الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

القرآن وهي آياته الناهية عن القبائح ، وقيل : هم المؤمنون يرفعون أصواتهم بالقرآن عند قراءته فيزجرون الناس عن المنهيات.

وأما التاليات فقيل : هم الملائكة يتلون الوحي على النبي الموحى إليه ، وقيل : هي الملائكة تتلو الكتاب الذي كتبه الله وفيها ذكر الحوادث ، وقيل : جماعة قراء القرآن يتلونه في الصلاة.

ويحتمل ـ والله العالم ـ أن يكون المراد بالطوائف الثلاث المذكورة في الآيات طوائف الملائكة النازلين بالوحي المأمورين بتأمين الطريق ودفع الشياطين عن المداخلة فيه وإيصاله إلى النبي مطلقا أو خصوص محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يستفاد من قوله تعالى : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ » الجن : ـ ٢٨.

وعليه فالمعنى أقسم بالملائكة الذين يصفون في طريق الوحي صفا فبالذين يزجرون الشياطين ويمنعونهم عن المداخلة في الوحي فبالذين يتلون على النبي الذكر وهو مطلق الوحي أو خصوص القرآن كما يؤيده التعبير عنه بتلاوة الذكر.

ويؤيد ما ذكرنا وقوع حديث رمي الشياطين بالشهب بعد هذه الآيات ، وكذا قوله بعد : « فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا » الآية كما سنشير إليه.

ولا ينافي ذلك إسناد النزول بالقرآن إلى جبرئيل وحده في قوله : « مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ » البقرة : ـ ٩٧ وقوله : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » الشعراء : ـ ١٩٤ لأن الملائكة المذكورين أعوان جبرئيل فنزولهم به نزوله به وقد قال تعالى : « فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ » عبس : ـ ١٦ ، وقال حكاية عنهم : « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ » مريم : ـ ٦٤ ، وقال : « وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ » الصافات : ـ ١٦٦ وهذا كنسبة التوفي إلى الرسل من الملائكة في قوله : « حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا » الأنعام : ـ ٦١ وإلى ملك الموت وهو رئيسهم في قوله : « قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ » السجدة : ـ ١١.

ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث : الصافات والزاجرات والتاليات

١٢١

لأن موصوفها الجماعة ، والتأنيث لفظي.

وهذه أول سورة في القرآن صدرت بالقسم وقد أقسم الله سبحانه في كلامه بكثير من خلقه كالسماء والأرض والشمس والقمر والنجم والليل والنهار والملائكة والناس والبلاد والأثمار ، وليس ذلك إلا لما فيها من الشرف باستناد خلقها إليه تعالى وهو قيومها المنبع لكل شرف وبهاء.

قوله تعالى : « إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ » الخطاب لعامة الناس وهو مقسم به ، وهو كلام مسوق بدليل كما سيأتي.

قوله تعالى : « رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ » خبر بعد خبر لأن ، أو خبر لمبتدإ محذوف والتقدير هو رب السماوات « إلخ » أو بدل من واحد.

وفي سوق الأوصاف إشعار بعلة كون الإله واحدا كما أن خصوصية القسم مشعر بعلة كونه رب السماوات والأرض وما بينهما.

كأنه قيل إن إلهكم لواحد لأن الملاك في ألوهية الإله وهي كونه معبودا بالحق أن يكون ربا يدبر الأمر على ما تعترفون وهو سبحانه رب السماوات والأرض وما بينهما الذي يدبر أمرها ويتصرف في جميعها.

وكيف لا؟ وهو تعالى يوحي إلى نبيه فيتصرف في السماء وسكانها بإرسال ملائكة يصطفون بينها وبين الأرض وهناك مجال الشياطين فيزجرونهم وهو تصرف منه فيما بين السماء والأرض وفي الشياطين ثم يتلون الذكر على نبيه وفيه تكميل للناس وتربية لهم سواء صدقوا أم كذبوا ففي الوحي تصرف منه في السماوات والأرض وما بينهما فهو على وحدانيته رب الجميع المدبر لأمرها والإله الواحد.

وقوله : « وَرَبُّ الْمَشارِقِ » أي مشارق الشمس باختلاف الفصول أو المراد مشارق مطلق النجوم أو مطلق المشارق ، وفي تخصيص المشارق بالذكر مناسبة لطلوع الوحي بملائكته من السماء وقد قال تعالى : « وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ » التكوير ـ ٢٣ ، وقال : « وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى » النجم : ـ ٧.

قوله تعالى : « إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ » المراد بالزينة ما يزين به ،

١٢٢

والكواكب بيان أو بدل من الزينة وقد تكرر حديث تزيين السماء الدنيا بزينة الكواكب في كلامه كقوله : « وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ » حم السجدة : ـ ١٢ وقوله : « وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ » الملك : ـ ٥ ، وقوله : « أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها » ق : ـ ٦.

ولا يخلو من ظهور في كون السماء الدنيا من السماوات السبع التي يذكرها القرآن هو عالم الكواكب فوق الأرض وإن وجهه بعضهم بما يوافق مقتضى الهيئة القديمة أو الجديدة.

قوله تعالى : « وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ » حفظا مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد ، والمراد بالشيطان الشرير من الجن والمارد الخبيث العاري من الخير.

قوله تعالى : « لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ » أصل « لا يَسَّمَّعُونَ » لا يتسمعون والتسمع الإصغاء ، وهو كناية عن كونهم ممنوعين مدحورين وبهذه العناية صار وصفا لكل شيطان ولو كان بمعنى الإصغاء صريحا أفاد لغوا من الفعل إذ لو كانوا لا يصغون لم يكن وجه لقذفهم.

والملأ من الناس الأشراف منهم الذين يملئون العيون ، والملأ الأعلى هم الذين يريد الشياطين التسمع إليهم وهم الملائكة الكرام الذين هم سكنة السماوات العلى على ما يدل عليه كلامه تعالى كقوله : « لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً » الإسراء : ـ ٩٥.

وقصدهم من التسمع إلى الملإ الأعلى الاطلاع على أخبار الغيب المستوردة عن هذا العالم الأرضي كالحوادث المستقبلة والأسرار المكنونة كما يشير إليه قوله تعالى : « وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ » الشعراء : ـ ٢١٢ ، وقوله حكاية عن الجن : « وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً » الجن : ـ ٩.

وقوله : « وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ » القذف الرمي والجانب الجهة.

قوله تعالى : « دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ » الدحور الطرد والدفع ، وهو مصدر بمعنى المفعول منصوب حالا أي مدحورين أو مفعول له أو مفعول مطلق ، والواصب الواجب اللازم.

١٢٣

قوله تعالى : « إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ » الخطفة الاختلاس والاستلاب ، والشهاب ما يرى في الجو كالكوكب المنقض ، والثقوب الركوز وسمي الشهاب ثاقبا لأنه لا يخطئ هدفه وغرضه.

والمراد بالخطفة اختلاس السمع وقد عبر عنه في موضع آخر باستراق السمع قال تعالى : « إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ » الحجر : ـ ١٨ ، والاستثناء من ضمير الفاعل في قوله : « لا يَسَّمَّعُونَ » وجوز بعضهم كون الاستثناء منقطعا.

ومعنى الآيات الخمس : أنا زينا السماء التي هي أقرب السماوات منكم ـ أو السماء السفلى بزينة وهي الكواكب ، وحفظناها حفظا من كل شيطان خبيث عار من الخير ممنوعين من الإصغاء إلى الملإ الأعلى ـ للاطلاع إلى ما يلقون بين أنفسهم من أخبار الغيب ـ ويرمون من كل جهة حال كونهم مطرودين ولهم عذاب لازم لا يفارقهم إلا من اختلس من أخبارهم الاختلاسة فأتبعه شهاب ثاقب لا يخطئ غرضه.

( كلام في معنى الشهب )

أورد المفسرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب وهي مبنية على ما يسبق إلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار أن هناك أفلاكا محيطة بالأرض تسكنها جماعات الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إلا منها وأن في السماء الأولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.

وقد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء ويتفرع على ذلك بطلان الوجوه التي أوردوها في تفسير الشهب وهي وجوه كثيرة أودعوها في المطولات كالتفسير الكبير ، للرازي وروح المعاني ، للآلوسي وغيرهما.

ويحتمل ـ والله العالم أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس وهو القائل عز وجل : « وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ » العنكبوت : ـ ٤٣.

١٢٤

وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب وقد تقدمت الإشارة إليها وسيجيء بعض منها.

وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا أفق أعلى نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض ، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت ، أو كرتهم على الحق لتلبيسه ورمي الملائكة إياهم بالحق الذي يبطل أباطيلهم.

وإيراده تعالى قصة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب عقيب الإقسام بملائكة الوحي وحفظهم إياه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه والله أعلم.

قوله تعالى : « فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ » اللازب الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره ، وقال في مجمع البيان : اللازب واللازم بمعنى. انتهى.

والمراد بقوله : « مَنْ خَلَقْنا » إما الملائكة المشار إليهم في الآيات السابقة وهم حفظة الوحي ورماة الشهب ، وإما غير الناس من الخلق العظيم كالسماوات والأرض والملائكة ، والتعبير بلفظ أولي العقل للتغليب.

والمعنى : فإذا كان الله هو رب السماوات والأرض وما بينهما والملائكة فاسألهم أن يفتوا أهم أشد خلقا أم غيرهم ممن خلقنا فهم أضعف خلقا لأنا خلقناهم من طين ملتزق فليسوا بمعجزين لنا.

( بحث روائي )

في تفسير القمي في قوله تعالى : « وَالصَّافَّاتِ صَفًّا » قال : الملائكة والأنبياء.

وفيه ، عن أبيه ويعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن هذه النجوم التي في السماء ـ مدائن مثل المدائن التي في الأرض. الحديث.

وفيه ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « عَذابٌ واصِبٌ »

١٢٥

أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم.

وفيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : في حديث المعراج : قال : فصعد جبرئيل وصعدت معه إلى سماء الدنيا ـ وعليها ملك يقال له : إسماعيل ـ وهو صاحب الخطفة التي قال الله عز وجل : « إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ » وتحته سبعون ألف ملك ـ تحت كل ملك سبعون ألف ملك.

الحديث.

أقول : والروايات في هذا الباب كثيرة أوردنا بعضا منها في تفسير قوله تعالى : « إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ » الحجر : ـ ١٨ وسيأتي بعضها في تفسير سورتي الملك والجن إن شاء الله تعالى.

وفي نهج البلاغة : ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها وعذبها ـ وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت ـ ولاطها بالبلة حتى لزبت.

* * *

( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ـ ١٢. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ـ ١٣. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ـ ١٤. وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ـ ١٥. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ـ ١٦. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ـ ١٧. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ ـ ١٨. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ ـ ١٩. وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ـ ٢٠. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ـ ٢١. احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ـ ٢٢. مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ـ ٢٣. وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ

١٢٦

مَسْؤُلُونَ ـ ٢٤. ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ـ ٢٥. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ـ ٢٦. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ـ ٢٧. قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ ـ ٢٨. قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ـ ٢٩. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ـ ٣٠. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ ـ ٣١. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ـ ٣٢. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ـ ٣٣. إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ـ ٣٤. إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ـ ٣٥. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ ـ ٣٦. بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ـ ٣٧. إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ـ ٣٨. وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ـ ٣٩. إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ـ ٤٠. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ـ ٤١. فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ـ ٤٢. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ـ ٤٣. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ـ ٤٤. يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ـ ٤٥. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ـ ٤٦. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ـ ٤٧. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ

١٢٧

عِينٌ ـ ٤٨. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ـ ٤٩. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ـ ٥٠. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ـ ٥١. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ـ ٥٢. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ـ ٥٣. قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ـ ٥٤. فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ـ ٥٥. قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ـ ٥٦. وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ـ ٥٧. أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ـ ٥٨. إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ـ ٥٩. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ـ ٦٠. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ـ ٦١. أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ـ ٦٢. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ـ ٦٣. إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ـ ٦٤. طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ـ ٦٥. فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ـ ٦٦. ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ـ ٦٧. ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ـ ٦٨. إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ـ ٦٩. فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ـ ٧٠. )

١٢٨

( بيان )

حكاية استهزائهم بآيات الله وبعض أقاويلهم المبنية على الكفر وإنكار المعاد والرد عليهم بتقرير أمر البعث وما يجري عليهم فيه من الشدة وألوان العذاب وما يكرم الله به عباده المخلصين من النعمة والكرامة.

وفيها ذكر تخاصم أهل النار يوم القيامة ، وذكر محادثة بين أهل الجنة وأخرى بين بعضهم وبعض أهل النار.

قوله تعالى : « بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ » أي بل عجبت يا محمد من تكذيبهم إياك مع دعوتك إياهم إلى كلمة الحق ، وهم يسخرون ويهزءون من تعجبك منهم أو من دعائك إياهم إلى الحق ، وإذا ذكروا بآيات الله الدالة على التوحيد ودين الحق لا يذكرون ولا يتنبهون.

قوله تعالى : « وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ » في مجمع البيان : سخر واستسخر بمعنى واحد. انتهى.

والمعنى : وإذا رأوا هؤلاء المشركون أية معجزة من آيات الله المعجزة كالقرآن وشق القمر يستهزءون بها.

قوله تعالى : « وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ » في إشارتهم إلى الآية بلفظة هذا إشعار منهم أنهم لا يفقهون منها إلا أنها شيء ما من غير زيادة وهو من أقوى الإهانة والاستسخار.

قوله تعالى : « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ » إنكار منهم للبعث مبني على الاستبعاد فمن المستبعد عند الوهم أن يموت الإنسان فيتلاشى بدنه ويعود ترابا وعظاما ثم يعود إلى صورته الأولى.

ومن الدليل على أن الكلام مسوق لإفادة الاستبعاد تكرارهم الاستفهام الإنكاري

١٢٩

بالنسبة إلى آبائهم الأولين فإن استبعاد الوهم لبعثهم وقد انمحت رسومهم ولم يبق منهم إلا أحاديث أشد وأقوى من استبعاده بعثهم أنفسهم.

ولو كان إنكارهم البعث مبنيا على أنهم ينعدمون بالموت فتستحيل إعادتهم كان الحكم فيهم وفي آبائهم على نهج واحد ولم يحتج إلى تجديد استفهام بالنسبة إلى آبائهم.

قوله تعالى : « قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ » أمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم بأنهم مبعوثون.

وقوله : « وَأَنْتُمْ داخِرُونَ » أي صاغرون مهانون أذلاء ، وهذا في الحقيقة احتجاج بعموم القدرة ونفوذ الإرادة من غير مهلة ، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ولذا عقبه بقوله : « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ » وقد قال تعالى : « وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » النحل ـ ٧٧.

وقوله : « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ » إلخ الفاء لإفادة التعليل والجملة تعليل لقوله : « وَأَنْتُمْ داخِرُونَ » وفي التعبير بزجرة إشعار باستذلالهم.

قوله تعالى : « وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ » معطوف على قوله : « يَنْظُرُونَ » المشعر بأنهم مبهوتون مدهوشون متفكرون ثم يتنبهون بكونه يوم البعث فيه الدين والجزاء وهم يحذرون منه بما كفروا وكذبوا ولذا قالوا : يوم الدين ، ولم يقولوا يوم البعث ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع.

وقوله : « هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ » قيل هو كلام بعضهم لبعض وقيل : كلام الملائكة أو كلامه تعالى لهم ، ويؤيده الآية التالية ، والفصل هو التمييز بين الشيئين وسمي يوم الفصل لكونه يوم التمييز بين الحق والباطل بقضائه وحكمه تعالى أو التمييز بين المجرمين والمتقين قال تعالى : « وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ » يس : ـ ٥٩.

قوله تعالى : « احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ » من كلامه تعالى للملائكة والمعنى وقلنا للملائكة : احشروهم وقيل : هو من كلام الملائكة بعضهم لبعض.

١٣٠

والحشر ـ على ما ذكره الراغب ـ إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

والمراد بالذين ظلموا على ما يؤيده آخر الآية المشركون ولا كل المشركين بل المعاندون للحق الصادون عنه منهم قال تعالى : « فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ » الأعراف : ـ ٤٤ ٤٥ ، والتعبير بالماضي في المقام يفيد فائدة الوصف فليس المراد بالذين ظلموا من تحقق منه ظلم ما ولو مرة واحدة بل تعريف لهم بحاصل ما اكتسبوا في حياتهم الدنيا كما لو قيل : ما ذا فعل فلان في حياته فيقال ظلم ، فالفعل يفيد فائدة الوصف ، وفي كلامه تعالى من ذلك شيء كثير كقوله تعالى : « وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً » الزمر : ـ ٧٣ : « وقوله ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ) » الزمر : ـ ٧١ وقوله : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ » يونس ـ ٢٦.

وقوله : « وَأَزْواجَهُمْ » الظاهر أن المراد به قرناؤهم من الشياطين قال تعالى : « وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ـ إلى أن قال ـ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ » الزخرف : ـ ٣٨.

وقيل : المراد بالأزواج الأشباه والنظائر فأصحاب الزنا يحشرون مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر وهكذا.

وفيه أن لازمه أن يراد بالذين ظلموا طائفة خاصة من أصحاب كل معصية واللفظ لا يساعد عليه على أن ذيل الآية لا يناسبه.

وقيل : المراد بالأزواج نساؤهم الكافرات وهو ضعيف كسابقه.

وقوله : « وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ » الظاهر أن المراد به الأصنام التي يعبدونها نظرا إلى ظاهر لفظة « ما » فالآية نظيرة قوله : « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » الأنبياء : ـ ٩٨.

ويمكن أن يكون المراد بلفظة « ما » ما يعم أولي العقل من المعبودين كالفراعنة والنماردة ، وأما الملائكة المعبودون والمسيح عليه‌السلام فيخرجهم من العموم قوله

١٣١

تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ » الأنبياء : ـ ١٠١.

وقوله : « فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ » الجحيم من أسماء جهنم في القرآن وهو من الجحمة بمعنى شدة تأجج النار على ما ذكره الراغب.

والمراد بهدايتهم إلى صراطها إيصالهم إليه وإيقاعهم فيه بالسوق ، وقيل : تسمية ذلك بالهداية من الاستهزاء ، وقال في مجمع البيان : إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله : « فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ » من حيث إن هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم. انتهى.

قوله تعالى : « وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ » قال في المجمع ، يقال : وقفت أنا ووقفت غيري ـ أي يعدي ولا يعدي ـ وبعض بني تميم يقول : أوقفت الدابة والدار. انتهى.

فقوله : « وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ » أي احبسوهم لأنهم مسئولون أي حتى يسأل عنهم. والسياق يعطي أن هذا الأمر بالوقوف والسؤال إنما يقع في صراط الجحيم.

واختلفت كلماتهم فيما هو السؤال عنه فقيل : يسألون عن قول لا إله إلا الله ، وقيل : عن شرب الماء البارد استهزاء بهم ، وقيل : عن ولاية علي عليه‌السلام.

وهذه الوجوه لو صحت فإنما تشير إلى مصاديق ما يسأل عنه والسياق يشهد أن السؤال هو ما يشتمل عليه قوله : « ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ » أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه في الدنيا فتستعينون به على حوائجكم ومقاصدكم ، وما يتلوه من قوله : « بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ » أي مسلمون لا يستكبرون يدل على أن المراد بقوله : « ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ » السؤال عن استكبارهم عن طاعة الحق كما كانوا يستكبرون في الدنيا.

فالسؤال عن عدم تناصرهم سؤال عن سبب الاستكبار الذي كانوا عليه في الدنيا فقد تبين به أن المسئول عنه هو كل حق أعرضوا عنه في الدنيا من اعتقاد حق أو عمل صالح استكبارا على الحق تظاهرا بالتناصر.

قوله تعالى : « وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ـ إلى قوله ـ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ » تخاصم واقع بين الأتباع والمتبوعين يوم القيامة ، والتعبير عنه بالتساؤل لأنه في معنى

١٣٢

سؤال بعضهم بعضا تلاوما وتعاتبا يقول التابعون لمتبوعيهم : لم أضللتمونا؟ فيقول المتبوعون : لم قبلتم منا ولا سلطان لنا عليكم؟.

فقوله : « وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ » البعض الأول هم المعترضون والبعض الثاني المعترض عليهم كما يعطيه سياق التساؤل وتساؤلهم تخاصمهم.

وقوله : « قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ » أي من جهة الخير والسعادة فاستعمال اليمين فيها شائع كثير كقوله : « وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ » الواقعة : ـ ٢٧ والمعنى أنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير والسعادة فتقطعون الطريق وتحولون بيننا وبين الخير والسعادة وتضلوننا.

وقيل : المراد باليمين الدين وهو قريب من الوجه السابق ، وقيل : المراد باليمين القهر والقوة كما في قوله تعالى : « فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ » الصافات : ـ ٩٣ ولا يخلو من وجه نظرا إلى جواب المتبوعين.

وقوله : « قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ـ إلى قوله ـ غاوِينَ » جواب المتبوعين بتبرئة أنفسهم من إشقاء التابعين وأن جرمهم مستند إلى سوء اختيار أنفسهم.

فقالوا : بل لم تكونوا مؤمنين أي لم نكن نحن السبب الموجب لإجرامكم وهلاككم بخلوكم عن الإيمان بل لم تكونوا مؤمنين لا أنا جردناكم من الإيمان.

ثم قالوا : « وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ » وهو في معنى الجواب على فرض التسليم كأنه قيل : ولو فرض أنه كان لكم إيمان فما كان لنا عليكم من سلطان حتى نسلبه منكم ونجردكم منه. على أن سلطان المتبوعين إنما هو بالتابعين فهم الذين يعطونهم السلطة والقوة فيتسلطون عليهم أنفسهم.

ثم قالوا : « بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ » والطغيان هو التجاوز عن الحد وهو إضراب عن قوله : « لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » كأنه قيل : ولم يكن سبب هلاككم مجرد الخلو من الإيمان بل كنتم قوما طاغين كما كنا مستكبرين طاغين فتعاضدنا جميعا على ترك سبيل الرشد واتخاذ سبيل الغي فحق علينا كلمة العذاب التي قضى بها الله سبحانه قال تعالى :

١٣٣

« إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً » النبأ : ـ ٢٢ وقال : « فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى » النازعات : ـ ٣٩.

ولهذا المعنى عقب قوله : « بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ » بقوله : « فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ » أي لذائقون العذاب.

ثم قالوا : « فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ » وهو متفرع على ثبوت كلمة العذاب وآخر الأسباب لهلاكهم فإن الطغيان يستتبع الغواية ثم نار جهنم ، قال تعالى لإبليس « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ » الحجر : ـ ٤٣.

فكأنه قيل : فلما تلبستم بالطغيان حل بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم إلا اتباعكم لنا واتصالكم بنا فسرى إليكم ما فينا من الصفة وهي الغواية فالغاوي لا يتأتى منه إلا الغواية والإناء لا يترشح منه إلا ما فيه ، وبالجملة إنكم لم تجبروا ولم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته وهي الغواية فحق عليكم القول.

قوله تعالى : « فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ـ إلى قوله ـ يَسْتَكْبِرُونَ » ضمير « فَإِنَّهُمْ » للتابعين والمتبوعين فهم مشتركون في العذاب لاشتراكهم في الظلم وتعاونهم على الجرم من غير مزية لبعضهم على بعض.

واستظهر بعضهم أن المغوين أشد عذابا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار أمثال أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة والحق أن الآيات مسوقة لبيان اشتراكهم في الظلم والجرم والعذاب اللاحق بهم من قبله ، ويمكن مع ذلك أن يلحق بكل من المتبوعين والتابعين ألوان من العذاب ناشئة عن خصوص شأنهم قال تعالى : « وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ » العنكبوت : ـ ١٣ ، وقال : « رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ » الأعراف : ـ ٣٨.

وقوله : « إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ » تأكيد لتحقيق العذاب ، والمراد بالمجرمين المشركون بدليل قوله بعد : « إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ » أي إذا

١٣٤

عرض عليهم التوحيد أن يؤمنوا به أو كلمة الإخلاص أن يقولوها استمروا على استكبارهم ولم يقبلوا.

قوله تعالى : « وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ » قولهم هذا إنكار منهم للرسالة بعد استكبارهم عن التوحيد وإنكارهم له.

وقوله : « بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ » رد لقولهم : « لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ » حيث رموه عليه‌السلام بالشعر والجنون وفيه رمي لكتاب الله بكونه شعرا ومن هفوات الجنون فرد عليهم بأن ما جاء به حق وفيه تصديق الرسل السابقين

فليس بباطل من القول كالشعر وهفوة الجنون وليس ببدع غير مسبوق في معناه.

قوله تعالى : « إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ » تهديد لهم بالعذاب لاستكبارهم ورميهم الحق بالباطل.

قوله تعالى : « وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » أي لا ظلم فيه لأنه نفس عملكم يرد إليكم.

قوله تعالى : « إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ـ إلى قوله ـ بَيْضٌ مَكْنُونٌ » استثناء منقطع من ضمير « لَذائِقُوا » أو من ضمير « ما تُجْزَوْنَ » ولكل وجه والمعنى على الأول لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وليسوا بذائقي العذاب الأليم والمعنى على الثاني لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وراء جزاء عملهم وسيجيء الإشارة إلى معناه.

واحتمال كون الاستثناء متصلا ضعيف لا يخلو من تكلف.

وقد سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة ولا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله ولا يعملون إلا له.

ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلق لهم بشيء غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا ولا من نعم العقبى وليس في قلوبهم إلا الله سبحانه.

١٣٥

ومن المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعمه غير ما يلتذ ويتنعم غيره وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب ومن هنا يتأيد أن المراد بقوله : « أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ » الإشارة إلى أن رزقهم في الجنة ـ وهم عباد مخلصون ـ رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم ولا يختلط بما يتمتع به من دونهم وإن اشتركا في الاسم.

فقوله : « أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ » أي رزق خاص متعين ممتاز من رزق غيرهم فكونه معلوما كناية عن امتيازه كما في قوله : « وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ » الصافات : ـ ١٦٤ والإشارة بلفظ البعيد للدلالة على علو مقامهم.

وأما ما فسره بعضهم أن المراد بكون رزقهم معلوما كونه معلوم الخصائص مثل كونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة ، وكذا ما ذكره آخرون أن المراد أنه معلوم الوقت لقوله : « وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا » مريم : ـ ٦٢ وكذا قول القائل : إن المراد به الجنة فهي وجوه غير سديدة.

ومن هنا يظهر أن أخذ قوله : « إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ » استثناء من ضمير « وَما تُجْزَوْنَ » لا يخلو من وجه كما تقدمت الإشارة إليه.

وقوله : « فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ » الفواكه جمع فاكهة وهي ما يتفكه به من الأثمار بيان لرزقهم المعلوم غير أنه تعالى شفعه بقوله : « وَهُمْ مُكْرَمُونَ » للدلالة على امتياز هذا الرزق أعني الفاكهة مما عند غيرهم بأنها مقارنة لإكرام خاص يخصهم قبال اختصاصهم بالله سبحانه وكونه لهم لا يشاركهم فيه شيء.

وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ذلك فقد تقدم في قوله : « فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ » الآية : النساء : ـ ٦٩ ، وقوله : « وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » المائدة : ـ ٣ وغيرهما أن حقيقة النعمة هي الولاية وهي كونه تعالى هو القائم بأمر عبده.

وقوله : « عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ » السرر جمع سرير وهو معروف وكونهم متقابلين معناه استئناس بعضهم ببعض واستمتاعهم بنظر بعضهم في وجه بعض من غير أن يرى بعضهم قفا بعض.

١٣٦

وقوله : « يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ » الكأس إناء الشراب ونقل عن كثير من اللغويين أن إناء الشراب لا يسمى كأسا إلا وفيه الشراب فإن خلا منه فهو قدح والمعين من الشراب الظاهر منه من عان الماء إذا ظهر وجرى على وجه الأرض ، والمراد بكون الكأس من معين صفاء الشراب فيها ولذا عقبه بقوله : « بَيْضاءَ ».

وقوله : « بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ » أي صافية في بياضها لذيذة للشاربين فاللذة مصدر أريد به الوصف مبالغة أو هي مؤنث لذ بمعنى لذيذ كما قيل.

وقوله : « لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ » الغول الإضرار والإفساد ، قال الراغب : الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به انتهى. فنفي الغول عن الخمر نفي مضارها والإنزاف فسر بالسكر المذهب للعقل وأصله إذهاب الشيء تدريجا.

ومحصل المعنى : أنه ليس فيها مضار الخمر التي في الدنيا ولا إسكارها بإذهاب العقل.

وقوله : « وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ » وصف للحور التي يرزقونها وقصور طرفهن كناية عن نظرهن نظرة الغنج والدلال ويؤيده ذكر العين بعده وهو جمع عيناء مؤنث أعين وهي الواسعة العين في جمال.

وقيل : المراد بقاصرات الطرف أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لحبهن لهم ، وبالعين أن أعينهن شديدة في سوادها شديدة في بياضها.

وقوله : « كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ » البيض معروف وهو اسم جنس واحدته بيضة والمكنون هو المستور بالادخار قيل : المراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي ولم يصبه الغبار ، وقيل : المراد تشبيههن ببطن البيض قبل أن يقشر وقبل أن تمسه الأيدي.

قوله تعالى : « فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ـ إلى قوله ـ فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ » حكاية محادثة تقع بين أهل الجنة فيسأل بعضهم عن أحوال بعض ويحدث بعضهم بما جرى عليه في الدنيا وتنتهي المحادثة إلى تكليمهم بعض أهل النار وهو في سواء الجحيم.

فقوله : « فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ » ضمير الجمع لأهل الجنة من عباد الله

١٣٧

المخلصين وتساؤلهم ـ كما تقدم ـ سؤال بعضهم عن بعض وما جرى عليه.

وقوله : « قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ » أي قال قائل من أهل الجنة المتسائلين إني كان لي في الدنيا مصاحب يختص بي من الناس. كذا يعطي السياق.

وقيل : المراد بالقرين القرين من الشياطين وفيه أن القرآن إنما يثبت قرناء الشياطين في المعرضين عن ذكر الله والمخلصون في عصمة إلهية من قرين الشياطين وكذا من تأثير الشيطان فيهم كما حكى عن إبليس استثناءهم من الإغواء : « فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » ـ ص : ـ ٨٣ نعم ربما أمكن أن يتعرض لهم الشيطان من غير تأثير فيهم لكنه غير أثر القرين.

وقوله : « يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ » ضمير « يَقُولُ » للقرين ، ومفعول « الْمُصَدِّقِينَ » البعث للجزاء وقد قام مقامه قوله : « أَإِذا مِتْنا » إلخ والمدينون المجزيون.

والمعنى : كأن يقول لي قريني مستبعدا منكرا أإنك لمن المصدقين للبعث للجزاء أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما فتلاشت أبداننا وتغيرت صورها أإنا لمجزيون بالإحياء والإعادة؟ فهذا مما لا ينبغي أن يصدق.

وقوله : « قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ » ضمير « قالَ » للقائل المذكور قبلا ، والاطلاع الإشراف والمعنى ثم قال القائل المذكور مخاطبا لمحادثيه من أهل الجنة : هل أنتم مشرفون على النار حتى تروا قريني والحال التي هو فيها؟.

وقوله : « فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ » السواء الوسط ومنه سواء الطريق أي وسطه والمعنى فأشرف القائل المذكور على النار فرآه أي قرينه في وسط الجحيم.

وقوله : « قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ » « إِنْ » مخففة من الثقيلة ، والإرداء السقوط من مكان عال كالشاهق ويكنى به عن الهلاك والمعنى أقسم بالله إنك قربت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه من الجحيم.

وقوله : « وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ » المراد بالنعمة التوفيق والهداية

١٣٨

الإلهية ، والإحضار الإشخاص للعذاب قال في مجمع البيان : ولا يستعمل « أحضر » مطلقا إلا في الشر.

والمعنى ولو لا توفيق ربي وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب مثلك.

وقوله : « أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » الاستفهام للتقرير والتعجيب ، والمراد بالموتة الأولى هي الموتة عن الحياة الدنيا وأما الموتة عن البرزخ المدلول عليها بقوله : « رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ » المؤمن : ـ ١١ فلم يعبأ بها لأن الموت الذي يزعم الزاعم فيه الفناء والبطلان هو الموت الدنيوي.

والمعنى ـ على ما في الكلام من الحذف والإيجاز ـ ثم يرجع القائل المذكور إلى نفسه وأصحابه فيقول متعجبا أنحن خالدون منعمون فما نحن بميتين إلا الموتة الأولى وما نحن بمعذبين؟.

قال في مجمع البيان : ويريدون به التحقيق لا الشك وإنما قالوا هذا القول لأن لهم في ذلك سرورا مجددا وفرحا مضاعفا وإن كان قد عرفوا أنهم سيخلدون في الجنة وهذا كما أن الرجل يعطى المال الكثير فيقول مستعجبا : كل هذا المال لي؟ وهو يعلم أن ذلك له وهذا كقوله :

أبطحاء مكة هذا الذي

أراه عيانا وهذا أنا؟

قال : ولهذا عقبه بقوله : « إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » انتهى.

وقوله : « إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » هو من تمام قول القائل المذكور وفيه إعظام لموهبة الخلود وارتفاع العذاب وشكر للنعمة.

وقوله : « لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ » ظاهر السياق أنه من قول القائل المذكور والإشارة بهذا إلى الفوز أو الثواب أي لمثل هذا الفوز أو الثواب فليعمل العاملون في دار التكليف ، وقيل : هو من قول الله سبحانه وقيل : من قول أهل الجنة.

واعلم أن لهم أقوالا مختلفة في نسبة أكثر الجمل السابقة إلى قول الله تعالى أو قول الملائكة أو قول أهل الجنة غير القائل المذكور والذي أوردناه هو الذي يساعد عليه السياق.

١٣٩

قوله تعالى : « أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ـ إلى قوله ـ يُهْرَعُونَ » مقايسة بين ما هيأه الله نزلا لأهل الجنة مما وصفه من الرزق الكريم وبين ما أعده نزلا لأهل النار من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رءوس الشياطين وشراب من حميم.

فقوله : « أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ » الإشارة بذلك إلى الرزق الكريم المذكورة سابقا المعد لورود أهل الجنة والنزل بضمتين ما يهيأ لورود الضيف فيقدم إليه إذا ورد من الفواكه ونحوها.

والزقوم ـ على ما قيل ـ اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة والبلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت به الشجرة الموصوفة بما في الآية من الأوصاف ، وقيل : إن قريشا ما كانت تعرفه وسيأتي ذلك في البحث الروائي.

ولفظة خير في الآية بمعنى الوصف دون التفضيل إذ لا خيرية في الزقوم أصلا فهو كقوله : « ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ » الجمعة : ـ ١١ والآية على ما يعطيه السياق من كلامه تعالى.

وقوله : « إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ » الضمير لشجرة الزقوم ، والفتنة المحنة والعذاب.

وقوله : « إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ » وصف لشجرة الزقوم ، وأصل الجحيم قعرها ، ولا عجب في نبات شجرة في النار وبقائها فيها فحياة الإنسان وبقاؤه خالدا فيها أعجب والله يفعل ما يشاء.

وقوله : « طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ » الطلع حمل النخلة أو مطلق الشجرة أول ما يبدو ، وتشبيه ثمرة الزقوم برءوس الشياطين بعناية أن الأوهام العامية تصور الشيطان في أقبح صورة كما تصور الملك في أحسن صورة وأجملها قال تعالى : « ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ » يوسف : ـ ٣١ ، وبذلك يندفع ما قيل : إن الشيء إنما يشبه بما يعرف ولا معرفة لأحد برءوس الشياطين.

وقوله : « فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ » الفاء للتعليل يبين به كونها نزلا للظالمين يأكلون منها ، وفي قوله : « فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ » إشارة إلى تسلط جوع

١٤٠