نعم لقد تشيّعت

محمّد الرصافي المقداد

نعم لقد تشيّعت

المؤلف:

محمّد الرصافي المقداد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ووجه إعجاز القرآن ناشىء من استحالة صدور كلام يشبهه من البشر جميعاً ، حتّى المقرّبون إلى الله تعالى من صفوة خلقه ، قال تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (١) ، وإذا كان المولى سبحانه وتعالى قد بيّن أنّ كلامه المنزّل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس في مقدور أيّ مخلوق الإتيان بمثله ، فمعنى ذلك أنّه كلام متميّز على كلام المخلوقات وتآليفها ، فتتولّد لدينا بذلك قناعة أنّ خشية اختلاط السنّة النبويّة ، أو تفسير الآيات وبيان الأحكام بالقرآن باطلة من أساسها ، ولم يكن يراد بإطلاقها في الوسط الإسلامي ، إلّا لغاية التخلّص من السنّة نفسها ، بما اشتملت عليه من بيان لمحكم ومتشابه ، وناسخ ومنسوخ ، وعموم وخصوص القرآن الكريم ، مضافاً إلى سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله العطرة بالمواقف الهامّة والخلق العظيم.

قلت له : إذاً أنت تتّهم الصحابة بعرقلة دين الله وحصر إشعاعه ، وإهمال سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال : التهمة لا تتعلّق بجميع الصحابة ، بقدر ما هي ثابتة في عدد منهم ، وأعني بهم أولئك الذين استولوا على الحكم ، انطلاقاً من السقيفة المشؤومة ، لأنّ الذين منعوا تداول تلك الأحكام والسنن ، لم يكن منعهم منطلقاً من حرص على الدين ، أو رغبة في حفظه ; لأنّ إجراء المنع يتعارض مع انتشار تلك الأحكام ، ويتسبب في سرعة تلاشيها وذوبانها ، خصوصاً وقد أثبت عدد من العلماء بالقرآن نفسه ، بطلان خشية اختلاط كتاب الله ، بسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قلت : قد يكون القرار الذي اتّخذه الخليفة عمر ، مدفوعاً بما تناهى إليه من كذب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون بذلك قد أحسن صنعاً بمنع الكذابين من نشر بهتانهم بين الناس.

_________________

(١) النساء : ٨٢.

٢٠١

قال : قد لا تختلف معي في القول بأنّ أوّل من نادى في أوساط المسلمين ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مسجى على فراش الموت ، وفي حجرته الشريفة ، بالاستغناء عن السنّة النبويّة المطهّرة والاقتصار على القرآن فقط هو الخليفة الثاني ، فقد اخرج ذلك البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وكذلك بقيّة حفّاظ أهل السنّة والجماعة (١) ، فقد أجمع علماء الإسلام على الإقرار به ، لكنّهم تعلّلوا بأنّ الخليفة عمر لم يكن يقصد التعرّض للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتطاول عليه وإيذاءه ، بل ظهرت له مصلحة في ذلك ، ولم يبيّنها.

قال : هذا هو التجنّي في حقّ النبيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهل كان الخليفة متّصلاً بالوحي حتّى نطمئنّ إلى موقفه ؟ وهل خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من نبوّته ، حتّى يكون طلبه الذي يعتبر أمراً إلزاميّاً لا تردّد فيه متساوياً مع منع الخليفة عمر ؟ أم أنّ طاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقديسه واحترامه وتقديمه ينسخها مرضه ؟ أم أنّ للخليفة عمر مقاماً يسمح له بفعل أيّ شيء ، ومع أيّ شخص مهما كانت مكانته ، حتّى لو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ولست أدري إنْ كان الخليفة عمر يقرأ القرآن ، وإنْ كان يقرأه لماذا لم يفهم أبسط معانيه ، وإنْ فهم أبسط معانيه فلماذا لم يتقيّد بها ؟ فتعارض موقف الخليفة عمر مع القرآن واضح ، لا يحتاج إلى كثرة استدلال عليه ، فقد حثّ الله تعالى على طاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله معتبراً إيّاها شرطاً من شروط الإيمان فقال : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (٢) ونهى بشكل جازم لا يحتمل التأويل عن مخالفته ، فقال تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٣).

_________________

(١) تقدّم ذلك في حلقة سابقة.

(٢) النور : ٥٦.

(٣) النور : ٦٣.

٢٠٢

وقال أيضا : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (١). وحرّم تعالى مخاطبة النبيّ بمثل ما يتخاطب به الناس ، حفظاً لشخصه ، وصيانة لتكليفه ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (٢).

قلت : لقد أفحمتني بهذه الحجج التي لا يرفضها إلّا معاند ، ولقد اقتنعت بأنّ جرم الخليفة عمر تجاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عظيم ، وجناية كبرى محبطة للأعمال لم أجد لها مبرّراً.

قال : ليس هذا فقط ، فأنت تحدّثت عن الجناية بحقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتناسيت الجناية بحقّ الدين عند منعه لرواية أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مطلقاً ، ألا يدلّ ذلك على أنّ الرجل كان يعرف جيّداً ماذا كان يقصد ويريد ، ومنطلقاً في تصرّفاته نحو وجهة محدّدة ؟

قلت له : وهل تقصد ما رمى به الشيعةَ الخليفة من أنّه المؤسّس الأوّل لغصب الحكومة من الإمام عليّ رضي‌الله‌عنه.

قال : وهل ترى أنّ هنالك أمراً غير ذلك ، وقد بيّن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عدد من الأحاديث أنّ الخلافة من بعده تكون لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ : « أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي » (٣). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : « أنت منّي بمنزله هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » (٤). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » (٥). وتوّج ذلك بقوله مرارا وتكرار : « تركت فيكم ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض » (٦)

_________________

(١) التوبة : ٦١.

(٢) الحجرات : ٢.

(٣) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ٥ : ٢٦١ ـ ٢٦٤ ، ح ٢٢٢٣.

(٤ ، ٥ ، ٦) تقدّمت هذه الأحاديث في حلقات سابقة.

٢٠٣

وأنت إذا تأملت حديث رزيّة الخميس الذي أشرت إلى إطاره العام لوجدت في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبداً ». أمراً في غاية الأهميّة ، وهذا الأمر تنبّه له الخليفة عمر.

فقد فهم من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه يريد أنْ يكتب وصيّة الحكم من بعده لعليّ عليه‌السلام ، فتصدّى لمنعه من كتابة تلك الوصيّة ، ليفسح المجال لنفسه ويتهيىء ويتمكّن من الاستيلاء على السلطة.

وحديث الثقلين (١) ، وحديث رزيّة الخميس المروي عن ابن عباس في البخاري وغيره (٢) ، يتفقان في أنّ المانع من ضلال الأمة هما متمسّكان اثنان فقط ، بل هو في حقيقته متمسّك واحد ، لأنّ الكتاب العزيز لا يستطيع أنْ يقوم بنفسه في الأمّة ، فتعيّن وجود من ينطق عنه صدقاً وعدلاً ، وهم أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، أولئك الذين أحصى الله تعالى فيهم علوم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصفهم في القرآن بالصادقين ، والأبرار ، ومن عندهم علم الكتاب ، وغير ذلك من الأوصاف التي لا تنصرف إلّا إليهم ، ولا تتّفق إلّا معهم ، ولا تليق إلّا بهم.

قلت : فما علّة تدوين القرآن وفق الرؤية المذهبيّة لأهل السنّة ؟

قال : إنّه من رداءة القول الادّعاء بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غادر الدنيا ، وكتابه مبثوث في صدور الناس ، ولم يلتفت لا هو ولا خالقه جلّ شأنه وتعالت قدرته إلى ناحية حفظه ; لذلك فإنّ أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقولون عكس ذلك ، فالقرآن مجموع عندهم ومدوّن لديهم ، ولا أدلّ على ذلك من أنّ هناك عدد من الصحابة يمتلكون مصاحف ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّ يرزق ، وكان الكتبة منهم كابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، يواكبون نزول الوحي بكتابة كلّ جديد في موضعه ، الذي يحدّده

_________________

(١ و ٢) تقدم في حلقات سابقة.

٢٠٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ، فدعوى جمع القرآن على عهد الخليفة الأوّل ، ثمّ جمعه ثانية على عهد الخليفة الثالث ، عارية من الصحّة تماماً ، وهي إلى إضفاء الشرعيّة والقداسة على الخلفاء الثلاثة الأوائل أقربُ منها إلى الواقع ، فقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١). دليل على بطلان حفظ هؤلاء ، فنزول القرآن كان عن طريق جبرائيل عليه‌السلام على النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحفظه كذلك من الله تعالى بواسطة خليفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الحقيقيّ وهو الإمام عليّ عليه‌السلام ، قال تعالى : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ).

وباعتبار أنّ غصب السلطة من أصحابها المنصوص عليهم من طرف الوحيّ ، كان لا بدّ له من سند يحفظ بقاءها بعيداً عن طلب أصحاب الحقّ وأتباعهم. وبقاء تلك المصاحف عند أصحابها قد يؤدّي بالتفاسير التي نقلها الحفاظ من الصحابة إلى تسرّبها وانتشارها بين المسلمين ، ممّا سيسبّب قلقاً وإحراجاً للسلطة الغاصبة ، ويشكّل في حدّ ذاته خطراً على استمرارها ، وعاملاً مهما يدفع إلى تقويضها ، بما اشتملت عليه من نصوص شارحة لنظام الحكم في الإسلام ، ومبيّنة شرائط إمام الأمّة وخصائصه ، فاتّجه دهاة ذلك الخطّ إلى جمع تلك المصاحف ، وحرقها في عهد الخليفة الثالث ، فأُحرقت بسبب ذلك مصاحف عديدة أخذت من أصحابها عنوة.

أمّا السنّة النبويّة ، فلم تدوّن عند أتباع خطّ الفئة الغاصبة للحكم الإسلامي إلّا في منتصف القرن الثاني ، وكان موطّأ مالك أوّل تلك السنن المكتوبة ، ولم يتسن لهم ذلك إلّا بعد أنْ أذن له أبو جعفر المنصور ، وبمعنى آخر لم تكتب السنّة النبويّة عند ذلك الخطّ ، إلّا بعد ذهاب جيلي الصحابة والتابعين ، وما بينهما عاث طلقاء بني أميّة كذباً وافتراء في سنن وسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى كادت معالمها الصحيحة

_________________

(١) الحجر : ٩.

٢٠٥

أن تنمحي وتذهب ، طمعا فيما كان يحفّز عليه الغاصبون للسلطة أشباه العلماء من المتزلفين لهم.

أمّا وجه تسميَة ذلك الخطّ بأهل السنّة ، فهو يدفع إلى القول بأنّها تسمية لا تنطبق مع واقع ذلك الخطّ ، لأنّه قد وضع لنفسه رموزاً وقيادات فرطت في حفظ السنّة النبوية ، وكادت تسهم في ضياعها ، لولا تصدي أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام لذلك الأمر ، والسنّة النبويّة الصحيحة هي عند الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

قلت : أنا على رأيك أيّها الصديق العزيز ، لقد فهمت الآن وتعرّت أمامي خيوط المؤامرة الكبرى التي استهدفت أهل البيت عليهم‌السلام ، ولقد أقنعتني بكلّ الحيثيّات التي سقتها ، والبراهين التي أشرت إليها ، فلم يعد لديّ شكّ في حقيقة ما وقع من تعدّ على قدسيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه ، من أجل الاستيلاء على الحكم ، وقد بيّنت لي أنّ للدين سنناً وأحكاماً لا يمكن أنْ تطالها أيدي الناس ، فمسألة حفظ الدين ليست من مشمولاتهم ، وهي وظيفة أنشأها الباري تعالى بعد مرحلة النبوّة درءاً لإمكانيّة التحريف ، ومنعاً لطابور النفاق من المساس به.

أنهى الصديق الشيعيّ حديثه ، فرجوته أنْ نلتقي مرّة أخرى ، فرحّب بذلك وتواعدنا ، وجاء في موعده الذي حدّده لي يحمل معه بعض الكتب ، فقدّمها لي على أساس الإعارة ، فشكرته على ذلك ، وتواصلت مواعيدنا وتوالت جلساتنا ، وتنوّعت الكتب التي كان يمن بها ، حتّى استويت على قناعة أنّ خطّ التشيّع الإمامي الاثني عشري هو الإسلام المحمّدي عظماً وعصباً ولحماً وشحماً وعروقاً ودماً وروحاً ، فأقررت بولاية عليّ عليه‌السلام ، والأئمّة من ذريته عليهم‌السلام ، والحمد لله ربّ العالمين.

٢٠٦

الحلقة الحادية والعشرون

اتّصال الاجتهاد وبقاء بابه مفتوحاً عند الشيعة هو الذي شيّعني

عليّ ، هو أيضاً واحد من شباب هذه الأمّة المنكوبة ، فتح عينيه منذ أنْ بدأ يعي ، على جملة من الحقائق ، دفعت به إلى أن يكون ملتزماً بأوامر خالقه ونواهيه ، فلم يستهويه شي من حطام الدنيا ، وكان جلّ همه منصبّاً في ناحية واحدة ، هي العمل من أجل إرضاء الخالق ونيل محبّته.

عرفته في مسجد الزمزميّة بمدينة قابس ، مواظباً على صلواته فيه ، وخصوصا صلاة الصبح التي لم يكن يثنيه عارض ، ولا يمنعه طارىء عن حضورها ، ونيل ثواب أدائها جماعة ، أكبرته منذ أن تعرّفت عليه ، ولم يمض يوم إلّا وقد ازداد في نفسي تميّزاً وقرباً واحتراماً ، ، لذلك كنتُ أبادر بتحيّته والسلام عليه ، قبل أنْ يسبقني إلى ذلك.

تحدّث عليّ عن سبب انتقاله من مذهب المالكيّة ، إلى خطّ التشيّع الإماميّ الاثني عشري ، فقال : عشت وسط مجتمع مالكيّ المذهب ، انتسب إليه في عموم قطّاعاته وراثياً ، لذلك لم ينشأ بينه وبين ذلك المذهب رباط متين ، يؤهل إلى انتقال تلك العلاقة من إطارها السلبيّ إلى إطار أكثر ايجابيّة ، وككلّ الذين دخلوا إلى الدين من بوابة التطبيق الأعمى ، لم أسعّ إلى معرفة حقيقة الخالق ، ولا اتّجهت إلى التعرّف على أبجديات التوحيد اللازمة كي تصحّ عباداتي ، وتكون موجّهة إلى من له الفضل في خلقي ونشأتي ، ولا التفتّ إلى مختلف أبواب الفقه ، لتكون عباداتي صحيحة ومقبولة ، وفق الأحكام المدرجة بتلك الكتب ، كلّ ما في الأمر أنّني استجبت إلى نداء والدي ، وانصعت لأمره ، فصلّيت خلفه ، وصمت معه هكذا

٢٠٧

كانت بداياتي وبدايات أكثر المسلمين ، أمّا جذوري فلا أعتقد أنّها مالكيّة ، لأنّني استفسرت نفسي واستفتيتها فلم أجد فيها أيّ تعاطف أو ميل نحو هذا المذهب ، وأراه في عقلي ووجداني أضيق من أنْ يتّسع للإسلام العظيم ، ولا هو في مستوى يؤهّله ليحمل تحت اسمه تفاصيل الإسلام المحمّدي الأصيل ، الذي جاء ليكون خاتم الرسالات وخلاصة الدساتير الربانيّة.

أولى الملاحظات التي تراءت لي وأنا في بداية خطواتي العباديّة هي تذبذب الناس ، وعدم فهمهم لأحكام السهو والشك في الصلاة ، ووقفت على الخلل الذي أشيع في المصلين من اتباع مالك بإحداث السجود القبلي ، اقتداء بإمامهم الذي أسّس لتلك البدعة ، وجعل منها حلّاً لتصحيح الصلاة ، والحال أنّه يعتبر زيادة في عدد السجدات ، ممّا يرجّح بطلان الصلاة بتلك الزيادة.

وتساءلت : عن السبب الذي جعل الأمّة تعجز عن القفز فوق عقبة المذاهب ، وتتصاغر عن ولادة فقهاء يضاهون الفقهاء القدامى أو يفوقونهم علماً وعملاً ، حتّى أيقنت بعقم هذه الطوائف. وما الذي أوقف الاجتهاد وحصره في عدد من المذاهب استمرّ العمل بمقتضى أحكامها هذا الزمن الطويل ، رغم ثبوت ترك أصحابها العمل بقسم من أحكامها ؟ وهل كانت تلك المذاهب في محتواها مستجيبة لحاجات أتباعها ؟ ولماذا أصبح اتّباعهم لها إلزاميّ بحيث لو أصدر أحد علمائهم فتوى في مسألة مستحدثة أفتى تبعاً لذلك المذهب ، ولم يستقلّ بفتواه ؟

لقد مثل تعطيل الاجتهاد وسدّ بابه بالنسبة لأتباع تلك المذاهب ، بداية تخلّف الأمّة الإسلاميّة ، وقد كان دور خلفاء بني العباس ومن جاء بعدهم ، في غلق باب الاجتهاد وحصره في مذاهب معدودة ، هامّاً وأساسيّاً ، ولا يخفى أنّ ذلك المنع والحصر ، كان بسبب ميل هؤلاء الطغاة لحمل الأمّة ، على اتّباع هؤلاء الفقهاء فقط ، دون غيرهم ، رغم تعدّد المجتهدين في تلك العصور ، وتفوّق الكثيرين منهم

٢٠٨

على أصحاب المذاهب التي استطاعت البقاء والاستمرار بفضل دعم الأنظمة لها ، لأنّها كانت من تأسيس أولئك الحكّام ، أو هي موالية لهم ، فالموّطأ على سبيل المثال ، كُتب بأمر من الخليفة المنصور الدوانيقي العباسي ، وهو من حرّض مالكا على تأليفه ، وحمل الناس على التقيّد بفتاواه بعد ذلك ، مع أنّ مالكاً هذا لم يكن له شأن يذكر ، في مدينة تعجّ بكبار الأساتذة والعلماء ، وعلى رأسهم الإمام أبي عبد الله جعفر ابن محمّد الصادق عليه‌السلام ، الرجل المعارض لنظام الحكم العبّاسيّ ، والذي تخشى السلطة جانبه ، بسبب مكانته العلميّة المتميّزة التي حاز عليها ، وتوافُد الناس عليه من كلّ حدب وصوب ، ونسبته إلى أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وفرض مودّتهم على المسلمين كافّة ، وبسبب وفرة علومهم وعلوّ كتبهم في كلّ مجال ، أحقيتهم من غيرهم بقيادة الأمّة الإسلامية ، وقد تقلّدت بيعتهم نخب من الأجيال الإسلاميّة ، التي تعاقبت منذ وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليوم ; لذلك اتّجهت تلك السلطات إلى صرف الناس عنهم بشتّى السبل والوسائل ، فسعت إلى إيجاد بديل عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، يكون ولاءهم للسلطة مضموناً ، فجاءت تلك المذاهب وفق ما كانت ترجوه ، وفوق ذلك فقد حرّمت على أتباعها الخروج على الظالمين ، طالما أنّهم يُصلّون ، غير ملتفتة إلى أنّ الإسلام ليس صلاة فقط ، وقد يؤدّي الإنسان صلاته أداء لا ينفعه ، ولا يزيده من الله إلّا بعداً. وفتاوى طاعة أئمّة الظلم والجور ، ما كان لها أنْ تكون لولا الأحاديث المكذوبة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي تلقّاها علماء السوء بالمباركة والقبول ، وخصّصوا لها في كتبهم باباً يجيز على الأمّة اتّباعهم.

ومقابل غلق باب الاجتهاد عند بقيّة المذاهب ، وجد مقابلها خطّ لم يقع سدّ باب الاجتهاد فيه ، ولا اصطلح عليه تحت اسم شخص واحد ، فالإسلام الشيعيّ الاثني عشري لم يختلف أئمته الاثنا عشر ، ولم يتناقضوا فيما بينهم ، ولا ظهر

٢٠٩

منهم ما يدعو إلى القول بأنّ نهجهم مفتعل ، أو هو وليد زمن ليس له علاقة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لذلك فإنّ إجتماع ١٢ إماماً في خطّ واحد ، واستناداً إلى نصوص ، تقول بإمامتهم اختياراً وتعييناً من الله تعالى ، عن طريق النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دليل على أنّ نهجهم الذي سلكوه ، هو امتداد لخطّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتجسيد لروحيته الخالصة.

وقد اشتمل منهج إسلام أهل البيت عليهم‌السلام ، والمعروف بالإسلام الشيعي الاثني عشري بعد النبوّة على دورين ، دور الإمامة الهادية بإذن الله سبحانه وتعالى ، ودور العلماء العدول والمعبّر عنه الآن بالمراجع العظام رضوان الله تعالى عليهم ، ممّا أكسب هذا النهج حصانة ومنعة ، وحال دون أنْ تطاله أيدي العابثين والمحرّفين ، من زمر النفاق والشرك ، فلم يقع تحت طائلة هؤلاء جميعاً ، وكان بفضل الدورين اللذين مرّ ويمرّ بهما ، في مأمن من الانحرافات التي وقعت فيها بقيّة الخطوط.

الاجتهاد عند المسلمين الشيعة الامامية الاثني عشرية ، هو بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها الأربعة وهي الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. وللمجتهد شرائط لا بدّ أنْ تتوفّر فيه ، ليصبح مؤهلا لذلك ، وقد استفاض علماء أصول الفقه ، في مباحث تلك الشروط.

ووجوب أنْ يكون لكلّ جيل مجتهدوه ، نابع من الحاجة الماسّة إلى تواجد الفقهاء ، لحلّ مستجدات العصر ، ومستحدثات الزمن ، لتميّز الدين الخاتم بنمطين من الأحكام ، أحكام ثابتة لا تتغير ، وتتعلق بالشعائر العبادية ، من صلاة وصوم وحج وزكاة وخمس وزواج وولاية وغيرها ، وأحكام متحرّكة ، تقتضيها مسيرة البشرية عبر الزمن.

وممّا أكسب خطّ الإسلام الشيعي قوّة ومنعة ، وساعده على الاستمرار منذ

٢١٠

عصر الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إلى اليوم ، بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً ، وفوق ذلك ومن أجل بقاء الاجتهاد عاملاً فاعلاً في المجتمعات الإسلاميّة ، لم يجز أغلب علماء الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة تقليد المجتهد الميت ابتداء ، لدعم المجتهد الحي ، وفسح المجال أمامه ليؤدّي دوره في إرشاد الأمّة والنصح لها ، وتلبية حاجياتها في ما يتعلّق بكافّة أوجه ومجالات الحياة.

وما كان لهذه المكاسب العظيمة أن تتمّ لولا اكتمال الإسلام بدور أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين وإن لم يتمكّنوا من بلوغ سدّة الحكم بسبب تقصير الأمّة عن لعب دورها في تمكينهم من ذلك ، فقد مارسوا دورهم الأصلي في حفظ الشريعة وبثّها وترسيخها في الأجيال الإسلاميّة التي عاشوا بينها ، وكانوا المؤسسين لجامعة العلوم الإسلاميّة ، التي كانت مقصداً لطلبة العلوم من المسلمين ، يدرسون فيها مختلف المواد العلمية ، من فقه ومنطق وفلسفة وغيرها من فنون المعرفة ، وكان للإمامين الباقر والصادق دور في تأسيس تلك الجامعة التي سمّيت في عهد الشيخ الطوسي قدس سره بالحوزة العلمية.

وما الأمر الذي تركه الأئمّة عليهم‌السلام بخصوص الاجتهاد والتقليد ، إلّا دليل على عنايتهم بمسألة استمرار عطاء الدين ، وتواصل فاعليّته وإشعاعه ، على المستويين القيادي والقاعدي ، فقد جاء عنهم عليهم‌السلام : « المتعبّد على غير فقه كحمار الطاحونة » (١). في إشارة إلى ضرورة الاعتماد على الفقهاء في المسائل المتعلّقة بالدين ، وكلّ من لم يسلك طريقاً إلى الفقيه فعمله لا قيمة له. وجاء عنهم عليهم‌السلام أيضا : « فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه » (٢). في إشارة منهم إلى شروط تقليد المجتهد ،

_________________

(١) الاختصاص : ٢٤٥.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٢٦٣.

٢١١

ووجوب ذلك على عامّة الناس الذين لا يجدون حيلة إلى الفقاهة والاجتهاد.

وقد أثمر غرسهم عليهم‌السلام مع مرور الزمن ، وكانت رواياتهم وتوجيهاتهم إلى أتباعهم وشيعتهم المفتاح الذي أتاح للعلماء منهم بلوغ الحلال والحرام في جميع المسائل الحياتية ، فأفتوا المسلمين وفق مصادرهم المعتمدة ، واستناداً إلى الدليل القطعي ، فلم يعجّزهم شي من المستحدثات ، لمواكبتهم التطوّر البشري عن قرب ، والمتصفّح للرسائل العمليّة ـ وهي كتب الفقه التي يصدرها عادة كلّ مجتهد ، ويطرحها لمن يريد تقليدهم من الناس ـ يجد الحلول لكلّ إشكال فقهيّ عرض له ، ومن أعسر عليه شيء ، فإنّ أبواب مكاتب المجتهدين مفتوحة لتقبّل الأسئلة ، ومواقعهم على صفحات الانترنيت يرتادها الآلاف كلّ يوم ; لذلك أستطيع أنْ أقول بأنّني فوق ما اقتنعت به من صحّة لخطّ التشيّع الامامي الاثني عشري ، عقيدة وشريعة ، كانت مسألة بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً عند الشيعة ، هي العامل الذي دفعني إلى تبني المنظومة الإسلاميّة التي اعتمدوها ، طبقاً للنصوص التي أخذت بأعناقهم إلى أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وقد لمست من فتاوى مجتهديهم سعة المعرفة لديهم وبعد النظر ، وقوّة الشخصيّة والحضور الفاعل في مجتمعاتهم ، ولمست من أتباعهم أدب الطاعة وحسن الاتّباع وهي أمور ليست موجودة في بقيّة الفرق الإسلاميّة التي ما تزال تتخبّط في عمى الموروثات المتناقضة ، والتي اختلط فيها السليم بالسقيم ، والتي أرجو لأتباعها الهداية إلى أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبالرجوع إلى الأطهار من ذريّة المصطفى ، نستطيع أنْ ننال رضى المولى سبحانه وتعالى ، ونطفىء غضبه من الجفوة التي ارتكبها أسلافنا في الابتعاد عن نهجهم.

ونسأله أخيراً أنْ يفرّج عن هذه الأمّة المستضعفة ، بإظهار وليّه المنتظر ، ناصر دينه ، ومثبّت شريعته ، والمنتقم من الظالمين ، ويجعلنا من أتباعه وأنصاره وأعوانه

٢١٢

وشيعته ، ويرزقنا الشهادة بين يديه ، إنّه نعم المولى ونعم النصير ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

٢١٣

الحلقة الثانية والعشرون

فوجئت بحقيقة الشيعة والتشيّع .. فتشيّعت

بشير ، أخ في الله عرفته حديثاً ، ورغم حداثة العهد تلك ، فإنّه قد أخذ مكاناً كبيراً في قلبي ، لما لمسته منه من رفعة وعزّة ورجولة ، ما لفت نظري في شخصه ، أنّه كان سريع المبادرة ، كثير التفكّر في أمر الله تعالى ، قليل الاهتمام بالمسائل الدنيوية الزائلة ، يهتمّ ويغتمّ إذا ضيّع أمراً من دينه ، ولا يأبه ولا يبالي إذا ضاع منه أمر من أمور الدنيا ، كان يحزن إلى حدّ البكاء إذا ضيّع شيئاً في جنب الله تعالى ، وكان يضحك إذا ضيّع فرصة دنيوية ، كان ممّا قرّبني له أنّني سمعت بتشيّعه لأهل البيت عليهم‌السلام ، وقد حكى لي قصته ، ولمّا عرضت لي الفكرة في جمع إفادات المستبصرين ، دعوته ليدلي بشهادته ، فجاء رغم بعد المسافة ، وكان حاضراً معنا في الجلسة ، ولما جاء دوره قال :

لم يكن في حسابي أنْ أدرس التشيّع في يوم من الأيّام ، ولا أن ألتفت إلى كنهه ومعناه الحقيقيين ، فقد قرأت عنه من الزاوية المذهبيّة ، وتعرفت على وجهه المشوّه ، والذي كنت معتقداً أنّه وجهه الحقيقي ، من خلال كتب مناهضة ومعادية له ، ككتاب ضحى الإسلام لأحمد أمين المصري ، ومنهاج السنّة لابن تيمية ، وكتب أخرى ، امتداداً لحركة القصّاصين ووعاظ السلاطين من عبدة الدنيا ، وامتداداً للأيدي القذرة التي حرّفت وشوّهت كلّ جميل في التراث الإسلامي ، وهي لا تزال تعمل للحيلولة دون معرفة المسلمين لحقائق دينهم ، وما يترتب عليها من فهم ووعي بالواقع المرير الذي عاشه أجدادهم ، ويعيشون فيه هم أيضا إلى الآن.

٢١٤

لم تتولّد في نفسي همّة معرفة الشيعة ، إلّا بعد أنْ ألقت الصدفة في طريقي أحد أفراد الشيعة ، لم يكن ذو أصول شيعيّة ، فهو قد تشيّع بعد دراسة وتمحيص استمرّ فترة زمنية غير قصيرة ، زيادة على كونه من أهالي منطقة عرفت باتّباع المذهب المالكي قرون متعاقبة.

الصدفة تمثّلت في دعوتي لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء ، وأثناء تواجدي بالحفل ، وجدت الرجل من بين المدعوّين ، لم أكن أعرفه معرفة جيّدة ، كلّ ما عرفته عنه هو ما قيل فيه من إشاعات متعلقة بانتمائه ، وبسبب ذلك كنت أتوقى الالتقاء به ، والجلوس معه على نفس الطاولة ، وقد دار في ذلك المجلس حوار ونقاش حول بعض المواضيع ، وسمعتُ الرجل يتكلّم بكلام منطقيّ نابع من قناعة راسخة لديه جعلته يتكلم بثقة تامة وعزة نفس.

استدرت من مجلسي والتفتّ إليه ، ثمّ خاطبته قائلاً : ألستَ شيعيّاً ؟

قال : بلى. قلت : وهل الشيعة مسلمون حقّاً ؟ قال وقد ظهرت على ملامحه علامات الغضب : إذا لم يكن الإسلام عندهم وفيهم ، فأين يمكن أنْ يوجد ؟

قلت : وكلّ هذه التهم التي تحاصر التشيّع والشيعة ، كالادّعاء بأنّ جبريل قد أخطأ في تنزيل الرسالة ، ودعوى تحريف القرآن ، ودعوى تأسيس الفكر الشيعي على يد عبد الله بن سبأ اليهودي ، ودعوى استباحة الشيعة للمحرّمات ، أليست كافية بأنْ تكون دليل على انحراف طائفتك ؟

قال : وهل تعتقد أنّ أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، يعتقدون بالذي ذكرت ؟

قلت له : حاشا وكلّا ، أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم مبرؤون من ذلك ، لكنّ أتباعهم قد يكونون انحرفوا عن طريقهم.

فقال : طالما أنّك قد برأت أهل البيت عليهم‌السلام من تلك التهم الباطلة من أساسها ،

٢١٥

فاعلم أنّ ما روّج على الشيعة من أقاويل ليس لها إثبات على أرض الواقع ، وهي مدعاة للسخرية والاستخفاف بمن يعتقدها ، وترك العلم واتّباع الظنّ يؤدّي دائماً بصاحبه إلى التفريط في الحقيقة والابتعاد عنها ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) (١) ونصيحة الباري تعالى هذه جاءت لغلق الباب أمام عامل الظن ، لأنّه وسيلة واهمة لا توصل صاحبها إلى علم أبدا.

أمّا ما تُقوّل على الشيعة بشأن جبريل عليه‌السلام لا أساس له من الصحّة ، وأجزم لك بأنّ مخترع تلك الدعاية المغرضة لقيط من أبناء عواهر زمن انحطاط الأمّة ، والمستأنس بذلك القول ليس له عقل يميّز به ، ولا فكر مستنير ليسترح إليه ، أمّا دعوى تحريف القرآن فقد قال الإمام جعفر بن محمد الصادق سادس أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معرض حديثه عن الذين انحرفوا عن نهج أهل البيت عليهم‌السلام : « .. وأقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده » (٢). في إشارة إلى أنّ غير أتباعه وشيعته هم الذين حرّفوا تفسير الكتاب العزيز ، نزولاً عند إرادة ورغبة حكّامهم. ثمّ إن جميع الفرق الإسلاميّة نقلت روايات التحريف في القرآن ، غير أنّ علماء الشيعة كالشيخ الكليني أفردها في باب النوادر ، تصغيراً لشأنها ، بينما نقلها من تسمّوا بأصحاب الصحاح في أبواب الفقه دون تخصيص ولا إفراد.

أمّا إن ابن سبأ على حسب الدعوى المطلقة فقد عاش في زمن الإمام عليّ عليه‌السلام ، وكان بحسب تلك الأقاويل من أتباعه والدعاة إلى إمامته وإمامة أبنائه ، فلو كان موجوداً وجاء بمفتريات قد تسهم في تحريف الدين وتقويض أسسه لشهّر به ، وحذّر منه ، ولتبرّأ من مفترياته ، وسيرة عليّ عليه‌السلام في عدم الاعتماد على المشكوك في صدقيتهم ونزاهتهم غير خافية على ذوي الأفهام ،

_________________

(١) الحجرات : ١٢.

(٢) الكافي ٨ : ٥٣.

٢١٦

فهو عند تسلّمه زمام الحكم ، قد عزل جميع الولاة الذين اعتمدهم الخليفة الثالث عثمان ، وقيل له أنْ لا يتعجّل في عزل معاوية الطليق ، فأبى ، وردّ مستشهداً بقوله تعالى قائلاً : ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) (١) (٢) فكيف يأنس والحال تلك بيهودي لا يعلم أصله من فصله ؟

ثمّ إنّ محيط عليّ عليه‌السلام أتباعاً وأعواناً وجيشاً ، كلّهم من العلماء وحفظة القرآن وزهّاد القوم وخيرتهم ، فكيف يستقيم الاعتقاد بأنْ يوجد مشبوه بينهم ، أو أنْ يستطيع منافق أو عدو من أعداء الله أن يحوز مكاناً بين هؤلاء الأتقياء ، على أنّ عدداً من الباحثين والمحقّقين قد انتهوا إلى أنّ شخصيّة عبد الله بن سبأ ، ليست إلّا دعاية مغرضة صنعها الدهاء الأمويّ ، لينفّر الناس عن إسلام أهل البيت عليهم‌السلام ، الإسلام الشيعيّ.

وإذا فرضنا أنّها شخصيّة حقيقيّة ، مارست دورها وقامت بمهمّتها على أحسن وجه في التنقّل بين الحجاز والعراق ومصر ، لدعوة المسلمين إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام ، وكونهم الأحقّ والأولى بتقلّدها منذ البداية من غيرهم ، فلا يمكنها أنْ تعدو الصحابي الجليل عمّار بن ياسر ذوي الأصول اليمنيّة ; لأنّ كلّ ذي أصل يمنيّ يشترك في نسبته إلى سبأ ، التي تعتبر رمز اليمن واليمنيين.

قلت له : كلامك منطقيّ وتحليلك لا يستطيع منصف أن يتجاهله ، إلّا أنّني أتساءل عن السبب الذي جعل الغالبية العظمى من المسلمين تتنكّب عن نهجهم ؟

قال : وهل لتلك الغالبية من المسلمين القدرة على غير ذلك الفعل ، طالما أنّها جعلت مقاليد دينها بين أيدي أعدائها من الطغاة والظلمة ، واستمرّت عل ذلك دهراً طويلاً ، وهي إلى اليوم تراوح في مشيّها على نفس الطريق ، وبنفس الوتيرة ،

_________________

(١) الكهف : ٥١.

(٢) الأمالي للطوسي : ٨٧.

٢١٧

ولم تتّعظ يوماً من بطلان مسلكها ، ومنذ ظهور عليّ عليه‌السلام ووضوح مقامه ، لم يجد هذا الرجل الفذّ أتباعا ، غير المستضعفين من أمثال أبي ذر وعمّار وسلمان والمقداد ، ومقابل ذلك ظهرت أضغان النفاق والشرك من خلال التحريض عليه والوشاية به ، اعتقاداً من هؤلاء بإمكانيّة إسقاط عليّ عليه‌السلام ، وزحزحته من قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يزد تكالبهم على الوقيعة بعليّ عليه‌السلام ، إلّا رسوخاً لمحبّة أمير المؤمنين في كلّ الأفئدة ، التي رفضت الدنيا وباطلها وزيفها وبهرجها ، وكلّما خرج حبّ الدنيا من قلب مؤمن ، تهافت عليه طلّابها ، فوضعوه في قلوبهم ; لذلك لم يجتمع حبّ علي عليه‌السلام ، وحبّ الدنيا في قلب مؤمن أبداً ، وبقيت هذه المعادلة مقياساً صحيحاً ، يعرف به المتّجه إلى الله تعالى ، من المتّجه إلى الشيطان والدنيا.

قلت له : فماذا قدّم الشيعة إذاً للإسلام ؟

قال : قدّموا كلّ خير ، وأظهروا كلّ جميل ، وبيّنوا كلّ لبس ، وعاشوا بين الناس بأبدان قلوبها معلّقة بالمحلّ الأعلى ، فخيرة الصحابة كانوا شيعة عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام ، وخيرة التابعين هم أيضاً شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، كلّ جيل من الأجيال الإسلاميّة ، مثّل الشيعة نخبتهم وخيرتهم بدون مبالغة ، وبكلّ تواضع أقول لك : إنّنا إذا صنّفنا وميّزنا العلماء ، لوجدنا علماء الشيعة هم أفضل العلماء ، بدليل ما كتبوه للأمّة الإسلاميّة وللناس جميعاً ، وإذا صنّفنا عامّة الناس وجدنا عامّة الشيعة هم أفضل عامّة ، لقول الأئمّة عليهم‌السلام : « ليس من شيعتنا مَن يكون في مصر ، يكون فيه مائة ألف ، ويكون في المصر أورع منه » (١) ، وكان حثّهم لأتباعهم على العمل الصالح ، وتطبيق أحكام الله تعالى ، من أولى أولوياتهم ، فقالوا : « كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم » (٢). حتّى الشعراء فإنّك إذا وردّت دواوينهم ، وجدت أنّ

_________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٢٤٧.

(٢) الكافي ٢ : ٧٨.

٢١٨

أفضلهم شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، وبصراحة فإنّني لا أرى طيّبا ولا جميلاً إلّا وهو شيعي.

قلت له : أراك تبالغ في تفضيل وتقديم الشيعة.

قال : أنا أنقل لك الحقيقة بغير طلاء ولا زينة ، الحقيقة التي ظلّت مغيّبة عنّا قرون طويلة ، تلك التي أُبعدنا عنها بالكذب تارة وبالدعاية الباطلة تارة أخرى ; لذلك فإنّني أتمنى من كلّ مسلم أنْ لا يطمئنّ إلى كلّ ما يلقى إليه ، فليشكّك في كلّ شي ليتخلّص من موروثاته التي علق بها كثير من البهتان ، ثمّ ليبدأ البحث عن الحقيقة ، خالياً من التبعات ، وأنا متأكّد من أنّه سيدرك الحقيقة من دون عناء.

قلت له : وهل النخب التي تحدّثت عنها من الشيعة مخصوصة بالعصور الفارطة ، أم تشمل العصر الحديث ؟

قال : التشيّع يا أخي متّصل الحلقات ، ومترابط الأجيال ، فلم يخْلُ منه مكان ولا زمان ، أنا لا أدعوك فقط إلى متابعة النهضة المباركة للجمهورية الإسلاميّة في إيران ، ولا إلى الالتفات إلى تلك الثلة المؤمنة في لبنان ، المسمّاة بحزب الله ، بل أدعوك إلى تحكيم قلبك ، ومتابعة الأدلّة النظريّة من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية دلّت على أحقيّة الشيعة.

انتهى الحديث مع ذلك الشيعيّ ; نظراً لأنّ المكان لا يسمح بأكثر من ذلك ، فقد جئنا جميعاً لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء ، وعلينا أن نلتفت إليه ونهتمّ به ، وتغيّرت منذ تلك المناسبة السعيدة على أهلها وعليّ ، بتعرفي على شخص ، استطاع بمنطقه ولباقته ومعرفته ، أنْ يهديني إلى اتّباع الصراط المستقيم ، الذي تاه عنه كثير من الناس ، ممّن يمتلكون أسباب المعرفة ووسائل البحث والوصول إلى الحقيقة ، ولم نفترق من ذلك الحفل إلّا بعد أنْ وعدني بأنْ يمدّني بكتاب تأسيس الشيعة الكرام لعلوم الإسلام ، لأتأكّد من مصداقيّة القيمة

٢١٩

التي ذكرها ، عن العناصر التي شايعت عليّاً والأئمّة من ذريته عليهم‌السلام ، فكان كتاباً شاهداً على تلك الفئة المباركة التي لعبت دوراً رئيساً في حفظ الدين ، وإحياء أحكامه وسننه ، وتطوير مناهجه وعلومه ، ممّا أتاح لي أنْ أنزع غشاوة التضليل ، واُلقي بتبعات التمذهب الموروث عن الآباء ، إنْ كان الآباء حقيقة على تلك المذاهب المفروضة على الناس في الزمن الغابر ، وأيقنت أنّ الإسلام المحمّدي ، والدين الحقّ ، لا يمكنه أن يكون في غير أهل البيت عليهم‌السلام ، فآمنت به واتّبعت طريقتهم كما قال تعالى : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ).

٢٢٠