الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

نَذِيرٌ مُبِينٌ ـ ٧٠. إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ـ ٧١. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ـ ٧٢. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ـ ٧٣. إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ـ ٧٤. قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ـ ٧٥. قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ـ ٧٦. قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ـ ٧٧. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ ـ ٧٨. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ـ ٧٩. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ـ ٨٠. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ـ ٨١. قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ـ ٨٢. إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ـ ٨٣. قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ـ ٨٤. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ـ ٨٥. قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ـ ٨٦. إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ـ ٨٧. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ـ ٨٨. )

( بيان )

الفصل الأخير من فصول السورة المشتمل على أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإبلاغ نذارته ودعوته إلى التوحيد. وأن الإعراض عن الحق واتباع الشيطان ينتهي بالإنسان إلى

٢٢١

عذاب النار المقضي في حقه وحق أتباعه وعند ذلك تختتم السورة.

قوله تعالى : « قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ـ إلى قوله ـ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ » في الآيتين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإبلاغ أنه منذر وأن الله تعالى واحد في الألوهية فقوله : « إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ » يفيد قصره في كونه منذرا ونفي سائر الأغراض التي ربما تتلبس به الدعوة بين الناس من طلب مال أو جاه كما يشير إليه ما في آخر الآيات من قوله : « قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ».

وقوله : « وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ » إلى آخر الآيتين إبلاغ لتوحيده تعالى بحجة يدل عليها ما أورد من صفاته المدلول عليها بأسمائه.

فقوله : « وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ » نفي لكل إله ـ والإله هو المعبود بالحق ـ غيره تعالى وأما ثبوت ألوهيته تعالى فهو مسلم بانتفاء ألوهية غيره إذ لا نزاع بين الإسلام والشرك في أصل ثبوت الإله وإنما النزاع في أن الإله وهو المعبود بالحق هو الله تعالى أو غيره. على أن ما ذكر في الآيتين من الصفات متضمن لإثبات ألوهيته كما أنها حجة على انتفاء ألوهية غيره تعالى.

وقوله : « الْواحِدُ الْقَهَّارُ » يدل على توحده تعالى في وجوده وقهره كل شيء وذلك أنه تعالى واحد لا يماثله شيء في وجوده ولا تناهي كماله الذي هو عين وجوده الواجب فهو الغني بذاته وعلى الإطلاق وغيره من شيء فقير يحتاج إليه من كل جهة ليس له من الوجود وآثار الوجود إلا ما أنعم وأفاض فهو سبحانه القاهر لكل شيء على ما يريد وكل شيء مطيع له فيما أراد خاضع له فيما شاء.

وهذا الخضوع الذاتي هو حقيقة العبادة فلو جاز أن يعبد شيء في الوجود عملا بأن يؤتى بعمل يمثل به العبودية والخضوع فهي عبادته سبحانه إذ كل شيء مفروض دونه فهو مقهور خاضع له لا يملك لنفسه ولا لغيره شيء ولا يستقل من الوجود وآثار الوجود بشيء فهو سبحانه الإله المعبود بالحق لا غير.

وقوله : « رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا » يفيد حجة أخرى على توحده تعالى في الألوهية وذلك أن نظام التدبير الجاري في العالم برمته نظام واحد متصل غير متبعض ولا متجز وهو آية وحدة المدبر ، وقد تقدم كرارا أن الخلق والتدبير لا ينفكان

٢٢٢

فالتدبير خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه والخالق الموجد للسماوات والأرض وما بينهما هو الله سبحانه ـ حتى عند الخصم ـ فهو تعالى ربها المدبر لها جميعا فهو وحده الإله الذي يجب أن يقصد بالعبادة لأن العبادة تمثيل عبودية العابد ومملوكيته تجاه مولوية المعبود ومالكيته وتصرفه في العابد بإفاضة النعمة ودفع النقمة فهو سبحانه الإله في السماوات والأرض وما بينهما لا إله غيره. فافهم ذلك.

ويمكن أن يكون قوله : « رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا » بيانا لقوله « الْقَهَّارُ » أو « الْواحِدُ الْقَهَّارُ ».

وقوله : « الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ » يفيد حجة أخرى على توحده تعالى في الألوهية وذلك أنه تعالى عزيز لا يغلبه شيء بإكراهه على ما لم يرد أو بمنعه عما أراد فهو العزيز على الإطلاق وغيره من شيء ذليل عنده قانت له والعبادة إظهار للمذلة ولا يستقيم إلا قبال العزة ولا عزة لغيره تعالى إلا به.

وأيضا غاية العبادة وهي تمثيل العبودية التقرب إلى المعبود ورفع وصمة البعد عن العبد العابد وهو مغفرة الذنب والله سبحانه هو المستقل بالرحمة التي لا تنفد خزائنها وهو الذي يورد عباده العابدين له في الآخرة دار كرامته فهو الغفار الذي يجب أن يعبد طمعا في مغفرته.

ويمكن أن يكون قوله : « الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ » تلويحا إلى وجه الدعوة إلى التوحيد أو وجوب الإيمان به المفهوم بحسب المقام من قوله : « وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » والمعنى أدعوكم إلى توحيده فآمنوا به لأنه العزيز الذي لا يشوبه ذلة الغفار للذنوب وهكذا يجب أن يكون الإله.

قوله تعالى : « قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ » مرجع الضمير ما ذكره من حديث الوحدانية في قوله : « وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ » إلخ.

وقيل : الضمير للقرآن فهو النبأ العظيم الذي أعرضوا عنه ، وهو أوفق لسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن ، وأوفق أيضا لقوله الآتي : « ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ » أي حتى أخبرني به القرآن ، وقيل : المراد به يوم القيامة وهو أبعد الوجوه.

٢٢٣

قوله تعالى : « ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ » الملأ الأعلى جماعة الملائكة وكأن المراد باختصامهم ما أشار تعالى إليه بقوله : « إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » إلى آخر الآيات.

وكأن المعنى إني ما كنت أعلم اختصام الملإ الأعلى حتى أوحى الله إلي ذلك في كتابه فإنما أنا منذر أتبع الوحي.

قوله تعالى : « إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ » تأكيد لقوله : « إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ » وبمنزلة التعليل لقوله : « ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى » والمعنى لم أكن أعلم ذلك لأن علمي ليس من قبل نفسي وإنما هو بالوحي وليس يوحى إلي إلا ما يتعلق بالإنذار.

قوله تعالى : « إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ » الذي يعطيه السياق أن الآية وما بعدها ليست تتمة لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ » إلخ والشاهد عليه قوله : « رَبُّكَ » فهو من كلامه تعالى يشير إلى زمان اختصام الملإ الأعلى والظرف متعلق بما تعلق به قوله : « إِذْ يَخْتَصِمُونَ » أو متعلق بمحذوف والتقدير « اذكر إذ قال ربك للملائكة » إلخ فإن قوله تعالى للملائكة : « إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » وقوله لهم : « إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ » متقارنان وقعا في ظرف واحد.

وعلى هذا يؤول معنى قوله : « إِذْ قالَ رَبُّكَ » إلخ إلى نحو من قولنا : اذكر وقتئذ قال ربك كذا وكذا فهو وقت اختصامهم.

وجعل بعضهم قوله : « إِذْ قالَ رَبُّكَ » إلخ مفسرا لقوله : « إِذْ يَخْتَصِمُونَ » ثم أخذ الاختصام بعد تفسيره بالتقاول مجموع قوله تعالى للملائكة « إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » وقولهم : « أَتَجْعَلُ » إلخ ، وقوله لآدم وقول آدم لهم ، وقوله تعالى لهم : ( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ) » وقول إبليس وقوله تعالى له.

وقال على تقدير كون الاختصام بمعنى المخاصمة ودلالة قوله : « إِذْ يَخْتَصِمُونَ » على كون المخاصمة بين الملائكة أنفسهم لا بينهم وبين الله سبحانه أن إخباره تعالى لهم بقوله : « إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » « إِنِّي خالِقٌ بَشَراً » كان بتوسط ملك من الملائكة وكذا قوله لآدم ولإبليس فيكون قولهم لربهم : « أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها » إلخ وغيره قولا منهم للملك المتوسط ويقع الاختصام فيما بينهم أنفسهم.

٢٢٤

وأنت خبير بأن شيئا مما ذكره لا يستفاد من سياق الآيات.

وقوله : « إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ » البشر الإنسان ، قال الراغب : البشر ظاهر الجلد والأدمة باطنه. كذا قال عامة الأدباء ، قال : وعبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الوبر ، واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وثني فقال تعالى : « أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ » وخص في القرآن كل موضع اعتبر من الإنسان جثته وظاهره بلفظ البشر. انتهى.

وقد عد في الآية مبدأ خلق الإنسان الطين ، وفي سورة الروم التراب وفي سورة الحجر صلصال من حمإ مسنون ، وفي سورة الرحمن صلصال كالفخار ولا ضير فإنها أحوال مختلفة لمادته الأصلية التي منها خلق وقد أشير في كل موضع إلى واحدة منها.

قوله تعالى : « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ » تسوية الإنسان تعديل أعضائه بتركيب بعضها على بعض وتتميمها صورة إنسان تام ، ونفخ الروح فيه جعله ذا نفس حية إنسانية وإضافة الروح إليه تعالى تشريفية وقوله : « فَقَعُوا » أمر من الوقوع وهو متفرع على التسوية والنفخ.

قوله تعالى : « فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ » ظاهر الدلالة على سجود الملائكة له من غير استثناء.

قوله تعالى : « إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ » أي استكبر إبليس فلم يسجد له وكان قبل ذلك من الكافرين كما حكى سبحانه عنه في سورة الحجر قوله : « لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ » الحجر : ـ ٣٣.

قوله تعالى : « قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ » نسبة خلقه إلى اليد للتشريف بالاختصاص كما قال : « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » وتثنية اليد كناية عن الاهتمام التام بخلقه وصنعه فإن الإنسان إنما يستعمل اليدين فيما يهتم به من العمل فقوله : « خَلَقْتُ بِيَدَيَ » كقوله : « مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا » يس : ـ ٧١.

وقيل : المراد باليد القدرة والتثنية لمجرد التأكيد كقوله : « ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ »

٢٢٥

الملك : ـ ٣ وقد وردت به الرواية.

وقيل : المراد باليدين نعم الدنيا والآخرة ، ويمكن أن يحتمل إرادة مبدأي الجسم والروح أو الصورة والمعنى أو صفتي الجلال والجمال من اليدين لكنها معان لا دليل على شيء منها من اللفظ.

وقوله : « أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ » استفهام توبيخ أي أكان عدم سجودك لأنك استكبرت أم كنت من الذين يعلون أي يعلو قدرهم أن يؤمروا بالسجود ، ولذا قال بعضهم بالاستفادة من الآية أن العالين قوم من خلقه تعالى مستغرقون في التوجه إلى ربهم لا يشعرون بغيره تعالى.

وقيل : المراد بالعلو الاستكبار كما في قوله تعالى : « وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ » يونس : ـ ٨٣ والمعنى استكبرت حين أمرت بالسجدة أم كنت من قبل من المستكبرين؟.

ويدفعه أنه لا يلائم مقتضى المقام فإن مقتضاه تعلق الغرض باستعلام أصل استكباره لا تعيين كون استكباره قديما أو حديثا.

وقيل : المراد بالعالين ملائكة السماء فإن المأمورين بالسجود هم ملائكة الأرض.

ويدفعه ما في الآية من العموم.

قوله تعالى : « قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » تعليل عدم سجوده بما يدعيه من شرافة ذاته وأنه لكون خلقه من نار خير من آدم المخلوق من طين ، وفيه تلويح أن الأمر الإلهي إنما يطاع إذا كان حقا لا لذاته ، وليس أمره بالسجود له حقا ، ويؤول إلى إنكار إطلاق ملكه تعالى وحكمته وهو الأصل الذي ينتهي إليه كل معصية فإن المعصية إنما تقع بالخروج عن حكم عبوديته تعالى ومملوكيته وبالإعراض عن كون تركها أولى من فعلها واقترافها.

قوله تعالى : « قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ » الرجم الطرد ، ويوم الدين يوم الجزاء.

وقوله : « وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي » وفي سورة الحجر : « وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ » الآية ـ ٣٥ قيل في وجهه : لو كانت اللام للعهد فلا فرق بين التعبيرين ، ولو كانت للجنس فكذلك

٢٢٦

أيضا لأن لعن غيره تعالى من الملائكة والناس عليه إنما يكون طردا له حقيقة وإبعادا من الرحمة إذا كان بأمر الله وبإبعاده من رحمته.

قوله تعالى : « قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إلى قوله ـ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ » ظاهر تغير الغاية في السؤال والجواب حيث قال : « إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ » فأجيب بقوله : « إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ » أن ما أجيب إليه غير ما سأله فهو لا محالة آخر يوم يعصي فيه الناس ربهم وهو قبل يوم البعث ، والظاهر أن المراد باليوم الظرف فتفيد إضافته إلى الوقت التأكيد.

قوله تعالى : « قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » الباء في « فَبِعِزَّتِكَ » للقسم أقسم بعزته ليغوينهم أجمعين واستثنى منهم المخلصين وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا نصيب فيهم لإبليس ولا لغيره.

قوله تعالى : « قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ » جوابه تعالى لإبليس وهو يتضمن القضاء عليه وعلى من تبعه بالنار.

فقوله : « فَالْحَقُ » مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدإ ، والفاء لترتيب ما بعده على ما قبله ، والمراد بالحق ما يقابل الباطل على ما يؤيده إعادة الحق ثانيا باللام والمراد به ما يقابل الباطل قطعا والتقدير فالحق أقسم به لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم ، أو فقولي الحق لأملأن « إلخ ».

وقوله : « وَالْحَقَّ أَقُولُ » جملة معترضة تشير إلى حتمية القضاء وترد على إبليس ما يلوح إليه قوله : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ » إلخ من كون قوله تعالى وهو أمره بالسجود غير حق ، وتقديم الحق في « وَالْحَقَّ أَقُولُ » وتحليته باللام لإفادة الحصر.

وقوله : « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ » متن القضاء الذي قضى به وكأن المراد بقوله : « مِنْكَ » جنس الشياطين حتى يشمل إبليس وذريته وقبيله ، وقوله : « وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ » أي من الناس ذرية آدم.

وقد أشبعنا الكلام في نظائر الآيات من سورة الحجر وفي القصة من سور البقرة والأعراف والإسراء فعليك بالرجوع إليها.

٢٢٧

قوله تعالى : « قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ » رجوع إلى ما تقدم في أول السورة وخلال آياتها أن القرآن ذكر وأن ليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا منذرا لا غير ورد لما رموه بقولهم « امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ».

فقوله : « ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ » أي أجرا دنيويا من مال أو جاه ، وقوله : « وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ » أي من أهل التكلف وهو التصنع والتحلي بما ليس له.

قوله تعالى : « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ » أي القرآن ذكر عام للعالمين من جماعات الناس ومختلف الشعوب والأمم وغيرهم لا يختص بقوم دون قوم حتى يؤخذ على تلاوته مال وعلى تعليمه أجر بل هو للجميع.

قوله تعالى : « وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ » أي لتعلمن ما أخبر به القرآن من الوعد والوعيد وظهوره على الأديان وغير ذلك بعد حين أي بعد مرور زمان.

قيل : المراد بعد حين يوم القيامة ، وقيل : يوم الموت ، وقيل : يوم بدر ، ولا يبعد أن يقال : إن نبأه مختلف لا يختص بيوم من هذه الأيام حتى يكون هو المراد بل المراد به المطلق فلكل من أقسام نبئه حينه.

( بحث روائي )

في تفسير القمي ، بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام : في حديث يذكر فيه المعراج ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال تعالى : يا محمد. قلت : لبيك يا رب. قال : فيما اختصم الملأ الأعلى؟ قال : قلت : سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني. قال : فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي ـ فوجدت بردها بين كتفي ـ قال : فلم يسألني عما مضى ولا عما بقي إلا علمته. فقال : يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال : قلت : في الكفارات والدرجات والحسنات ـ الحديث.

وفي المجمع ، روى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قال لي ربي : أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : لا. قال : اختصموا في الكفارات والدرجات ـ فأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات ـ ونقل الأقدام إلى الجماعات ـ وانتظار الصلاة بعد الصلاة ،

٢٢٨

وأما الدرجات فإفشاء السلام وإطعام الطعام ـ والصلاة بالليل والناس نيام.

أقول : ورواه في الخصال ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل ما فسر به الكفارات تفسيرا للدرجات وبالعكس ، وروي في الدر المنثور ، حديث المجمع بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على اختلاف ما في الروايات.

وكيفما كان فسياق الآية يأبى الانطباق على مضمون هذه الروايات ولا دليل يدل على كون الروايات في مقام تفسير الآية فلعل الاختصام المذكور فيها غير المذكور في الآية.

وفي نهج البلاغة الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء ـ واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحرما على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده ، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ـ ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ـ فقال سبحانه ـ وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب : ( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ـ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ـ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ) ـ اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه ـ وتعصب عليه بأصله ـ.

فعدو الله إمام المتعصبين وسلف المستكبرين ـ الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وأدرع لباس التعزز ، وخلع قناع التذلل ـ ألا ترون كيف صغره الله بتكبره ، ووضعه بترفعه ـ فجعله في الدنيا مدحورا ، وأعد له في الآخرة سعيرا. الخطبة.

وفي العيون ، بإسناده إلى محمد بن عبيدة قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن قول الله تعالى لإبليس : « ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ » قال : يعني بقدرتي وقوتي.

أقول : وروي مثله في التوحيد ، بإسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام.

وفي القصة روايات أخر أوردناها في ذيلها من سور البقرة والأعراف والحجر والإسراء فراجع.

وعن جوامع الجامع ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم.

أقول : وروي مثله في الخصال ، عن الصادق عليه‌السلام عن لقمان في وصيته لابنه ،

٢٢٩

وروي أيضا من طرق أهل السنة ، وفي بعض الروايات : ينازل من فوقه.

* * *

سورة الزمر مكية وهي خمس وسبعون آية

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ـ ١. إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ـ ٢. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ ـ ٣. لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ـ ٤. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ـ ٥. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ـ ٦. إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ

٢٣٠

تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ـ ٧. وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ـ ٨. أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ـ ٩. قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ـ ١٠. )

( بيان )

يظهر من خلال آيات السورة أن المشركين من قومه صلى‌الله‌عليه‌وآله سألوه أن ينصرف عما هو عليه من التوحيد والدعوة إليه والتعرض لآلهتهم وخوفوه بآلهتهم فنزلت السورة ـ وهي قرينة سورة ص بوجه ـ وهي تؤكد الأمر بأن يخلص دينه لله سبحانه ولا يعبأ بآلهتهم وأن يعلمهم أنه مأمور بالتوحيد وإخلاص الدين الذي تواترت الآيات من طريق الوحي والعقل جميعا عليه.

ولذلك نراه سبحانه يعطف الكلام عليه في خلال السورة مرة بعد مرة كقوله في مفتتح السورة : « فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ » ثم يرجع إليه ويقول :

٢٣١

« قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ـ إلى قوله ـ قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ».

ثم يقول : « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ » إلخ ثم يقول : « أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ » ثم يقول : « قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ » ثم يقول : « قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ » إلى غير ذلك من الإشارات.

ثم عمم الاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية والألوهية من الوحي ومن طريق البرهان وقايس بين المؤمنين والمشركين مقايسات لطيفة فوصف المؤمنين بأجمل أوصافهم وبشرهم بما سيثيبهم في الآخرة مرة بعد مرة وذكر المشركين وأنذرهم بما سيلحقهم من الخسران وعذاب الآخرة مضافا إلى ما يصيبهم في الدنيا من وبال أمرهم كما أصاب الذين كذبوا من الأمم الدارجة من عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر.

ومن ثم وصفت السورة يوم البعث وخاصة في مختتمها بأوضح الوصف وأتمه.

والسورة مكية لشهادة سياق آياتها بذلك وكأنها نزلت دفعة واحدة لما بين آياتها من الاتصال.

والآيات العشر المنقولة تجمع الدعوة من طريق الوحي والحجة العقلية بادئة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : « تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » « تَنْزِيلُ الْكِتابِ » خبر لمبتدإ محذوف ، وهو مصدر بمعنى المفعول فيكون إضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و « مِنَ اللهِ » متعلق بتنزيل والمعنى هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم.

وقيل : « تَنْزِيلُ الْكِتابِ » مبتدأ و « مِنَ اللهِ » خبره ولعل الأول أقرب إلى الذهن.

قوله تعالى : « إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ » عبر بالإنزال دون التنزيل كما في الآية السابقة لأن القصد إلى بيان كونه بالحق وهو يناسب مجموع ما نزل إليه من ربه.

وقوله : « بِالْحَقِ » الباء فيه للملابسة أي أنزلناه إليك متلبسا بالحق فما فيه من الأمر بعبادة الله وحده حق ، وعلى هذا المعنى فرع عليه قوله : « فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ

٢٣٢

الدِّينَ » والمعنى فإذا كان بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين لأن فيه ذلك.

والمراد بالدين ـ على ما يعطيه السياق ـ العبادة ويمكن أن يراد به سنة الحياة وهي الطريقة المسلوكة في الحياة في المجتمع الإنساني ، ويراد بالعبادة تمثيل العبودية بسلوك الطريق التي شرعها الله سبحانه والمعنى فأظهر العبودية لله في جميع شئون حياتك باتباع ما شرعه لك فيها والحال أنك مخلص له دينك لا تتبع غير ما شرعه لك.

قوله تعالى : « أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ » إظهار وإعلان لما أضمر وأجمل في قوله : « بِالْحَقِ » وتعميم لما خصص في قوله : « فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ » أي إن الذي أوحيناه إليك من إخلاص الدين لله واجب على كل من سمع هذا النداء ، ولكون الجملة نداء مستقلا أظهر اسم الجلالة وكان مقتضى الظاهر أن يضمر ويقال : له الدين الخالص.

ومعنى كون الدين الخالص له أنه لا يقبل العبادة ممن لا يعبده وحده سواء عبده وغيره أو عبد غيره وحده.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى » إلى آخر الآية تقدم أن الوثنية يرون أن الله سبحانه أجل من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس فيتنزه تعالى عن أن يقع عليه توجه عبادي منا.

فمن الواجب أن نتقرب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه وهم الذين فوض إليهم تدبير شئون العالم فنتخذهم أربابا من دون الله ثم آلهة نعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله ويقربونا إليه زلفى وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسو البشر وهؤلاء هم الأرباب والآلهة بالحقيقة.

أما الأصنام المصنوعة المنصوبة في الهياكل والمعابد فإنما هي تماثيل للأرباب والآلهة وليست في نفسها أربابا ولا آلهة غير أن الجهلة من عامتهم ربما لم يفرقوا بين الأصنام وأرباب الأصنام فعبدوا الأصنام كما يعبد الأرباب والآلهة وكذلك كانت عرب الجاهلية وكذلك الجهلة من عامة الصابئين ربما لم يفرقوا بين أصنام الكواكب والكواكب التي هي أيضا أصنام لأرواحها الموكلة عليها وبين أرواحها التي هي الأرباب والآلهة بالحقيقة عند خاصتهم.

٢٣٣

وكيف كان فالأرباب والآلهة هم المعبودون عندهم وهم موجودات ممكنة مخلوقة لله مقربة عنده مفوضة إليهم تدبير أمر العالم لكل بحسب منزلته وأما الله سبحانه فليس له إلا الخلق والإيجاد وهو رب الأرباب وإله الآلهة.

إذا تذكرت ما مر ظهر أن المراد بقوله : « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ » اتخاذهم أربابا يدبرون الأمر بأن يسندوا الربوبية وأمر التدبير إليهم لا إلى الله فهم المدبرون للأمر عندهم ويتفرع عليه أن يخضع لهم ويعبدوا لأن العبادة لجلب النفع أو لدفع الضرر أو شكر النعم وكل ذلك إليهم لتصديهم أمر التدبير دون الله سبحانه.

فالمراد باتخاذهم أولياء اتخاذهم أربابا (١) ، ولذا عقب اتخاذ الأولياء بذكر العبادة « ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا » فقوله : « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ » مبتدأ خبره « إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ » إلخ والمراد بهم المشركون القائلون بربوبية الشركاء وألوهيتهم دون الله إلا ما ذهب إليه جهلتهم من كونه تعالى شريكا لهم في المعبودية.

وقوله : « ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى » تفسير لمعنى اتخاذ الأولياء من دون الله وهو حكاية لقولهم أو بتقدير القول أي يقولون : ما نعبدهم هؤلاء إلا ليقربونا بسبب عبادتنا لهم إلى الله تقريبا فهم عادلون منه تعالى إلى غيره ، وإنما سموا مشركين لأنهم يشركون به تعالى غيره حيث يقولون بكونهم أربابا وآلهة للعالم وكونه تعالى ربا وإلها لأولئك الأرباب والآلهة ، وأما الشركة في الخلق والإيجاد فلم يقل به لا مشرك ولا موحد.

وقوله : « إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » قيل : ضمير الجمع للمشركين وأوليائهم أي إن الله يحكم بين المشركين وبين أوليائهم فيما هم فيه يختلفون ، وقيل : الضميران راجعان إلى المشركين وخصمائهم من أهل الإخلاص في الدين المفهوم من السياق ، والمعنى إن الله يحكم بينهم وبين المخلصين للدين.

وقوله : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ » الكفار كثير الكفران لنعم الله

__________________

(١) فالولاية والربوبية قريبا المعنى فالرب هو المالك المدبر والولي هو مالك التدبير أو متصدي التدبير.

٢٣٤

أو كثير الستر للحق ، وفي الجملة إشعار بل دلالة على أن الحكم يوم القيامة على المشركين لا لهم وأنهم مسيرون إلى العذاب ، والمراد بالهداية الإيصال إلى حسن العاقبة.

قوله تعالى : « لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » احتجاج على نفي قولهم : إن الله اتخذ ولدا ، وقول بعضهم : الملائكة بنات الله. والقول بالولد دائر بين عامة الوثنية على اختلاف مذاهبهم وقد قالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت اليهود على ما حكاه القرآن عنهم : عزير ابن الله وكأنها بنوة تشريفية.

والبنوة كيفما كانت تقتضي شركة ما بين الابن والأب والولد والوالد فإن كانت بنوة حقيقية وهي اشتقاق شيء من شيء وانفصاله منه اقتضت الشركة في حقيقة الذات والخواص والآثار المنبعثة من الذات كبنوة إنسان لإنسان المقتضية لشركة الابن لأبيه في الإنسانية ولوازمها ، وإن كانت بنوة اعتبارية كالبنوة الاجتماعية وهو التبني اقتضت الاشتراك في الشئونات الخاصة بالأب كالسؤدد والملك والشرف والتقدم والوراثة وبعض أحكام النسب ، والحجة المسوقة في الآية تدل على استحالة اتخاذ الولد عليه تعالى بكلا المعنيين.

فقوله : « لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً » شرط صدر بلو الدال على الامتناع للامتناع ، وقوله : « لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ » أي لاختار لذلك مما يخلق ما يتعلق به مشيئته على ما يفيده السياق وكونه مما يخلق لكون ما عداه سبحانه خلقا له.

وقوله : « سُبْحانَهُ » تنزيه له سبحانه ، وقوله : « هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » بيان لاستحالة الشرط وهو إرادة اتخاذ الولد ليترتب عليه استحالة الجزاء وهو اصطفاء ما يشاء مما يخلق وذلك لأنه سبحانه واحد في ذاته المتعالية لا يشاركه فيها شيء ولا يماثله فيها أحد لأدلة التوحيد ، وواحد في صفاته الذاتية التي هي عين ذاته كالحياة والعلم والقدرة ، وواحد في شئونه التي هي من لوازم ذاته كالخلق والملك والعزة والكبرياء لا يشاركه فيها أحد.

وهو سبحانه قهار يقهر كل شيء بذاته وصفاته فلا يستقل قبال ذاته ووجوده شيء في ذاته ووجوده ولا يستغني عنه شيء في صفاته وآثار وجوده فالكل أذلاء داخرون بالنسبة إليه مملوكون له فقراء إليه.

٢٣٥

فمحصل حجة الآية قياس استثنائي ساذج يستثني فيه نقيض المقدم لينتج نقيض التالي وهو نحو من قولنا : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى لذلك بعض من يشاء من خلقه لكن إرادته اتخاذ الولد ممتنعة لكونه واحدا قهارا فاصطفاؤه لذلك بعض من يشاء من خلقه ممتنع.

وقد أغرب بعضهم في تقريب حجة الآية فقال : حاصل المعنى لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض.

وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله لاصطفى تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صعوبة. انتهى.

وكأنه مأخوذ من قول الزمخشري في الكشاف ، في تفسير الآية حيث قال : يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح لكونه محالا ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة لكنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء على الله وملائكته غالين في الكفر انتهى.

وأنت خبير أن سياق الآية لا يلائم هذا البيان. على أنه لا يدفع قول القائل بالتبني التشريفي كقول اليهود عزير ابن الله فإنهم لا يريدون بالتبني إلا اصطفاء من يشاء من خلقه.

وهناك بعض تقريبات أخر منهم لا جدوى فيه تركنا إيراده.

قوله تعالى : « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ » لا يبعد أن يكون ما فيه من

٢٣٦

الإشارة إلى الخلق والتدبير بيانا لقهاريته تعالى لكن اتصال الآيتين وارتباطهما مضمونا وانتهاء الثانية إلى قوله : « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ » إلخ كالصريح في أن ذلك استئناف بيان للاحتجاج على توحيد الربوبية.

فالآية والتي تليها مسوقتان لتوحيد الربوبية وقد جمع فيهما بين الخلق والتدبير لما مر مرارا أن إثبات وحدة الخالق لا يستلزم عند الوثني نفي تعدد الأرباب والآلهة لأنهم لا ينكرون انحصار الخلق والإيجاد فيه تعالى لكنه سبحانه فيما يحتج على توحده في الربوبية والألوهية في كلامه يجمع بين الخلق والتدبير إشارة إلى أن التدبير غير خارج من الخلق بل هو خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه وعند ذلك يتم الاحتجاج على رجوع التدبير إليه تعالى وانحصاره فيه برجوع الخلق إليه.

وقوله : « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ » إشارة إلى الخلقة ، وفي قوله : « بِالْحَقِ » ـ والباء للملابسة ـ إشارة إلى البعث فإن كون الخلقة حقا غير باطل يلازم كونها لغاية تقصدها وتنساق إليها وهي البعث قال تعالى : « وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً » ـ ص : ـ ٢٧.

وقوله : « يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ » قال في المجمع ، التكوير طرح الشيء بعضه على بعض. انتهى فالمراد طرح الليل على النهار وطرح النهار على الليل فيكون من الاستعارة بالكناية قريب المعنى من قوله : « يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ » الأعراف : ـ ٥٤ والمراد استمرار توالي الليل والنهار بظهور هذا على ذاك ثم ذاك على هذا وهكذا ، وهو من التدبير.

وقوله : « وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى » أي سخر الشمس والقمر فأجراهما للنظام الجاري في العالم الأرضي إلى أجل مسمى معين لا يتجاوزانه.

وقوله : « أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ » يمكن أن يكون في ذكر الاسمين إشارة إلى ما يحتج به على توحده تعالى في الربوبية والألوهية فإن العزيز الذي لا يعتريه ذلة إن كان فهو الله وهو المتعين للعبادة لا غيره الذي تغشاه الذلة وتغمره الفاقة وكذا الغفار للذنوب إذا قيس إلى من ليس من شأنه ذلك.

ويمكن أن يكون ذكرهما تحضيضا على التوحيد والإيمان بالله الواحد والمعنى

٢٣٧

أنبهكم أنه هو العزيز فآمنوا به واعتزوا بعزته ، الغفار فآمنوا به يغفر لكم.

قوله تعالى : « خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها » إلخ الخطاب لعامة البشر ، والمراد بالنفس الواحدة ـ على ما تؤيده نظائره من الآيات ـ آدم أبو البشر ، والمراد بزوجها امرأته التي هي من نوعها وتماثلها في الإنسانية ، و « ثُمَ » للتراخي بحسب رتبة الكلام.

والمراد أنه تعالى خلق هذا النوع وكثر أفراده من نفس واحدة وزوجها.

وقوله : « وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ » الأنعام هي الإبل والبقر والضأن والمعز ، وكونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر والأنثى.

وتسمية خلق الأنعام في الأرض إنزالا لها باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي هي عنده ومن الغيب إلى الشهادة قال تعالى : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » الحجر : ـ ٢١.

وقوله : « يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ » بيان لكيفية خلق من تقدم ذكره من البشر والأنعام ، وفي الخطاب تغليب أولي العقل على غيرهم ، والخلق من بعد الخلق التوالي والتوارد كخلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وهكذا ، والظلمات الثلاث هي ظلمة البطن والرحم والمشيمة كما قيل ورواه في المجمع ، عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وقيل : المراد بها ظلمة الصلب والرحم والمشيمة وهو خطأ فإن قوله : « فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ » صريح في أن المراد بالظلمات الثلاث ما في بطون النساء دون أصلاب الرجال.

وقوله : « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ » أي الذي وصف لكم في الآيتين بالخلق والتدبير هو ربكم دون غيره لأن الرب هو المالك الذي يدبر أمر ما ملكه وإذ كان خالقا لكم ولكل شيء دونكم وللنظام الجاري فيكم فهو الذي يملككم ويدبر أمركم فهو ربكم لا غير.

وقوله : « لَهُ الْمُلْكُ » أي على جميع المخلوقات في الدنيا والآخرة فهو المليك على الإطلاق » وتقديم الظرف يفيد الحصر ، والجملة خبر بعد خبر لقوله : « ذلِكُمُ اللهُ » كما أن قوله : « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » ، كذلك ، وانحصار الألوهية فيه تعالى فرع انحصار الربوبية فيه

٢٣٨

لأن الإله إنما يعبد لأنه رب مدبر فيعبد إما خوفا منه أو رجاء فيه أو شكرا له.

وقوله : « فَأَنَّى تُصْرَفُونَ » أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وهو ربكم الذي خلقكم ودبر أمركم وهو المليك عليكم.

قوله تعالى : « إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ » إلى آخر الآية. مسوق لبيان أن الدعوة إلى التوحيد وإخلاص الدين لله سبحانه ليست لحاجة منه تعالى إلى إقبالهم إليه بالانصراف عن عبادة غيره بل لعناية منه تعالى بهم فيدعوهم إلى سعادتهم اعتناء بها كما يعتني برزقهم فيفيض النعم عليهم وكما يعتني بحفظهم فيلهمهم أن يدفعوا الآفات عن أنفسهم.

فقوله : « إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ » الخطاب لعامة المكلفين أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم وطاعتكم ولا يتضرر بكفركم ومعصيتكم فالنفع والضرر إنما يتحققان في مجال الإمكان والحاجة وأما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع ولا تضرر.

وقوله : « وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ » دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله : « فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ » إنه إذا لم يتضرر بكفر ولم ينتفع بإيمان فلا موجب له أن يريد منا الإيمان والشكر فدفعه بأن تعلق العناية الإلهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم وأنتم عباده.

والمراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله : « وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ » وبذلك يظهر أن التعبير بقوله : « لِعِبادِهِ » دون أن يقول : لكم للدلالة على علة الحكم أعني سبب عدم الرضا.

والمحصل أنكم عباد مملوكون لله سبحانه منغمرون في نعمه ورابطة المولوية والعبودية وهي نسبة المالكية والمملوكية لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى ولاية مولاه ويتخذ لنفسه أولياء من دونه ويعصي المولى ويطيع عدوه وهو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

وقوله : « وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ » الضمير للشكر نظير قوله تعالى : « اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » المائدة : ـ ٨ والمعنى وإن تشكروا الله بالجري على مقتضى العبودية

٢٣٩

وإخلاص الدين له يرض الشكر لكم وأنتم عباده ، والشكر والكفر المقابل له ينطبقان على الإيمان والكفر المقابل له.

ومما تقدم يظهر أن العباد في قوله : « وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ » عام يشمل الجميع فقول بعضهم : إنه خاص أريد به من عناهم في قوله : « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » الحجر : ـ ٤٢ وهم المخلصون ـ أو المعصومون على ما فسره الزمخشري ـ ولازمه أن الله سبحانه رضي الإيمان لمن آمن ورضي الكفر لمن كفر إلا المعصومين فإنه أراد منهم الإيمان ، وصانهم عن الكفر سخيف جدا ، والسياق يأباه كل الإباء ، إذ الكلام مشعر حينئذ برضاه الكفر للكافر فيؤول معنى الكلام إلى نحو من قولنا : إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى للأنبياء مثلا الكفر لرضاه لهم الإيمان وإن تشكروا أنتم يرضه لكم وإن تكفروا يرضه لكم وهذا ـ كما ترى ـ معنى رديء ساقط وخاصة من حيث وقوعه في سياق الدعوة.

على أن الأنبياء مثلا داخلون فيمن شكر وقد رضي لهم الشكر والإيمان ولم يرض لهم الكفر فلا موجب لإفرادهم بالذكر وقد ذكر الرضا عمن شكر.

وقوله : « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلا من ارتكبه.

وقوله : « ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » أي هذا في الدنيا من كفر أو شكر ثم يبعثكم الله فيظهر لكم حقيقة أعمالكم ويحاسبكم على ما في قلوبكم وقد تكرر الكلام في معاني هذه الجمل فيما تقدم.

( كلام في معنى الرضا والسخط من الله )

الرضا من المعاني التي يتصف بها أولو الشعور والإرادة ويقابله السخط وكلاهما وصفان وجوديان.

ثم الرضا يتعلق بالمعاني من الأوصاف والأفعال دون الذوات يقال : رضي له كذا ورضي بكذا قال تعالى : « وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ » التوبة : ـ ٥٩ وقال :

٢٤٠