الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

( كلام في قصص داود في فصول )

١ ـ قصته في القرآن : لم يقع من قصته في القرآن إلا إشارات فقد ذكر سبحانه أنه كان في جيش طالوت الملك حين حارب جالوت فقتل داود فأتاه الله الملك بعد طالوت والحكمة وعلمه مما يشاء « البقرة : ٢٥١ » وجعله خليفة له يحكم بين الناس وآتاه فصل الخطاب « ص : ٢٠ و ٢٦ » وقد أيد الله ملكه وسخر معه الجبال والطير يسبحن معه « الأنبياء : ٧٩ ، ص ١٩ » وألان له الحديد يعمل وينسج منه الدروع « الأنبياء : ٨٠ سبأ : ١١ ».

٢ ـ جميل الثناء عليه في القرآن. عده سبحانه من الأنبياء وأثنى عليه بما أثنى عليهم وخصه بقوله : « وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً » « النساء : ـ ١٦٣ » وآتاه فضلا وعلما « سبأ : ١٠ النمل : ١٥ » وآتاه الحكمة وفصل الخطاب وجعله خليفة في الأرض « ص : ٢٠ و ٢٦ » ووصفه بأنه أواب وإن له عنده لزلفى وحسن مآب « ص : ١٩ و ٢٥ ».

٣ ـ التدبر في آيات الكتاب المتعرضة لقصة دخول المتخاصمين على داود عليه‌السلام لا يعطي أزيد من كونه امتحانا منه تعالى له عليه‌السلام في ظرف التمثل ليربيه تربية إلهية ويعلمه رسم القضاء العدل فلا يجور في الحكم ولا يعدل عن العدل.

وأما ما تضمنته غالب الروايات من قصة أوريا وامرأته فهو مما يجل عنه الأنبياء ويتنزه عنه ساحتهم وقد تقدم في بيان الآيات والبحث الروائي محصل الكلام في ذلك.

* * *

( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ـ ٣٠. إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ـ ٣١. فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ـ ٣٢. رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ

٢٠١

مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ـ ٣٣. وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ـ ٣٤. قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ـ ٣٥. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ـ ٣٦. وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ـ ٣٧. وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ـ ٣٨. هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ـ ٣٩. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ـ ٤٠. )

( بيان )

القصة الثانية من قصص العباد الأوابين التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصبر ويذكرها.

قوله تعالى : « وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » أي وهبناه له ولدا والباقي ظاهر مما تقدم.

قوله تعالى : « إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ » العشي مقابل الغداة وهو آخر النهار بعد الزوال ، والصافنات على ما في المجمع ، جمع الصافنة من الخيل وهي التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع إحدى يديها حتى تكون على طرف الحافر. قال : والجياد جمع جواد والياء هاهنا منقلبة عن واو والأصل جواد وهي السراع من الخيل كأنها تجود بالركض. انتهى.

قوله تعالى : « فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ » الضمير لسليمان ، والمراد بالخير : الخيل ـ على ما قيل ـ فإن العرب تسمي الخيل خيرا وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة.

٢٠٢

وقيل : المراد بالخير المال الكثير وقد استعمل بهذا المعنى في مواضع من كلامه تعالى كقوله : « إِنْ تَرَكَ خَيْراً » البقرة : ـ ١٨٠.

وقوله : « إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي » قالوا : إن « أَحْبَبْتُ » مضمن معنى الإيثار و « عَنْ » بمعنى على ، والمراد إني آثرت حب الخيل على ذكر ربي وهو الصلاة محبا إياه أو أحببت الخيل حبا مؤثرا إياه على ذكر ربي ـ فاشتغلت بما عرض علي من الخيل عن الصلاة حتى غربت الشمس.

وقوله : « حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ » الضمير على ما قالوا للشمس والمراد بتواريها بالحجاب غروبها واستتارها تحت حجاب الأفق ، ويؤيد هذا المعنى ذكر العشي في الآية السابقة إذ لو لا ذلك لم يكن غرض ظاهر يترتب على ذكر العشي.

فمحصل معنى الآية أني شغلني حب الخيل ـ حين عرض الخيل علي ـ عن الصلاة حتى فات وقتها بغروب الشمس ، وإنما كان يحب الخيل في الله ليتهيأ به للجهاد في سبيل الله فكان الحضور للعرض عبادة منه فشغلته عبادة عن عبادة غير أنه يعد الصلاة أهم.

وقيل : ضمير « تَوارَتْ » للخيل وذلك أنه أمر بإجراء الخيل فشغله النظر في جريها حتى غابت عن نظره وتوارت بحجاب البعد ، وقد تقدم أن ذكر العشي يؤيد المعنى السابق ولا دليل على ما ذكره من حديث الأمر بالجري من لفظ الآية.

قوله تعالى : « رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ » قيل : الضمير في « رُدُّوها » للشمس وهو أمر منه للملائكة برد الشمس ليصلي صلاته في وقتها ، وقوله : « فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ » أي شرع يمسح ساقيه وعنقه ويأمر أصحابه أن يمسحوا سوقهم وأعناقهم وكان ذلك وضوءهم ثم صلى وصلوا ، وقد ورد ذلك في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام.

وقيل : الضمير للخيل والمعنى قال : ردوا الخيل فلما ردت. شرع يمسح مسحا بسوقها وأعناقها ويجعلها مسبلة في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة.

وقيل : الضمير للخيل والمراد بمسح أعناق الخيل وسوقها ضربها بالسيف وقطعها والمسح القطع فهو عليه‌السلام غضب عليها في الله لما شغلته عن ذكر الله فأمر بردها ثم ضرب بالسيف أعناقها وسوقها فقتلها جميعا.

٢٠٣

وفيه أن مثل هذا الفعل مما تتنزه ساحة الأنبياء عليهم‌السلام عن مثله فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتى تؤاخذ بأشد المؤاخذة فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم.

وأما استدلال بعضهم عليه برواية أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : في قوله تعالى : ( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) ـ قطع سوقها وأعناقها بالسيف

ثم أضاف إليها وقد جعلها بذلك قربانا لله وكان تقريب الخيل مشروعا في دينه فليس من التقريب ذكر في الحديث ولا في غيره.

على أنه عليه‌السلام لم يشتغل عن العبادة بالهوى بل شغلته عبادة عن عبادة كما تقدمت الإشارة إليه.

فالمعول عليه هو أول الوجوه إن ساعده لفظ الآية وإلا فالوجه الثاني.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ » الجسد هو الجسم الذي لا روح فيه.

قيل : المراد بالجسد الملقى على كرسيه هو سليمان نفسه لمرض امتحنه الله به وتقدير الكلام ألقيناه على كرسيه جسدا أي كجسد لا روح فيه من شدة المرض.

وفيه أن حذف الضمير من « ألقيناه » وإخراج الكلام على صورته التي في الآية الظاهرة في أن الملقى هو الجسد مخل بالمعنى المقصود لا يجوز حمل أفصح الكلام عليه.

ولسائر المفسرين أقوال مختلفة في المراد من الآية تبعا للروايات المختلفة الواردة فيها والذي يمكن أن يؤخذ من بينها إجمالا أنه كان جسد صبي له أماته الله وألقى جسده على كرسيه ، ولقوله : « ثُمَّ أَنابَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي » إشعار أو دلالة على أنه كان له عليه‌السلام فيه رجاء أو أمنية في الله فأماته الله سبحانه وألقاه على كرسيه فنبهه أن يفوض الأمر إلى الله ويسلم له.

قوله : « قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ » ظاهر السياق أن الاستغفار مرتبط بما في الآية السابقة من إلقاء الجسد على كرسيه ، والفصل لكون الكلام في محل دفع الدخل كأنه لما قيل : « ثُمَّ أَنابَ » قيل : فما ذا قال؟ فقيل : ( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ) » إلخ.

٢٠٤

وربما استشكل في قوله : « وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي » أن فيه ضنا وبخلا ، فإن فيه اشتراط أن لا يؤتى مثل ما أوتيه من الملك لأحد من العالمين غيره.

ويدفعه أن فيه سؤال ملك يختص به لا سؤال أن يمنع غيره عن مثل ما آتاه ويحرمه ففرق بين أن يسأل ملكا اختصاصيا وأن يسأل الاختصاص بملك أوتيه.

قوله تعالى : « فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ » متفرع على سؤاله الملك وإخباره عن إجابة دعوته وبيان الملك الذي لا ينبغي لأحد غيره وهو تسخير الريح والجن.

والرخاء بالضم اللينة والظاهر أن المراد بكون الريح تجري بأمره رخاء مطاوعتها لأمره وسهولة جريانها على ما يريده عليه‌السلام فلا يرد أن توصيف الريح هاهنا بالرخاء يناقض توصيفه في قوله : « وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ » الأنبياء : ـ ٨١ بكونها عاصفة.

وربما أجيب عنه بأن من الجائز أن يجعلها الله رخوة تارة وعاصفة أخرى حسب ما أراد سليمان عليه‌السلام.

وقوله : « حَيْثُ أَصابَ » أي حيث شاء سليمان عليه‌السلام وقصد وهو متعلق بتجري.

قوله تعالى : « وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ » أي وسخرنا له الشياطين من الجن كل بناء منهم يبني له في البر وكل غواص يعمل له في البحر فيستخرج اللئالئ وغيرها.

قوله تعالى : « وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ » الأصفاد جمع صفد وهو الغل من الحديد ، والمعنى سخرنا له آخرين منهم مجموعين في الأغلال مشدودين بالسلاسل.

قوله تعالى : « هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ » أي هذا الذي ذكر من الملك عطاؤنا لك بغير حساب والظاهر أن المراد بكونه بغير حساب أنه لا ينفد بالعطاء والمن ولذا قيل : « فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ » أي أنهما يستويان في عدم التأثير فيه.

وقيل : المراد بغير حساب أنك لا تحاسب عليه يوم القيامة ، وقيل : المراد أن إعطاءه تفضل لا مجازاة وقيل غير ذلك.

قوله تعالى : « وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ » تقدم معناه.

٢٠٥

( بحث روائي )

وفي المجمع في قوله تعالى : « فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي » الآية ـ قيل : إن هذه الخيل ـ كانت شغلته عن صلاة العصر حتى فات وقتها : عن علي (ع) وفي رواية أصحابنا : أنه فاته أول الوقت.

وفيه ، قال ابن عباس : سألت عليا عن هذه الآية ـ فقال : ما بلغك فيها يا ابن عباس؟ قلت : سمعت كعبا يقول : اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتى فاتته الصلاة ـ فقال : ردوها علي يعني الأفراس وكانت أربعة عشر ـ فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها ـ فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما ـ لأنه ظلم الخيل بقتلها ـ.

فقال علي : كذب كعب ـ لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم ـ لأنه أراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب ـ فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس : ردوها علي فردت فصلى العصر في وقتها ـ وإن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم ـ لأنهم معصومون مطهرون.

أقول : وقول كعب الأحبار : فسلبه الله ملكه إشارة إلى حديث الخاتم الذي سنشير إليه.

وفي الفقيه ، روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : إن سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل ـ فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب ـ فقال للملائكة : ردوا الشمس علي حتى أصلي صلاتي في وقتها ـ فردوها فقام ومسح ساقيه وعنقه بمثل ذلك ـ وكان ذلك وضوءهم للصلاة ـ ثم قام فصلى فلما فرغ غابت الشمس وطلعت النجوم ، وذلك قول الله عز وجل : « وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ـ إلى قوله ـ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ».

أقول : والرواية لا بأس بها لو ساعد لفظ الآية أعني قوله : « فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ » على ما فيها من المعنى ، وأما مسألة رد الشمس فلا إشكال فيه بعد ثبوت إعجاز الأنبياء ، وقد ورد ردها لغيره عليه‌السلام كيوشع بن نون وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام في النقل المعتبر ولا يعبأ بما أورده الرازي في تفسيره الكبير.

وأما عقره عليه‌السلام الخيل وضربه أعناقها بالسيف فقد روي في ذلك عدة روايات

٢٠٦

من طرق أهل السنة وأورده القمي في تفسيره ، وكأنها تنتهي إلى كعب كما مر في رواية ابن عباس المتقدمة وكيف كان فلا يعبأ بها كما تقدم.

وقد بلغ من إغراقهم في القصة أن رووا أن الخيل كانت عشرين ألف فرس ذات أجنة ومثله ما روي في قوله : ( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) عن كعب أنه حجاب من ياقوتة خضراء محيط بالخلائق منه اخضرت السماء.

ومثل هذه الروايات أعاجيب من القصص رووها في قوله تعالى : « وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً » الآية

كما روي : أنه ولد له ولد فأمر بإرضاعه ـ وحفظه في السحاب إشفاقا عليه من مردة الجن ـ وفي بعضها خوفا عليه من ملك الموت ـ فوقع يوما جسده على كرسيه ميتا.

وما روي : أنه قال يوما : لأطوفن الليلة بمائة امرأة من نسائي ـ تلد لي كل واحدة منهن لي فارسا يجاهد في سبيل الله ـ ولم يستثن فلم تحمل منهن إلا واحدة بشق من ولد ـ وكان يحبه فخبأه له بعض الجن من ملك الموت ـ فأخذه من مخبئه وقبضه على كرسي سليمان.

وما روي في روايات كثيرة تنتهي عدة منها إلى ابن عباس وهو يصرح في بعضها أنه أخذه عن كعب: أن ملك سليمان كان في خاتمه ـ فتخطفه شيطان منه فزال ملكه ـ وتسلط الشيطان على ملكه أياما ـ ثم أعاد الله الخاتم إليه ـ فعاد إلى ما كان عليه من الملك ، وقد أوردوا في القصة أمورا ينبغي أن تنزه ساحة الأنبياء عليهم‌السلام عن ذكرها فضلا عن نسبتها إليهم. قالوا : وجلوس الشيطان على كرسي سليمان هو المراد بقوله تعالى : « وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً » الآية.

فهذه (١) كلها مما لا يعبأ بها على ما تقدمت الإشارة إليه وإنما هي مما لعبت بها أيدي الوضع.

* * *

( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ

__________________

(١) ليراجع في الحصول على عامة هذه الروايات الدر المنثور.

٢٠٧

وَعَذابٍ ـ ٤١. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ـ ٤٢. وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ـ ٤٣. وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ـ ٤٤. وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ـ ٤٥. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ـ ٤٦. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ـ ٤٧. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ـ ٤٨. )

( بيان )

القصة الثالثة مما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصبر ويذكرها وهي قصة أيوب النبي عليه‌السلام وما ابتلي به من المحنة ثم أكرمه الله بالعافية والعطية. ثم الأمر بذكر إبراهيم وخمسة من ذريته من الأنبياء عليهم‌السلام.

قوله تعالى : « وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ » دعاء منه عليه‌السلام وسؤال للعافية وأن يكشف عنه ربه ما أصابه من سوء الحال ، ولم يصرح بما يريده ويسأله تواضعا وتذللا غير أن نداءه تعالى بلفظ ربي يشعر بأنه يناديه لحاجة.

والنصب التعب ، وقوله : « إِذْ نادى » إلخ بدل اشتمال من « عَبْدَنا » أو « أَيُّوبَ » وقوله : « أَنِّي مَسَّنِيَ » إلخ حكاية ندائه.

والظاهر من الآيات التالية أن مراده من النصب والعذاب ما أصابه من سوء الحال في بدنه وأهله وهو الذي ذكره عنه عليه‌السلام في سورة الأنبياء من ندائه ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) بناء على شمول الضر مصيبته في نفسه وأهله ولم يشر في هذه السورة ولا في سورة الأنبياء إلى ذهاب ماله وإن وقع ذكر المال في الروايات.

٢٠٨

والظاهر أن المراد من مس الشيطان له بالنصب والعذاب استناد نصبه وعذابه من الشيطان بنحو من السببية والتأثير وهو الذي يظهر من الروايات ، ولا ينافي استناد المرض ونحوه إلى الشيطان استناده أيضا إلى بعض الأسباب العادية الطبيعية لأن السببين ليسا عرضيين متدافعين بل أحدهما في طول الآخر وقد أوضحنا ذلك في تفسير قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ » الأعراف : ـ ٩٦ في الجزء الثامن من الكتاب.

ولا دليل يدل على امتناع وقوع هذا النوع من التأثير للشيطان في الإنسان وقد قال تعالى : « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » المائدة : ـ ٩٠ فنسبها أنفسها إليه ، وقال حاكيا عن موسى عليه‌السلام : « هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » القصص : ـ ١٥ يشير إلى الاقتتال.

ولو أغمض عن الروايات أمكن أن يحتمل أن يكون المراد بانتساب ذلك إلى الشيطان إغراؤه الناس بوسوسته أن يتجنبوا من الاقتراب منه وابتعادهم وطعنهم فيه أن لو كان نبيا لم تحط به البلية من كل جانب ولم يصر إلى ما صار إليه من العاقبة السوأى وشماتتهم واستهزائهم به.

وقد أنكر في الكشاف ، ما تقدم من الوجه قائلا : لا يجوز أن يسلط الله الشيطان على أنبيائه عليه‌السلام ليقضي من تعذيبهم وإتعابهم وطره ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب. انتهى.

وفيه أن الذي يخص الأنبياء وأهل العصمة أنهم لمكان عصمتهم في أمن من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة ، وأما تأثيره في أبدانهم وسائر ما ينسب إليهم بإيذاء أو إتعاب أو نحو ذلك من غير إضلال فلا دليل يدل على امتناعه ، وقد حكى الله سبحانه عن فتى موسى وهو يوشع النبي عليه‌السلام : « فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ » الكهف : ـ ٦٣.

ولا يلزم من تسلطه على نبي بالإيذاء والإتعاب لمصلحة تقتضيه كظهور صبره في

٢٠٩

الله سبحانه وأوبته إليه أن يقدر على ما يشاء فيمن يشاء من عباد الله تعالى إلا أن يشاء الله ذلك وهو ظاهر.

قوله تعالى : « ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ » وقوع الآية عقيب ندائه ومسألته يعطي أنه إيذان باستجابة دعائه وأن قوله تعالى : « ارْكُضْ بِرِجْلِكَ » إلخ حكاية لما أوحي إليه عند الكشف عن الاستجابة أو هو بإضمار القول والتقدير فاستجبنا له وقلنا : اركض « إلخ » وسياق الأمر مشعر بل كاشف عن أنه كان لا يقدر على القيام والمشي بقدميه وكان مصابا في سائر بدنه فأبرأ الله ما في رجليه من ضر وأظهر له عينا هناك وأمره أن يغتسل منها ويشرب حتى يبرأ ظاهر بدنه وباطنه ويتأيد بذلك ما سيأتي من الرواية.

وفي الكلام إيجاز بالحذف والتقدير فركض برجله واغتسل وشرب فبرأه الله من مرضه.

قوله تعالى : « وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ » ورد في الرواية أنه ابتلي فيما ابتلي بموت جميع أهله إلا امرأته وأن الله أحياهم له ووهبهم له ومثلهم معهم ، وقيل : إنهم كانوا قد تفرقوا عنه أيام ابتلائه فجمعهم الله إليه بعد برئه وتناسلوا فكانوا مثلي ما كانوا عددا.

وقوله : « رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ » مفعول له أي فعلنا به ما فعلنا ليكون رحمة منا وذكرى لأولي الألباب يتذكرون به.

قوله تعالى : « وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » في المجمع : الضغث ملء الكف من الشجرة والحشيش والشماريخ ونحو ذلك انتهى ، وكان عليه‌السلام قد حلف لئن عوفي أن يجلد امرأته مائة جلدة لأمر أنكره عليها على ما سيأتي من الرواية فلما عافاه الله تعالى أمره أن يأخذ بيده ضغثا بعدد ما حلف عليه من الجلدات فيضربها به ولا يحنث.

وفي سياق الآية تلويح إلى ذلك وإنما طوي ذكر المرأة وسبب الحلف تأدبا ورعاية لجانبه.

وقوله : « إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً » أي فيما ابتليناه به من المرض وذهاب الأهل والمال ،

٢١٠

والجملة تعليل لقوله : « وَاذْكُرْ » أو لقوله : « عَبْدَنا » أي لتسميته عبدا وإضافته إليه تعالى ، والأول أولى.

وقوله : « نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » مدح له عليه‌السلام.

قوله تعالى : « وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ » مدحهم بتوصيفهم بأن لهم الأيدي والأبصار ويد الإنسان وبصره إنما يمدحان إذا كانا يد إنسان وبصر إنسان واستعملا فيما خلقا له وخدما الإنسان في إنسانيته فتكتسب اليد صالح العمل ويجري منها الخير على الخلق ويميز البصر طرق العافية والسلامة من موارد الهلكة ويصيب الحق ولا يلتبس عليه الباطل.

فيكون كونهم أولي الأيد والأبصار كناية عن قوتهم في الطاعة وإيصال الخير وتبصرهم في إصابة الحق في الاعتقاد والعمل وقد جمع المعنيين في قوله تعالى : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ » الأنبياء : ـ ٧٣ فجعلهم أئمة والأمر والوحي لأبصارهم وفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لأيديهم (١) وإليه يئول ما في الرواية من تفسير ذلك بأولي القوة في العبادة والبصر فيها.

قوله تعالى : « إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ » الخالصة وصف قائم مقام موصوفه ، والباء للسببية والتقدير بسبب خصلة خالصة ، و ( ذِكْرَى الدَّارِ ) بيان للخصلة والدار هي الدار الآخرة.

والآية أعني قوله : « إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ » إلخ لتعليل ما في الآية السابقة من قوله : « أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ » أو لقوله : « عِبادَنا » أو لقوله : « وَاذْكُرْ » وأوجه الوجوه أولها ، وذلك لأن استغراق الإنسان في ذكرى الدار الآخرة وجوار رب العالمين وركوز همه فيها يلازم كمال معرفته في جنب الله تعالى وإصابة نظره في حق الاعتقاد والتبصر في سلوك سبيل العبودية والتخلص عن الجمود على ظاهر الحياة الدنيا وزينتها كما هو شأن أبنائها قال تعالى

__________________

(١) رواها القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام.

٢١١

: « فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ » النجم : ـ ٣٠.

ومعنى الآية وإنما كانوا أولي الأيدي والأبصار لأنا أخلصناهم بخصلة خالصة غير مشوبة عظيمة الشأن هي ذكرى الدار الآخرة.

وقيل : المراد بالدار هي الدنيا والمراد بالآية بقاء ذكرهم الجميل في الألسن ما دامت الدنيا كما قال تعالى : « وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ـ إلى أن قال ـ وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا » مريم : ـ ٥٠ والوجه السابق أوجه.

قوله تعالى : « وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ » تقدم أن الاصطفاء يلازم الإسلام التام لله سبحانه ، وفي الآية إشارة إلى قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ » آل عمران : ـ ٣٣.

والأخيار جمع خير مقابل الشر على ما قيل ، وقيل : جمع خير بالتشديد أو التخفيف كأموات جمع ميت بالتشديد أو بالتخفيف.

قوله تعالى : « وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ » معناه ظاهر.

( كلام في قصة أيوب عليه‌السلام في فصول )

١ ـ قصته في القرآن : لم يذكر من قصته في القرآن إلا ابتلاؤه بالضر في نفسه وأولاده ثم تفريجه تعالى بمعافاته وإيتائه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى للعابدين « الأنبياء : ٨٣ ـ ٨٤. ص : ٤١ ـ ٤٤ ».

٢ ـ جميل ثنائه : ذكره تعالى في زمرة الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه‌السلام في سورة الأنعام وأثنى عليهم بكل ثناء جميل « الأنعام : ٨٤ ـ ٩٠ » وذكره في سورة ص فعده صابرا ونعم العبد وأوابا « ص : ٤٤ ».

قصته في الروايات : في تفسير القمي ، حدثني أبي عن ابن فضال عن عبد الله بن بحر عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن بلية أيوب التي ابتلي بها في الدنيا ـ لأي علة كانت؟ قال : لنعمة أنعم الله عز وجل عليه بها في الدنيا ـ وأدى شكرها ـ وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش ـ فلما صعد ورأى

٢١٢

شكر نعمة أيوب حسده إبليس.

فقال : يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة ـ إلا بما أعطيته من الدنيا ـ ولو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبدا ـ فسلطني على دنياه ـ حتى تعلم أنه لم يؤد إليه شكر نعمة أبدا ـ فقيل له : قد سلطتك على ماله وولده ـ.

قال : فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولدا إلا أعطبه ـ فازداد أيوب لله شكرا وحمدا ، وقال : فسلطني على زرعه يا رب. قال : قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق ـ فازداد أيوب لله شكرا وحمدا ـ فقال : يا رب سلطني على غنمه فأهلكها ـ فازداد أيوب لله شكرا وحمدا ـ.

فقال : يا رب سلطني على بدنه ـ فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه ـ فنفخ فيه إبليس ـ فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه ـ فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره ـ حتى وقع في بدنه الدود فكانت تخرج من بدنه ـ فيردها فيقول لها : ارجعي إلى موضعك الذي خلقك الله منه ، ونتن حتى أخرجه أهل القرية من القرية ـ وألقوه في المزبلة خارج القرية ـ.

وكانت امرأته رحمة بنت أفراييم ـ بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ـ وعليها يتصدق من الناس وتأتيه بما تجده ـ.

قال : فلما طال عليه البلاء ورأى إبليس صبره ـ أتى أصحابا لأيوب كانوا رهبانا في الجبال وقال لهم : مروا بنا إلى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته ـ فركبوا بغالا شهبا وجاءوا ـ فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه ـ فنظر بعضهم إلى بعض ثم مشوا إليه ـ وكان فيهم شاب حدث السن فقعدوا إليه فقالوا : يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله يهلكنا إذا سألناه ، وما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد ـ إلا من أمر كنت تستره ـ.

فقال أيوب : وعزة ربي إنه ليعلم أني ما أكلت طعاما ـ إلا ويتيم أو ضعيف يأكل معي ، وما عرض لي أمران كلاهما طاعة الله ـ إلا أخذت بأشدهما على بدني. فقال الشاب : سوأة لكم عيرتم نبي الله ـ حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها ـ.

فقال أيوب : يا رب ـ لو جلست مجلس الحكم منك لأدليت بحجتي ـ فبعث الله إليه

٢١٣

غمامة فقال : يا أيوب أدل بحجتك فقد أقعدتك مقعد الحكم ـ وها أنا ذا قريب ولم أزل ـ.

فقال : يا رب إنك لتعلم أنه لم يعرض لي أمران قط ـ كلاهما لك طاعة إلا أخذت بأشدهما على نفسي. ألم أحمدك؟ ألم أشكرك؟ ألم أسبحك؟ ـ.

قال : فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان : يا أيوب من صيرك تعبد الله والناس عنه غافلون؟ وتحمده وتسبحه وتكبره والناس عنه غافلون؟ أتمن على الله بما لله فيه المنة عليك؟ قال : فأخذ التراب ووضعه في فيه ـ ثم قال : لك العتبى يا رب أنت فعلت ذلك بي ـ.

فأنزل الله عليه ملكا فركض برجله فخرج الماء ـ فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان وأطرأ ، وأنبت الله عليه روضة خضراء ، ورد عليه أهله وماله وولده وزرعه ـ وقعد معه الملك يحدثه ويؤنسه ـ.

فأقبلت امرأته معها الكسرة ـ (١) فلما انتهت إلى الموضع إذا الموضع متغير ـ وإذا رجلان جالسان فبكت وصاحت وقالت : يا أيوب ما دهاك؟ فناداها أيوب فأقبلت ـ فلما رأته وقد رد الله عليه بدنه ونعمه ـ سجدت لله شكرا. فرأى ذؤابتها مقطوعة ـ وذلك أنها سألت قوما أن يعطوها ما تحمله إلى أيوب ـ من الطعام وكانت حسنة الذوائب ـ فقالوا لها : تبيعينا ذؤابتك هذه حتى نعطيك؟ فقطعتها ودفعتها إليهم وأخذت منهم طعاما لأيوب ، فلما رآها مقطوعة الشعر غضب ـ وحلف عليها أن يضربها مائة ـ فأخبرته أنه كان سببه كيت وكيت. فاغتم أيوب من ذلك فأوحى الله عز وجل إليه « خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ » فأخذ عذقا مشتملا على مائة شمراخ ـ فضربها ضربة واحدة فخرج من يمينه.

أقول : وروي عن ابن عباس ما يقرب منه ، وعن وهب أن امرأته كانت بنت ميشا بن يوسف ، والرواية ـ كما ترى ـ تذكر ابتلاءه بما تتنفر عنه الطباع وهناك من الروايات ما يؤيد ذلك لكن بعض الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام ينفي ذلك وينكره أشد الإنكار كما يأتي.

وعن الخصال : القطان عن السكري عن الجوهري عن ابن عمارة عن أبيه عن

__________________

(١) الكسرة القطعة من الخبز.

٢١٤

جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام قال : إن أيوب عليه‌السلام ابتلي سبع سنين من غير ذنب ـ وإن الأنبياء لا يذنبون لأنهم معصومون مطهرون ـ لا يذنبون ولا يزيغون ـ ولا يرتكبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا ـ.

وقال : إن أيوب من جميع ما ابتلي به ـ لم تنتن له رائحة ، ولا قبحت له صورة ـ ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح ، ولا استقذره أحد رآه ، ولا استوحش منه أحد شاهده ، ولا تدود شيء من جسده ـ وهكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبتليه ـ من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه ـ.

وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره ـ لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره من التأييد والفرج ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ـ.

وإنما ابتلاه الله بالبلاء العظيم ـ الذي يهون معه على جميع الناس ـ لئلا يدعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله ـ أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه ، وليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله على ضربين : استحقاق واختصاص ، ولئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه ولا فقيرا لفقره ـ ولا مريضا لمرضه ، وليعلموا أنه يسقم من يشاء ، ويشفي من يشاء ـ متى شاء كيف شاء ، بأي سبب شاء ـ ويجعل ذلك عبرة لمن شاء ، وشقاوة لمن شاء ، وسعادة لمن شاء ، وهو عز وجل في جميع ذلك عدل في قضائه ـ وحكيم في أفعاله ـ لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ولا قوة لهم إلا به.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ » الآية ـ قال : فرد الله عليه أهله الذين ماتوا قبل البلاء ، ورد عليه أهله الذين ماتوا بعد ما أصابهم البلاء ـ كلهم أحياهم الله له فعاشوا معه ـ.

وسئل أيوب بعد ما عافاه الله : أي شيء كان أشد عليك مما مر؟ فقال : شماتة الأعداء.

وفي المجمع في قوله تعالى : « أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ » الآية ـ قيل : إنه اشتد مرضه حتى تجنبه الناس ـ فوسوس الشيطان إلى الناس أن يستقذروه ـ ويخرجوه من بينهم ـ ولا يتركوا امرأته التي تخدمه أن تدخل عليهم ـ فكان أيوب يتأذى بذلك ويتألم به ـ ولم يشك

٢١٥

الألم الذي كان من أمر الله سبحانه. قال قتادة : دام ذلك سبع سنين: وروي ذلك عن أبي عبد الله (ع).

( خبر اليسع وذي الكفل عليه‌السلام )

ذكر سبحانه اسمهما في كلامه وعدهما من الأنبياء وأثنى عليهما وعدهما من الأخيار « ص : ٤٨ » وعد ذا الكفل من الصابرين « الأنبياء : ٨٥ » ولهما ذكر في الأخبار.

ففي البحار ، عن الإحتجاج والتوحيد والعيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا عليه‌السلام فيما احتج به على جاثليق النصارى أن قال عليه‌السلام : إن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه‌السلام ـ مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ـ فلم يتخذه أمته ربا ، الخبر.

وعن قصص الأنبياء : الصدوق عن الدقاق عن الأسدي عن سهل عن عبد العظيم الحسني قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني ـ أسأله عن ذي الكفل ما اسمه؟ وهل كان من المرسلين؟.

فكتب عليه‌السلام بعث الله جل ذكره ـ مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي.

مرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وإن ذا الكفل منهم ، وكان بعد سليمان بن داود ، وكان يقضي بين الناس كما كان يقضي داود ، ولم يغضب إلا لله عز وجل وكان اسمه عويديا ـ وهو الذي ذكره الله جلت عظمته في كتابه حيث قال : « وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ».

أقول : وهناك روايات متفرقة أخر في قصصهما عليه‌السلام تركنا إيرادها لضعفها وعدم الاعتماد عليها.

٢١٦

* * *

( هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ـ ٤٩. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ـ ٥٠. مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ ـ ٥١. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ـ ٥٢. هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ـ ٥٣. إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ـ ٥٤. هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ـ ٥٥. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ ـ ٥٦. هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ـ ٥٧. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ ـ ٥٨. هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ ـ ٥٩. قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ ـ ٦٠. قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ـ ٦١. وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ـ ٦٢. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ـ ٦٣. إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ـ ٦٤. )

( بيان )

فصل آخر من الكلام يبين فيه مآل أمر المتقين والطاغين تبشيرا وإنذارا.

قوله تعالى : « هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ » الإشارة بهذا إلى ما ذكر من قصص الأوابين من الأنبياء الكرام عليه‌السلام ، والمراد بالذكر الشرف والثناء الجميل أي هذا الذي ذكر شرف وذكر جميل وثناء حسن لهم يذكرون به في الدنيا أبدا ولهم حسن مآب من ثواب الآخرة. كذا قالوا.

٢١٧

وعلى هذا فالمراد بالمتقين هم المذكورون من الأنبياء بالخصوص أو عموم أهل التقوى وهم داخلون فيهم ويكون ذكر مآب الطاغين بعد من باب الاستطراد.

والظاهر أن الإشارة بهذا إلى القرآن والمراد بالذكر ما يشتمل عليه من الذكر وفي الكلام عود إلى ما بدئ به في السورة من قوله « وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » فهو فصل من الكلام يذكر فيه الله سبحانه ما في الدار الآخرة من ثواب المتقين وعقاب الطاغين.

وقوله : « وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ » المآب المرجع والتنكير للتفخيم ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ » أي جنات استقرار وخلود وكون الأبواب مفتحة لهم كناية عن أنهم غير ممنوعين عن شيء من النعم الموجودة فيها فهي مهيأة لهم مخلوقة لأجلهم ، وقيل : المراد أن أبوابها مفتحة لهم لا تحتاج إلى الوقوف وراءها ودقها ، وقيل : المراد أنها تفتح بغير مفتاح وتغلق بغير مغلاق.

والآية وما بعدها بيان لحسن مآبهم.

قوله تعالى : « مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ » أي حال كونهم جالسين فيها بنحو الاتكاء والاستناد جلسة الأعزة والأشراف.

وقوله : « يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ » إلخ أي يتحكمون فيها بدعوة الفاكهة وهي كثيرة والشراب فإذا دعيت فاكهة أو دعي شراب أجابهم المدعو فأتاهم من غير حاجة إلى من يحمله ويناوله.

قوله تعالى : « وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ » الضمير للمتقين وقاصرات الطرف صفة قائمة مقام الموصوف والتقدير وعندهم أزواج قاصرات الطرف والمراد قصور طرفهن على أزواجهن يرضين بهم ولا يرون غيرهم أو هو كناية عن كونهن ذوات غنج ودلال.

والأتراب الأقران أي أنهن أمثال لا يختلفن سنا أو جمالا أو أنهن أمثال لأزواجهن فكلما زادوا نورا وبهاء زدن حسنا وجمالا.

قوله تعالى : « هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ » الإشارة إلى ما ذكر من الجنة ونعيمها ، والخطاب للمتقين ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب والنكتة فيه

٢١٨

إظهار القرب منهم والإشراف عليهم ليكمل نعمهم الصورية بهذه النعمة المعنوية.

قوله تعالى : « إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ » النفاد الفناء والانقطاع ، والآية من تمام الخطاب الذي في الآية السابقة على ما يعطيه السياق.

قوله تعالى : « هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ » الإشارة بهذا إلى ما ذكر من مقام المتقين أي هذا ما للمتقين من المآب ، ويمكن أن يكون هذا اسم فعل أي خذ هذا.

والباقي ظاهر.

قوله تعالى : « جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ » الصلي دخول النار ومقاساة حرارتها أو اتباعها والمهاد ـ على ما في المجمع ، ـ الفراش الموطأ يقال : مهدت له تمهيدا مثل وطأت له توطئة ، والآية وما بعدها تفسير لمآب الطاغين.

قوله تعالى : « هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ » الحميم الحار الشديد الحرارة الغساق ـ على ما في المجمع ، ـ قيح شديد النتن ، وفسر بتفاسير أخر ، وقوله : « حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ » بيان لهذا ، وقوله : « فَلْيَذُوقُوهُ » دال على إكراههم وحملهم على ذوقه وتقديم المخبر عنه وجعله اسم إشارة يؤكد ذلك ، والمعنى هذا حميم وغساق عليهم أن يذوقوه ليس إلا.

قوله تعالى : « وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ » شكل الشيء ما يشابهه وجنسه والأزواج الأنواع والأقسام أي وهذا آخر من جنس الحميم والغساق أنواع مختلفة ليذوقوها.

قوله تعالى : « هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ـ إلى قوله ـ فِي النَّارِ » الآيات الثلاث ـ على ما يعطيه السياق ـ حكاية ما يجري بين التابعين والمتبوعين من الطاغين في النار من التخاصم والمجاراة.

فقوله : « هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ » خطاب يخاطب به المتبوعون يشار به إلى التابعين الذين يدخلون النار مع المتبوعين فوجا ، والاقتحام الدخول في الشيء بشدة وصعوبة.

وقوله : « لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ » جواب المتبوعين لمن يخاطبهم بقوله : « هذا فَوْجٌ » ومرحبا تحية للوارد معناه عرض رحب الدار وسعتها له فقولهم : « لا مَرْحَباً بِهِمْ » معناه نفي الرحب والسعة عنهم. وقولهم : « إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ » أي داخلوها ومقاسو حرارتها أو متبعوها تعليل لتحيتهم بنفي التحية.

٢١٩

وقوله : « قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ » نقل كلام التابعين وهم القائلون يردون إلى متبوعيهم نفي التحية ويذمون القرار في النار.

قوله تعالى : « قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ » لم يذكر تعالى جواب المتبوعين لقولهم : « أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا » إلخ وقد ذكره في سورة الصافات فيما حكى من تساؤلهم بقوله : « قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ » الخ : الآية ـ ٣٠ فقولهم : « رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ » كلامهم بعد الانقطاع عن المخاصمة.

وجملة « مَنْ قَدَّمَ » إلخ شرط وجزاء ، والضعف المثل و « عَذاباً ضِعْفاً » أي ذا ضعف ومثل أي ضعفين من العذاب.

قوله تعالى : « وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ » القائلون ـ على ما يعطيه السياق ـ مطلق أهل النار ، ومرادهم بالرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار المؤمنون وهم في الجنة فيطلبهم أهل النار فلا يجدونهم فيها.

قوله تعالى : « أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ » أي اتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا وقد كانوا ناجين أم عدلت أبصارنا فلا نراهم وهم معنا في النار.

قوله تعالى : « إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ » إشارة إلى ما حكي من تخاصمهم وبيان أن تخاصم أهل النار ثابت واقع لا ريب فيه وهو ظهور ما استقر في نفوسهم في الدنيا من ملكة التنازع والتشاجر.

* * *

( قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ـ ٦٥. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ـ ٦٦. قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ـ ٦٧. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ـ ٦٨. ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ـ ٦٩. إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا

٢٢٠