محمّد الرصافي المقداد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
علماءهم بتأويل النصوص ، وحمله على غير محملها الذي أراده لها الوحي ، وأيده العقل السليم ، ولعلّ أكبر دليل على صحة خطّ اتباع أهل البيت عليهمالسلام ، والمعروف بالشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، هو استقاءه لإثبات صحّة نهجه ، أدلة قطعيّة من كتب خصومه والمحاربين له ، وفي ذلك حجّة بالغة لمن يعقل أصول الاحتجاج ، ويفهم مبادىء الاستدلال. وحتّى تستطيع مراجعة الحجج التي استدلّ بها الشيعة على إخوانهم السنّة ، اسمح لي أن أقدم إليك كتاب المراجعات ، الذي يعتبر بحقّ نموذج الحوار الصادق ، والتخاطب السليم بين أهل الملّة الواحدة ، والعلم إذا استعمل بنيّة صادقة وعزم خالص ، فإنّ أصحابه سيقفون من خلاله على عين الحقيقة.
أخذتُ منه الكتاب ، وانكببت على دراسته ، ومقارنة النصوص التي تضمنها نصّاً نصّاً ، ولم أنته منه إلّا وقد أدركت ما أذعنت له همّة الشيخ سليم البشري ، وعرفت أنّ الإسلام المحمّدي الأصيل لا يوجد في أبهى مظاهره إلّا عند المسلمين الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، فقررت أنْ أكون شيعيّاً اثني عشريّاً ، ملتزماً بخطّ أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، الذين اذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
والحمد لله على نعمة الهداية إلى صفوة الله تعالى ، من بعد نبيه صلىاللهعليهوآله ، ونسأله أنْ يجعلنا من أوليائهم في الدنيا ولآخرة ، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العلمين.
الحلقة الرابعة عشر
شيّعني حديث الثقلين
صلاح الدين ، هو واحد من أولئك الذين حكّموا العقل على العاطفة ، وغلّبوا تطبيق النصّ على اتّباع الهوى ، فخرج بمقارنة علميّة أدّت به إلى اعتناق إسلام أهل البيت عليهمالسلام.
منذ أمد ليس ببعيد ، كنت معتقداً بصحّة الحديث الذي نُسب إلى النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله الذي يقول : تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي. ولم يخالطني في صدوره عن النبيّ صلىاللهعليهوآله شك ، وقد كنت تبعاً لمذهب إسلاميّ بنى منظومته ، وعنون واجهتها على ذلك الأساس ، وصدّقت بسرعة مضامين الرواية التي توحي من أوّل وهلة ، وثاقتها وصلتها بمصدرين أساسيين من مصادر التشريع الإسلامي ، وهما القرآن والسنّة النبويّة المطهرة ، فتقبّلها عامّة المسلمين بالتسليم والرضا. اعتقاداً منهم بأنّ الوصيّة التي نسبت للنبيّ صلىاللهعليهوآله صحيحة لا غبار عليها ، ولا شكّ فيها ، وإلّا فمن يشكّ في حجيّة كتاب الله وسنّة رسوله كمصدرين من مصادر استنباط الأحكام الشرعيّة في شتّى المجالات العباديّة والحياتيّة ، وجاءت تسمية أتباع هذا التصوّر بأهل السنّة والجماعة.
واستمرّ تعاملي وتعاطيي مع منظومة تلك
الرواية ومكوّنات خطّها ، إلى أن عثرتُ في مطالعاتي على رواية نقلها مسلم النيسابوري أحد الشيخين ، وصاحب ثاني الكتب الروائية المعروفة بالصحاح عند أهل السنّة والجماعة ، أوقفتني على مضمونها ، وأثارت اهتمامي بمحتواها ، الذي جاء معارضاً لرواية وصيّة
النبيّ صلىاللهعليهوآله ، من وجهة نظر أهل السنّة والجماعة ، تقول الرواية :
قام رسول الله صلىاللهعليهوآله يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خُمّاً بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ، ثمّ قال : أمّا بعد ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ، ورغّب فيه ، ثمّ قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي » (١).
وبعد تأكّدي من صحّة المصدر ، عدت إلى رواية كتاب الله وسنّتي ، لأبحث عن مصادرها ، فتبيّن لي أنّ أوّل من أخرجها هو مالك بن أنس في كتابه الموطّأ ، بلاغاً ، ولم يذكر سندها ، فقد جاء فيه :
عن مالك أنّه بلغه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : « تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما ، كتاب الله وسنّة نبيه » (٢). والرواية البلاغ في مصطلح علم الحديث مصنّفة ضمن الأحاديث الضعيفة التي لا تستطيع أنْ تكون حجّة للعمل بمقتضاها ، إذا وجد في مواجهتها حديثاً أو عدداً من الأحاديث المسندة إسناداً صحيحاً.
انفرد مالك في موطّئه بإخراج الرواية ، ولم ينقلها بذلك السند أو بسند غيره أحد من أصحاب ( الصحاح ) ، بسبب عدم صحّة صدورها عن النبيّ صلىاللهعليهوآله من جهة ، وعزوف الرواة عن نقلها إلى المستوى الذي جعل مالكا ينقلها بلا سند من جهة أخرى.
وبظفري الذي تحقّق بالعثور على دليل يُمكنني من الإمساك بخيط الحقيقة ، ضاعفت جهدي في البحث ، فوجدت أنّ مسلم لم يكن وحده الناقل لحديث
_________________
(١) صحيح مسلم ٧ : ١٢٢ ـ ١٢٣.
(٢) الموطّأ ٢ : ٨٩٩.
الثقلين ، فهناك أيضا عدد من حفّاظ العامّة أخرجوه كلّ حسب شروط رواته ، فهذا الترمذي قد نقله في سننه (١) ، والنسائي في خصائصه (٢) ، وأحمد بن حنبل في مسنده (٣) ، والحاكم النيسابوري في مستدركه (٤) ، والطبراني في معجمه الكبير (٥) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (٦) ، والبغوي في مصابيح السنّة (٧) ، وابن حجر في الصواعق (٨) ، وأبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء (٩) ، وقد اعترف الألباني على نصبه بصحته في صحيح الجامع الصغير (١٠) ، والمناوي في فيض القدير (١١) ، وابن حجر في المطالب العالية (١٢) والبوصيري في الإتحاف (١٣) ، وغيرهم كثير لا يسعني ذكرهم ، وقد اقتصرت على المشهورين منهم. وتساءلت عن السبب الذي دفع بعلماء عامّة الأمّة إلى تجاهل حديث الثقلين ، والإعراض عنه ، رغم تعدد طرقه ، وكثرة حفّاظه ، مقابل تقديم رواية مالك عليه ، وهي بتلك الحال من الضعف ؟
ولم أهتد إلّا إلى أنّ الواقع السياسي الذي كان سائداً في القرون الأولى ، هو الذي أسهم بشكل جليّ في إقصاء عترة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ودفعهم من أن يكونوا الثقل الذي يلتجىء إليه المسلمون ، وأطلق عبيد الدنيا ليعبثوا بالسنّة النبويّة التي لم
_________________
(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٢٩.
(٢) خصائص الامام علي : ٧١ ـ ٧٢.
(٣) مسند أحمد ٣ : ١٤ ، ١٧ و ٥ : ١٨٢ ، ١٨٩.
(٤) المستدرك ٣ : ١٠٩.
(٥) المعجم الكبير ٥ : ١٥٣.
(٦) المصنّف ٧ : ١٧٦.
(٧) مصابيح السنّة ٢ : ٤٥٧ ، ٢٧٢٦ و ٢٧٢٧.
(٨) الصواعق المحرقة ٢ : ٤٢٨.
(٩) حلية الأولياء ١ : ٣٥٥.
(١٠) صحيح الجامع الصغير ١ : ٤٨٢.
(١١) فيض القدير شرح الجامع الصغير ٣ : ٢٠.
(١٢) المطالب العالية ٤ : ٦٥ ، ح ( ٣٩٧٢ ).
(١٣) إتحاف الخيرة المهرة ٩ : ٢٧٩ ، ح ( ٨٩٧٤ ).
تكن مجموعة عند العامّة في ذلك الوقت ، وأوجد التناقض في الروايات المنسوبة للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، من أجل تعمية الأمّة عن قياداتها ، وصرفها عن هداتها ، ليتسنى لمحرّفي الكلم عن مواضعه أنْ يتحكّموا بمصيرها لتسهل عليهم قيادتها.
ونظرتُ في الروايتين ، فوجدتهما متفقتين في النصف الأوّل من وصيّة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وهو كتاب الله ، ومختلفتين في النصف الثاني من الوصيّة ، اختلافاً يدعو إلى موازنة الروايتين للخروج بالصحيحة منهما متناً ، بعد أن تأكّد لدينا أنّ رواية مالك لا تقوم بها حجّة لأنّها غير مسندة.
لا خلاف بين جميع مكونات الأمّة الإسلاميّة في حجيّة السنّة النبويّة ، فكلّ مدارسها الفقهيّة تقرُّ بها ، وتعتمدها في استنباط الحكم الشرعي لكلّ المسائل ، دينيّة كانت أم دنيويّة ، ولم ينشأ خلاف على ذلك ، إنّما نشأ الخلاف في مورد السنّة النبويّة ، عمّن نستقيها ؟ وممّن نأخذها ؟
وفي حين أنّ رواية مالك لم تطرح مورداً
للسنّة النبوية يمكن اعتماده مرجعاً لها ، وكلّ ما فيها تعلّق بلزوم إتّباعها مع الكتاب العزيز ، لكونها عاصمة من الضلال. طرحت الرواية المتعددة الطرق والمصطلح عليها بحديث الثقلين ، مورداً للسنّة النبويّة ، وهو العترة الطاهرة من أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، الذين أذهب الله
تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، ليكونوا مراجع الأمّة في أحكام الدين كلّه ، وحفظة الكتاب والسنّة النبويّة ، ورعاة أحكامهما ، في منأى عن التحريف والتشويه والتعطيل المحتمل من طرف المنافقين والجاهلين. ولو جاءت رواية مالك صاحب الموطّأ ، والمذهب الذي كنت معتنقاً له قبل تحولي إلى خطّ أهل البيت عليهمالسلام
، بمورد مغاير للرواية المخالفة لها ، والتي طرحت أهل البيت عليهمالسلام ، ليكونوا مرجع الأمة في ما يتعلق بالكتاب والسنّة ، لأمكن الموازنة بينهما وترجيح إحداهما على الأخرى ; لذلك فإنّ رواية مالك نفسها لا تتعارض مع
حديث الثقلين ; لأنّها لم تطرح بديلاً عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، كما لو فرضنا أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله ، قال : تركت فيكم كتاب الله وصحابتي مثلا ، كما أنّ الصحابة أنفسهم لم يطرحوا أنفسهم مراجعاً للأمّة الإسلاميّة ، ولم يدّع أحد منهم حيازته لذلك المقام ، بينما ادّعاها عليّ وذريته عليهمالسلام ، دون أنْ ينازعهم فيها أحد.
وممّا يؤكّد حديث الثقلين بلفظ الثقلين بلفظ ( وعترتي ) موافقته لقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١). حيث تضمّنت الآية بياناً لدورين من أدوار الهدي الإلهي هما :
ـ دور التبليغ : وهو مناط بالأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، الذين نزل عليهم الوحي ، وحملوا شرائع وقوانين لتكون دستوراً للبشرية ، تعمل بمقتضاه ، وتمتثل لأحكامه ، فنزول الوحي من الله تعالى كان عن طريق روح القدس عليهالسلام إلى النبيّ أو الرسول عليهالسلام.
ـ دور الحفظ : وهو مناط بالأئمّة الأطهار عليهمالسلام ، الذين أودعوا علوم وأسرار ومعاني جميع ما نزل على الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، وحُفظ مكونات الوحي يكون عن طريق الإمام عليهالسلام ، قال تعالى : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) (٢)
ولا شك أنّ الآية الكريمة التي في سورة المائدة تشير إلى الدورين المذكورين ، وتزيد في إقامة الدليل على أنّ الدين قد جاء من الله تعالى متناسقاً ومتجانساً وتامّاً في جميع مكوّناته ، وليس للناس فيه إلّا السمع والطاعة فقط ،
قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ
_________________
(١) الحجر : ٩.
(٢) يس : ١٢.
شُهَدَاءَ .... ) (١).
لقد بيّنت الآية الكريمة وظائف متعلقة بأدوار تبليغ وحفظ شرائع الله سبحانه وتعالى ووحيه ، جاءت بحسب الأولوية والترتيب الزمني كالآتي : أوّلا : النبيّون. ثانيا : الربانيّون ( الأئمة أو خلفاء الأنبياء ). ثالثا : الأحبار ( العلماء ). فتبيّن من خلال ما ذكرت : أنّ الدين لا يكون تامّاً وكاملاً ، إلّا إذا اجتمعت فيه كافّة خصائص التشريع ، من وجود السلطات الثلاث داخل تركيبته ، وأعني بهما السلطة التشريعية ، والسلطة التنفيذية ، والسلطة القضائية.
إذاً ، فإنّ مسألة تعيين من سيقوم مقام النبيّ صلىاللهعليهوآله في النصح والإرشاد ، والإجابة على المسائل والحكم بين الناس ، وقيادتهم إلى سواء السبيل ، واضحة لا غبار عليها ، وليست متروكة للناس ، لأنّ ذلك الترك المزعوم نقص في الدين وإخلال بمكوناته ، لا يمكن أنْ يصدر عن الله تعالى.
ولو سلّمنا جدلاً ، أنّ مسألة قيادة الأمّة قد تركها الله سبحانه وتعالى للناس بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فإنّ ذلك الترك المزعوم لا يمكن أنْ يكون مطلقاً ; لضرورة تحديد شروط للقائد المزمع تعيينه ، تؤهله لقيادة سفينة الأمّة بيسر ونجاح ، فيكون التعيين مع وجود شروط القائد كذلك من الله سبحانه وتعالى ، على سبيل النصح والإفادة ; لأنّه أعلم بمخلوقاته من غيره ، وفي كلتا الحالتين ، وأعني بهما : حالة تعيين القائد ، وحالة ترك تعيينه لاختيار الناس ، فالوحي ليس بمنأى عنهما.
من هنا فهمت واقتنعت تماماً بضرورة وجود شخص له من المؤهّلات الكبيرة التي تُمكّنَه من أنْ يملأ مقام النبيّ صلىاللهعليهوآله في الأمّة بعد انتهاء مرحلة النبوّة ، وعرفت أنّ ذلك الشخص هو الأقرب إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله من غيره ، فلم أجد غير الإمام عليّ ابن أبي طالب عليهالسلام ، من توفرت فيه تلك الخصائص والكمالات منذ ولادته وحتّى
_________________
(١) المائدة : ٤٤.
فارق الحياة ، لم يسجل عليه أيّ مخالفة ، ولا نقل عنه أصحاب السير بدعة ، حتّى أنّ أعداءه الذين حاربوه ، لم يستطيعوا أن يجدوا عليه غميزة ، أو يقدّموا سبباً يبرّر عداءهم وحربهم ، فقدمت أمير المؤمنين عليهالسلام على غيره ، اعترافاً بحقّه عَلَيّ ، وامتثالاً لأمر الله تعالى في تقديمه وموالاته وطاعته ، والإيمان بأنّه الإمام المفترض الطاعة على الأمّة قاطبة.
والإمام عليّ عليهالسلام هو أوّل عترة النبيّ صلىاللهعليهوآله الذين قرنهم بالكتاب وجعلهم ثقله ، وبابه وعرفاءه ، وعلماءه ، ولولا وجودهم لمحق الدين واندرست أحكامه.
أمّا الثقل الأوّل ، وهو الكتاب الذي أحصى الله تعالى فيه كلّ شي ، قال تعالى : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ) (١) والذي عجز كبار الصحابة وجهابذة العلماء عن إدراك جميع معانيه ، وتناول كافّة درره ، والأخذ بأزمّة محكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، فلم يتجرأ أحد على القول بتمام معرفته ، غير عليّ عليهالسلام ، باب مدينة علم النبيّ صلىاللهعليهوآله.
إذاً ، فحديث الثقلين لمن فهم مقاصده ، من أكبر الأدلة على وجوب اتّباع العترة الطاهرة من أهل البيت عليهمالسلام ، واقترانها بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، دليل على عصمتهم من الضلال والكفر والشرك والنفاق ، وزيغ الشيطان ، كما دلّت عليه آية التطهير : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٢) وعدم افتراق العترة الطاهرة عن الكتاب العزيز إلى يوم القيامة ، دليل آخر على عصمة الأطهار ، وعدم افتراقهم عن الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
واعتبار التمسك بالكتاب والعترة الطاهرة عاصماً من الضلال ، دليل ثالث على عصمة الأئمّة من أهل البيت عليهمالسلام ، فلا يعقل أن يحيلنا النبيّ صلىاللهعليهوآله تبعاً للوحي
_________________
(١) النبأ : ٢٩.
(٢) الأحزاب : ٣٣.
على متمسك غير مأمون من الضلال. والكتاب العزيز لا يمكن أن يقوم بنفسه ; لأنه كتاب لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئاً من تأويل أو تعطيل فاسدين ، وهو بحاجة إلى من ينطق عنه صدقاً وعدلاً ، كالإمام عليّ عليهالسلام والصفوة الطاهرة من ذريته عليهمالسلام ، تماماً كالسنّة النبويّة المطهرة التي تحتاج إلى حافظ لها ، مسدد من طرف الباري تعالى ، فالقرآن وتوابعه من أحاديث النبيّ صلىاللهعليهوآله المفسرة لمعانيه ومقاصده ، وبقيّة علوم الدين والدنيا ، أوكلها الله سبحانه وتعالى إلى صفوته من خلقه ، وزادهم بسطة فيها ; ليكونوا حججه على خلقه ، والأدلّاء عليه وعلى شريعته وأحكامه. وجاء قوله تعالى في سورة الواقعة : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ليشير إلى حقيقة أنّ للكتاب صفوة أورثها الله تعالى علومه المتاحة لمخلوقاته ، وطهّرها ظاهراً وباطناً ، لتكون في مستوى حمل ذلك العبء الثقيل ، وجاء لفظ المسّ مُعبراً عن قدرة الأئمة الهداة على إدراك جميع معاني الكتاب العزيز ، وتحويله من جملة مفاهيم إلى جملة من التطبيقات ، ليتسنى لمن هم دون فهم جميع محتوياته أنْ يتمكنوا من ذلك تيسرا لهم ، وتوجيهاً لمطالبهم التي عجزوا من تلبيتها بمفردهم.
واقتنعت أنّ رواية مالك بقدر ما كان فيها إشارة إلى مصدرين من مصادر التشريع ، بقدر ما كانت فاقدة لسند العمل بها ، بحيث لم تحدّد وجهة طالب الكتاب والسنّة النبويّة ، والباحث عن التمسك بهما ، إلى من يتّجه ؟ وعمّن يأخذ ؟ خصوصاً إذا ما علمنا أنّ تدوين الكتاب والسنّة ، قد جاءا متأخرين عن وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله.
ولمّا لم تثبت مرجعيّة حقيقيّة وجامعة في ذلك العصر ، غير الإمام عليّ عليهالسلام ، الذي كان يقول : « سلوني قبل أن تفقدوني » (١) ، وما استتبعه من إقرار بتلك
_________________
(١) المستدرك ٢ : ٣٥٢
، وقال سعيد بن المسيّب : « لم يكن أحد من الصحابة يقول :
المرجعية والعمل بمقتضى هديها جزئيّاً من طرف الخلفاء الثلاثة الأوائل ، كلّ حسب ضرورته التي أُلجىء إليها ، ولعل أبلغ ما قيل مكررا في ذلك : « لولا علي لهلك عمر » (١).
كلّ ذلك يمثّل أدلّة على أحقيّة أهل البيت عليهمالسلام في قيادة الأمّة الإسلاميّة ، وبطلان الحكومات التي اغتصبت الحكم بدعوى اختيار الناس والشورى.
وكلّ من أنكر مرجعيّة أهل البيت عليهمالسلام ، أو حصرها في المسائل الدينيّة ، دون بقيّة المطالب التي تخصّها ، والتي تؤسّس في جميع أبوابها مقام الإمامة العامّة في الأمّة ، لم يفهم غاية الوحي من حديث الثقلين ، أو إنّه من أتباع أولئك الذين وقفوا في وجه النبيّ صلىاللهعليهوآله لمنعه من كتابة وصيّته للأمّة. لذلك يمكنني القول : إنّني بفضل حديث الثقلين عرفت طريقي إلى الله ، وأدركت تكليفي في موالاة الأئمة الاثني عشر الأطهار الذين نصّ النبيّ على كونهم خلفاءه وأئمته في أمّته من بعده ، فواليتهم في الدنيا والآخرة ، وتقربت إلى الله تعالى بمحبتهم واتّباعهم والتشيّع إليهم ، تأسيّاً بتشيّع إبراهيم لنوح عليهماالسلام ، قال تعالى : ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٢).
أحمده تعالى على أنْ هداني إلى هذه المنّة العظيمة ، التي لا يعرف قيمتها ، ولا يدرك حقيقتها ، إلّا من آوى إلى ركنها ، واعتصم بحبلها ، واستمسك بعروتها ، وأسأله سبحانه أنْ يمنّ على بقيّة الأمّة الإسلاميّة ، بالرجوع إلى الأئمّة الهداة عليهمالسلام ، ليعود للدين مجده الذي كان على عهد النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآله ، وتفوح زهرته ، وتينع ثمرته ، لتكون مصداق الرحمة المرجوّة ، وعنوان الخلق العظيم.
_________________
سلوني ، إلّا علي » أرسله الذهبي إرسال المسلمات في تاريخ الإسلام : وفيات ( ١١ ـ ٤٠ هـ ) ص ٦٣٨.
(١) الاستيعاب ٣ : ١١٠٣.
(٢) الصافات : ٨٣ ـ ٨٤.
الحلقة الخامسة عشر
حديث الغدير وحادثته هما اللذان شيّعاني
عبد السلام ، رجل ذو شخصيّة تميّزت بالانفتاح على الغير ، دمث الأخلاق ، رحب الصدر ، دائم الابتسامة ، يحترم الناس ولا يتعامل معهم إلّا على قاعدة من التقدير والاعتبار ، لأجل ذلك كسب ودّ واحترام كلّ من عرفه عن قرب ، حدّثوني عنه وعن خصائصه ، وكيفيّة تشيّعه إلى أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، فوجّهت إليه الدعوة ليكون ضمن الإخوة في جلسة الإفادة التي قرّرت إقامتها ، مساهمة من طرفي في إظهار مزيداً من الحقائق المتعلقة بالدين الإسلامي النقيّ من الشوائب ، والذي أراده الله تعالى ورسوله ليكون خاتم الرسالات الإلهيّة ، وخلاصة الشرائع الربانيّة ، وفاعلاً ومؤثّراً وقائماً في الأمّة ، ظاهراً بثمرته في العالم ، بواسطة الأئمة الاثني عشر من أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، أمثلة الحقّ وبواعث الصدق ، نأياً بالناس عن المزالق ، وحفظاً لهم من الوقوع في المهالك. فلبّى الطلب وحضر مع من حضر ، ولمّا جاء دوره في الكلام قال :
في ماضي الأيام لم أكن أعرف عن حادثة الغدير شيئاً يُذكر ، على الرغم من إقرار حفّاظ الخطّ الذي كنت متّبعاً له ، قبل تحولي إلى خطّ أهل البيت عليهمالسلام ، وتشيّعي للصفوة الطاهرة من أئمة الهدى ، فكلّ ما كان يتردّد عند أهل الاختصاص جزء صغير من حديث الغدير مقتصراً على جملة واحدة للنبيّ صلىاللهعليهوآله يقول فيها : « من كنت مولاه فعلي مولاه » (١). وقد ضُرِبَ الصفحُ عن كامل تفاصيل
_________________
(١) قال بتواتر هذا المتن من حديث الغدير الذهبي في سيّر أعلام النبلاء ٨ : ٣٣٥ والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ٤ : ٣٤٣ ، وغيرهم.
اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة ، سنة عشر من الهجرة النبوية المباركة ، الذي وقعت فيه الحادثة.
بدا اهتمامي بحادثة الغدير المباركة ، عندما عثرت على سبيل الصدفة ، وأنا أتصفح تاريخ ابن كثير المعروف بـ « البداية والنهاية » ، على رواية نقلها بإسناده عن أبي هريرة يقول فيها نقلا عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : « من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله له صيام ستين شهرا » (١).
رسمت في ذهني تعجبا بقيمة ذلك اليوم ، دفعني إلى مزيد من التعرّف على حقيقة ذلك اليوم ، وما يمثّله في الإسلام ، ثمّ اعترضني الحديث الذي نقله مسلم النيسابوري ـ وهو ثاني الحفّاظ المعتمدين عند أتباع المذهب الذي كنت أعتنقه ـ في باب فضائل أهل البيت عليهمالسلام ، والذي بتر منه ما شاء أن يبتر ، نقل فيه عن زيد بن أرقم قوله : قام رسول الله صلىاللهعليهوآله يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكّة والمدينة (٢) وبمزيد من البحث والتقصّي ، أمكنني الوقوف على حقيقة غدير خم ، وحادثة يوم الثامن عشر من ذي الحجّة.
لم يستطع الحفّاظ ولا المؤرّخون التنصّل من ذلك الحدث العظيم ، فنقل منهم من نقل الحادثة والخطبة كاملتين ، وأحجم منهم من أحجم بدافع هوى أو بمنع سياسة أو نتيجة اختلاف مذهبيّ ، تفنّنٌ منهم في تغطية الحقيقة الناتجة عن تلك الحادثة الكبرى وذلك اليوم العظيم. وملخّصُ ألفاظهم كالآتي : حجّ النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله حجّته المعروفة بحجّة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة المباركة ، فتبعته جموع غفيرة من المسلمين عُدّت أكثر من مائة ألف نفس ، وعند منصرفه من تلك الحجّة تبعته نفس تلك الجموع إن لم يكن أكثر منها ، وفي مكان يدعى
_________________
(١) البداية والنهاية ٧ : ٣٨٦.
(٢) صحيح مسلم ٧ : ١٢٢ ـ ١٢٣.
غدير خم بين مكّة والمدينة بالجحفة ، وهي ميقات أهل مصر والشام ، وكان يوماً صائفاً حتّى أنّ الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدّة الحر ، نزل عليه جبريل عليهالسلام قائلا : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١) وأمره بأنْ يُنصّب علياً إماماً وعلماً وهادياً وحاكماً في المسلمين بعده ، فدعى بدوحات فقممن ، ووضع له من الرحال ما صعد عليه ، وخطب في الناس خطبة ، قال في آخرها : معاشر المسلمين ، ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : اللهم بلى. فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار.
ثمّ أمر صلىاللهعليهوآله الناس بمبايعة أمير المؤمنين عليهالسلام ، فبويع في ذلك اليوم من طرف تلك الجموع ، وكان الخليفة الثاني من ضمن مَن بايعوا عليّاً عليهالسلام ، وقد نقلوا عنه قوله : بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، ولم ينصرف الناس من ذلك الموقف حتّى نزل قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (٢) فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ بولاية علي بن أبي طالب من بعدي (٣).
وخطبة النبي صلىاللهعليهوآله يوم الغدير هامة وكبيرة تناول فيها تسلسل مراتب الولاية بقوله : إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم.. مبيّناً أنّ
_________________
(١) المائدة : ٦٧.
(٢) المائدة : ٣.
(٣) للإطلاع على تفاصيل حادثة الغدير يراجع : مسند أحمد ١ : ١١٨ ، ١١٩ ، و ٤ : ٢٨١ ، ٣٧٠ ، المستدرك ٣ : ١٠٩ ، ١١٠ ، ١١٦ ، سنن النسائي ٥ : ١٣٤ ، ١٣٦ ، شواهد التنزيل ١ : ٢٠٠ ، ٢٠١ ، ٢٠٢ ، ٢٠٨ ، تفسير الثعلبي ٤ : ٩٢ ، تاريخ بغداد ٨ : ٢٨٤ ، ينابيع المودّة ٢ : ٢٤٩ ، ٢٨٥ ، وغيرها الكثير الكثير من المصادر.
ولايته على الناس هي من ولاية الله تعالى وبأمره ، وكذلك ولاية علي عليهالسلام.
هذا الفهم لم يستطع أن يصل إليه كل المسلمين ، فالغالبية العظمى منهم اليوم لا تعترف لعليّ بالولاية العامّة عليهم ، وذلك بسبب التأويل الخاطىء لمصطلح مولى ، والادّعاء بأنّها لا تفيد ولاية الأمر في معناها ، والذي أوصل المتنطعون على الحقيقة مرادفاته إلى نيّف وعشرين معنى هي :
الربّ ـ العمّ ـ ابن العمّ ـ الابن ـ ابن الأخت ـ المعتِق ـ المعتَق ـ العبد ـ المالك ـ التابع ـ المنعم عليه ـ الشريك ـ الحليف ـ الصاحب ـ الجار ـ النزيل ـ الصهر ـ القريب ـ المنعم ـ العقيد ـ الولي ـ الأولى بالشي ـ السيد غير المالك والمعتق ـ المحبّ ـ الناصر ـ المتصرّف في الأمر ـ المتولي في الأمر ، وذكروا من معاني الولي أيضا : الأمير والسلطان.
وأجمع علماء اللغة على مجي مولى بمعنى ولي.
وقد استند من استند على تعدّد معاني الوليّ والمولى ، وتعذر من تعذر بها في عدم مجيئها بمعنى ولاية الأمر ، مستدلين بعدم فهم الصحابة الأخيار رضوان الله تعالى عليهم ، لذلك المعنى من قول النبي صلىاللهعليهوآله. ورأوه تبعاً لهم لا يفيد ما ذهب إليه أئمة أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم من أنّ النبي صلىاللهعليهوآله قد كلّفه الباري سبحانه وتعالى بنصب عليّ عليهالسلام وليّاً لأمر الأمّة من بعده.
غير أنّ البصير يمكنه أنْ يستجلي الحقيقة من خلال النظر في المعاني المدرجة للمولى ، فيتبين له من جهة ، مدى تطابق إحداها بمقصد النبي صلىاللهعليهوآله ، ثمّ وبمراجعة تفاصيل تلك الحادثة يتسنى تثبيت المراد الذي رغب الوحي في إبلاغه للمسلمين.
وبتتبع المفردات التي تؤدي معنى مولى
وولي ، وجدت أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
لم يكن يقصد بها كلّ هذه المعاني ، أو بعضها ، ولا كان غافلاً عن تعدّد معاني مولى في
اللغة ، فالإطار الذي أطلق فيه المصطلح لم يترك لبقيّة الإفادات مجالاً لاحتمال القصد من الإطلاق.
والنبيّ صلىاللهعليهوآله لم يكن قاصداً من ولايته التي فوّضها وأحالها إلى عليّ عليهالسلام من بعده ، أن يكون عليّ ربّاً ، ولا فهم المسلمون منه ذلك ، المعنى لأنّه يستلزم الكفر ، ولا كان قاصداً معنى العمّ ، ولا ابن العمّ ، ولا الابن ، ولا ابن الأخت ، ولا المعتِق ، ولا المعتَق ، ولا المالك ، ولا العبد ، ولا التابع ، ولا الشريك ، ولا الحليف ، ولا الصاحب ، ولا الجار ، ولا النزيل ، ولا الصهر ، ولا القريب ، ولا المنعم ، ولا المنعم عليه ، ولا العقيد ، ولا المحب ، ولا الناصر ; لأنّها كلّها لا تنسجم مع مقصد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وهي عندما نستبدلها بالمفردة المذكورة نجدها بعيدة أو مستحيلة الاحتمال ، ولا تستقيم لغويّاً ولا بلاغيّاً ، كأنْ يقال مثلاً من كنت عمّه ، أو ابنه ، أو ابن أخته ، أو قريبه ، أو جاره ، أو ناصره أو ... فهذا علي ... ».
بينما يتّفق مفاد مولى مع مفردة الوليّ والأولى بالشيء والسيّد غير المالك والمعتق ; لكونها تفيد مقصد النبيّ صلىاللهعليهوآله من قوله : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه ». خاصّة إذا أضفنا لها قرائن أخرى من نفس إطار الحادثة ، وقرائن أخرى داعمة لها ومؤيدة من خارج ذلك الإطار.
أمّا ما جاء مؤيّداً لمعنى الرياسة والحكم من نفس إطار الحادثة ، فإفادة مولى لمعنى الأولى بالشي من خلال السؤال الذي طرحه النبيّ صلىاللهعليهوآله على جموع المسلمين ، والذي قال فيه : « ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ » وعندما ردّوا عليه بالإيجاب ، قال : « فمن كنت مولاه ، فهذا عليّ مولاه » ، كما وردت روايات بلفظ آخر توضّح مراتب الولاية جاء فيها قوله : « إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ... » (١) موضحاً بشكل
_________________
(١) المعجم الكبير للطبراني ٣ : ١٨٠.
جليّ وكامل مراتب ولاية الأمر المقصودة ، وهي الله باعتباره الخالق والمشرّع والحاكم والمتصرف المطلق ، والنبيّ باعتباره الواسطة والسبب بينه وبين خلقه ، والنائب عنه في أداء حقّه ، والحاكم بمقتضى حكمه ، ثمّ الإمام باعتباره خليفة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، والمستحفظ على شريعته ، والقائم مقامه في أمّته من بعده.
كما أنّ في دعاء النبيّ صلىاللهعليهوآله : « اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله » إفادة أخرى أثبتت أنّ مقصده صلىاللهعليهوآله لم يكن منصرفا إلا إلى منصب الحكم.
أمّا بقية المؤيدات من نفس إطار الحادثة ، فزمنيّاً يمكن القول : بأنّ قرب رحيل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، دعا الوحي إلى إبرام أمر الحكومة بعده ، ولم يبق عن ذلك الموعد ستون يوما ، وفرصة تجمّع جماهير الأمّة لن تتكرر.
وأمّا مكاناً فهو صحراء الحجاز الوعرة والشديدة الحر ، وفي هاجرة من النهار لا تحتمل الوقوف والبقاء إلّا لسبب هام ، وخطب جديد لم ينزل من قبل فيه إثبات علميّ ، والذين ذهبوا إلى تأويل أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يقصد من خلال خطبته وحديثه في يوم الغدير الحثّ على حبّ عليّ عليهالسلام ، لم يصيبوا إلّا بهتاناً ، وحادوا عن الحقيقة بكلّ أركانها ، لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله ، قد حثّ على حبّ عليّ وأهل بيته عليهمالسلام ، امتثالا لأمر الله تعالى فيهم ، في قوله : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١). وقال في عليّ عليهالسلام : « لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق » (٢). وقال صلىاللهعليهوآله : « عنوان صحيفة المؤمن حب علي » (٣). وقال صلىاللهعليهوآله غير ذلك من الأحاديث التي تحثّ على تلك المحبّة وتفرضها على الأمّة فرضاً لا يحتمل تبريراً.
_________________
(١) الشورى : ٢٣.
(٢) صحيح مسلم ١ : ٦١ : مسند أحمد ١ : ٩٥ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٦.
(٣) مناقب الإمام علي بن أبي طالب لابن المغازلي : ٢١٩ ـ ٢٢٠.
أمّا ما يؤيّد المقصد من ولاية الأمر لعليّ عليهالسلام من خارج إطار الحادثة ، فحديث المنزلة الذي قال فيه النبيّ صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي » (١).
ولا شكّ أنّ المتتبع البسيط لآي القرآن الكريم ، يستطيع أنْ يستخرج منازل هارون من موسى ، والتي تتطابق حسب مفاد الحديث ، مع منزلة عليّ عليهالسلام من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، والتي منها الخلافة من بعده ، في قوله تعالى : ( وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (٢) ، كما أنّ المعاند أيضاً سوف لا يتقيّد بهذا الدليل ، ولسوف ينساق وراء انحراف من انحرف ، بالادّعاء زوراً وبهتاناً بأنّ خلافة عليّ عليهالسلام هي في الأهل فقط دون الأمّة ، ولست أدري من اين جاؤوا بفريتهم تلك حتّى يجزموا بها ، ويعكفوا عليها ، ويؤسسوا بها مذهباً لم يأت بخير أبداً منذ تأسس ، وهل كانت خلافة علي عليهالسلام في أهله تحتاج إلى دلالة أو إشارة أو توضيح ، حتّى نحتمل أنْ يدّعيها غير عليّ عليهالسلام ؟ لذلك فإنّ مقصد النبيّ صلىاللهعليهوآله لم يكن كذلك ; لأنّه قد استفاض فيه من قبل ، وحثّ على الالتزام به ، ورغّب فيه ، وحذّر من تركه ، ولا يحتاج إلى إيقاف الناس في ذلك المكان الوعر ، وفي ذلك الوقت القائظ ، ومن أجل ذلك المطلب الذي تكرّر حديثه فيه ، ويحتمل التأجيل إلى حين رجوعه إلى المدينة.
وفهمت أنّ الحكمة كانت تقتضي أنْ يعين الوحي من يقوم مقام النبيّ صلىاللهعليهوآله ، صوناً للدين وحفظاً لمكونات النظام الإسلامي الجديد ، في وسط ما تزال الأحكام الجاهليّة ، والنعرات القبليّة تلقي بظلالها على أغلب الوافدين على الدين الجديد.
_________________
(١) انظر صحيح البخاري ٤ : ٢٠٨ ، صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ ، ١٢١ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٢ وغيرها.
(٢) الأعراف : ١٤٢.
وكل من لم يفهم الأحداث التي سبقت وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقد قرأها بعين التبعيّة العمياء ، وجحد حقّ الله تعالى ، ورسوله صلىاللهعليهوآله ، وأوليائه الكرام ، الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، ليكونوا خلفاءه في أرضه ، وأمناءه على عباده ، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجدَ لسنّة الله تبديلا.
ومن لم يستطع أنْ يستوعب حقيقة ومقام أهل البيت عليهمالسلام ، بكونهم غير الصحابة ، ولا يقاس بهم أحد ، لا يمكنه أنْ يمضي طويلاً في هذا الإطار ، لأنّه سيصطدم بعقبة التمييز الخاطىء التي بنى عليها عقيدته ، وأنصحه بأنْ يترك موروثاته جانباً ، ليُحكّم النصوص الصحيحة ، ويميّز بعقله الحقيقة من الوهم.
وأخيراً فإنّني أحمد الله تعالى حمداً كثيراً ، وأشكره شكراً متواصلاً ، على نعمة ولاية أوليائه ، التي هي مفتاح السعادة في الدارين ، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.
الحلقة السادسة عشر
النظر في المذاهب الإسلاميّة هو الذي شيّعني
إبراهيم ، شابّ أسمر اللون كسمرة أسامة بن زيد ، أوصله بحثه ، ووقف به تحقيقه عند قناعة لا تثنيها رياح الشكّ ، ولا يغيّر من انطباعها في قرارة نفسه عامل من عوامل الريبة ، جاء دوره في الكلام فقال :
كنت في ما مضى معتنقاً المذهب المالكي على أساس التبعيّة الوراثيّة ، دون نظر ولا تحقيق ، وكان اعتقادي واعتقاد أهلي آنذاك بأنّ الذي نتقرب به إلى الله من أحكام وشعائر هي الإسلام ، ولم نكن نرَ إسلاماً غير الذي وجدنا أنفسنا عليه ، فلم نتساءل أو نشكّ في أمر من أموره على الإطلاق ، لأنّنا في العموم نفتقد إرادة البحث التي عادة ما تطرأ على الباحث من شكّ وريبة ، لتناقض الأدلّة ، أو لتعارض الأفكار بحيث تدفع صاحبها إلى ذلك السبيل من البحث ، وتجرّه إلى ميدان مقارعة الحجّة بأختها ، عندها فقط يتميّز الخبيث من الطيب ، ويعلو منبر الحقّ ويردّد الفضاء صدى براهينه ، وتداعب نسمات خيره آذان الواعين ، فتنير به قلوبهم وتتفتح عليه عقولهم ، فلا يأنسون إلّا به ، ولا يسكنون إلّا إليه ..
لمّا نظرت في المذاهب والفرق الإسلاميّة ، لم أجد فريقاً ولا مذهباً متصلاً بالنبيّ صلىاللهعليهوآله وبعهده ، اتّصالاً وثيقاً لا فاصلة بينه ، غير مذهب أهل البيت عليهمالسلام ، بينما انقطعت بقيّة المذاهب عن عصر النبوّة انقطاعاً مفرطاً ، لا يدعو العاقل إلى الإطمئنان إليها ، وقد وصلتُ إلى هذه القناعة على الرغم من أنّ الذين كتبوا في تاريخ الفرق ، لم يكونوا أمناء في نقلهم ، وكانوا في معظمهم متحاملين على غير خطوطهم ، وتجنّد معظمهم لنقل كلّ ترّهة ودعاية تمسُّ من صحّة وصدق خصومهم.
كان أوّل المذاهب التي يصطلح عليها بالمذاهب السنيّة ، والتي تدّعي أنّها على سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآله هو المذهب الحنفي ، نسبة إلى أبي حنيفة النعمان ، الذي ولد سنة ٨٠ هجرية ، وتوفّي سنة ١٥٠ هجرية وعاش معظم أيّامه في الكوفة ، انتقل في طلب العلم إلى المدينة ، فتتلمذ على أيد عدد من أكابر العلماء ، منهم الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام ، الذي كانت له معه حوارات ومناظرات.
لقّب أبو حنيفة بالإمام الأعظم من طرف زمرة من المتعصبين من أتباعه ، وهو لقب لا يستحق تقلده ، لأنّه اعتمد على رأيه في استنباط أحكام ، مستدّلاً عليه في أغلب حالات استنباطه بروايات ضعيفة ، تاركاً وراء ظهره أغلب الصحيح.
ثاني تلك المذاهب ، هو المذهب المالكيّ نسبة إلى مالك بن أنس ، الذي ولد سنة ٩٢ هجرية ، وتوفّي سنة ١٧٩ هجرية بالمدينة ودفن بها ، وعاش معظم أيّامه في المدينة المنورة ، وقد تتلمذ مالك أيضاً على يد الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام ، لكن لم نجد له بعد ذلك علاقة بالإمام ; نظراً للعوامل السياسيّة التي أحاطت بمالك ، من بينها أنّه كان مقرّباً من أبي جعفر المنصور العباسيّ ، وهو الذي أشار عليه بكتابة الموطّأ ، وشدّد العباسيّون على جعله الفقيه الأوحد المقرّب من السلطة آنذاك ، إلى درجة أنّهم أطلقوا في المدينة من ينادي : ( لا يُفتى ومالك بالمدينة ). إمعاناً منهم في إقصاء أئمّة أهل البيت عليهمالسلام عن دورهم ، والحيلولة بينهم وبين عامّة المسلمين ، بالأمر تارة وبالإكراه تارة أخرى.
ثالث تلك المذاهب هو المذهب الشافعيّ نسبة إلى محمد بن إدريس الشافعي ، الذي ولد سنة ١٥٠ هجرية في السنة التي توفي فيها أبو حنيفة ، وتوفي سنة ٢٠٤ هجريّة في مصر ، ودفن بالقرّافة الصغرى ، تنقل الشافعي بين العراق والحجاز فلقي مالكاً ، لكنّه لم يأخذ عنه ; لما وجد عليه من مظاهر الأبّهة والسلطة.