقامُوا » لزوم وسط الطريق من غير ميل وانحراف والثبات على القول الذي قالوه ، قال تعالى : « فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ » التوبة : ـ ٧ وقال : « وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ » الشورى : ـ ١٥ وما ورد فيها من مختلف التفاسير يرجع إلى ما ذكر.

والآية وما يتلوها بيان حسن حال المؤمنين كما كانت الآيات قبلها بيان سوء حال الكافرين.

وقوله : « تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » إخبار عما سيستقبلهم به الملائكة من تقوية قلوبهم وتطييب نفوسهم والبشرى بالكرامة.

فالملائكة يؤمنونهم من الخوف والحزن ، والخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه والحرمان من الجنة الذي يخشونه ، والحزن إنما يكون من

٣٨٩

مكروه واقع وشر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها والخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم فيطيب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئا أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم والعذاب مصروف عنهم.

ثم يبشرونهم بالجنة الموعودة بقولهم : « وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » وفي قولهم : « كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » دلالة على أن تنزلهم بهذه البشرى عليهم إنما هو بعد الحياة الدنيا.

قوله تعالى : « نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ » إلخ من تتمة البشارة ، وعلى هذا فذكر ولايتهم لهم في الحياة الدنيا مع انقضاء وقتها كما تقدم من باب التوطئة والتمهيد إلى ذكر الآخرة للإشارة إلى أن ولاية الآخرة مترتبة على ولاية الدنيا فكأنه قيل نحن أولياؤكم في الآخرة كما كنا ـ لما كنا ـ أولياءكم في الحياة الدنيا وسنتولى أمركم بعد هذا كما توليناه قبل.

وكون الملائكة أولياء لهم لا ينافي كونه تعالى هو الولي لأنهم وسائط الرحمة والكرامة ليس لهم من الأمر شيء ، ولعل ذكر ولايتهم لهم في الآية دون ولايته تعالى للمقابلة والمقايسة بين أوليائه تعالى وأعدائه إذ قال في حق أعدائه : « وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ » إلخ وقال في حق أوليائه عن لسان ملائكته : « نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ ».

وبالمقابلة يستفاد أن المراد ولايتهم لهم بالتسديد والتأييد فإن الملائكة المسددين هم المخصوصون بأهل ولاية الله وأما الملائكة الحرس وموكلو الأرزاق والآجال وغيرهم فمشتركون بين المؤمن والكافر.

وقيل : الآية من كلام الله دون الملائكة.

وقوله : « وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ » ضمير « فِيها » في الموضعين للآخرة ، وأصل الشهوة نزوع النفس بقوة من قواها إلى ما تريده تلك القوة وتلتذ به كشهوة الطعام والشراب والنكاح ، وأصل الادعاء ـ وهو افتعال من الدعاء ـ هو الطلب فالجملة الثانية أعني قوله : « وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ » أوسع نطاقا من الأولى أعني قوله : « لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ » فإن الشهوة طلب خاص ومطلق الطلب أعم منها.

٣٩٠

فالآية تبشرهم بأن لهم في الآخرة ما يمكن أن تتعلق به شهواتهم من أكل وشرب ونكاح وغير ذلك بل ما هو أوسع من ذلك وأعلى كعبا وهو أن لهم ما يشاءون فيها كما قال تعالى : « لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها » ق ـ ٣٥.

قوله تعالى : « وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ » الآية اتصال بقوله السابق : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ، وَالْغَوْا فِيهِ » الآية فإنهم كانوا يخاصمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ينازعون القرآن ، وقد ذكر في أول السورة قولهم : « قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ » الآية فأيد سبحانه في هذه الآية نبيه بأن قوله وهو دعوته أحسن القول.

فقوله : « وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ » المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كان لفظ الآية يعم كل من دعا إلى الله ولما أمكن أن يدعو الداعي إلى الله لغرض فاسد وليست الدعوة التي هذا شأنها من القول الأحسن قيده بقوله : « وَعَمِلَ صالِحاً » فإن العمل الصالح يكشف عن نية صالحة غير أن العمل الصالح لا يكشف عن الاعتقاد الحق والالتزام به ، ولا حسن في قول لا يقول به صاحبه ولذا قيده بقوله : « وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ » والمراد بالقول الرأي والاعتقاد على ما يعطيه السياق.

فإذا تم الإسلام لله والعمل الصالح للإنسان ثم دعا إلى الله كان قوله أحسن القول لأن أحسن القول أحقه وأنفعه ولا قول أحق من كلمة التوحيد ولا أنفع منها وهي الهادية للإنسان إلى حاق سعادته.

قوله تعالى : « لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ » الآية لما ذكر أحسن القول وأنه الدعوة إلى الله والقائم به حقا هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التفت إليه ببيان أحسن الطريق إلى الدعوة وأقربها من الغاية المطلوبة منها وهي التأثير في النفوس فخاطبه بقوله : « لا تَسْتَوِي » إلخ.

فقوله : « لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ » أي الخصلة الحسنة والسيئة من حيث حسن التأثير في النفوس ، و « لا » في « لَا السَّيِّئَةُ » زائدة لتأكيد النفي.

وقوله : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » استئناف في معنى دفع الدخل كأن المخاطب لما سمع قوله : « لا تَسْتَوِي » إلخ قال : فما ذا أصنع؟ فقيل : « ادْفَعْ » إلخ والمعنى

٣٩١

ادفع بالخصلة التي هي أحسن الخصلة السيئة التي تقابلها وتضادها فادفع بالحق الذي عندك باطلهم لا بباطل آخر وبحلمك جهلهم وبعفوك إساءتهم وهكذا.

وقوله : « فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » بيان لأثر الدفع بالأحسن ونتيجته والمراد أنك إن دفعت بالتي هي أحسن فاجأك أن عدوك صار كأنه ولي شفيق.

قيل : « الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ » أبلغ من « عدوك » ولذا اختاره عليه مع اختصاره.

ثم عظم الله سبحانه الدفع بالتي هي أحسن ومدحه أحسن التعظيم وأبلغ المدح بقوله : « وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » أي ذو نصيب وافر من كمال الإنسانية وخصال الخير.

وفي الآية مع ذلك دلالة ظاهرة على أن الحظ العظيم إنما يوجد لأهل الصبر خاصة.

قوله تعالى : « وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » النزغ النخس وهو غرز جنب الدابة أو مؤخرها بقضيب ونحوه ليهيج ، و « إِمَّا » في « إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ » زائدة والأصل وإن ينزغنك فاستعذ.

والنازغ هو الشيطان أو تسويله ووسوسته ، والأول هو الأنسب لمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه لا سبيل للشيطان إليه بالوسوسة غير أنه يمكن أن يقلب له الأمور بالوسوسة على المدعوين من أهل الكفر والجحود فيبالغوا في جحودهم ومشاقتهم وإيذائهم له فلا يؤثر فيهم الدفع بالأحسن ويؤول هذا إلى نزغ من الشيطان بتشديد العداوة في البين كما في قوله : « مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي » يوسف : ـ ١٠٠ ، قال تعالى : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ » الآية : الحج : ـ ٥٢.

ولو حمل على الوجه الثاني فالمتعين حمله على مطلق الدستور تتميما للأمر ، وهو بوجه من باب « إياك أعني واسمعي يا جارة ».

وقوله : « فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » العوذ والعياذ بكسر العين والمعاذ والاستعاذة بمعنى وهو الالتجاء والمعنى فالتجئ بالله من نزغه إنه هو السميع لمسألتك العليم بحالك أو السميع لأقوالكم العليم بأفعالكم.

قوله تعالى : « وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ » إلخ لما ذكر سبحانه

٣٩٢

كون دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله أحسن القول ووصاه أن يدفع بأحسن الخصال عاد إلى أصل الدعوة فاحتج على الوحدانية والمعاد في هذه الآيات الثلاث.

فقوله : « وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ » إلخ احتجاج بوحدة التدبير واتصاله على وحدة الرب المدبر ، وبوحدة الرب على وجوب عبادته وحده ، ولذلك عقبه بقوله « لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ » إلخ.

فالكلام في معنى دفع الدخل كأنه لما قيل : « وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ » إلخ فأثبت وحدته في ربوبيته قيل : فما ذا نصنع؟ فقيل « لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ » هما مخلوقان مدبران من خلقه بل خصوه بالسجدة واعبدوه وحده ، وعامة الوثنيين كانوا يعظمون الشمس والقمر وإن لم يعبدهما غير الصابئين على ما قيل ، وضمير « خَلَقَهُنَ » لليل والنهار والشمس والقمر.

وقوله : « إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ » أي إن عبادته لا تجامع عبادة غيره.

قوله تعالى : « فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ » السأمة الملال ، والمراد بـ « فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ » الملائكة والمخلصون من عباد الله وقد تقدم كلام في ذلك في تفسير قوله : « إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ » الأعراف : ـ ٢٠٦.

وقوله : « يُسَبِّحُونَ لَهُ » ولم يقل : يسبحونه للدلالة على الحصر والاختصاص أي يسبحونه خاصة ، وقوله : « بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ » أي دائما لا ينقطع فإن الملائكة ليس عندهم ليل ولا نهار.

والمعنى : فإن استكبر هؤلاء الكفار عن السجدة لله وحده فعبادته تعالى لا ترتفع من الوجود فهناك من يسبحه تسبيحا دائما لا ينقطع من غير سأمة وهم الذين عند ربك.

قوله تعالى : « وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً » إلخ الخشوع التذلل ، والاهتزاز التحرك الشديد ، والربو النشوء والنماء والعلو ، واهتزاز الأرض وربوها تحركها بنباتها وارتفاعه.

٣٩٣

وفي الآية استعارة تمثيلية شبهت فيها الأرض في جدبها وخلوها عن النبات ثم اخضرارها ونمو نباتها وعلوه بشخص كان وضيع الحال رث الثياب متذللا خاشعا ثم أصاب ما لا يقيم أوده فلبس أفخر الثياب وانتصب ناشطا متبخترا يعرف في وجهه نضرة النعيم.

والآية مسوقة للاحتجاج على المعاد ، وقد تكرر البحث عن مضمونها في السور المتقدمة.

( بحث روائي )

في المجمع في قوله تعالى : « أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا » يعنون إبليس الأبالسة ـ وقابيل بن آدم أول من أبدع المعصية : روي ذلك عن علي (ع).

أقول : ولعله من نوع الجري فالآية عامة.

وفيه في قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا » : روي عن أنس قال : قرأ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ثم قال : قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم ـ فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها.

وفيه في قوله تعالى : « تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ » يعني عند الموت : عن مجاهد والسدي وروي ذلك عن أبي عبد الله (ع).

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » قال : كنا نحرسكم من الشياطين « وَفِي الْآخِرَةِ » أي عند الموت.

وفي المجمع في الآية قيل : « نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » أي نحرسكم في الدنيا وعند الموت في الآخرة.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » قال : ادفع سيئة من أساء إليك بحسنتك ـ حتى يكون الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.

* * *

( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ

٣٩٤

خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ـ ٤٠. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ـ ٤١. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ـ ٤٢. ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ ـ ٤٣. وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ـ ٤٤. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ـ ٤٥. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ـ ٤٦. إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ـ ٤٧. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ـ ٤٨. لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ ـ ٤٩.

٣٩٥

وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ ـ ٥٠. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ـ ٥١. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ـ ٥٢. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ـ ٥٣. أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ـ ٥٤. )

( بيان )

عودة أخرى إلى حديث القرآن وكفرهم به على ظهور آيته ورفعة درجته وما فرطوا في جنبه ورميهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجحدهم الحق وكفرهم بالآيات وما يتبع ذلك ، وتختتم السورة.

والآية الأولى أعني قوله : « إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا » الآية كالبرزخ الرابط بين هذا الفصل والفصل السابق من الآيات لما وقعت بين قوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ » الآية وبين قوله : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ » الآية وقوله : « وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ » إلخ.

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا » إلخ سياق تهديد

٣٩٦

لملحدي هذه الأمة كما يؤيده الآية التالية ، والإلحاد الميل.

وإطلاق قوله : « يُلْحِدُونَ » وقوله : « آياتِنا » يشمل كل إلحاد في كل آية فيشمل الإلحاد في الآيات التكوينية كالشمس والقمر وغيرهما فيعدونها آيات لله سبحانه ثم يعودون فيعبدونها ، ويشمل آيات الوحي والنبوة فيعدون القرآن افتراء على الله وتقولا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو يلغون فيه لتختل تلاوته فلا يسمعه سامع أو يفسرونه من عند أنفسهم أو يؤولونه ابتغاء الفتنة فكل ذلك إلحاد في آيات الله بوضعها في غير موضعها والميل بها إلى غير مستقرها.

وقوله : « أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ » إيذان بالجزاء وهو الإلقاء في النار يوم القيامة قسرا من غير أي مؤمن متوقع كشفيع أو ناصر أو عذر مسموع فليس لهم إلا النار يلقون فيها ، والظاهر أن قوله « أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ » لإبانة أنهما قبيلان لا ثالث لهما فمستقيم في الإيمان بالآيات وملحد فيها ويظهر به أن أهل الاستقامة في أمن يوم القيامة.

وقوله : « اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » تشديد في التهديد.

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ إلى قوله ـ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » المراد بالذكر القرآن لما فيه من ذكر الله ، وتقييد الجملة بقوله : « لَمَّا جاءَهُمْ » يدل على أن المراد بالذين كفروا هم مشركو العرب المعاصرين للقرآن من قريش وغيرهم.

وقد اختلفوا في خبر « إِنَ » ويمكن أن يستظهر من السياق أنه محذوف يدل عليه قوله : « إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا » إلخ فإن الكفر بالقرآن من مصاديق الإلحاد في آيات الله فالتقدير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يلقون في النار يوم القيامة ، وإنما حذف ليذهب فيه وهم السامع أي مذهب ممكن والكلام مسوق للوعيد.

وإلى هذا المعنى يرجع قول الزمخشري في الكشاف : إن قوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا » إلخ بدل من قوله : « إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا ».

وقيل : خبر إن قوله الآتي : « أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ » ، وقيل : الخبر قوله : « لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ » بحذف ضمير عائد إلى اسم إن

٣٩٧

والتقدير لا يأتيه منهم أي لا يأتيه من قبلهم ما يبطله ولا يقدرون على ذلك أو بجعل أل في الباطل عوضا من الضمير والمعنى لا يأتيه باطلهم.

وقيل : إن قوله : « وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ » إلخ قائم مقام الخبر ، والتقدير إن الذين كفروا بالذكر كفروا به وإنه لكتاب عزيز.

وقيل : الخبر قوله : « ما يُقالُ لَكَ » إلخ بحذف الضمير وهو « فيهم » والمعنى ما يقال لك في الذين كفروا بالذكر إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن لهم عذاب الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في الآخرة ، ووجوه التكلف في هذه الوجوه غير خفية على المتأمل البصير.

وقوله : « وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ » الضمير للذكر وهو القرآن ، والعزيز عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يغلب ، والمعنى الثاني أنسب لما يتعقبه من قوله : « لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ».

وقوله : « لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ » إتيان الباطل إليه وروده فيه وصيرورة بعض أجزائه أو جميعها باطلا بأن يصير ما فيه من المعارف الحقة أو بعضها غير حقة أو ما فيه من الأحكام والشرائع وما يلحقها من الأخلاق أو بعضها لغا لا ينبغي العمل به.

وعليه فالمراد بقوله : « مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ » زمانا الحال والاستقبال أي زمان النزول وما بعده إلى يوم القيامة ، وقيل : المراد بما بين يديه ومن خلفه جميع الجهات كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله فهو مصون من البطلان من جميع الجهات وهذا العموم على الوجه الأول مستفاد من إطلاق النفي في قوله : « لا يَأْتِيهِ ».

والمدلول على أي حال أنه لا تناقض في بياناته ، ولا كذب في إخباره ، ولا بطلان يتطرق إلى معارفه وحكمه وشرائعه ، ولا يعارض ولا يغير بإدخال ما ليس منه فيه أو بتحريف آية من وجه إلى وجه.

فالآية تجري مجرى قوله : « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ » الحجر : ـ ٩.

وقوله : « تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » بمنزلة التعليل لكونه كتابا عزيزا لا يأتيه

٣٩٨

الباطل « إلخ » أي كيف لا يكون كذلك وهو منزل من حكيم متقن في فعله لا يشوب فعله وهن ، محمود على الإطلاق.

قوله تعالى : « ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ » إلخ « ما » في « ما يُقالُ لَكَ » نافية ، والقائلون هم الذين كفروا حيث قالوا : إنه ساحر أو مجنون أو شاعر لاغ في كلامه أو يريد أن يتأمر علينا ، والقائلون لما قد قيل للرسل أممهم.

والمعنى : ما يقال لك من قبل كفار قومك حيث أرسلت إليهم فدعوتهم فرموك بما رموك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي مثل ما قد قيل لهم.

وقوله : « إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ » في موضع التهديد والوعيد أي إن ربك ذو هاتين الصفتين أي فانظر أو فلينظروا ما ذا يصيبهم من ربهم وهم يقولون ما يقولونه لرسوله؟ أهو مغفرة أم عقاب؟ فالآية في معنى قوله : « اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » أي ما عملتم من حسنة أو سيئة أصابكم جزاؤه بعينه.

وقيل : المعنى ما يوحى إليك في أمر هؤلاء الذين كفروا بالذكر إلا ما قد أوحي للرسل من قبلك وهو أن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم فالمراد بالقول الوحي ، و « إِنَّ رَبَّكَ » إلخ بيان لما قد قيل.

قوله تعالى : « وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ » قال الراغب : العجمة خلاف الإبانة. قال : والعجم خلاف العرب والعجمي منسوب إليهم ، والأعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم. انتهى. فالأعجمي غير العربي البليغ سواء كان من غير أهل اللغة العربية أو كان منهم وهو غير مفصح للكنة في لسانه ، وإطلاق الأعجمي على الكلام كإطلاق العربي من المجاز.

فالمعنى : ولو جعلنا القرآن أعجميا غير مبين لمقاصده غير بليغ في نظمه لقال الذين كفروا من قومك : هلا فصلت وبينت آياته وأجزاؤه فانفصلت وبانت بعضها من بعض بالعربية والبلاغة أكتاب مرسل أعجمي ومرسل إليه عربي؟ أي يتنافيان ولا يتناسبان.

٣٩٩

وإنما قال : « عَرَبِيٌ » ولم يقل : عربيون أو عربية مع كون من أرسل إليه جمعا وهم جماعة العرب ، إذ القصد إلى مجرد العربية من دون خصوصية للكثرة بل المراد بيان التنافي بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحدا أو كثيرا.

قال في الكشاف : فإن قلت : كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب؟ قلت : هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا عجميا كتب إلى قوم من العرب يقول : كتاب أعجمي ومكتوب إليه عربي وذلك لأن مبني الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة فوجب أن يجرد لما سيق إليه من الغرض ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر ألا تراك تقول وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة : اللباس طويل واللابس قصير ولو قلت واللابس قصيرة جئت بما هو لكنة وفضول قول لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته إنما وقع في غرض وراءهما.

وقوله : « قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ » بيان أن أثر القرآن وخاصته لا يدور مدار لغته بل الناس تجاهه صنفان وهم الذين آمنوا والذين لا يؤمنون ، وهو هدى وشفاء للذين آمنوا يهديهم إلى الحق ويشفي ما في قلوبهم من مرض الشك والريب. وهو عمى على الذين لا يؤمنون ـ وهم الذين في آذانهم وقر ـ يعميهم فلا يبصرون الحق وسبيل الرشاد.

وفي توصيف الذين لا يؤمنون بأن في آذانهم وقرا إيماء إلى اعترافهم بذلك المنقول عنهم في أول السورة : « وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ».

وقوله : « أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ » أي فلا يسمعون الصوت ولا يرون الشخص وهو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة ولا يعقلون الحجة.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ » إلخ تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جحود قومه وكفرهم بكتابه.

وقوله : « وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ » الكلمة هي قوله : « وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ » الأعراف : ـ ٢٤.

وقوله : « وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ » أي في شك مريب من كتاب موسى عليه‌السلام. بيان حال قومه ليتسلى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يرى من قومه.

٤٠٠