محمّد الرصافي المقداد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
الأمّة الإسلامية ، والتفافنا حوله كفكرة ، وتوجّهنا إلى نهجه ، الذي هو نهج آبائه الكرام البررة ، الأئمة الأحد عشر الذين مضوا بعد أن قاموا بواجبهم تجاه الدين الإسلامي والأمة الإسلامية ، وبقي دوره عليهالسلام ليعيد للدين عزّته ، وينزله منزلته ، فتقام به دولة العدل الإلهي ، ويتحقق الوعد الذي أطلقه الله تعالى في كتابه بقوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (١).
حتمية إتمام نور الله تعالى وعلوّ كلمته ، وظهور دينه على الدين كلّه ، تؤكّد على حتمية القائد الفذ القادر على رفع ذلك التحدي الكبير ، وفي كلا الاعتقادين فإنّ الإمام المهدي واحد ، ونهضته واحدة ، ودولته واحدة ، ودينه دين واحد هو دين جدّه أبي القاسم محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله ، وفرضية عدم ولادته لا تدفع القول بولادته ، لأنّ أغلب الروايات تحدثت عن خروجه ، باستثناء الروايات الخاصّة بأهل البيت عليهمالسلام التي ذكر عدد منها ولادته عليهالسلام ، وإنّ أباه هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وهو تمام عدة أئمة أهل البيت عليهمالسلام.
من هاتين النقطتين « المهدي ومظلومية أهل البيت وشيعتهم » عرفتُ الحقّ ، وسلكت نهج آل محمد عليهمالسلام ، موقناً أنّ الحقّ معهم منذ وفاة النبي صلىاللهعليهوآله ، لم يغادرهم لحظة إلى غيرهم ، فحمدت الله تعالى على منّة الإيمان بولاية أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، وموالاة الإمام المهدي المنتظر عليهالسلام قبل خروجه ، وأثني عليه مجدداً فبرحمته خرجتُ من ظلمات بعضها فوق بعض ، تاركا أولئك الذين يدّعون الحقّ ولا يملكونه ، بين ركام اختلط فيه السقيم بالسليم ، وسط مجتمعات لا يتّبع أغلبهم فيها غير الظن ، ( إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (٢). وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
_________________
(١) الانبياء : ١٠٥.
(٢) النجم : ٢٨.
الحلقة الثانية
مظلومية الزهراء عليهاالسلام وأهل البيت عليهمالسلام عناصر تشيّعي
كانت إجابة أحمد سريعة ومتحمسة ، فقد انبرى قائلاً : الحمد لله تعالى الذي هداني إلى معرفة أهل ولايته ، واستنقذني من عمى الضلالة ، وتيه سبل الانحراف ، لقد عرفت الحقيقة ، ووقفت على صدق الدعوى التي رفعها النبي صلىاللهعليهوآله ، والأئمة الأطهار من أهل بيته عليهمالسلام ، رغم محاولات الطمس التي تعرضت لها قرون عديدة ، صحيح إنّ تضافر الأدلة التي احتج بها أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم ، على أحقيّة الأئمة الهداة في قيادة الأمة الإسلامية ، بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآله ، لا تدع لمؤمن وجهة يقصدها غير أبواب الهداة الطاهرين ، التي جعلها الله تعالى قبلة وملاذا للمسلمين ، وأودع في بيوتهم العلم والحكمة ومكارم الأخلاق ، ففاضت على العالمين خيراً وبركة.
كلّ الأدلّة التي قرأتها ، وتثبتّ في صحة مصادرها ، أقنعتني وزادتني تثبيتاً ويقيناً ، من أنّ الحقّ هو في هذه الأمّة الموالية لأهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله قلباً وقالباً ، وليس عنواناً يُدّعى بلا تطبيق ، كما يمارسه مخالفوهم ، غير أنّ التي أراحتني مطلقاً وهزّت مشاعري ، وأوقفتني وحدها على الحقيقة ، هي مظلومية السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي صلىاللهعليهوآله ، وما لقيته من هضم وإجحاف ونقيصة وغميزة في حقّها ، من طرف من كان يشاهد ويسمع ويرى ما كان يفعله ويقوله ويطبقه في شأنها ، والدها النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله.
فمن تكون فاطمة الزهراء عليهاالسلام ؟ وما هي خصائصها ؟
وكيف ظلمت ؟ ومن ظلمها ؟ ولماذا ظلمت ؟ لذلك يمكنني القول : بأنّ الزهراء عليهاالسلام ، هي التي فتحت
قلبي قبل عيني على الحقيقة التي تقول ، بأنّ الإسلام المحمدي الأصيل والصافي ، لا يوجد إلّا عند الصفوة الطاهرة وشيعتهم ، الذين باركهم رسول الله صلىاللهعليهوآله في عدة أحاديث ، من بينها قوله صلىاللهعليهوآله مشيراً لعلي عليهالسلام « هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة ». وقد نقل هذه الرواية عدد من مفسّري وحفّاظ المخالفين لخط أهل البيت عليهمالسلام (١). لكن قبل أن أقدم دليل استبصاري ، اسمحوا لي بالتطرق ولو بإيجاز إلى هذه الفاضلة العظيمة عليهاالسلام ، وجعلنا الله من شفعائها يوم القيامة.
من هي فاطمة الزهراء عليهاالسلام ؟
هي بضعة المصطفى أبي القاسم محمّد خاتم الأنبياء والمرسلين صلىاللهعليهوآله ، وريحانته ، ومهجته ، وقلبه ، وروحه التي بين جنبيه ، حسب الأحاديث التي ذكرها النبي صلىاللهعليهوآله بخصوصها.
ولدت على أشهر الروايات في السنة الخامسة بعد البعثة ، وقد استبشر أهل السماء بولادتها قبل أهل الأرض ، وتولّت ذلك في مقاطعة وغياب نساء قريش ، عدد من نساء أهل الجنّة ، أرسلهنّ الباري تعالى ليكونوا أنساً وخدماً للوالدة والمولودة عليهماالسلام.
أمّا أمّها فهي السيّدة خديجة بنت خويلد ، تلك الفاضلة التي واست النبي صلىاللهعليهوآله بنفسها ومالها ، حتّى قال فيها : « ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة » (٢).
وهي التي بشّرها رسول الله صلىاللهعليهوآله بأنّها من سيّدات نساء أهل الجنّة (٣). بقيت تحت النبي صلىاللهعليهوآله إلى أنْ ماتت ولم يتزوج عليها ، بينما تزوج على غيرها تسعاً ، وبقيت أحبّ أزواجه إليه إلى أنْ مات صلىاللهعليهوآله ، ولم تنسه واحدة ممن تزوجهنّ بعدها ذكر خديجة وأيّام خديجة عليهاالسلام.
_________________
(١) انظر الرواية في المناقب للخوارزمى : ١١١ ، تاريخ ابن عساكر ٤٢ : ٣٣٣ ، أنساب الأشراف ، البلاذري ١ : ١٨٢ ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني ٢ : ٤٦٧ ، وغيرهم.
(٢) الأمالي ، الطوسي : ٤٦٨.
(٣) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٨٥ ـ ١٨٦.
خصائصها عليهاالسلام
خصائص الصديقة الطاهرة أكثر من أن تعد ، فهي كما وصفها أبوها صلىاللهعليهوآله حوراء إنسيّة ، قلباً وقالباً ، روحاً وعقلاً ، فهماً وعلماً ، والشيء من مأتاه لا يستغرب كما يقولون.
ورغم كثرة تلك الخصائص ، فإنّني لن أطيل في هذا المقام ، لأنّ الجلسة لا تحتمل ذلك ، لذلك سوف أذكر بعض الخصائص الكبرى المتفق عليها عند كلّ الفرق الإسلاميّة :
الخاصيّة الأولى : كونها سيّدة نساء العالمين
فقد ذكر النبيّ صلىاللهعليهوآله ذلك في عدد من الأحاديث منها ما صرحت به عائشة قالت : « أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال : مرحباً بابنتي ، ثمّ أجلسها عن يمينه ثمّ أسرّ إليها حديثاً فبكت ، ثمّ أسرّ إليها حديثاً فضحكت ، فقلت : ما رأيت كاليوم أقرب فرحاً من حزن : فسألتها عمّا قال ، فقالت : ما كنت لأفشي على رسول الله صلىاللهعليهوآله سرّه ، فلمّا قبض سألتها فأخبرتني أنّه قال : إنّ جبريل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة وإنّه عارضني العام مرتين ، وما أراه إلّا قد حضر أجلي وإنّك أوّل أهل بيتي لحوقاً بي ونعم السلف أنا لك ، فبكيت ، فقال : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين فضحكت » (١). وتشترك السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام في هذه الخاصية مع أمّها السيّدة خديجة ، لذلك فإنّنا نفتخر كمسلمين بأنّ لنا نصف سيدات نساء العالمين وأهل الجنّة اللاتي عدّتهنّ أربعة.
سيّدة النساء تفيد الكمال في هذا الإطار ، والسيادة لا تعني في لغتنا غير العلو والرفعة والتميّز والتفوّق ، وقد نالت فاطمة عليهاالسلام السبق في كلّ المكارم التي يمكن
_________________
(١) الإصابة في تمييز الصحابة ٨ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.
للكائن الإنساني أنْ يصلها ، وهي زيادة على كونها بضعة من الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآله ، ذلك الكائن الذي تمكن من مجاراة نسق طاعة النبي صلىاللهعليهوآله وطاعة الوصي ، إمام الأمّة عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، فخرجت من بين القمّتين المستعصيتين قمّة أخرى لا تنال بلحظ ولا تدرك بعمل.
وهذا دليل آخر يمكن وضعه في خانة نسبة العصمة إلى فاطمة الزهراء عليهاالسلام.
الخاصيّة الثانية : كونَها أمّ أبيها
وقد لقبها أفضل المخلوقات بهذا اللقب ; لأنّها كانت بالفعل ، البنت والأمّ في نفس الوقت ، وقد استطاعت بحنانها الفياض أنْ تملأ عليه الفراغ الهائل الذي تركته زوجته وحبيبته خديجة بنت خويلد عليهاالسلام ، ولم تستطع واحدة من نسائه التسع اللاتي تزوجهنّ بعدها ، منْ أن تنسيه خديجة عليهاالسلام. ممّا أثار حفيظة إحداهنّ ، وهي عائشة التي امتلأ قلبها حقداً وغيرةً عليها كلّما رأت النبي صلىاللهعليهوآله يهتم لصاحبات خديجة عليهاالسلام ، ويفرح بهنّ عندما يأتينه لحاجة أو زيارة ، إلى درجة وصفها بالعجوز الحمراء الشدقين.
الخاصيّة الثالثة : كونُها الصدّيقة
ولقبت بالصدّيقة ، لاشتراكها مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهماالسلام في مقام الصدق ، حتّى نزل فيهم قرآن يحثنا على أنْ نكون معهم. قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (١).
وطالما أنّ الصدق صفة نسبية في الناس ، ولا يمكن إطلاقها إلّا على القلّة القليلة منهم ، فقد اتجه إلحاقها بمن كانت إرادتهم متطابقة دائما مع إرادة الباري تعالى ، وتفسير الآية متعلق بهم.
_________________
(١) التوبة : ١١٩.
والصدّيق صفة مبالغة من الصدق ، هؤلاء الذين كانوا دائما وراء النبي صلىاللهعليهوآله تصديقاً وعملاً بمقتضاه ، يتفق معهم هذا اللقب اتفاقاً كاملاً بمقايسته ببقيّة الخصائص ، ويختلف مع غير هؤلاء ; لعدم ثبوت العصمة فيهم ، بينما ثبتت العصمة في أهل البيت عليهمالسلام بالنصوص التي في حوزتنا ، وعمليّاً بما لم يسجّل عليهم التاريخ زلّةً واحدةً أو غميزة تزحزحهم عنها.
الخاصيّة الرابعة : كونُها محدّثة
لُقّبت فاطمة عليهاالسلام بالمحدّثة ، لأنّ الملائكة كانت تحدّثها ، وتأنسَ إليها في أكثر الأوقات ، بل وتعينها في بعض الشؤون ، وقد جاء جبريل عليهالسلام بعد وفاة والدها لتعزيتها ومواساتها.
الخاصيّة الخامسة : كونُها طاهرة
فقد شملتها آية التطهير التي تدلُّ بوضوح على إذهاب رجس الشيطان عنها ، وتطهيرها تطهيراً كاملاً ، وهذا دليل على كمال الزهراء عليهاالسلام وعصمتها.
الخاصيّة السادسة : كونُها الكوثر
وقد لقّبها الباري تعالى بالكوثر ، مبشّراً نبيّه صلىاللهعليهوآله ، بعدما شناه العاص بن وائل والد عمرو بن العاص ، وكان معدودا من المبغضين للنبي صلىاللهعليهوآله وأهل بيته عليهمالسلام ، معيّراً إيّاه بالأبتر ـ الذي لا عقب له ـ بسبب أنّ الذي لا يخلف ولداً ذكراً ، يعتبر لا عقب له بمنظور المجتمع الجاهلي ، فاغتمّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لذلك ، ولجأ في ذلك إلى الله تعالى ، فأنزل عليه سورة الكوثر ; تطييباً لخاطره ، وبشارة له بكون عقبه سيكون من فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ولقّبها بالكوثر ; لكثرة نسلها من الصالحين. وقد ورد عنه صلىاللهعليهوآله : « بني اُم ينتمون إلى عصبتهم إلّا ولد فاطمة فإنّي أنا أبوهم وأنا عصبتهم » (١).
_________________
(١) تهذيب الكمال ١٩ : ٤٨٣.
الخاصيّة السابعة : كونها الزهراء
لُقّبت فاطمة بالزهراء للنور الذي يزهر منها إلى عنان السماء إذا قامت في محرابها للصلاة. وفاطمة عليهاالسلام ضاهت ، بل فاقت مريم العذراء في تهجدها وعباداتها ، لذلك كساها الباري تعالى من نوره ظاهراً وباطناً ، وأسبغ عليها من نعمه ومننه ، حتّى قرن غضبها من غضبه ، ورضاها من رضاه ، وهذا مقام لم يستطع أحد من العالمين الوصول إليه غيرها. ولا عجب في من خرجت إلى الدنيا من نور حبيب الرحمان ، وتربّت بين سيّد النبيين صلىاللهعليهوآله ، وسيّدة نساء أهل الجنة عليهاالسلام ، ثم انتقلت إلى بيت سيّد الوصيين عليهالسلام ; لتتولى دورها المهم في تنشئة وإعداد أنوار الأمة وهداتها عليهماالسلام.
كيف ظلمت ؟
مظلومية فاطمة عليهاالسلام ، غير خافية على المتتبع لأحداث ما بعد موت النبي صلىاللهعليهوآله ، فقد اقتُحِمَ عليها بابُها الذي جعله الله تعالى قبلة ومقصداً للمسلمين ، وحادثة سدّ الأبواب إلّا بابها من أوضح الواضحات ، لا ينكره إلّا جاحد ، انتُهكت حُرمة بيتها ، ووجىء في بطنها فأسقطت محسناً ، وضُرِبت وكُسِر ضلعها من طرف الغاصبين للحكومة الإسلامية ، حتّى كادوا يحرقون عليها بيتها بمن فيه ، مع علمهم التام واليقيني بمقامها ، ومكانة زوجها الرفيعة ، التي لا يشكُّ فيها إلّا منافق خبيث الولادة ، ذلك التعدي الصارخ على حرمتها ، لم يكن وليد تلك اللحظة ، بل إنّ فيه ما يشير إلي أنّ أضغان المعتدين كانت مضطرمة قبل ذلك بكثير ، فقد كانت قلوبهم تتقد حقداً ، وأفئدتهم تشتعل حسداً كلما رأوا النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله مهتماً بذلك البيت الطاهر ، ومعتنيا بأفراده المميزين عليهمالسلام ، مشيراً إلى فضلهم ، ناصّاً على منزلتهم الرفيعة عند الله تعالى وعند رسوله صلىاللهعليهوآله ..
لماذا ظلمت ؟
أمّا لماذا ظلمت الزهراء عليهاالسلام ؟ وهي على تلك المنزلة الرفيعة والمكانة الخصّيصة ، فهل يعقل أنْ تنسى مكانة الزهراء عليهاالسلام ، حتى يتعامل معها بذلك الأسلوب المخزي ؟ السبب متعلق كما أشرنا بمسألة حسّاسة ، وهي الحكومة الإسلامية ، والتي هي على ارتباط وثيق بزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، والنصوص المشيرة إليه عديدة ، ومكانته من النبي صلىاللهعليهوآله واضحة ، وتفانيه من أجل إعلاء كلمة الله تعالى لا ينكره إلّا معاند ، لذلك لم تكن ردود أفعال الغاصبين تجاه أصحاب الحقّ إلّا دليلا على أحقيّتهم ، ولو لم يتعامل الغاصبون مع أهل البيت عليهمالسلام بكلّ تلك القسوة والفضاضة لما أمكنهم أنْ يحافظوا على الحكم ، لأنّهم يُدركون جيداً من يواجهون ، ومن هو صاحب الحقّ في سياسة الأمّة الإسلامية بعد النبي صلىاللهعليهوآله.
احتجاجها عليهاالسلام
لم تبقَ فاطمة الزهراء عليهاالسلام مكتوفة اليدين ، بعدما تناهت إلى أسماعها أنباء استيلاء الغاصبين على الحكم ، وتجاهل حقّ الإمام علي عليهالسلام في قيادة الأمّة الإسلامية بعد النبي صلىاللهعليهوآله ، فخرجت عليهاالسلام ليلاً مع زوجها أمير المؤمنين عليهالسلام ، تستحث الأنصار على بيعة سيّد الوصيين عليهالسلام ، وتذكّرهم حقّه الذي خصّه الوحي به ، إلّا أنّ بيعة القوم كانت قد انعقدت للغاصبين ، وأحجم أكثر الناس عن خلع بيعتهم ، لأسباب مختلفة منها ما هو متعلق بالخوف ، ومنها ما يتصل بطبيعة أولئك الممتنعين ، ومنها العامل الزمني الذي استغله الغاصبون لصالحهم على الوجه الذي ثبتت فيه أمورهم. لذلك لجأت عليهاالسلام إلى أسلوب آخر من إقامة الحجّة ، فطالبت بحقّها في ميراثها من أبيها صلىاللهعليهوآله ، فكذب الغاصبون للحكم عليها ، وادّعوا أنّ النبي صلىاللهعليهوآله قد قال : « إنّا معاشر الأنبياء لا نورث » (١). فخطبت في الرد على تلك
_________________
(١) التمهيد لابن عبد البر ٨ : ١٧٥.
الفرية خطبة بليغة أفحمت فيها الظالمين ، وقصفت بهتانهم من الأساس ، مستدلّة في بيان أحقيتها وصحّة دعواها بما أخرس نعيق الباطل ، فقالت في آخر كلامها : « ... وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ». أفلا تعلمون ، بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية ، أني ابنته ، أيها المسلمون أأغلب على إرثي ؟
يا ابن أبي قحافة ، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريّاً ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (١) وقال فيما اقتصّ من خبر يحى بن زكريا عليهالسلام إذ قال : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢). وقال : ( وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (٣). وقال : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ) (٤). وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٥). وزعمتم أنْ لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج أبي صلىاللهعليهوآله منها ، أم هل تقولون : أهل ملتين لا يتوارثان ؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعمَ الحكم الله ، والزعيم محمّد صلىاللهعليهوآله ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكل نبأ مستقر فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (٦).
_________________
(١) النمل : ١٦.
(٢) مريم : ٥ ـ ٦.
(٣) الأنفال : ٧٥.
(٤) النساء : ١١.
(٥) البقرة : ١٨٠.
(٦) الاحتجاج ١ : ١٣٨ ـ ١٣٩.
فإنّها بذلك فنّدت مزاعم البغاة من أنّ النبي صلىاللهعليهوآله لا يورث من جهة ، وأنّه قد ترك وصيته لأهله وأمته من جهة أخرى ; لأنّ النبي صلىاللهعليهوآله أوّل المكلفين والمطبقين للأحكام النازلة عليه ، ووجوب الوصيّة غير خاف في هذه الآية ، وحثّ رسول الله صلىاللهعليهوآله على القيام بها ، جاءت به عدّة من الروايات ، فلا تصح دعوى ترك الوصية عند من أطلقها ، لأنّها عارية عن الدليل ، وأدلّة إثبات الوصيّة قد بلغت من القوّة ما دفع بالمنكرين إلى مزيد من الكذب على الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله ، فلم يزدهم ذلك من الله إلّا بُعدا.
لكنّ البغاة على حقّها لم ينثن عزمهم ، ولا فتر جهدهم في منعها حقّها ، فتمسّكوا بالرواية المكذوبة ، وأصرّوا على إنفاذها إصراراً عجيباً ، ولمّا لم تجد منهم آذاناً صاغية ، رجعت لتطلب نحلتها في فدك التي نحلها إياها والدها بعد فتح خيبر ، وهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا رجال ، ونزل جبريل عليهالسلام بقوله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) (١). وأمره أنْ يعطي فدكاً لفاطمة عليهاالسلام ، فكانت تحت يدها على عهده صلىاللهعليهوآله ، فلمّا توفي افتكت منها ، ولم يرجعها إلى ذريتها إلّا عمر بن عبد العزيز الأموي الذي أراد الله تعالى أن يُتمَّ كشف الحقيقة على يديه ، وفضح أكذوبة ابن أبي قحافة وصاحبه وعصابتهما.
لكنّنا مع إثبات الزهراء عليهاالسلام لحجّتها بالكتاب العزيز ، وبقوّة الدليل ، نستهجن أنْ تترك الأمّة حجّة فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، التي أذهب الله تعالى عنها الرجس وطهّرها تطهيرا ، لتستأنس بإعادة الخليفة الأموي لحقّها في فدك إلى ذريتها من بعدها ، فهل قصرت شخصيتها المباركة الطاهرة حتّى يلتفت إلى إثبات غيرها ، وتصديقها من ذلك الطريق ، وقد نزل في خصوصها ما نزل ، وقال فيها النبي صلىاللهعليهوآله ما قال ؟ ومنذ متى كان لذلك البيت الذي ينفق من الخصاصة ، ويعطي من القلّة ،
_________________
(١) الإسراء : ٢٦.
بعدما طلّق الدنيا ثلاثاً ، هم أو مطمح دنيوي ؟ ألم تكن فدك في أيديهم أكثر من سنتين ، ومع ذلك لم يخزنوا من نتاجها شيئا ، ولا أثر عنهم طرق وأساليب الناس في جمع الحطام ؟ دأب ذلك البيت دائما الإنفاق في سبيل الله ، بطريقة لا يستطيعها غيرهم ، يعطون عطاء من لا يخشى الفقر ، تارة يخرجون من أموالهم كلّها ، وتارة يقاسمونها الله تعالى ، كما أثر عنهم عليهمالسلام ، فهم أهل آخرة لا يهمهم من الدنيا إلّا مقدار ما يوصلهم إلى غايتهم ، ومن هنا جاء سبب حجب حقوقهم عنهم ، لئلّا يستميلوا بها سواد الناس ، وتكون لهم عونا على استرداد أحقيتهم في الحكم.
لقد مضى والدها صلىاللهعليهوآله بين هؤلاء كالحلم ، فلم يفهموه ولا فهموا مقامه ، إلّا قليل من المؤمنين ، وقد لقي من عجرفتهم وتعنتهم واستكبارهم ما لقي ، على قصر المدة التي قضاها بينهم ، فهل تراهم يقدّرون ابنته عليهاالسلام ، ويضعونها موضعها الذي تستحق ؟
لم يكن شي من ذلك ، بل لقد حصل الأسوأ ، كأنّما قدر هذه الأمة أن تحذو حذو بقيّة الأمم في التنكر لأنبيائهم ، وتحريف أحكام الشريعة ، وتطويعها حسب مشيئة هذا الحاكم أو ذاك.
أهمّ ما قال النبي صلىاللهعليهوآله في شأنها :
واصل أحمد حديثه فقال : مضافاً إلى كون فاطمة الزهراء من أهل البيت الذين نزلت فيهم آية التطهير ، وتحديد النبي صلىاللهعليهوآله لعدد هؤلاء كما صرّحت بذلك كلّ من عائشة وأم سلمة ، وهم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام. فقد صرّح والدها صلىاللهعليهوآله في شأنها بقوله : « فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها أغضبني » (١).
وقد ماتت الصدّيقة شهيدة من جرّاء الضرر الذي لحقها من اقتحام الغاصبين لبيتها ، غاضبة على أولئك الذين تعاونوا على صرف الحكومة عن زوجها الأولى
_________________
(١) صحيح البخاري ٤ : ٢١٠.
والأحقّ بذلك المقام. صرح بذلك عدد من الحفاظ من أتباع خط السقيفة ، منهم البخاري (١) الذي يعتبر أكثرهم تحفظا على إخراج ما يتعلق بأهل البيت عليهمالسلام ..
هل بايعت الزهراء عليهاالسلام ؟
يضيف أحمد قائلا : نحن نعلم جيّداً أنّ فاطمة الزهراء عليهاالسلام هي سيّدة نساء العالمين ، بضعة المصطفى ، ومهجته ، وروحه التي بين جنبيه ، وهي أوّل الناس دخولاً إلى الجنّة ، وأنّ شفاعتها يوم القيامة أكبر من أنْ تقدّر بعدد ، وكما نعلم بحسب الظاهر أنّها لم تبايع الغاصب الأول ، ولا حكي عنها ذلك إطلاقاً ، خاصّة إذا ما ثبت لدينا موتها وهي غاضبة عليه وعلى أعوانه ، وأوصت زوجها عليّاً عليهالسلام بأنْ لا يأذن لأحد من الغاصبين بحضور جنازتها ، ووجوب البيعة أمر لا يختلف فيه اثنان ، بل لقد قرن النبي عدم البيعة بالجاهلية ، فقال : « من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية » (٢). فمن بايعت الزهراء إذاً ؟
التفت إليّ أحمد بوجهه الصبوح المنشرح وقال : هذه هي النقطة التي أوصلتني إلى الحقيقة ، وعند هذه الحجّة ، انقطعت حجتي في اتّباع خطّ السقيفة ، صحيح أنّ الزهراء عليهاالسلام قد قطعت وجهة المتعلل في مسألة المطالبة بميراثها ونحلتها وسهمها ، إلّا أنّ مسألة بيعتها هي التي أماطت عن بصيرتي حُجب الضلالة التي كنت أتخبط فيها.
واختتم أحمد كلامه قائلاً : في الأخير أودّ أنْ أختم كلامي بالحديث عن واجب من الواجبات الأكيدة التي أمر بها الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه فقال : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (٣).
_________________
(١) المصدر نفسه ٥ : ٨٢.
(٢) صحيح مسلم ٧ : ٢٦٣.
(٣) الشورى : ٢٣.
أنّ فريضة المودة هذه متعلقة بأهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله ، فمودتهم تستوجب محبتهم ومحبتهم تستوجب تقديمهم ، وتقديمهم يستوجب مولاتهم ، فأين مودة هؤلاء الذين انتهكوا حرمة فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، أم أنّهم مستثنون من تلك المودة ؟ ولماذا أُعفي عن قبرها وهي التي من المفترض أن تكون بجانب أبيها ؟ لا شك أن من خلص معدنه وصفي باطنه سيدرك المعنى جيدا ، ( وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) (١).
لهذا وذاك أودّ أن أوجّه ندائي إلى عامّة هذه الأمّة المغلوبة على أمرها والمضيّعة لحقوقها والتاركة لواجباتها ، من أن يتوقفوا وقفة تأمل ، وليسألوا أنفسهم كما سألنا أنفسنا نحن : ماذا لو كان الخطّ الذي يسلكونه منحرفاً ؟ لأنّ الشك طريق إلى اليقين. وليبحثوا بعدها في الحجج التي ذكرتها ، وأثبتها غيري ، فإنّني على يقين من أنّهم سيدركون الحقيقة بكلّ يسر بمشيئة الباري سبحانه وتعالى ، والحمد لله أولا وأخيراً.
_________________
(١) الاسراء : ٧٢.
الحلقة الثالثة
عقيدة أهل البيت عليهمالسلام في التوحيد هي التي شيّعتني
وما أن أتمّ أحمد حديثه حتّى انبرى صالح قائلا : أمّا أنا فقد شيعني التوحيد الخالص ، وبقيّة العقائد الصافية ، للأئمة الهداة من أهل بيت المصطفى صلىاللهعليهوآله ، وهو دليل قاطع يؤكّد صحة الخطّ الذي عليه المسلمون الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، ويؤكّد سقوط بقيّة الخطوط في تيه لا نجاة منه ، بتشويهها للتوحيد الخالص ، واعتمادها لعقيدة التجسيم والتشبيه ، جرياً على اعتقادات المشركين من الأمم السابقة ، مصورة المولى سبحانه وتعالى جسما ، على صورة آدم عليهالسلام ، وأنّ له أعضاء كاليدين والرجل ، وجوارح كالعينين ، وأنّه ينزل إلى السماء الدنيا ، كأنّما هو في حيّز ، ويحتاج في تدبيره للكون إلى حركة ، ويضع رجله في النار فيزوى بعضها إلى بعض ، كأنّما خلقها أكبر مما قدّره لها من العصاة والكافرين ، ويتنكر يوم القيامة فلا يكشفه غير المؤمنين ، إلى غير ذلك من الترّهات التي مرّرها كعب الأحبار عبر أبي هريرة الدوسي ، وأثبتها فيما بعد منظّروا الخطّ السلفي ، والمعروفين أيضاً بأهل الحديث ، كالحنابلة ونحوهم.
شاء القدر أن يضع في طريقي أحد فضلاء الشيعة أثناء أدائي لعمرة مستحبّة ، وقد كنت محظوظاً في ذلك ، لأنّ تعرّفي على ذلك الشخص قد قلب كياني ، وأوقفني على حقيقة التوحيد ، شاهدني الرجل وأنا متلهفٌ لأخذ كتاب التوحيد للمبتدع محمد بن عبد الوهاب ، فقد كنت أراه قمّة البيان والبرهان في التوحيد الخالص ، والصافي من شوائب الشرك ، ابتدرني قائلاً وعيناه ترمقان الكتاب بنظرة فيها شي من الأسى : « السلام عليكم ». فرددت عليهالسلام.
قال : « هل تؤمن حقيقة بما جاء في هذا الكتاب ؟ »
فقلت له : « أفي الله شك فاطر السماوات الأرض ».
قال : « ليس القصد في أصل الاعتقاد بالله تعالى ، لأنّنا كلّنا نعتقد بوجوده ووحدانيته تقريباً ، وقد يشترك. معنا فيه كلّ المخلوقات حتّى المشركين ، لقوله تعالى : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ... ) (١). لكن المراد من سؤالي ، هو ما حواه الكتاب من إساءة لله تعالى ، وسوء تقدير له ، ووضعه موضع المحتاج ، وتشبيهه بخلقه ، والاعتقاد بأنّ له أعضاء وجوارح كالمخلوقات ».
فقلت له : « هذه هي عقيدة أهل السنّة والجماعة ، والتي كان عليها السلف الصالح وأخذها عنهم التابعون لهم بإحسان. ولكن ما هو توحيدك أنت حتّى تتهمني بفساد العقيدة ؟ »
قال : « هو توحيد خاتم الأنبياء والمرسلين صلىاللهعليهوآله ، الذي علّمه لعليّ بن أبي طالب وأهل بيته عليهمالسلام ، وتعلمه صفوة الصحابة ، أمثال أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر والمقداد وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم ».
فقلت : « وعلى أيّ أساس ينبني توحيد أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ؟ ».
قال : « ينبني على تنزيه الله تعالى عن كل النقائص ، وإثبات كلّ كمال فيه جلّ شأنه ، وتوحيده في الذات والصفات والخلق والرزق والحاكمية والعبادة ، إلهاً واحداً أحداً لا مثيل له ولا شبيه ولا ندّ ، ليس كمثله شي وهو السميع البصير ».
قلت : « فهل لك من بيّنة من كلام أهل البيت رضي الله عنهم في هذا ».
قال : « لقد كان جلّ كلام أهل البيت عليهمالسلام منصّباً في بيان مقام الخالق سبحانه وتعالى ، لعلمهم بأنّ عدم بيانه ـ رغم أنّه من أجلى الموجودات على الإطلاق ـ لا
_________________
(١) الزمر : ٣٨.
يؤسّس لعقيدة سليمة ، ولا يفوتني هنا أن أستحضر إحدى خطب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام في التوحيد والتي منها : « ... أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومَنْ قال فيم ؟ فقد ضمنه ، ومن قال على ؟ فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شي لا بمقارنة ، وغير كل شي لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده ... » (١).
وقد سلك أبناؤه الكرام البررة ، هداة الأمّة وربّانيوها ، مسلكه في الدفاع والذبّ عن الدين الإسلامي الصافي ، عقيدة وشريعة ، فجاءت خطبهم ، ومناظراتهم ، وبياناتهم ، ودروسهم ، حتّى في أحلك ظروف الحبس والجبر والقهر ، جاءت أدعيتهم مصداقاً للعقيدة الربانيّة الحقيقية ، التي لم تخضع يوماً لظالم ، ومرّت إلينا بعد تضحياتهم الجسام التي كلفتهم حياتهم شهداء من أجل دين الله تعالى بالسيف أو بالسمّ ، ومعاناتهم عبر الزمن ، ولولا أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، لما وصلنا من الدين الذي جاء به سيّدهم الأكبر صلىاللهعليهوآله شيء يعتمد عليه.
اندهشت من دقّة كلام الإمام علي عليهالسلام وعمق معانيه ، ووقفت بسرعة على حقيقة تقول بأنني غير متّجه بعقيدة محمد بن عبد الوهاب في التوحيد الوجهة الصحيحة ، لكنّني استدركت قائلا : « إذاً فما معنى هذه الآيات والروايات التي اعتمد عليها ابن عبد الوهاب في كتابه ؟ ».
_________________
(١) نهج البلاغة ١ : ١٦.
قال : « إنّ الابتعاد عن النبع الصافي الذي تركه رسول الله صلىاللهعليهوآله لأمته ، وهم أهل بيته عليهمالسلام الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، قد ورث للناس ديناً وعقيدة بتراء عرجاء ، لا تنتج غير الأبتر والأعرج ، فأهل البيت عليهمالسلام هم أهل الذكر الذين أشار القرآن إلى سؤالهم ، وهم الصادقون الذين أمرنا أن نكون معهم ، وهم الأبواب التي أمرنا أن نأتي منها ، وهم العروة الوثقى التي لا انفصام لها ، وهم حبل الله المتين الذي أمرنا بالاعتصام به ، وهم الراسخون في العلم الذين إذا سئلوا أجابوا ، ولم يقل أحد « سلوني قبل أن تفقدوني » غير علي عليهالسلام بعد النبي صلىاللهعليهوآله (١) ، فوجب إرجاع المتشابه إليهم ، والرجوع إليهم في كل ما نحتاجه من دين ودنيا ، لأنّهم ثقل الكتاب ووعاته ومستحفظوه.
أما الآيات التي اعتمد عليها ابن عبد الوهاب في بيان عقيدته الباطلة ، فهي لا تفيد ظاهراً بما رأى لأنّ كلام الله تعالى جاء محاكياً لبلاغة العرب في الاستعارات والكنايات والتشبيهات ، فعندما تقول العرب : قامت الحرب على ساق. فمعناه أنّه ليس للحرب ساق وإنّما المقصد منه اشتدت وحمي وطيسها. كذلك في قوله تعالى : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ) (٢) كذلك معنى اليد والذي يفيد القدرة ، والاستواء معناه التمكن والهيمنة ، وغير ذلك مما يجب أن يجرى في التفسير مجرى المجاز لا الحقيقة ، واعتماد الأصل في مفهوم التوحيد الذي يقول : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٣).
( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٤). ذلك هو الخالق المتعالي عن خلقه ، واحد أحد لا يتجزأ في حقيقة ولا وهم ».
_________________
(١) انظر : تاريخ الإسلام وفيات « ١١ ـ ٤٠ هـ » : ٦٣٨.
(٢) القلم : ٤٢.
(٣) الشورى : ١١.
(٤) الأنعام : ١٠٣.
هكذا أنهى ذلك الرجل الفاضل كلامه ، واضعاً إيّاي على المنهاج المحمّدي الأصيل ، في التوحيد الذي جاء به صلىاللهعليهوآله ، فكان له الفضل في إرشادي وتوجيهي إلى حيث التوحيد الخالص ، خطّ إسلام أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله ، ومدّني بكتاب « عقائد الإمامية » للشيخ المظفر تناول العقيدة الصافية ، التي شربها من معين أبي القاسم محمد صلىاللهعليهوآله وأئمة أهل بيته البررة عليهمالسلام ، لا شائبة فيها ، ولا شبهة تعتريها ، فعلي عليهالسلام ، هو باب مدينة علوم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، منه ومن ذريته الطاهرة عليهمالسلام فاضت علوم الإسلام الحقّ على كلّ المسلمين الذين جاؤوا فنهلوا منها ، وتمسّك منهم من تمسّك بها ، وتركها من تركها على عمد ، خوفاً وفرقاً من الظالمين ، أو تعاون من تعاون من أجل محاربتهم ، فأتى بدين باطل متلبس ببعض الحقّ ، فشبّه للبسطاء فأخذوه وهم لا يدرون أنّه خليط ، ولو علموا وهنه لما اتّبعوه.
والعجب ليس في هؤلاء العامة الذين يتعبدون بالتبعية ، إنّما العجب من هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم موضع علمائهم وقد غرقوا في بالوعة التشبيه ، حتّى كادوا يساوون الله تعالى بمخلوقاته ، الله تعالى الذي ليس كمثله شي ، يوضع موضع المحدثات ، وينزل من علياء جبروته منزلة المخلوقين ، هكذا هي عقيدة ما يسمّى بأهل السنّة والجماعة وما حوته من أشعرية وسلفية ، فتمام الاعتقاد بالتوحيد الخالص عند هؤلاء ، الإيمان بأن الله تعالى جسم لكنّه ليس كالأجسام ، فهو جسم بلا كيف ، وله جوارح بلا كيف ، ويُرى في الآخرة مع احتمال رؤيته في المنام بلا كيف ، وينزل إلى السماء الدنيا ليلة الجمعة وليلة النصف من شعبان بلا كيف.
وقد أطنب علماء ذلك الخطّ في الدفاع عن
عقيدة التجسيم والرؤية دفاع المستميت ، ضاربين في ذلك عرض الحائط بالعقل والمنطق والنصوص الصحيحة ، التي لا تعترف بتشويه عقيدة التوحيد ، وجعلها في مرتبة واحدة مع عقائد عبدة الأوثان ، بل أدهى وأمرّ ، لأنّه لو علم عبدة الأوثان حقيقة الخالق لما
شبّهوه بمصنوعات أيديهم ، كما لو علم هؤلاء الذين يدّعون بهتاناً وزوراً أنّهم أصحاب التوحيد الصحيح الخالي من الشرك ، أن الله لا تدركه الأوهام فضلاً عن الأبصار ، ولا يستطيع أحد أنْ يحيط به علماً ، لما أقاموا على اعتقاد أنّه جسم ليس كالأجسام ، وله وجه ليس كالوجوه ، ويدان ليستا كالأيدي ، وعينان ليستا كالأعين ، إلى غير ذلك من الترّهات التي ما انزل الله بها من سلطان.
تبرير طالما ردّده أتباع خطّ التشبيه ، وهو إجراء معاني الآيات القرآنية على ظاهرها كما وردت عليه ، وإيكال تفسيرها إلى خالقها. مع ما ركنوا إليه من اعتماد بعض الروايات التي نزع مضمونها إلى تشبيه غريب ، يجزم المطلع عليه أنه مختلق ، لم يتفوّه به النبي صلىاللهعليهوآله ، لأنّه لا يتّفق مع حقيقة الذات الألهية المقدّسة ، التي ليست جسماً بالتأكيد حتّى تكون لها جوارح كالإنسان ، ولا هي في حيّز حتّى تحتاج إلى الحركة ، من نزول ونحوه.
وطالما أنّ الله تعالى ليس بجسم ، فهو بالضرورة لا يُرى بالعين الباصرة ، ودعوى كونه جسماً ليس كالأجسام ، عارية من البرهان والإثبات ، فإمّا أنْ يكون جسماً فيكون محلاً للحوادث ، وإذا كان محلاّ للحوادث صار ممكناً ، فلا يكون خالقاً ، وإمّا لا يكون كذلك ، فيكون واجباً ليس كمثله شيء غير محتاج ولا مركّب ، وذلك هو المولى سبحانه وتعالى.
في إحدى الجُمعات ، حضرت صلاة الجمعة ،
فتحدّث الخطيب عن فضيلة ليلة الجمعة ، وذكر حديث نزول الربّ تبارك وتعالى في الثلث الأخير من ليلتها منادياً سائلاً مستفسراً ، الرواية معروفة ومتسالم على صحتها عند أتباع خطّ التشبيه والتجسيم ، لكنّني قلت في نفسي : طالما أنّ الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا
فأين يكون ؟ أفي السماء الأخيرة ؟ أم فوق السماوات جميعاً ؟ ولماذا ينزل طالما أنّه غير محتاج إلى النزول ، فهو الذي أخبر عن نفسه بقوله : (
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن
يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) ؟
وتذكرتُ إمام الجمعة بعد ذلك ، عندما قرأت ما شاهده الرحّالة الشهير ابن بطوطة في المسجد الأموي بدمشق ، عندما حضر خطبة جمعة ألقاها ابن تيمية ، على جموع المسلمين في ذلك العصر ، وروى حديث نزول ربه إلى السماء الدنيا ، ونزل مرقاة أو مرقاتين ، وقال : « كنزولي هذا » (٢). فحمدت الله تعالى أنّ جرأة ابن تيمية على الله تعالى لم تكن عامة في جميع خطباء الجمعة ، وإلّا لكانت المصيبة أعظم على الأمّة التي أدخلت في تيه صنعه لها أناسٌ تصنّعوا العلم ، وركبوا مطيّة أنفسهم المستكبرة ، فضلّوا وأضلّوا.
وإلى جانب من أفرط في التشبيه كابن تيمية ومن نحا نحوه ، نجد شقّاً آخر من نفس الخطّ المنحرف ، أفرط هو أيضاً في التنزيه حتّى أفرد كتاباً خلُص فيه إلى أنّ الله ليس بشي تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيرا.
المدرسة التي رواة حديثها من حافظة كعب الأحبار وتابعه أبو هريرة الدوسي ، جاءت بعقيدة في التوحيد شبيهة بعقائد اليهود والنصارى التي قصر فهمها للخالق سبحانه وتعالى ، فقرنوه وشبّهوه بعباده ، لأنّ اليهود عندما قالوا عزير ابن الله ، والنصارى عندما قالوا المسيح ابن الله ، كانوا يعتقدون بالشبه بين الخالق والمخلوق ، لم يرضهم أن تخلص عقيدة المسلمين ، وتصفو عن عكر عقائدهم ، فدسّوا من بين عوامّ المسلمين دهاة أحبارهم ورهبانهم ، ادّعوا دخول الإسلام ، فأفسدوا التوحيد في عقول من اتبعهم ، وجعلوه شبيهاً بعقائدهم. من بين تلك الروايات أستحضر رواية متناقضة في محتواها تقول : جاء حبر إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله قال يا محمد أو يا رسول الله إنّ
_________________
(١) يس : ٨٢.
(٢) رحلة ابن بطوطة : ١١٣.