الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة فاطر مكية وهي خمس وأربعون آية

( الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ١. )

( بيان )

غرض السورة بيان الأصول الثلاثة : وحدانيته تعالى في ربوبيته ورسالة الرسول والمعاد إليه وتقرير الحجة لذلك وقد توسل لذلك بعد جمل من نعمه العظيمة السماوية والأرضية والإشارة إلى تدبيره المتقن لأمر العالم عامة والإنسان خاصة.

وقد قدم على هذا التفصيل الإشارة الإجمالية إلى انحصار فتح الرحمة وإمساكها وهو إفاضة النعمة والكف عنها فيه تعالى بقوله : « ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها » الآية.

وقدم على ذلك الإشارة إلى وسائط هذه الرحمة المفتوحة والنعم الموهوبة وهم الملائكة المتوسطون بينه تعالى وبين خلقه في حمل أنواع النعم من عنده تعالى وإيصالها إلى خلقه فافتتح السورة بذكرهم.

٥

والسورة مكية كما يدل عليه سياق آياتها ، وقد استثنى بعضهم آيتين وهما قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ » الآية وقوله : « ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا » الآية وهو غير ظاهر من سياق الآيتين.

قوله تعالى : « الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الفطر ـ على ما ذكره الراغب ـ هو الشق طولا فإطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنه شق العدم فأخرج من بطنها السماوات والأرض فمحصل معناه أنه موجد السماوات والأرض إيجادا ابتدائيا من غير مثال سابق ، فيقرب معناه من معنى البديع والمبدع والفرق بين الإبداع والفطر أن العناية في الإبداع متعلقة بنفي المثال السابق وفي الفطر بطرد العدم وإيجاد الشيء من رأس لا كالصانع الذي يؤلف مواد مختلفة فيظهر به صورة جديدة لم تكن.

والمراد بالسماوات والأرض مجموع العالم المشهود فيشملهما وما فيهما من مخلوق فيكون من قبيل إطلاق معظم الأجزاء وإرادة الكل مجازا ، أو المراد نفس السماوات والأرض اعتناء بشأنهما لكبر خلقتهما وعجيب أمرهما كما قال : « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ » المؤمن ـ ٥٧.

وكيف كان فقوله : « فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » من أسمائه تعالى أجري صفة لله والمراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط لأن الإيجاد مستمر وفيض الوجود غير منقطع ولو انقطع لانعدمت الأشياء.

والإتيان بالوصف بعد الوصف للإشعار بأسباب انحصار الحمد فيه تعالى كأنه قيل : الحمد لله على ما أوجد السماوات والأرض وعلى ما جعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهو تعالى محمود ما أتى فيما أتى إلا الجميل.

قوله تعالى : « جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ » الملائكة جمع ملك بفتح اللام وهم موجودات خلقهم الله وجعلهم وسائط بينه وبين العالم المشهود وكلهم بأمور العالم التكوينية والتشريعية عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

فقوله تعالى : « جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً » يشعر بل يدل على كون جميع الملائكة ـ والملائكة جمع محلى باللام مفيد للعموم ـ رسلا وسائط بينه وبين خلقه في إجراء

٦

أوامره التكوينية والتشريعية.

ولا موجب لتخصيص الرسل في الآية بالملائكة النازلين على الأنبياء عليهم‌السلام وقد أطلق القرآن الرسل على غيرهم من الملائكة كقوله تعالى : « حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا » الأنعام : ـ ٦١ ، وقوله : « إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ » يونس : ـ ٢١ ، وقوله : « وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ » العنكبوت : ـ ٣١.

والأجنحة جمع جناح وهو من الطائر بمنزلة اليد من الإنسان يتوسل به إلى الصعود إلى الجو والنزول منه والانتقال من مكان إلى مكان بالطيران.

فوجود الملك مجهز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحه فينتقل به من السماء إلى الأرض بأمر الله ويعرج به منها إليها ومن أي موضع إلى أي موضع ، وقد سماه القرآن جناحا ولا يستوجب ذلك إلا ترتب الغاية المطلوبة من الجناح عليه وأما كونه من سنخ جناح غالب الطير ذا ريش وزغب فلا يستوجبه مجرد إطلاق اللفظ كما لم يستوجبه في نظائره كألفاظ العرش والكرسي واللوح والقلم وغيرها.

وقوله : « أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ » صفة للملائكة ، ومثنى وثلاث ورباع ألفاظ دالة على تكرر العدد أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة كأنه قيل : جعل الملائكة بعضهم ذا جناحين وبعضهم ذا ثلاثة أجنحة وبعضهم ذا أربعة أجنحة.

وقوله : « يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ » لا يخلو من إشعار بحسب السياق بأن منهم من يزيد أجنحته على أربعة.

وقوله : « إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » تعليل لجميع ما تقدمه أو الجملة الأخيرة والأول أظهر.

( بحث روائي )

في البحار ، عن الإختصاص بإسناده عن المعلى بن محمد رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله عز وجل خلق الملائكة من نور ، الخبر.

٧

وفي تفسير القمي ، قال الصادق عليه‌السلام : خلق الله الملائكة مختلفة وقد أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرئيل ـ وله ستمائة جناح على ساقه الدر ـ مثل القطر على البقل ـ قد ملأ ما بين السماء والأرض ـ وقال إذا أمر الله عز وجل ـ ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا ـ صارت رجله في السماء السابعة ـ والأخرى في الأرض السابعة ، وإن لله ملائكة أنصافهم من برد وأنصافهم من نار ـ يقولون : يا مؤلفا بين البرد والنار ـ ثبت قلوبنا على طاعتك ـ.

وقال : إن لله ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينه ـ مسيرة خمسمائة عام بخفقان الطير ـ.

وقال : إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ـ وإنما يعيشون بنسيم العرش ، وإن لله عز وجل ملائكة ركعا إلى يوم القيامة ـ وإن لله عز وجل ملائكة سجدا إلى يوم القيامة ـ.

ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من شيء مما خلق الله عز وجل أكثر من الملائكة ـ وإنه ليهبط في كل يوم أو في كل ليلة ـ سبعون ألف ملك ، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ـ ثم يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثم يأتون أمير المؤمنين عليه‌السلام فيسلمون ـ ثم يأتون الحسين عليه‌السلام فيقيمون عنده ـ فإذا كان عند السحر وضع لهم معراج إلى السماء ـ ثم لا يعودون أبدا ـ.

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن الله عز وجل خلق إسرافيل وجبرائيل وميكائيل ـ من تسبيحة واحدة ، وجعل لهم السمع والبصر وجودة العقل وسرعة الفهم ـ.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في خلقة الملائكة : وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك ـ فليس فيهم فترة ، ولا عندهم غفلة ، ولا فيهم معصية ، هم أعلم خلقك بك وأخوف خلقك منك ، وأقرب خلقك منك ، وأعملهم بطاعتك ، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ـ لم يسكنوا الأصلاب ، ولم تضمهم الأرحام ، ولم تخلقهم من ماء مهين أنشأتهم إنشاء ـ فأسكنتهم سماواتك وأكرمتهم بجوارك ، وائتمنتهم على وحيك ، وجنبتهم الآفات ، ووقيتهم البليات ، وطهرتهم من الذنوب ، ولو لا قوتك لم يقووا ، ولو لا تثبيتك لم يثبتوا ، ولو لا رحمتك لم يطيعوا ، ولو لا أنت لم يكونوا ـ.

٨

أما إنهم على مكانتهم منك وطاعتهم إياك ـ ومنزلتهم عندك وقلة غفلتهم عن أمرك ـ لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم ، ولآزروا على أنفسهم ، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك ـ سبحانك خالقا ومعبودا ـ ما أحسن بلاءك عند خلقك.

وفي البحار ، عن الدر المنثور ، عن أبي العلاء بن سعد : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوما لجلسائه : أطت السماء وحق لها أن تئط ـ ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرأ « وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ».

وعن الخصال ، بإسناده عن محمد بن طلحة يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الملائكة على ثلاثة أجزاء فجزء لهم جناحان ـ وجزء لهم ثلاثة أجنحة وجزء لهم أربعة أجنحة.

أقول : ورواه في الكافي ، بإسناده عن عبد الله بن طلحة مثله ، ولعل المراد به وصف أغلب الملائكة حتى لا يعارض سياق الآية والروايات الأخر.

وعن التوحيد ، بإسناده عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة ـ يحفظونه من أن يتردى في بئر ـ أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء ـ فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه ـ الخبر.

وعن البصائر ، عن السياري عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي وغيره رفعوه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول ـ جعلهم الله خلف العرش ـ لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم. ثم قال : إن موسى عليه‌السلام لما أن سأل ربه ما سأل ـ أمر واحدا من الكروبيين ـ فتجلى للجبل فجعله دكا.

وعن الصحيفة السجادية ، وكان من دعائه على حملة العرش وكل ملك مقرب : اللهم وحملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك ، ولا يسأمون من تقديسك ، ولا يستحسرون عن عبادتك ، ولا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك ، ولا يغفلون عن الوله إليك ، وإسرافيل صاحب الصور الشاخص ـ الذي ينتظر منك الإذن وحلول الأمر ـ فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور ، وميكائيل ذو الجاه عندك والمكان الرفيع من طاعتك ـ وجبريل الأمين على وحيك ـ المطاع في سماواتك المكين لديك المقرب عندك ، والروح الذي هو على ملائكة الحجب ـ والروح الذي هو من أمرك ـ.

٩

اللهم فصل عليهم وعلى الملائكة الذين من دونهم ـ من سكان سماواتك وأهل الأمانة على رسالاتك ، والذين لا يدخلهم سأمة من دءوب ـ ولا إعياء من لغوب ولا فتور ـ ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات ـ ولا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات ، الخشع الأبصار فلا يرومون النظر إليك ، النواكس الأذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك ـ المستهترون بذكر آلائك ـ والمتواضعون دون عظمتك وجلال كبريائك ، والذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم ـ تزفر على أهل معصيتك ـ سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ـ.

فصل عليهم وعلى الروحانيين من ملائكتك ـ وأهل الزلفة عندك ـ وحمال الغيب إلى رسلك والمؤتمنين على وحيك ـ وقبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك ـ وأغنيتهم عن الطعام والشراب بتقديسك ـ وأسكنتهم بطون أطباق سماواتك ، والذين هم على أرجائها إذا نزل الأمر بتمام وعدك ـ.

وخزان المطر وزواجر السحاب ـ والذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود ، وإذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق ، ومشيعي الثلج والبرد ـ والهابطين مع قطر المطر إذا نزل ، والقوام على خزائن الرياح ، والموكلين بالجبال فلا تزول ، والذين عرفتهم مثاقيل المياه ـ وكيل ما يحويه لواعج الأمطار وعوالجها ـ ورسلك من الملائكة إلى أهل الأرض ـ بمكروه ما ينزل من البلاء ومحبوب الرخاء ـ.

والسفرة الكرام البررة والحفظة الكرام الكاتبين ، وملك الموت وأعوانه ، ومنكر ونكير ، ومبشر وبشير ، ورؤمان فتان القبور ، والطائفين بالبيت المعمور ، ومالك والخزنة ، ورضوان وسدنة الجنان ، والذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، والذين يقولون : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، والزبانية الذين إذا قيل لهم : « خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه » ابتدروه سراعا ولم ينظروه ، ومن ألهمنا ذكره ولم نعلم مكانه منه وبأي أمر وكلته ، وسكان الهواء والأرض والماء ، ومن منهم على الخلق ـ.

فصل عليهم يوم تأتي كل نفس معها سائق وشهيد ـ وصل عليهم صلاة تزيدهم كرامة على كرامتهم ـ وطهارة على طهارتهم. الدعاء.

وفي البحار ، عن الدر المنثور ، عن ابن شهاب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل جبرئيل

١٠

أن يتراءى له في صورته ـ فقال جبرئيل : إنك لن تطيق ذلك. قال : إني أحب ذلك ـ فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المصلى في ليلة مقمرة ـ فأتاه جبرئيل في صورته ـ فغشي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين رآه ـ ثم أفاق وجبرئيل مسنده ـ وواضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كنت أرى أن شيئا ممن يخلق هكذا ـ فقال جبرئيل : فكيف لو رأيت إسرافيل ـ إن له لاثني عشر جناحا ـ جناح في المشرق وجناح في المغرب ـ وإن العرش على كاهله ، وإنه ليتضأل الأحيان لعظمة الله حتى يصير مثل الوصع (١) حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته.

وفي الصافي ، عن التوحيد ، بإسناده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث قال : وقوله في آخر الآيات : « ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ـ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى » رأى جبرئيل في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى ـ وذلك أن خلق جبرئيل عظيم ـ فهو من الروحانيين ـ الذين لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله.

وعن الخصال ، بإسناده عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن جبرئيل أتاني فقال : إنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ـ ولا تمثال جسد ولا إناء يبال فيه.

أقول : وهناك روايات أخرى في صفة الملائكة فوق حد الإحصاء واردة في باب المعاد ومعراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبواب متفرقة أخرى ، وفيما أوردناه أنموذج كاف في ذلك.

وفي العيون ، في باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار المجموعة بإسناده عنه عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حسنوا القرآن بأصواتكم ـ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا ، وقرأ « يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ».

وفي التوحيد ، بإسناده عن زرارة عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله ـ يزيد في الخلق ما يشاء.

وفي المجمع في قوله تعالى : « يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ » : روى أبو هريرة عن النبي

__________________

(١) بفتح الصاد وسكونها طائر أصفر من العصفور.

١١

صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن.

أقول : والروايات الثلاث الأخيرة من قبيل الجري والانطباق.

( كلام في الملائكة )

تكرر ذكر الملائكة في القرآن الكريم ولم يذكر منهم بالتسمية إلا جبريل وميكال وما عداهما مذكور بالوصف كملك الموت والكرام الكاتبين والسفرة الكرام البررة والرقيب والعتيد وغير ذلك.

والذي ذكره الله سبحانه في كلامه ـ وتشايعه الأحاديث السابقة ـ من صفاتهم وأعمالهم هو أولا : أنهم موجودات مكرمون هم وسائط بينه تعالى وبين العالم المشهود فما من حادثة أو واقعة صغيرة أو كبيرة إلا وللملائكة فيها شأن وعليها ملك موكل أو ملائكة موكلون بحسب ما فيها من الجهة أو الجهات وليس لهم في ذلك شأن إلا إجراء الأمر الإلهي في مجراه أو تقريره في مستقره كما قال تعالى « لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » الأنبياء : ـ ٢٧.

وثانيا : أنهم لا يعصون الله فيما أمرهم به فليست لهم نفسية مستقلة ذات إرادة مستقلة تريد شيئا غير ما أراد الله سبحانه فلا يستقلون بعمل ولا يغيرون أمرا حملهم الله إياه بتحريف أو زيادة أو نقصان قال تعالى : « لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » التحريم : ـ ٦.

وثالثا : أن الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علوا ودنوا فبعضهم فوق بعض وبعضهم دون بعض فمنهم آمر مطاع ومنهم مأمور مطيع لأمره ، والآمر منهم آمر بأمر الله حامل له إلى المأمور والمأمور مأمور بأمر الله مطيع له ، فليس لهم من أنفسهم شيء البتة قال تعالى : « وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ » الصافات : ـ ١٦٤ وقال : « مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ » التكوير : ـ ٢١ ، وقال : « قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ » سبأ : ـ ٢٣.

ورابعا : أنهم غير مغلوبين لأنهم إنما يعملون بأمر الله وإرادته « وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ » فاطر : ـ ٤٤ ، وقد قال الله : « وَاللهُ غالِبٌ عَلى

١٢

أَمْرِهِ » يوسف : ـ ٢١ ، وقال : « إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ » الطلاق : ـ ٣.

ومن هنا يظهر أن الملائكة موجودات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال والفساد والتغير ومن شأنها الاستكمال التدريجي الذي تتوجه به إلى غايتها ، وربما صادفت الموانع والآفات فحرمت الغاية وبطلت دون البلوغ إليها.

ومن هنا يظهر أن ما ورد في الروايات من صور الملائكة وأشكالهم وهيئاتهم الجسمانية كما تقدم نبذة منها في البحث الروائي السابق إنما هو بيان تمثلاتهم وظهوراتهم للواصفين من الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، وليس من التصور والتشكل في شيء ففرق بين التمثل والتشكل فتمثل الملك إنسانا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان فهو في ظرف المشاهدة والإدراك ذو صورة الإنسان وشكله وفي نفسه والخارج من ظرف الإدراك ملك ذو صورة ملكية وهذا بخلاف التشكل والتصور فإنه لو تشكل بشكل الإنسان وتصور بصورته صار إنسانا في نفسه من غير فرق بين ظرف الإدراك والخارج عنه فهو إنسان في العين والذهن معا؟ وقد تقدم كلام في معنى التمثل في تفسير سورة مريم.

ولقد صدق الله سبحانه ما تقدم من معنى التمثل في قوله في قصة المسيح ومريم : « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » مريم : ـ ١٧ وقد تقدم تفسيره.

وأما ما شاع في الألسن أن الملك جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب والخنزير ، والجن جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب والخنزير فمما لا دليل عليه من عقل ولا نقل من كتاب أو سنة معتبرة ، وأما ما ادعاه بعضهم من إجماع المسلمين على ذلك فمضافا إلى منعه لا دليل على حجيته في أمثال هذه المسائل الاعتقادية.

* * *

( ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ـ ٢. يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا

١٣

نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ـ ٣. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ـ ٤. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ـ ٥. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ـ ٦. الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ـ ٧. أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ـ ٨. )

( بيان )

لما أشار إلى الملائكة وهم وسائط في وصول النعم إلى الخليقة أشار إلى نفس النعم إشارة كلية فذكر أن عامة النعم من الله سبحانه لا غير فهو الرازق لا يشاركه فيه أحد ، ثم احتج بالرازقية على الربوبية ثم على المعاد وأن وعده تعالى بالبعث وعذاب الكافرين ومغفرة المؤمنين الصالحين حق ، وفي الآيات تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : « ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ » إلخ المعنى أن ما يؤتيه الله الناس من النعمة وهو الرزق فلا مانع عنه

١٤

وما يمنع فلا مؤتي له فكان مقتضى الظاهر أن يقال : ما يرسل الله للناس إلخ. كما عبر في الجملة الثانية بالإرسال لكنه عدل عن الإرسال إلى الفتح لما وقع مكررا في كلامه أن لرحمته خزائن كقوله : « أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ » ـ ص : ـ ٩ وقوله : « قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ » الإسراء : ـ ١٠٠ والتعبير بالفتح أنسب من الإرسال في الخزائن ففيه إشارة إلى أن الرحمة التي يؤتاها الناس مخزونة في خزائن محيطة بالناس لا يتوقف نيلهم منها إلا إلى فتحها من غير مئونة زائدة.

وقد عبر عن الرزق الذي هو النعمة بالرحمة للدلالة على أن إفاضته تعالى لهذه النعم ناشئة من مجرد الرحمة من غير توقع لنفع يعود إليه أو كمال يستكمل به.

وقوله : « وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ » أي وما يمنع من الرحمة فلا مرسل له من دونه ، وفي التعبير بقوله : « مِنْ بَعْدِهِ » إشارة إلى أنه تعالى أول في المنع كما أنه أول في الإعطاء.

وقوله : « وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » تقرير للحكم المذكور في الآية الكريمة بالاسمين الكريمين فهو تعالى لكونه عزيزا لا يغلب إذا أعطى فليس لمانع أن يمنع عنه وإذا منع فليس لمعط أن يعطيه ، وهو تعالى حكيم إذا أعطى أعطى عن حكمة ومصلحة وإذا منع منع عن حكمة ومصلحة وبالجملة لا معطي إلا الله ولا مانع إلا هو ، ومنعه وإعطائه عن حكمة.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » إلخ. لما قرر في الآية السابقة أن الإعطاء والمنع لله سبحانه لا يشاركه في ذلك أحد احتج في هذه الآية بذلك على توحده في الربوبية.

وتقرير الحجة أن الإله إنما يكون إلها معبودا لربوبيته وهي ملكة تدبير أمر الناس وغيرهم ، والذي يملك تدبير الأمر بهذه النعم التي يتقلب فيها الناس وغيرهم ويرتزقون بها هو الله سبحانه دون غيره من الآلهة التي اتخذوها لأنه سبحانه هو الذي خلقها دونهم والخلق لا ينفك عن التدبير ولا يفارقه فهو سبحانه إلهكم لا إله إلا هو لأنه ربكم الذي يدبر أمركم بهذه النعم التي تتقلبون فيها وإنما كان ربا مدبرا بهذه النعم لأنه

١٥

خالقها وخالق النظام الذي يجري عليها.

وبذلك يظهر أن المراد بالناس المخاطبين الوثنيون وغيرهم ممن اتخذ لله شريكا.

وقوله : « اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ » المراد بالذكر ما يقابل النسيان دون الذي الذكر اللفظي.

وقوله : « هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » الرزق هو ما يمد به البقاء ومبدؤه السماء بواسطة الأشعة والأمطار وغيرهما والأرض بواسطة النبات والحيوان وغيرهما.

وبذلك يظهر أيضا أن في الآية إيجازا لطيفا فقد بدلت الرحمة في الآية السابقة نعمة في هذه الآية أولا ثم النعمة رزقا ثانيا وكان مقتضى سياق الآيتين أن يقال : هل من رازق أو هل من منعم أو هل من راحم لكن بدل ذلك من قوله : « هَلْ مِنْ خالِقٍ » ليكون إشارة إلى برهان ثان ينقطع به الخصام ، فإنهم يرون تدبير العالم لآلهتهم بإذن الله فلو قيل : هل من رازق أو منعم غير الله لم ينقطع الخصام وأمكن أن يقولوا نعم آلهتنا بتفويض التدبير من الله إليهم لكن لما قيل : « هَلْ مِنْ خالِقٍ » أشير بالوصف إلى أن الرازق والمدبر هو خالق الرزق لا غير فانقطع الخصام ولم يمكنهم إلا أن يجيبوا بنفي خالق غير الله يرزقهم من السماء والأرض.

وقوله : « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » اعتراض بالتوحيد يفيد التعظيم نظير قوله : « وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ ».

أي لا معبود بالحق إلا هو لأن المستحق للعبادة هو الذي ينعم عليكم ويرزقكم وليس إلا الله.

وقوله : « فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ » توبيخ متفرع على ما سبغ من البرهان أي فإذا كان الأمر هكذا وأنتم تقرون بذلك فإلى متى تصرفون عن الحق إلى الباطل ومن التوحيد إلى الإشراك.

وفي إعراب الآية أعني قوله : « هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ » إلخ. بين القوم مشاجرات طويلة والذي يناسب ما تقدم من تقرير البرهان أن « مِنْ » زائدة للتعميم ، وقوله :

١٦

« غَيْرُ اللهِ » صفة لخالق تابع لمحله ، وكذا قوله : « يَرْزُقُكُمْ » إلخ. و « مِنْ خالِقٍ » مبتدأ محذوف الخبر وهو موجود ، وقوله : « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » اعتراض ، وقوله : « فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ » تفريع على ما تقدمه.

قوله تعالى : « وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ » تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أي وإن يكذبوك بعد استماع هذه البراهين الساطعة فلا تحزن فليس ذلك ببدع فقد كذبت رسل من قبلك كذبتهم أممهم وأقوامهم وإلى الله ترجع عامة الأمور فيجازيهم بما يستحقونه بتكذيبهم الحق بعد ظهوره فليسوا بمعجزين بتكذيبهم.

ومن هنا يظهر أن قوله؟ « فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ » من قبيل وضع السبب موضع المسبب وأن قوله : « وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ » معطوف على قوله : « فَقَدْ كُذِّبَتْ » إلخ.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ » خطاب عام للناس يذكرهم بالمعاد كما كان الخطاب العام السابق يذكرهم بتوحده تعالى في الربوبية والألوهية.

فقوله : « إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ » أي وعده أنه يبعثكم فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا وإن شرا « حَقٌ » أي ثابت واقع ، وقد صرح بهذا الوعد في قوله الآتي : « الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ».

وقوله : « فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا » النهي وإن كان متوجها إلى الحياة الدنيا صورة لكنه في الحقيقة متوجه إليهم ، والمعنى إذا كان وعد الله حقا فلا تغتروا بالحياة الدنيا بالاشتغال بزينتها والتلهي بما ينسيكم يوم الحساب من ملاذها وملاهيها والاستغراق في طلبها والإعراض عن الحق.

وقوله : « وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ » الغرور بفتح الغين صيغة مبالغة من الغرور بالضم وهو الذي يبالغ في الغرور ومن عادته ذلك ، والظاهر ـ كما قيل ـ إن المراد به الشيطان ويؤيده التعليل الواقع في الآية التالية : « إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ » إلخ.

ومعنى غروره بالله توجيهه أنظارهم إلى مظاهر حلمه وعفوه تعالى تارة ومظاهر

١٧

ابتلائه واستدراجه وكيده أخرى فيرون أن الاشتغال بالدنيا ونسيان الآخرة والإعراض عن الحق والحقيقة لا يستعقب عقوبة ولا يستتبع مؤاخذة ، وأن أبناء الدنيا كلما أمعنوا في طلبهم وتوغلوا في غفلتهم واستغرقوا في المعاصي والذنوب زادوا في عيشهم طيبا وفي حياتهم راحة وبين الناس جاها وعزة فيلقي الشيطان عند ذلك في قلوبهم أن لا كرامة إلا في التقدم في الحياة الدنيا ، ولا خبر عما وراءها وليس ما تتضمنه الدعوة الحقة من الوعد والوعيد وتخبر به النبوة من البعث والحساب والجنة والنار إلا خرافة.

فالمراد بغرور الشيطان الإنسان بالله اغترار الإنسان بما يعامل به الله الإنسان على غفلته وظلمه.

وربما قيل : إن المراد بالغرور الدنيا الغارة للإنسان وأن قوله : « وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ » تأكيد لقوله : « فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا » بتكراره معنى.

قوله تعالى : « إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا » إلخ. تعليل للنهي المتقدم في قوله : « وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ » والمراد بعداوة الشيطان أنه لا شأن له إلا إغواء الإنسان وتحريمه سعادة الحياة وحسن العاقبة ، والمراد باتخاذ الشيطان عدوا التجنب من اتباع دعوته إلى الباطل وعدم طاعته فيما يشير إليه في وساوسه وتسويلاته ولذلك علل عداوته بقوله : « إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ ».

فقوله؟ « إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ » في مقام تعليل ما تقدمه والحزب هو العدة من الناس يجمعهم غرض واحد ، واللام في « لِيَكُونُوا » للتعليل فكونهم من أصحاب السعير علة غائية لدعوته ، والسعير النار المسعرة وهو من أسماء جهنم في القرآن.

قوله تعالى : « الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ » هذا هو الوعد الحق الذي ذكره الله سبحانه ، وتنكير العذاب للدلالة على التفخيم على أن لهم دركات ومراتب مختلفة من العذاب باختلاف كفرهم وفسوقهم فالإبهام أنسب ويجري نظير الوجهين في قوله : « مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ ».

قوله تعالى : « أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ » تقرير وبيان للتقسيم الذي تتضمنه الآية السابقة أعني تقسيم الناس إلى كافر

١٨

له عذاب شديد ومؤمن عامل بالصالحات له مغفره وأجر كبير والمراد أنهما لا يستويان فلا تستوي عاقبة أمرهما.

فقوله : « أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً » مبتدأ خبره محذوف أي كمن ليس كذلك ، والفاء لتفريع الجملة على معنى الآية السابقة ، والاستفهام للإنكار ، والمراد بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الكافر ويشير به إلى أنه منكوس فهمه مغلوب على عقله يرى عمله على غير ما هو عليه والمعنى أنه لا يستوي من زين له عمله السيئ فرآه حسنا والذي ليس كذلك بل يرى السيئ سيئا.

وقوله : « فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ » تعليل للإنكار السابق في قوله : « أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً » أي الكافر الذي شأنه ذلك والمؤمن الذي بخلافه لا يستويان لأن الله يضل أحدهما بمشيته وهو الكافر الذي يرى السيئة حسنة ويهدي الآخر بمشيته وهو المؤمن الذي يعمل الصالحات ويرى السيئة سيئة.

وهذا الإضلال إضلال على سبيل المجازاة وليس إضلالا ابتدائيا فلا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه.

وبالجملة اختلاف الكافر والمؤمن في عاقبتهما بحسب الوعد الإلهي بالعذاب والرحمة لاختلافهما بالإضلال والهداية الإلهيين واختلافهما بالإضلال والهداية باختلافهما في رؤية السيئة حسنة وعدمها.

وقوله : « فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ » الحسرات جمع حسرة وهي الغم لما فأت والندم عليه ، وهي منصوبة لأنه مفعول لأجله والمراد بذهاب النفس عليهم هلاكها فيهم لأجل الحسرات الناشئة من عدم إيمانهم.

والجملة متفرعة على الفرق السابق أي إذا كانت الطائفتان مختلفتين بالإضلال والهداية من جانب الله فلا تهلك نفسك حسرات عليهم إذ كذبوك وكفروا بك فإن الله هو الذي يضلهم جزاء لكفرهم ورؤيتهم السيئة حسنة وهو عليم بما يصنعون فلا يختلط عليه الأمر ولا يفعل بهم إلا الحق ولا يجازيهم إلا بالحق.

ومن هنا يظهر أن قوله : « إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ » في موضع التعليل لقوله :

١٩

« فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ » فلا ينبغي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يهلك نفسه عليهم حسرات حيث ضلوا وحقت عليهم

كلمة العذاب فإن الله هو الذي يضلهم لصنعهم وهو عليم بما يصنعون.

* * *

( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ـ ٩. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ ـ ١٠. وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ـ ١١. وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ـ ١٢. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ـ ١٣. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا

٢٠