محمّد الرصافي المقداد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
الحلقة الثالثة والعشرون
مناهضة الشيعة للظالمين على مرّ التاريخ هو الذي شيّعني
استهواه الأدب بشتّى أصنافه ، وعلى وجه الخصوص الآداب العربيّة ، والتاريخ الإسلامي ، ودفعه شغفه بالشعر إلى توق التخصّص في الآداب العربيّة ، فكان اختياره على كليّة الآداب والعلوم الإنسانية ، ليواصل فيها دراسته العليا ، إنّه نور الدين ، الشابّ الذي عُرف بدماثة أخلاقه ، ورفعة شخصيّته ، منذ أنْ كان صبيّاً يافعاً ، وتطلّع روحه إلى الخير شيمة درج عليها ، حتّى استوى عوده ، لم أجد فيه مذ عرفته سوء يعرفه به الناس ، ولا وقفت له على غميزة يستحقّ بها التجنّب والمباعدة ، فقلت في نفسي كما قالت ابنة شعيب لوالدها : ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) (١). هذا خير عنصر استأمنه على ما يختلج في صدري ، فيكون لما أبثّه له محلّ جدارة واستحقاق ; لطيب عنصره ; ولصفاء روحه ; فلم أجد لديه ما يعكر حديثي ; ولا ظهر لي من تقاسيم وجهه ما ينبىء بعدم تقبّل مقالتي ، وأنا أدعوه إليها ، وكان تجاوبه مع حديثي ، وانسجامه مع كلامي ، يدلّان على أنّ عامل الوراثة الذي اتّبعه أغلب المسلمين ليس له تأثير على ذوي الأنفس المطمئنة ، ولا على ذوي العقول المنفتحة على هذا العالم الرحب بعلومه المتنوّعة ، ممّا سيعطي للحقّ صولة تنكشف فيها أساسات الباطل فيُنسف نسفاً ، ويعود دين خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله محمدي المولد ، علوّي البناء ، ومهدويّ الدولة والنظام الإسلاميّ المنشود.
دعوته إلى جلستنا ليقول كلمة حول الظروف التي أحاطت بانتقاله من
_________________
(١) القصص : ٢٦.
المذهب الذي كان عليه ، وهو المذهب السنّي المالكي ، إلى إسلام أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله ، فقال :
قبل أنْ ألتزم بالدين الإسلاميّ الحنيف ، كنت متحمّساً للثورة على الظلم والظالمين ، كارهاً لكلّ عناوين الاستعلاء التي تعتري الحكّام ، فتنحرف بهم عن الجادّة ، ويكونون عناصر ضيق وكبت واستنزاف باطل لقدرات شعوبهم ، وقد ساعدني في ذلك نشوئي في وسط عائلي مستقيم ، يعتمد على مبادىء رافضة لكافّة أشكال الظلم ، ومعاصرتي لجيل كان يلتمس روح مناهضة الظالمين من مبادىء غريبة عنه ، نظراً لحالة الغربة عن دينه الإسلاميّ التي كان يعيشها ، والتي فرضت عليه اتّباع المنهج الثوريّ خارج الإطار الإسلاميّ ، كأنما الإسلام لا يحتمل ذلك ، أو أنّه خال منه تماماً ، فكانت الماركسيّة هي الفكر الذي رأيت فيه الوسيلة الوحيدة التي تسمح بمناوءة الظلم ، والوقوف في وجه الظالمين ، أمام غياب البديل الإسلاميّ وخلوّ الساحة منه.
لم أكن أتصوّر في ذلك الوقت ، أنّ الإسلام يحتوي بدائل ونماذج ، يمكنها أنْ تكون خير مثال يؤخذ ، في إطار الصراع بين الحقّ والباطل ، وبين العدل والظلم ، وبين الفضيلة والرذيلة ، وبين الخير والشر ، وخطّ الرحمان وخطّ الشيطان.
بل لقد كنت معتقداً آنذاك من خلال ملاحظاتي الخاصّة ، أنّ الدين يمثّل الرجعيّة والتواطىء والتبعيّة للظلم ، بحسب ما هو واقع من تعاملات ، أولئك الذين تجلببوا برداء الدين ، وانخرطوا في مسار ولاء الطغاة ، تطبيقاً لسياسة صنعها فقهاء البلاط ، وأمرّوها إلى الأجيال الإسلاميّة ، فسارت على هديها ، وهي تعتقد أنّها أمر إلهي.
ولم يتغيّر موقفي من عمالة الدين وخدمته
للظالمين ، إلى محاربته لجميع أنواع الظلم ، إلّا بعد أنْ انتصرت الثورة الإسلاميّة في إيران ، والتقيت في تلك الفترة
بهذا
الأخ العزيز الذي دعاني إلى هذه الجلسة ، لأروي لكم كيفيّة انتمائي لخطّ أهل البيت عليهمالسلام.
كانت دار الاتّحاد العام التونسي للشغل قريبة جداً من بيت العائلة ، وكنت عند كلّ مناسبة أو تظاهرة أو اعتصام يقام هناك ، متواجداً للاطّلاع عن مجريات العمل النقابي ، والمستجدّات على الساحة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للبلاد ، فدار الاتّحاد كالمختبر الذي تكتشف فيه أعراض السقم ، وأعراض الصحّة في المجتمع والدولة والبلاد.
التقيت به في احتفال بعيد العمّال العالمي ، دأب على تنظيمه الاتّحاد العام التونسي للشغل ، شأنه في ذلك شأن كلّ اتّحادات العمّال في العالم ، وكنت أعرفه من قبل ، من خلال الجيرة الطويلة التي ربطت عائلتي بعائلته ، قبل أنْ تُفرّق الظروف بيننا ، سررت بلقائه من جديد بسبب موقفه منّي ، فهو لم يقطعني لصلتي الوثيقة بالماركسيين ، وتعاملي معهم على المستويين الفكري والتنظيمي ، كان يعتبر ذلك من حقّي كفرد في أنْ أمارس بحريّة ما يقرّره عقلي ، وتستخلصه قناعتي ، ويعتقده ضميري من فكر.
كان يعرف جيّداً مدى تديّن عائلتي ، وحرصها الشديد على تنشئة أبنائها وفق الدين الإسلامي اعتقاداً وسلوكاً ، ولم يكن شذوذي عن تلك التربية ، مروقا عن القيم والمقدّسات ، لأنّني بقيت محتفظاً بتلك الأسس في أعماق نفسي ، وإنّ الذي حاد بي عن طريق خالقي ليس إلّا اختلاقات البشر وتحريفاتهم ، حتّى انجازات الثورة الإسلاميّة في إيران ، لم تتمكن من الوصول إلى أدعياء الفكر التحديثي ( اليسار الماركسي والقومي ) إلّا مشوّشة ومشوّهة ، بما كانت تلفّقه عنها قوى الاستكبار العالمي ، ومثلّث الشرّ الحقيقي أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني.
رحبت برفيق صباي وشبابي ، وبعد تبادل
قبلات الودّ واستحضار بعض
الذكريات ، بادرني بالسؤال : أما زلت ماركسيّاً يا نور الدين ؟
فقلت له : نعم ، لا زلت كذلك ، إلّا أنّني بدأت أشكّ في مدى عمليّة هذا الفكر ، وفاعليته ، وجدواه ، خاصّة ونحن على أبواب تحوّلات عميقة ، بدأ فيها معتنقوه يسلكون طريق التخلّص منه ، فالاتّحاد السوفيتي حاله اليوم يُنبىء بذلك ، وغداً قد يأتي بما لم يكن في حسبان أحد.
فقال : إنّني لا ألومك على موقفك من الدين ، فقد وجدت أمامك من يحول دونك وبلوغ مصافّه ، لكنّني اليوم أعرض عليك هذا الإسلام الذي بقي غائبا علينا قرون عديدة ..
فقاطعته قائلا : أتقصدُ الإسلام الشيعيّ الذي يعتنقه الإيرانيون وحزب الله ؟
قال : نعم ، ذلك ما أقصده ، وأنت تعرف جيّداً أنّني كنت تابعاً لمدرسة الخلافة ، تلك المدرسة التي باعدت بينك وبين التديّن بفصل الدين عن السياسة والحياة ، حسب معتقدات المذاهب التي تتسمّى بالسنيّة ، وهي مذهب ابن حنبل والشافعي ومالك الذين اقرّوا جميعاً بوجوب الصبر عند جور الحاكم ، وقد نقل ذلك الشيخ أبو زهرة المصري في كتابه المذاهب الإسلاميّة ، استناداً إلى الأحاديث التي نسبت للنبيّ كذباً وافتراء عليه ، منها ما أخرجه مسلم في صحيحه : « من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعنّ يداً من طاعة » (١).
وقد مثّلت مواقف عبد الله بن عمر بن الخطاب ( رمز التسنّن وراويتهم العدل ) عندما انتفضت المدينة ، بعد أنْ تناهى إلى أهلها استشهاد الإمام الحسين وذريته وشيعته في كربلاء ، وسبي بنات رسول الله على أيدي الطلقاء عليهم لعنة الله والملائكة والمؤمنين ، قمّة الخضوع والخنوع ، فوقف في وجه مواليه مهدّداً
_________________
(١) صحيح مسلم ٦ : ٢٤.
ومتوعّداً كلّ من يخلع بيعته يزيد ، تقول الرواية التي أخرجها البخاري :
« لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ، جمع ابن عمر حشمه وولده فقال : إنّي سمعت النبيّ صلىاللهعليهوآله يقول : ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة ، وإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ، وإنّي لا أعلم غدراً أعظم من أنْ يبايع رجل على بيع الله ورسوله ، ثمّ ينصب له القتال ، وإنّي لا أعلم أحداً منكم خلعه ، ولا بايع في هذا الأمر ، إلّا كانت الفيصل بيني وبينه » (١).
وتحرّك مسرعاً في الموقف الثاني إلى والي المدينة ، ليعلن براءته من ثورة أهل المدينة ، وبقاءه على طاعة يزيد لعنه الله ، تقول الرواية التي أخرجها مسلم :
« جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع [ وكان والياً ليزيد على المدينة ] حين كان من أمر الحرّة ما كان زمن يزيد بن معاوية ، فقال : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة.
فقال : إنّي لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدّثك حديثاً سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقوله ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : من خلع يداً من طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » (٢).
أمّا الموقف الثالث فهو أفظع وأدهى ، فقد جاء إلى الحجّاج مهرولاً بعد أنْ رأى ما صنع بعبد الله بن الزبير ، وطلب تجديد البيعة فأراد الحجّاج الإمعان في إذلاله ، فمدّ إليه رجله وقال : « بايع هذه فإنّ يدي مشغولة » (٣) ، وبايع ابن عمر الحجاج من رجله.
وقد التصقت سمة الخنوع والخضوع والطاعة للظالمين ، بحيث لم تفارق ذلك
_________________
(١) صحيح البخاري ٨ : ٩٩.
(٢) صحيح مسلم ٦ : ٢٢.
(٣) انظر الكنى والألقاب ١ : ٣٦٣.
الخطّ أبداً إلّا في العصر الحديث ، بسبب المؤثّرات الخارجة عن ذلك الخطّ ، والتي منها انفتاح البعض على الآراء والأفكار الأخرى التي تنتمي أيضا للإسلام ، وملاحظة نجاح التجربة الإسلامية للنهضة الإسلامية في إيران ثورة ودولة.
ومقابل خطّ العمالة والخضوع للظلم ، بذل أهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم المزيد من الأرواح ، من أجل الإبقاء على الإسلام حيّاً ومعطاء وفاعلاً في الأمّة الإسلاميّة فقد سار أتباعهم على نهجهم البطولي وقدّموا الكثير من التضحيات ، من أمثال رشيد الهجريّ وميثم التمار وعمرو بن الحمق الخزاعيّ وجويرية بن مسهر العبديّ ، وسعيد ابن جبير ، وحجر بن عدي الكنديّ ، وغيرهم ممّا لا يسعني استحضارهم ، وذكر أسمائهم ، فهم يعدّون بالآلاف.
قلت له : وهل تشيّعت أنت ؟
قال : نعم ، لقد تشيّعت عن دراسة معمّقة ، خرجت على أثرها متيقناً أنّ الإسلام الأصيل هو الذي ذهب إليه المسلمون الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، نسبة إلى أئمتهم الاثني عشر.
قلت له : فما الفارق بين الإسلامين ؟
قال : الجانب الثوري الذي كنت تفتقده في خطّ الإسلام السنّي ، الذي والى أنظمة الظلم والجور ، التي حكمت الشعوب الإسلاميّة ، تطبيقاً لروايات موضوعة.
قلت : بيّن لي ذلك ؟
قال : منذ أنْ فارق النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله الدنيا ، وشيعة أهل
البيت عليهمالسلام
في صراع مرير ، من أجل غرس الفكر الذي ورثوه عن النبي صلىاللهعليهوآله
بخصوص الدين الإسلامي ، ذلك العمل العظيم كان له دور أساسيّ في بقاء جوهر الإسلام المحمّدي ، نقيّاً وصحيحاً بحيث لم يتطرّق إليه شي من اختلاقات البشر ، فلم
يفصلوا الدين عن السياسة ، كما فصلها الخطّ السنّي ، وهم يعتبرون استنادا إلى أقوال النبيّ صلىاللهعليهوآله الصحيحة : أنّ الدين جاء من أجل صلاح الدنيا والآخرة ، وقيادة البشرية جمعاء في مسيرتها إلى الله تعالى نحو نظام الحكم الإلهي والمجتمع المسلم المثالي ، والبديل عن كافّة النظم الوضعية التي تفتقد روح التواصل المتين مع الله ، والمصداقيّة بين البشر ، ولو نظر الباحث المنصف في مجموع أحكام الإسلام لرآها تناولت جميع متعلّقات ومتطلّبات البشر ، بدءاً من أبسط المسائل ، كآداب التخلّي إلى أعقدها فيما يتعلّق بالمواريث والعقود والمعاملات ، وهذه الأخيرة ، مثّلت في حجمها أكثر التشريع الإسلاميّ. وباعتبار أنّ الأحكام المشار إليها تحتاج إلى أداة تسهر عليها وتنشرها بين الناس بأمانة ، وتنفّذها تنفيذاً صحيحاً ، تظهر ثماره على المجتمع ليتحقق العدل الإلهي فيما بين البشر ويأمن الناس تحت ظلّ تلك الحكومة الإلهية ، جاء الأمر الإلهي للنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله بتعيين عليّ بن أبي طالب عليه السلام إماماً يهتدي المسلمون بتطبيقاته وعلومه ، وحاكماً مؤهّلاً ليشغل الفراغ الذي سيخلفه النبيّ صلىاللهعليهوآله.
لكنّ التحريفيين كانت أطماعهم في السلطة
غير خافية ، بحيث دخل منهم إلى الدين من دخل وهو يرجو نيل مكان في أعلى قمّة التسيير ، وتطاول منهم من تطاول على مقام النبيّ صلىاللهعليهوآله
، وحيكت المؤامرات ضدّ أهل البيت وتمّ أمر الحكم للانقلابيين ، وضيّق على عليّ عليهالسلام
وأهل بيته ، ومع مرور الزمن تحوّلت أحقيّة أهل البيت عليهمالسلام
وقدسيّتهم إلى نكارة وجهالة ، تعامل بها حيالهم أغلب الأمّة ، نتيجة سياسات التجهيل والقمع التي مارسها المتسلّطون على الحكم والأمّة ، وتحوّلت منزلة الطاهرين من ذلك المقام المرموق الذي كان على عهد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، إلى موضع التهمة ومبرّر التنكيل والقتل ، وتحوّل نظام الحكم الذي سلط على رقاب المسلمين من تلك الحالة الانقلابيّة الشاذّة إلى ملك غاشم ، لا يفرّق بين
حقّ وباطل ، وعوض
الحكومة الإلهيّة الراشدة ، مُني المسلمون بنظام حكم جاهلي ، لم يراع أبسط الحقوق لأفراد المجتمع ، فتحوّل أهل البيت عليهمالسلام عندما رأوا أنّ الدين وتشريعاته أصبحا في خطر ، إلى المعارضة الفاعلة في أوساط الأمّة ، فخرج الإمام أبو عبد الله الحسين عليهالسلام
في هجرته العظيمة من المدينة إلى مكّة ، ثمّ بعد ذلك إلى الكوفة ، ليعيد الحكومة الهادية بأمر ربّها إلى أصحابها الشرعيين ، وليضرب للمسلمين وللناس جميعاً مثلاً في الفداء والتضحية من أجل المبدأ ، وكانت مواجهته لقوى البغي والظلم من نتاج مؤامرة السقيفة ، درساً لن ينسَ لكلّ الأحرار في العالم ، في الثبات على الموقف والمبدأ ; لأنّ الحياة إذا لم
يكن فيها موقف ومبدأ ، فهي إلى الحيوانيّة أقرب منها للإنسانيّة ، وأسّس سيّد شباب أهل الجنّة عليهالسلام
مدرسة الشهادة ، وجامعة الثورة في يوم عاشوراء ، وكانت كربلاء موضع حجر الأساس لنهضات وثورات تتابعت تأسّياً بريحانة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وكان للائمّة من أولاده عليهمالسلام
الدور البارز في قيادة تلك الثورات ، فعلّموا أتباعهم وشيعتهم أحكام الإسلام وعلومه الصحيحة ، ونظّموا صفوف الطلائع المؤمنة ، ونشروا روح خدمة الإسلام ، وفداءه بكلّ غال ونفيس ، فاندلعت ثورات عديدة ، أسقطت طلقاء بني أميّة ، وفرّقت جمعهم إلى غير رجعة ، لكنّ الأمّة عادت فكرّرت نفس التقصير ، وأخلّت بواجبها في التقيّد بالإسلام وموالاة أئمّة أهل البيت عليهمالسلام
، فاستولى بنو العباس على الحكم ، ولم تمرّ فترة وجيزة حتّى أعادوا الظلم إلى موقعه على صدر الأمّة الإسلاميّة ، وبقي أهل البيت عليهمالسلام في نفس موقع المعارضة ، ونفس الدور في التعليم والإرشاد والدعم الروحي والمادّي وتنظيم كوادر العمل الإسلاميّ التي كانت تتخرج من مجالسهم ، فتوالت الثورات ضدّ الظلم والظالمين ، وكانت أحاديث أئمّة أهل البيت عليهمالسلام
في تحريم اتّباع الظالمين ، أو إعانتهم ، أدلّة مسجّلة في تراثهم الخالد ، من ذلك قول الإمام
عليّ عليهالسلام : « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » (١). وقول الإمام الصادق عليهالسلام : « من أرضى سلطاناً جائراً بسخط الله خرج من دين الله » (٢). وغير ذلك من الروايات التي تحرّم طاعة الظالمين ، وبناء على ذلك ، أفتى علماء الشيعة بأنّ أيّ عمل يقوم به المكلّف وفيه شكل من أشكال المعونة للظالم فهو حرام ، ويُعدّ كبيرة من الكبائر. وقصّة صفوان الجمال شاهد على ذلك ، تقول الرواية إنّه كان في عهد الرشيد رجل من الشيعة يدعى صفوان ، وكانت له جمال يكريها لهارون الرشيد حين يذهب إلى مكّة للحجّ ، فدخل يوماً على الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام ، فقال له : يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً.
قال : جعلت فداك أيّ شي ؟
قال : اكراؤك جمالك من هذا الرجل ، يعني هارون.
قال : والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ، ولا للصيد ولا للهو ، ولكن أكريته لطريق مكّة ، ولا أتولّاه بنفسي ، ولكن أبعث غلماني.
فقال : يا صفوان أيقع كراؤك عليهم ؟
قال : نعم جعلت فداك.
قال : أتحبّ بقاؤهم حتّى يخرج كراؤك ؟.
قال : نعم.
قال : فمن أحبّ بقاؤهم فهو منهم ، ومن كان منهم فهو كان ورد النار. فذهب صفوان وباع جماله عن آخرها ; فبلغ ذلك الرشيد ، فدعاه وقال له : يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك.
قال : نعم.
_________________
(١) نهج البلاغة ٤ : ٤١ ، الخصال : ١٣٩.
(٢) الفصول المهمّة في أصول الأئمة : ٢٢٨.
قال : ولم ؟.
قال : أنا شيخ كبير والغلمان لا يفون بالأعمال.
قال : هيهات هيهات ، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا ، موسى بن جعفر.
قال : مالي ولموسى بن جعفر ؟.
قال : دع هذا عنك فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك (١).
ومن أجل إضفاء الشرعيّة على أنظمتهم ، سعى ملوك بني العباس إلى استمالة أئمّة أهل البيت ، بعد أنْ استطاعوا استمالة أغلب الفقهاء والرواة والحفّاظ ، وكانت للمنصور الدوانيقي محاولة فاشلة مع الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام ، فقد وجّه إليه رسولاً ومعه رقعة كتب فيها : لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟ فردّ عليه أبو عبد الله الصادق عليهالسلام : « ليس لنا ما نخافك من أجله ولا عندك من امر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنيك ، ولا تراها نقمة فنعزيك بها فما نصنع عندك » فردّ عليه الدوانيقي : تصحبنا لتنصحنا. فردّ الإمام الصادق عليهالسلام : « من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك » (٢).
وكلّفت كلّ تلك المواقف أئمّة أهل البيت عليهمالسلام مزيداً من التضييق والسجن والقتل ودسّ السمّ لهم ، من طرف المتسلطين على الأمّة ، فلم يمنعهم ذلك من المضيّ قدماً في مواقفهم ، التي كانت تمثّل التطبيق الصحيح للدين ، الذي جاء به جدّهم رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وسمة الثورة والاستماتة على الحقّ ، التي ميّزت هذا الخطّ ، جعلت أعناق الأحرار والتوّاقين إلى العزّة تلتفت إليه وتتّجه نحوه.
وأنت ترى اليوم أنّ الفكر الماركسي ، والثورة البلشفيّة التي تمخّضت عنه ، لم
_________________
(١) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٧٤٠.
(٢) كشف الغمّة ٢ : ٤٢٧.
تستطع أنْ تقدّم شيئاً يذكر من مساواة وعدل وأمن ، لمعتنقي ذلك الفكر ، فضلاً عن البشريّة جمعاء ، إضافة إلى تعلّقها بكلّ ما هو مادّي ومحسوس ، وإنكارها ما وراء ذلك ، فهم لا يعترفون بوجود خالق هذا الكون ، ولا بحياة ما بعد الموت ، وهو في نظري فكر سطحيّ يائس ، لا يستند على مقالة صحيحة في هذا الخصوص ، وأنت تدرك أكثر منّي بأنّ المعلول لا بدّ له من علّة ، والسبب من مسبّب ... فقاطعته قائلا : أنا مؤمن بوجود خالق لهذا الكون ، لقد دخلت مع الماركسيين لسبب واحد ، وهو ثوريّة فكرهم ، ووجاهة برنامجهم الاقتصادي في إرساء نظام عادل في توزيع للثروات ، أنا لم ولن أتبنّى نظرياتهم الاجتماعيّة ولا رأيهم في الوجود ككل.
قال : إذاً ، عليك أنْ تراجع حساباتك بخصوص الإسلام والتاريخ الإسلامي ، لتتعرف على نقاط الخلل التي باعدت بينك وبين هذا الفكر العظيم ، الذي طرحه أئمّة أهل البيت عليهمالسلام.
قلت له : فهل عندك ما يمكنني من ذلك ؟
قال : نعم ، وسترافقني بعد مغادرتنا دار الاتّحاد إلى البيت ، لتسلّم على العائلة ، وأقدّم لك ما يمكن أنْ يفيدك فيما ذكرت لك.
بعد انتهاء الاحتفال ، توجّهنا جميعا
إلى بيت هذا الأخ الكريم ، ورحّب بي أفراد عائلته ، وسألوني عن عائلتي كيف حالهم والى أين صاروا ، وبعد أداء واجب السلام ، أخذني إلى مكتبته ، واختار لي بعض الكتب التاريخيّة التي تناولت الحركات الثوريّة في العصرين الأمويّ والعباسيّ ، مع كتاب الشهيد مرتضى مطهري « المجتمع والتاريخ » ، و « دوافع نحو الماديّة » ، و « كتاب
الاستحمار » للشهيد علي شريعتي ، فأخذتها منه ، والتزمت بقراءتها سريعاً ، وهو ما تمّ فعلاً ، وعلى أثر ذلك اقتنعت بأنّ الماركسيّة لا تمثّل المنهج الثوريّ الصحيح ، وهي في
أبعادها لا تتجاوز حركة عمر الإنسان ومسيرته في الحياة الدنيا ، بينما يمثّل الإسلام الذي يرفض الظلم ، ويعتبره خروجاً عن جوهر الدين ، وإنّ مقارعة الظالمين عبادة كبرى كما هو عند أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، المنهج الثوري الصحيح الذي يساير حركة الإنسان في الدنيا والآخرة وهو الإسلام الصحيح الذي تبنّاه أهل البيت عليهمالسلام وهو ما جاء به النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآله ، فغيّرت وجهتي إليه ، واقتنعت به ، وسلكت طريقه ، وأعلنت ذلك لصديقي ، فحمد الله على نعمة هدايتي ، واستحثّني على مزيد البحث والمطالعة ، حتّى تترسّخ الفكرة في عقلي ، وتستوثق في وجداني ، وبقي يُتابعني في تلك المرحلة ، ولم يتركني إلّا بعد أنْ استوفيت حلّ كلّ الشبهات ، التي ألقاها الظلمة على دوحة أهل البيت عليهمالسلام ، ليشوّهوا مظهرها البديع.
الحلقة الرابعة والعشرون
شيّعني الحسين عليهالسلام
جاء مرافقاً لاحد الإخوة المستبصرين ، لم أكن أعرفه من قبل ، قال عنه مرافقه : إنّه قد استبصر حديثاً ، وعرف حقيقة الإسلام المحمّدي الذي لم تخالطه شائبة من شوائب المستكبرين والمشركين ، وكان ذلك من طريقه ، ثمّ قدّمه : الأخ عماد ، شاب من شباب الإسلام العظيم ، تربّى في أسرة ملتزمة بدينها ، في عصر قلّت فيه الأُسر الملتزمة ، أخذ أبجديات العبادة عن والده ووالدته ، قبل أنْ يبلغ سن التكليف ، فزاده ذلك دفعاً نحو الالتزام الكامل ، تعرف على إسلام أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وبحث في خصوصيّاته وتفاصيله ، فرآه أقرب إلى الوحي والنبيّ صلىاللهعليهوآله من غيره من المذاهب التي تسمّت بأسماء أصحابها ، فالتزم به وباشر تطبيق شعائره وأحكامه ، وأحلّها محلّ الشعائر والأحكام التي كان يطبّقها بطريق التقليد الوراثي ، حدّثته عن فكرة الإدلاء بإفادات المستبصرين ، فرغب في أن يكون ضمن مَنْ سيُدلي بدافع تشيّعه لأئمة أهل البيت عليهمالسلام.
فما كان منّي إلّا أنْ رحبّت بقدومه ، وشكرت له سعيه من أجل إظهار الحقّ ، ثمّ طلبت منه أنْ يدلي بإفادته فقال :
كم يشعر المرء بالغباء والغبن عندما يستفيق من غفوته ، ويخرج من غفلته ، وكم تكون ردّة الفعل سريعة ، لطرد كلّ تلك الآثار التي علقت بنفسه ، وأعاقتها ردحاً من الزمن.
فيما مضى من عمري ، كنت من بين ملايين
المسلمين الذين دخلوا الدين من بوّابة التقليد المجرّد من العلم والمعرفة ، ومع أنّني انتهجت بعد نضجي وإدراكي
لبعض التكاليف الواجبة عليّ ، منهج الإسلام الشمولي الذي لا يفصل الدين عن الحياة ، والذي يعتبر أنّ السياسة جزء أساسيّ لا يتجزّأ من الدين الحنيف ، فقد بقيت سالكاً نفس النهج التقليدي للعبادة والفهم ، ومتّبعاً أثر التديّن الذي اكتشفت فيما بعد أنّه من املاءات الأنظمة التي خضعت لها رقاب المسلمين بالجبر والإكراه قرون عديدة ، دون أنْ ألتفت إلى مصدر هذا الفقه ، ولا العصر الذي جاء منه ، وطبيعيّ أن يكون نتاج الظلم تحريفاً لحقيقة الدين وسموّ معانيه ، ووضوح أحكامه ; لأنّ طبيعة الانحراف لا تولّد إلّا انحرافا مثله.
لم أسمع أو أقرأ عن المسلمين الشيعة إلّا كلّ منكر وسوء ، فقد كان منطق التكفير هو السائد حيال تلك الفرقة ، من جانب الخطّ الذي كنت منتسباً إليه ، والمعروف بالخطّ السنّي ، استناداً إلى جملة من التهم التي ألصقت بواجهة تلك الطائفة ; لذلك لم أكلّف نفسي عناء البحث عنهم ، ولا تبادر إلى ذهني ، ولا خالطني شعور أو إحساس بالسؤال عنهم والاهتمام بهم ، حتّى الثورة الإسلاميّة في إيران ، لم تكن عندي بالمقدار والأهميّة التي كان يجب أن تكون عليه ، وقد استغلّ الاستكبار العالمي هذه الفجوة ليعمّق الشرخ ، ويباعد بين عموم المسلمين وبين تلك النهضة المباركة ; تأصيلاً منه لروح العداء والضغينة التي أسّسها المتسلطون الأوائل على رقاب المسلمين ، فالشيعة في محصّلة الفكر السنّى ، كفار مارقون ، وروافض حلّت دماؤهم وأموالهم وأعراضهم ، واستمرّ اعتقادي في الشيعة بتلك القناعة ، إلى أنْ جاء يوم شاهدت فيه بالصدفة مراسم عاشوراء التي دأبوا على إحيائها ، من خلال قناة تلفزيونية فرنسيّة ، فشكّلت مشاهدتي لتلك المظاهر صدمة نفسية ، كان لها الأثر الكبير في تحوّلي من الخطّ الوراثي الذي كنت أسلكه ، إلى الخط المعرفي الذي استبدلته به.
فنهضة الإمام الحسين عليهالسلام ، وثورته المباركة ،
وشهادته العظيمة ، وتضحيته من
أجل الإسلام ، لم تكن تعني شيئاً عند أتباع خطّ الإسلام السنّي الأشعري ، الذي اعتمده أغلب حكّام المسلمين ، الذين لا يحبّذون الثورات والثوار بطبعهم ، ويرون فيها وسائل لهدم أنظمتهم ، وتقويض أسسها المبنيّة على الظلم والتعدّي والاستكبار. دفعتني صدمة تلك المشاهد إلى الاستغراب والسؤال : لقد تعوّد مجتمعنا على الاحتفال بيوم عاشوراء ، على أساس أنّه يوم مبارك يفرح فيه المسلمون ، ويطبخون فيه الحبوب ، ويظهرون فيه الزينة ، والتوسعة على العيال ، ويصومون ذلك اليوم قربة إلى الله ، فإنّهم قد بنوا صيامه على مقالة منسوبة لليهود تقول : إنّ عاشوراء يوم أنجى الله فيه موسى من فرعون ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله لأصحابه : « أنتم أحقّ بموسى منهم ، فصوموا » (١) ، ووجدت خبرين أخرين يقولان مع اختلاف في أسماء الأنبياء بينهما ، بأنّه اليوم الذي أنجى فيه الله سبحانه وتعالى عشرة أنبياء (٢) ، فلماذا يكون يوم العاشر من المحرّم عندنا يوم فرح وسرور ، ويكون عند الشيعة يوم حزن وبكاء وسواد ؟ أين تكمن الحقيقة يا ترى ؟
هالني وأنا أتابع باهتمام كبير مراسم الحزن والعزاء التي يقيمها المسلمون الشيعة على الإمام الحسين عليهالسلام يوم عاشوراء ، ووجدت نفسي أتساءل عن معنى تلك المراسم وحقيقتها.
ورغم حصول تلك الرجّة ، لم استطع أنْ أتبيّن حقيقة الإمام الحسين عليهالسلام ويومه العظيم ، إلّا بعد أنْ التقيت بأحد أفراد الشيعة في المدينة التي أعيش فيها ، رأيت أنْ أسأله عن تلك المظاهر التي تراءت لي غريبة في بعض تفاصيلها.
قلت له : لماذا يفرح المسلمون السنّة يوم عاشوراء ويفرح اليهود فيه أيضاً ، ومقابل ذلك نجد الشيعة يكثرون من مظاهر الحزن فيه ؟
_________________
(١) صحيح البخاري ٥ : ٢١٢.
(٢) انظر على سبيل المثال تاريخ دمشق ٦٢ : ٢٦٤ ، مواهب الجليل للحطّاب الرعيني ٣ : ٣١٤.
فقال : إنّنا أمام خبرين أحدهما رواية والآخر دراية ، فخبر أنّه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وأنّ اليهود يصومونه تبرّكاً به ، ليس له أصل في الواقع ; لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله ليس له مصدر لاستقاء معلوماته غير الوحي فلم يؤثر عنه أنّه اتّبع يهوديّاً أو نصرانيّاً في مسألة من المسائل ، ويكفي الرواية وهنا وبطلاناً أنّ اليهود لا يعتمدون التقويم القمري ، ولو قدّر للرواية صحّة ، ووافق ذلك اليوم يوم العاشر من المحرّم فانّه لا يتّفق قطعاً مع بقيّة الأعوام ; لنقص تعداد السنة القمريّة عن السنة الشمسيّة ، ومنه يتضح حال الخبر القائل بأنّه اليوم الذي أنجى الله فيه عشرة أنبياء منهم نوح وإبراهيم ، النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله وأهل بيته الطاهرين عليهمالسلام ، أولى باللطف الإلهي والعناية الربانيّة ، فإنّ خبر استشهاد الإمام الحسين عليهالسلام ، وخيرة أهل بيته عليهمالسلام وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، يوم عاشوراء خبر دراية ; لذلك اعتمد المسلمون الشيعة على الدراية ، ورأوا التعامل مع ما هو قطعيّ الدلالة على اتّباع الظنّ ، والتعبّد بالموضوعات التي اختلقها الطغاة ، من أجل التغطية على جرائمهم.
قلت له : فلماذا كلّ هذا الحزن على الحسين بن علي رضياللهعنه ؟ ألا يكفي ما أظهره عليه أهله وأتباعه عند موته ؟ ألا يعتبر ذلك من البدع المنسوبة للشيعة ؟
فقال لي : قد لا تختلف معي إذا قلت لك إن الإمام الحسين عليهالسلام هو ريحانة النبي صلىاللهعليهوآله (١) ، وقد لقبّه هو وأخوه الحسن بن علي عليهماالسلام بسيدي شباب أهل الجنة (٢) ، وهو خامس أصحاب الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير التي تقول : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٣) وقد نسبه النبيّ
_________________
(١) صحيح البخاري ٤ : ٢١٧.
(٢) سنن الترمذي ٥ : ٣٢١ ، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ٢ : ٤٢٣ ، ح ٧٩٦.
(٣) الاحزاب : ٣٣.
إلى نفسه نسباً باطناً فوق نسبه الظاهر فقال : « حسين منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسينا » (١).
قلت له : كلّ ذلك واضح وصحيح ونعترف به ، مع أنّنا لا نجد فيه مبرّراً لإقامة تلك المراسم.
فقال : ذلك ممّا لم تتبيّنه أنت ولا أتباع خطّك ، من خلال رؤيتكم للأشياء بعين العصبية المذهبيّة ، لذلك فإنّني أرجو أنْ لا تقاطعني حتّى أكمل كلامي في بيان حجّتي المتمثلة في الحزن على أبي عبد الله الحسين عليهالسلام ، في محنته ومصيبته يوم عاشوراء ..
سكت قليلاً ثمّ قال : هل تعلم أنّ من بين التكاليف التي ألقيت على جميع المسلمين ، مودّة قربى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (٢) وقد سئل رسول الله صلىاللهعليهوآله عن ماهيّة القربى الذين أشارت إليهم الآية ؟ فقال : « علي وفاطمة وأبناهما ». وقد أراد الله تعالى أنْ يكرم نبيه بأن ألزم المسلمين محبّة قرباه صلىاللهعليهوآله واحترامهم ، وتقديمهم ، وتبجيلهم ، وتوقيرهم ، وجعل ذلك أجراً لرسالة الإسلام التي جاء بها إلى الأمّة ، وذلك كلّه يندرج في معاني المودّة التي تضمنتها الآية الشريفة. ومودّة القربى تلك كماترى ، أصبحت تكليفاً واجباً على كلّ جيل من أجيال المسلمين ، ممّا يترتب عليه بالنسبة إلى تلك الأجيال أن تلتزم بإيفاء النبيّ صلىاللهعليهوآله حقّه في مودّة قرباه ، طاعة لله تعالى وامتثالا لأمره. ومحنة الإمام أبي عبد الله الحسين عليهالسلام يوم عاشوراء هي محنة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وخروجه طلباً للإصلاح ، هو طاعة لله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله ، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________________
(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٢٤ ، مسند أحمد ٤ : ١٧٢.
(٢) الشورى : ٢٣.
قلت له : لكنّنا نحن أهل السنة نحبّ أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ونحترمهم ، لكنّنا لا نغالي في ذلك كما تفعل الشيعة.
قال : بيّن لي كيف تحبّون أهل البيت ؟ وكيف يمكنكم تجسيد ذلك وإظهاره ؟ وماذا قدّمتم للأطهار عليهمالسلام حتّى توفون بواجبكم نحوهم ، ويعتبركم أهل البيت عليهمالسلام من محبيهم حقّا ؟ فللمودّة والحبّ تطبيقات ، كما تظهر لهما من خلال ذلك علامات ، لابدّ من تجليها على المحبّ ، وإلّا لم يكن الأمر كذلك.
ونظرت بيني وبين نفسي ، وغصت في أعماق مشاعري وأحاسيسي ، باحثاً عن مظهر أو علامة استدلّ بها على حبّي ، وحبّ أهل السنّة لأهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فلم أجد شيئا ألوذ به ، فلم أجد له تجسيداً ولا عثرت على دليل يكون إلى جانبي ..
خيّم عليّ صمت أشبه بالوجوم ، فقال : لماذا سكتّ ؟ ألأنّك لم تجد ما يصدق دعواك في محبّة أهل البيت عليهمالسلام ، وأضيف لك أنّ المحبّة اتّباع وتأس ، وهو الركن المهم والمطلوب في هذه المودّة ، قال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (١) فهل اتّبعتم أهل البيت عليهمالسلام في شيء من الأشياء ، وهي كلّها سنن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، تعلّموها وورثوها منه ؟ أنا لا أظنُّ ذلك ، بل أجزم أنّكم لم تتّبعوهم في شي مطلقاً ، ونفضتم أيديكم منهم ، ووقفتم في صفّ المحاربين لهم بدءاً من السقيفة وانتهاءً ببقائكم على ولاية من ظهر عداءه للدين ، من هؤلاء الفسقة والظالمين ، الذين يجثمون على صدوركم ، وتعتبرونهم أولياء أموركم.
قلت : على رسلك ، فإنّ جانباً هامّاً من أهل السنّة ، والمتمثّل في طلائعه المثقّفة لا تؤمن بولاية هؤلاء الأشرار من أتباع حزب النفاق ، والحركات الإسلاميّة الحديثة قد خرجت من قمقم طاعة الظالمين ، بعد أنْ جرّبته طويلا
_________________
(١) آل عمران : ٣١.
ووقفت على بطلانه.
قال : وهل تعتقد أنّه خروج حقيقيّ ، ألا ترى أنّها ما تزال مقيمة على تلك المذاهب التي أسّسها هؤلاء الظلمة ، ألم يكن مالك على سبيل المثال صنيعة أبو جعفر المنصور العباسيّ ، وذلك من أجل حمل الناس على ترك سادس أئمّة أهل البيت عليهمالسلام الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام ، الذي كان وأبوه محمّد بن عليّ الملقب بالباقر وبقيّة الأئمّة عليهمالسلام أساتذة كلّ هؤلاء الفقهاء.
قلت : هذا صحيح ، إلّا أن ذلك مردّه قلّة الوثوق بالبديل الذي يستطيع تعويض منهجهم القديم.
قال : بل إنّي أراه نتاج ثقافة أسّست على الكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وحاكمية وقعت ضحيّة أناس ليسوا أهلا للقيام بها.
قلت : فإلى أيّ حدّ تذهبون بمودة قربى النبيّ صلىاللهعليهوآله ؟
قال : ليس للمحبّة حد يا صديقي ، أحبب أهل البيت عليهمالسلام ، وكلّ الذين وصلوا إلى مقام القرب الإلهي ، بقدر ما تشاء وتريد ، فقط لا تخرج بهم من دائرة المخلوقيّة ، وافعل ما بدا لك ; لأنّنا في هذه الشعيرة متنافسين من أجل تحصيل الأجر الأكبر ، كما ترغّبنا فيه بقيّة الآية : ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) (١) ثمّ تعال لأقرّب لك فهم المودّة : لو أنّ الإمام الحسين عليهالسلام كان في زماننا وخرج من أجل أنْ يُصلح في أمّة جدّه ، ماذا أنت فاعل ؟
قلت : أخرج معه قطعاً.
قال : لا تستعجل على نفسك هكذا ، فلو كنت فاعلاً ذلك حقّاً ، لما استكثرت عليه هذه الجموع المحيية لذكراه ، والهاتفة باسمه.
قلت : ألا يكفي بكاء القرون الأولى ، ألم يقل النبيّ صلىاللهعليهوآله : لا عزاء بعد ثلاث ؟
_________________
(١) الشوري : ٢٣.
قال : لقد قلت لك إنّ كلّ جيل له تكليفه بخصوص المودّة ، فنصرة الحسين عليهالسلام واجبة على من سمع بخروجه ، والبكاء عليه من الأمور المطلوبة والمحبّذة ، حتّى لو كان ذلك بعد أربعة عشر قرناً ، لأنّ الإمام الحسين رمز الإسلام ، وبقيّة أصحاب الكساء ، فالبكاء عليه في محنته أمر عبادي يراد به وجه الله تعالى ; أحد أوليائه المقرّبين ، وأحد القربى الذين فرض الباري محبّتهم ، وفوق ذلك كلّه ، فقد بكى النبيّ صلىاللهعليهوآله على ولده الحسين عليهالسلام.
قلت : وكيف بكى رسول الله صلىاللهعليهوآله على سيدنا الحسين رضياللهعنه وحادثة كربلاء لا تزال في رحم الغيب ، وبينها وبين النبيّ صلىاللهعليهوآله أكثر من خمسين عاما ؟
قال : الروايات في ذلك عديدة متكاثرة وهي تنصّ وتصرّح بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله ، بكى على ولده الحسين وأقام عليه العزّاء في أوقات عديدة لعلّ أوّلها في يوم ولادة الحسين عليهالسلام. وها أنا أورد لك روايتين على سبيل المثال فقط :
الأُولى : أخرج الحاكم بسنده إلى أمّ الفضل بنت الحارث : « أنّها دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقالت : يا رسول الله ، إنّي رأيتُ حلماً منكراً الليلة. قال : وما هو ؟ قالت : إنّه شديد. قال : وما هو ؟ قالت : رأيتُ كأنّ قطعة من جسدك قُطّعت ، ووضعت في حجري. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : رأيت خيراً ، تلد فاطمة إنْ شاء الله غلاماً فيكون في حجرك ، فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فدخلت يوماً إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي التفاتة ، فإذا عينا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، تهريقان من الدموع. قالت : فقلتُ : يا نبي الله بأبي أنت وأمّي مالك ؟ قاله : أتاني جبريل عليهالسلام فأخبرني أنّ أمتي ستقتل ابني هذا. فقلت : هذا. فقال : نعم ، وأتاني بتربة من تربته حمراء.
قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (١).
_________________
(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٧٦ ، وانظر أيضاً تاريخ دمشق ١٤ : ١٩٧.