نعم لقد تشيّعت

محمّد الرصافي المقداد

نعم لقد تشيّعت

المؤلف:

محمّد الرصافي المقداد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الله عزّ وجلّ يوم القيامة يحمل السموات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ، يهزهنّ فيقول : أنا الملك. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ، ثمّ قرأ ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (١) (٢).

لست ادري الغاية التي دفعت بحبر من أحبار اليهود إلى أنْ يأتي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهل جاء مستفسراً ، أو جاء مبيّناً ، الرواية لم تحدّد ذلك ممّا يوهن متنها.

أمّا ما جاء فيها فإنّه لم يكف هؤلاء بأنْ صوروا أنّ الله تعالى له يدان ، فأضافوا إليهما الأصابع ، وهل يمكن أن تكون يد بلا أصابع ؟ وهل يمكن أن تكون هناك أصابع بدون لحم وعظام وعروق وعصب ؟ وهل يمكن أن تكون كذلك وليست لها حد ولا جهة ؟

أمّا دعوى ضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي عارية من الصحة لسببين اثنين :

الأوّل : لا يسوغ لعاقل أنْ يضحك على كفر وزندقة مثل التي لاكها الحبر بلسانه وألقاها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منزّه عن الوقوع في مثل هذه السقطات ، وتكليفه ببيان وبلاغ العقيدة والدين الحقّ عليه مدار نبوته. الثاني : تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لليهودي غير ثابت في الرواية ، بل إنّ الآية التي قرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفيدُ تكذيبه ، وهي ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (٣).

لم يكن من السهل عليّ أنْ أقرّ بانحراف الخطّ الذي كنت فيه ; لأنّ التزييف والتمويه الذي أُلقي إلينا عبر بوابة الوراثة وتبعيّة السلطان ، أحكما غلق منافذ

_________________

(١) الزمر : ٦٧.

(٢) مسند أحمد ١ : ٤٥٧ ، والرواية في صحيح البخاري ٨ : ١٧٤.

(٣) الزمر : ٦٧.

٦١

النجاة على الذين قنعوا بذلك الركام وتعبّدوا به على أساس أنّه الدين الإسلامي في أجلى مظاهره ، ولو التفت الناس إلى ما حولهم وتعرّفوا على ما يحيط بهم من نظريات وأفكار لتبيّن العقلاء منهم مورده ، ولصحّح طريقه. وإنّني كلّما عادت بي الذكرى إلى ما كنت فيه من تيه وضلال ، واسترجعت ذلك الاعتقاد الذي لا يمت بحقيقة التوحيد الإسلامي الصافي بصلة ، حمدت الله تعالى على استنقاذي من عبادة الشبه والوهم ، وهدايتي إلى توحيد آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي غرسوه في خُلّص أتباعهم ، وانتقل منهم إلى المؤمنين في كلّ عصر ; لذلك فإنّني أنصح من بقي بعيداً عن هذه المنن الإلهيّة والعطايا الربانيّة ، أنْ لا يتردد في بذل الجهد لمعرفة الحق ; لأنّ الجزاء الذي أعدّه المولى سبحانه وتعالى لأوليائه ليس سهلاً ، ولا يُعطى لكلّ من ادّعى الإسلام بلا بيّنة.

صراطه تعالى واضح ، ونهجه للسالكين ميسّر ، فقط طهّر قلبك ، والق من على كاهلك أوزار غيرك ، فإنّك بحول الله ستصل إلى ما وصلت إليه أنا من نعمة لا تضاهيها نعمة ، وهي موالاة الطاهرين واتّباعهم ، أئمة الدنيا والآخرة ، فالحمد لله على كلّ حال ونعوذ به من حال أهل النار.

٦٢

الحلقة الرابعة

عقيدة أهل البيت عليهم‌السلام في النبوّة هي التي شيّعتني

جاء دور عبد الرحمان ، فتحدّث عن السبب المباشر لاستبصاره وقال : لقد كانت عقيدة النبوة التي اعتمدها المالكية وبقيّة ما يسمّى بأهل السنّة والجماعة مختلّة البناء ، لا تستقيم وحقيقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا الغاية من بعثته المباركة ، وقد كنت غير مقتنع منذ الدراسة الثانوية بالتفسير الذي لقنوه لنا ، في تفسير آية : ( عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ) (١) ، فقالوا لنا حسب ما ورثوه ، وبدون أدنى نظر : إنّ العبوس والتولي صدر من رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عندما جاءه ابن أم مكتوم الأعمى ، وتساءلت يومها : كيف يعقل أنْ يصف المولى سبحانه وتعالى نبيّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله بصاحب الخلق العظيم ، وبالرؤوف الرحيم على المؤمنين ، ثمّ يعود فيصفه بوصف مخالف لذلك الخلق ، ولتلك الرأفة والرّحمة ، بل ويضعه في نفس المقام مع عدوّه الوليد بن المغيرة ـ والد خالد بن الوليد ـ عندما حكى عنه بقوله : ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ) (٢).

فيكون عيسى عليه‌السلام في القرآن أكثر إنسانية ورحمة ، بإبرائه الأعمى والأكمه والأبرص وإحيائه الموتى من النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وباعتبار أنّني لم أجد بين يدي تفسيراً آخر يقدّم البديل الصحيح ، بقيت في هذه النقطة على شكٍّ من صحة نسبتها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومرّت الأيام وكبرت معها ، وازداد عقلي رجوحاً ، وفكري تيقظاً وفطنة ،

_________________

(١) عبس : ١.

(٢) المدثر : ٢٢.

٦٣

وزادت لهفتي على الكتاب والمطالعة بعد إنهائي للدراسة ، فكانت المكتبات العامّة والخاصّة أماكن تواجدي المفضلة ، مستأنساً بمؤلفات الذين تركوا أثرهم في الحياة الدنيا ورحلوا عنّا ، منهم من كان متيقناً أنّه قدّم شيئاً لله تعالى وللبشريّة ، ومنهم من لم يكن على يقين من أمره ، كجلّ الذين كانوا في خدمة الطغاة والظالمين.

في أحد الأيام ، انزعجت كثيراً وأنا أقرأ تفسير الدرّ المنثور لجلال الدين السيوطي ، ففي تفسير سورة النجم ، ساق صاحب الكتاب في بيان تفسيره لآية : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ ) (١). عدداً من الروايات المتنافرة والمتناقضة ، التي تقول بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نطق الشيطان على لسانه والعياذ بالله ، وقال كلمات فيها إعلاء لآلهة قريش ، وترجّى شفاعتها ، وختمت الروايات بسجوده لها. يومها فهمت أنّ هذا الخطّ لا يتورع في ذكر أيّ شي يحطّ من مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون نظر وتثبت.

صاحب الدرّ المنثور لم يكن وحيداً في نشره وحفظه لروايات تشويه النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما هو في هذا الإطار إلّا ناقل عن أمّهات الكتب المعتمدة عند خطّ تشويه الاعتقاد في عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فالبخاري ومسلم وغيرهما من الكتب الروائية ، اتفقت على إخراج كلّ ما من شأنه أن يزعزع عقيدة المسلمين ، في طهارة الأنبياء ونزاهتهم وعصمتهم ، فألصقوا بخليل الرحمان إبراهيم عليه‌السلام ، كبيرة لا تليق إلّا بمنافق ، فنقلوا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه عليه‌السلام كذب ثلاث كذبات (٢). وألصق به أيضا أنّه شك في عقيدته ، وعلّق النبي حسب زعمهم بقوله :

_________________

(١) النجم : ١٩ ـ ٢٠.

(٢) صحيح البخاري : ٤ / ١١٢.

٦٤

« نحن أحقّ بالشك من إبراهيم » (١) وجعلوا موسى بن عمران عليه‌السلام في مرتبة لا يرضاها إلّا الأشرار والصعاليك ، بضربه لملك الموت وفقىء عينه (٢) ، وان بني إسرائيل ادّعوا عليه أنّ به عاهة ، فبرّأه الله سبحانه وتعالى بأن أخرجه من مغتسله عرياناً يجري وراء حجر هرب بثيابه ، حتى أوقفه أمام بني إسرائيل ، ووقفوا على خطأ دعواهم (٣) ، تصوّروا إنْ أمكن لكم ذلك ، ولا أراه ممكناً ، إذ كيف يمكن أن يكذّب خليل الرحمان ، أو يشكّ في دينه ، او يمكن لنبي مهما أوتي من قوّة أنْ يفعل شيئاً مع ملك من ملائكة الله ، أو أنْ يفرّ حجر جامد بثياب نبي لتبرئته ممّا ألصق به ، كأنّما تلك هي السبيل الوحيدة للتبرئة ؟ هل يعقل أن ينبري حافظ إلى نقل ترّهات كهذه ليقول بعد ذلك إنّها أصحّ الروايات ، وإنّ كتابه أصح الكتب ، ونحمل عنه ذلك محمل التصديق والتعبّد دونما نظر ولا رويّة ولا تفحص ..

أمّا بالنسبة للنبوّة عموماً ، فقد كنت معتقداً كما هو حال جميع العوام ، أنّ الأنبياء عليهم‌السلام كلّهم غير معصومين في ما عدا الوحي ، وقد ذكر من تسمّوا بسنّته كذباً وتلفيقاً وبهتاناً ـ وخرجوا منها عمليّاً وفعليّاً بما ألزموا به أنفسهم من هذه الخزايا والترّهات ـ جملة من الروايات التي عدّدت أخطاءه ، أغلبها لا تجوز على البسطاء فضلا عن الأنبياء عليهم‌السلام ، وباعتباري كنت سنّياً مالكيّاً ، فقد تعبّدت بتلك العقيدة رغم شكّي في صحّة صدورها ، لا أجد مفرّاً منها إلى غيرها ولا بديلاً عنها ، للاعتقاد السائد عند أغلبية أبناء ذلك الخطّ ، بأنّ الإسلام هو ما في حوزتهم ، بعدما وصف أوائل صانعي عقيدتهم كالأشعري ونحوه ، بقيّة المسلمين بصفات ونعوت شتّى ، تنفر النفس المحترمة منها.

_________________

(١) المصدر نفسه : ٥ / ١٦٣.

(٢) المصدر نفسه : ٢ / ٩٢.

(٣) المصدر نفسه : ٤ / ١٢٩.

٦٥

اكتشفت صدفة وتحديداً في معرض للكتاب ، عقيدة أهل البيت عليهم‌السلام ، عندما وقع بين يدي كتاب عن عقائدهم للسيّد عبد الله شبر ، عنوانه حق اليقين في معرفة أصول الدين ، فاقتنيته وعرفت من خلاله أنّ عقيدة أهل البيت عليهم‌السلام في النبوّة هي الأصحّ والأصوب ، والتي يجب على كلّ مؤمن أنْ يتعبد ويتقرب بها إلى الله تعالى ، فالأنبياء عليهم‌السلام كلهم معصومون ، والنبي الأعظم محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إمامهم وخيرتهم ، حبيب الرحمان ، وصاحب لواء الحمد ، والحوض ، والشفاعة ، والصراط ، والمقام المحمود يوم القيامة ، لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة عمداً ولا سهواً من ولادته حتّى وفاته ، بل إنّ جميع آبائه مؤمنون موحّدون وليس كما يدعي أهل الباطل والزيف من أنّ أبواه ماتا على الشرك ، وما لفّقه عليه الملفّقون ، فهو محض كذب وادّعاء بلا بيّنة ، والأدلة القرآنية في إحقاق العصمة كثيرة ، فمن شاء طلبها من مظانّها.

أمّا ما قاله هؤلاء الجهلة الذين يدّعون العلم ، وليس العلم فقط ، بل اتّباع سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو أدهى وأمر ، فقد نقلوا أنّه يُقبّل ويباشر وهو صائم (١) ، وأنّه يُباشر وزوجته حائض والعياذ بالله (٢) ، وأنّه كان يطوف على نسائه التسع في ليلة واحدة وبغسل واحد (٣) ، وأنّه بال قائما (٤) ، وقد نهى عن ذلك (٥) ، وأنّه نسي بعضاً من القرآن فذكّره فيه قارئ بالليل (٦) ، وسحره يهودي فبقي مدّة من الزمن لا يدري ما يفعل (٧) ، وجاء إلى الصلاة وهو جنب ولما تذكر ذهب ليغتسل وترك الناس

_________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ٢٣٣.

(٢) المصدر نفسه ١ : ٧٨.

(٣) انظر صحيح البخاري ١ : ٧٥ ، وصحيح مسلم ١ : ١٧١.

(٤) صحيح البخاري ١ : ٦٢.

(٥) المستدرك على الصحيحين ١ : ١٨٥.

(٦) انظر صحيح البخاري ٦ : ١١١.

(٧) صحيح البخاري ٤ : ٩١ ، ٧ : ٢٨ ، ٣٠.

٦٦

واقفين (١) ، إلى غير ذلك ممّا قد أخرجه علماء الأمّة العدول وبيّنوا بطلانه ، وذكروه في مواضعه ليقف المسلمون على حقيقة عقيدة النبوّة ، من الزيف الذي لفّقه عليها أعداء الإسلام المحمّدي الأصيل.

هذا المحكيّ في كتب هؤلاء القوم ، والمنسوب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يثير الاشمئزاز والنفرة ، وهو مدعاة إلى أولئك الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه ، إلى التشنيع والتشهير والحرب ، بل هي الحجّة التي ضرب بها سلمان رشدي لعنه الله وأمثاله ، الرسولَ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإسلام بكافّة تفاصيله.

إذاً فهؤلاء الذين ادّعوا اتّباع سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعلنوا نظريّاً حبّه ، ليس هذا فقط ، بل حاولوا سلب بقيّة المسلمين من التشرّف بالانتماء لسنته ، والإعلان من خلال ذلك بأنّهم من أتباعه ، بلغ بهم حبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإتباع سنته إلى حدٍ انقلبوا فيه من حفظ السنّة الصحيحة ، إلى التمسك بمفتريات يهتزّ لها من في قلبه مثقال ذرّة من ولاء لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله غضباً وغيضاً.

لم يكن القصد من سلب العصمة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا غلق الباب في وجه من يدّعيها من غير مقام النبوّة ، فأهل البيت عليهم‌السلام من أولئك الذين عصمهم الله تعالى ، ليكونوا للأمّة منار هداية ، وعناصر حفظ لشريعة خاتمة ، نزل فيهم ما نزل من القرآن الذي يفيد عصمتهم كآية التطهير (٢) ، وغيرها.

كما أنّ حديث الثقلين الذي قرن فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الكتاب بالعترة الطاهرة ، وصرح بعدم افتراقهما عن بعضهما ، وجعل التمسك بهما معاً عاصماً من الضلالة (٣) ، يدلُّ على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام.

_________________

(١) المصدر نفسه ١ : ٧٢ ـ ٧٣.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٣٢٩.

٦٧

لذلك ، فإنّ الإقرار بعصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يؤدي إلى الاعتراف بعصمة أهل بيته الأطهار عليهم‌السلام ، وذلك مدعاة إلى نقض ما بناه الغاصبون لحقوق خلفاء الرسول الحقيقيين ، من كون أنّ نظريّة الحكم في الإسلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هي على أساس من الشورى وليست بالنصّ كما يحتجّ بذلك المسلمون الشيعة وأئمتهم عليهم‌السلام ، فاتّجهوا إلى الحطّ من مقام سيّدهم الأكبر حتّى يهون مقامهم.

هكذا إذاً بُخِس حقّ إمام المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستغفل أتباعه ، فتطاولوا على شخصه ومقامه ، وبقوا على تلك الحال رغم النداءات المتكررة ، التي أطلقها أهل البيت عليهم‌السلام وعلماؤهم وأتباعهم ، والتي دعت إلى إنصاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإعادة حقّه في كونه أفضل المخلوقات على الإطلاق ، وما يترتب على ذلك من الإقرار بعصمته الكاملة ، وردّ جزء من الجميل الذي قدّمه للأمة الإسلامية ، ومودة قرباه الذين نكل بهم الظالمون في تفريط وغفلة وسهو من أسلافنا.

إنّنا جميعاً مطالبون أمام الله بالوفاء بتكاليفنا ، ومن أخل بأيّ واجب فإنّما يسي لنفسه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس محتاجا للوفاء بتكاليفنا تلك بقدر ما نحن في أمسّ الحاجة إلى ذلك ، تبرئة لذممنا اتجاهه وطاعة لله تعالى في تكريم رسوله وتعظيمه وطاعته ومحبته.

وإذا كنتم أيّها الإخوة بالفعل تحبّون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلماذا تعكفون على باطل مثل الذي ألصق به ، لماذا لا تتبرؤون من معتنقي مثل تلك الخزايا ، إذا لم يرجعوا عنها ويرفضوها ، مهما كان العنوان الذي غُلّفت به ، لماذا كلّ هذه الجفوة لأهل بيت المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أُمرنا بمودتهم ، والمودّة ما هي إلّا اتّباعهم ، قال تعالى : ( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (١). ولو أُمِرَ هؤلاء المتأسلمون بجفائهم لما أمكنهم أن يأتوا بجفاء أكثر مما هم عليه.

_________________

(١) آل عمران : ٣١.

٦٨

الحلقة الخامسة

شيّعني حديث الاثني عشر خليفة

وجاء دور بكار الذي عبّر عن كيفية اقتناعه بالإسلام الذي اعتمده المسلمون الشيعة ، تبعاً لأئمتهم الأطهار عليهم‌السلام ، فقال : لا شكّ أنّ كلّ مسلم يؤمن بأنّ هذا الدين العظيم الذي حبانا الله تعالى به ، كآخر الأديان ، خاتماً لما سبقه من تشريعات إلهية ، وخلاصة لها ، جاء ليصحّح مسيرة البشرية ، ويقوّم اعوجاجها من الانحراف عن الحقّ تعالى ، واتّباع سبل الشيطان ، ليحقّق لها العدل والأمن. وهذا ما يؤسّس للحاجة إلى قيام حكومة تتبنى المنهج الإسلامي المتكامل على جميع الأصعدة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ، وإلّا لم تكن هناك حاجة إلى ظهور الأنبياء والرسل وتشريعاتهم.

ولقد نظرنا في التاريخ البشري على طوله فلم نجد فيه ما يعطي النتيجة المرجوّة المثال الكامل ، غير الخالق سبحانه وتعالى. قال جلّ من قائل : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) (١).

كما لم نجد في التاريخ الإسلامي ما يشير إلى قيام حكومة إسلامية ، تكون مرجعيتها الحقيقية الكتاب والسنّة المطهرة ـ سوى السنوات القلائل التي حكم فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ رغم ما قيل عن الخلافة التي ألبسوها لباسا إسلاميّا ، ونعتها من نعتها بالراشدة ، وحكم من حكم بأنّها النموذج الأمثل لعزّة الأمّة ومنعتها ، وبكى من بكى على أطلال سقوطها في عهد العثمانيين الأتراك. خلافة

_________________

(١) المائدة : ٤٨.

٦٩

على شاكلة الخلافات التي داست على المستضعفين والمقدسات ، استأثرت بخيراتهم ، وعطّلت شريعتهم ، فمنذ قيام حكومة السقيفة وادّعائها خلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، انحسر الإشعاع الديني الذي أسّسه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذهبت نصائحه التي كان قدّمها لأبناء جيله ، وضاع جهده في تعليمهم أسس الدين وأحكامه بعد وفاته ، بضياع تلك النصائح وذلك العلم ، لأنّ العلم كما يقول الحديث يهتف بالعمل فان أجاب أو ارتحل.

وليس عجيباً ولا غريباً ، أنْ نجد اليوم في الأمة الإسلاميّة من يعتقد أنّ الباري تعالى قد ترك مسألة الحكومة الإسلامية للناس يرون فيها رأيهم ، هكذا مطلقاً ومن دون قيد ، ذلك لأنّ هؤلاء المسلمين قد ورثوا تراثاً يُكرّس مبدأ فصل الدين عن الحياة ، فقبله مَنْ قبله ، وسكت عنه مَنْ سكت ، كأنّ الأمر لا يعنيه ، ولم يعترض عليه غير فئة قليلة من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، يُعرفون اليوم باسم الشيعة ( من شايع يشايع مشايعة ، معناها اتبع ، والشيعة لغة هم الأتباع ) كما كانوا في عصر مواجهاتهم لأنظمة الظلم والتحريف روافض ( بمعنى رفض الظالمين ، وليس بالمعنى الذي أراده أعداؤهم من نسبتهم إلى رفض للدين ، أو رفضٍ للصحابة ، فالدين عندهم وتشريعاته لديهم هو أكثر تناسقا ، وأكثر تكاملا ممّا هو عند غيرهم ، وما أكثر فقهاء وعلماء مدارسهم الفقهية إلّا عيالاً على أئمتهم عليهم‌السلام ، ومجتمع الصحابة كسائر المجتمعات فيه الطيب وفيه الخبيث ، والمؤمن والمنافق ، تماماً كما تحدّث عنهم الوحي ، لذلك ، فالشيعة يقولون رضي الله عن الصحابة الأخيار ، وليس الصحابة أجمعين لأنّنا إذا طلبنا الرضا لمغضوب عليه أو منافق ، فإنّنا لا نأمن غضب الله تعالى )

عدت إلى تصفح الكتب المعتمدة عند بني قومي ، وكان كتاب الجامع الصحيح لمسلم النيسابوري المتوفر لدي ، الوسيلة التي أمسكت بها خيط الحقيقة ، ففي

٧٠

باب الإمارة لفت إنتباهي حديث : « الاثني عشر خليفة »

وتساءلت يومها عن هؤلاء الخلفاء من يكونون ؟ وهل صحيح أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكرهم عدداً ولم يذكرهم أسماء ؟

وما علاقة العدد (١٢) بالعدد القرآني المتكرر في الأسباط ، وفي الحواريين ، وفي العيون الاثني عشر التي انبجست لموسى ، والأمم الاثني عشر ، وفي عدّة الشهور ، ومنازل القمر ، وأبراج السنة ؟

لا شك أنّ الرقم له دلالة غيبية ، متعلقة بالسنن الكونية التي أرساها الله سبحانه وتعالى ، لتتحرك في إطارها كلّ الموجودات على سطح الأرض. قال تعالى : ( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) (١).

الحديث في مضمونه يشتمل على إعلام غيبي هام بمن سيلي أمر الحكومة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو قدّر له أن يصل إلى جميع المسلمين سالما من التحريف الذي وصلنا عليه ، لكان أمر الحكومة قد حسم منذ البداية.

الحديث كما أخرجه أصحاب المجاميع الروائية عند خط السقيفة كالآتي :

عن جابر بن سمرة قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة » قال ثم تكلم بشي لم أفهمه فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : « كلهم من قريش » (٢) إن الكيّس الفطن لا يمكنه المرور على الرواية ، دون أن يسجّل ملاحظاته على ما جاء فيها من محاولة طمس لبيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأسماء خلفائه ، بعد أن ذكر عدّتهم ، ويظهر أنّ المحدّث أو مَن حرّف الرواية قد استعاض عن الأسماء بالقول إنّ كلمة قد خفيت عليه ، وبالجواب الذي جاء من أنّهم من قريش ، وفي ذلك كلّه دليل على المنحى التحريفي ، الذي انتهجه حكّام الأمّة من بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في

_________________

(١) الفتح : ٢٣.

(٢) صحيح مسلم ٦ : ٣ ، ٤. وانظر صحيح البخاري ٨ : ١٢٧ ، مسند أحمد ١ : ٣٩٨ ، ٤٠٦ و ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٨ وغيرها.

٧١

إعفاء عدد من الأحكام التي عليها مدار الشريعة ، وبها يقوم الدين وتتفاعل تركيبته ، كمسألة الحكومة الإسلامية التي مرّت على كثير من المسلمين ، ولم يجدوا لها صيغة يطمئنون لها. والطريقة التي اعتمدها هؤلاء التحريفيون ، تعتمد قطع الرواية أو الحديث ، وإسقاط بعض الكلمات التي تحتوي على بيان أمر هام أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إبلاغه للمسلمين ، وفي رواية ابن عباس ما يوضح ذلك حيثُ أخذ أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور ، ثنا سفيان بن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى بثلاثة فقال : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم » قال ابن عباس : وسكت عن الثالثة أو قال : فأنسيتها وقال الحميدي عن سفيان : قال سليمان : لا أدري ، أذكر سعيد الثالثة فنسيتها أو سكت عنها (١).

بل إنّ في الرواية شكَّ في إسقاطين ، إسقاط نُسِب إلى ابن عباس ، وإسقاط آخر نسبه ( سليمان ) أحد الرواة لنفسه. وباعتبار أنّ ابن عباس من أتباع علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، وذلك ثابت من خلال سيرة الرجل وتعامله مع ابن عمّه ، وتعامله مع ابنه الحسن السبط سيّد شباب أهل الجنة عليه‌السلام ، ولم ينفك عن دأبه ذلك ، لإيمانه العميق بأحقيتهم في قيادة الأمة الإسلاميّة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنسيانه لأمر يعلمه ، وهو من الأهمية للإسلام والمسلمين بمكان لا يقبله عاقل ، كما أنّ السكوت عن الوصيّة الثالثة ، والذي نُسب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يتفق وتكليفه في البلاغ والنصح ، وهو الذي يقرئه الله تعالى الوحي بطرفيه الإعجازي والتفسيري فلا ينساه ، قال تعالى : ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ ) (٢). لذلك تولد لدي قناعة بدأت تتقوى يوماً بعد يوم ، من أنّ مسألة الحكومة الإسلامية لا يمكنها أن تخرج عن احتمالين :

_________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ٤١.

(٢) الأعلى : ٦.

٧٢

الاحتمال الأول : أن يكون الوحي قد نصّ على اسم من سيلي أمر الدين و الأمة من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الاحتمال الثاني : أن يكون الوحي قد نصّ على الشروط الواجب توفرها في من سيقوم مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحكم ، ووضع ضوابط لاختيار الأمّة.

وفي كلتا الحالتين ، النص أو الشرط ، لا يستطيع أحد أن يتجاوز شخص الإمام علي عليه‌السلام ، ولا أنْ يتغاضى عن إمكانياته وأياديه ، ومن تجاوزه فإنّه يكون داعياً إلى حكم الجاهلية ، الذي قال عنه الباري تعالى : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (١).

والذي زاد في عجبي ، التفسير الأعرج الذي تبناه عدد من علماء خط السقيفة كالسيوطي ، الذي خرج برأي تفرد به ، حيث ذكر في بيان عدد الخلفاء ، الخلفاء الأربعة وأضاف لهم الإمام الحسن عليه‌السلام ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وابن الزبير ، وعمر ابن عبد العزيز الأموي ، واحتمل أن يكون منهم المهتدي ، والظاهر من العباسيين ، فيكون السيوطي قد أوصل العدد إلى عشرة ، وخلص إلى القول من أن المتبقيان أحدهما المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه (٢).

ونظرت حولي فلم أجد فريقاً من المسلمين أعطى للعدد تفسيره وبيّن أصحابه ، غير المسلمين الشيعة الاثني عشرية ، الذين ذكروا أنّ العدد ينطبق على أئمتهم وهم كالآتي :

الإمام الأول : علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

الإمام الثاني : الحسن بن علي المجتبى عليه‌السلام.

الإمام الثالث : الحسين بن علي سيد الشهداء عليه‌السلام.

_________________

(١) المائدة : ٥٠.

(٢) تاريخ الخلفاء : ١٢.

٧٣

الإمام الرابع : علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام.

الإمام الخامس : محمد بن علي باقر العلوم عليه‌السلام.

الإمام السادس : جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام.

الإمام السابع : موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام.

الإمام الثامن : علي بن موسى الرضا عليه‌السلام.

الإمام التاسع : محمد بن علي الجواد عليه‌السلام.

الإمام العاشر : علي بن محمد الهادي عليه‌السلام.

الإمام الحادي عشر : الحسن بن علي الزكي عليه‌السلام.

الإمام الثاني عشر : محمد بن الحسن المهدي المنتظر عليه‌السلام.

وطالما أنّ الإمام الأول والثاني والأخير قد اعتُرف بهما ، فلماذا لا يُقرُّ ببقيتهم ، وعرفت بعد ذلك أنّ هؤلاء الأئمة عليهم‌السلام ، هم الخلفاء الذين خلّفهم فعلاً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر ربّه ، قد قدّموا للدين باعتبارهم مستحفظين عليه ، كلّ ما لديهم من علوم وتضحيات ، فأقاموا حروفه وحدوده ، وجاهدوا فيه بأرواحهم ، وبذلوا فيه من التضحيات الجسام ، التي لا يقوى على بذلها أحد غيرهم ، فنهلت من معينهم الصافي ، وتزودت من علومهم التي هي عين الإسلام المحمدي ما أسكن الطمأنينة في قلبي ، وأنزل السكينة عليّ ، ولم أجد في كل ما بحثت من علومهم فقهاً وعقائداً وغيرها ، غير الحجّة التي تُثبّتُ الفؤاد ، وتُقنع الفكر ، وتُرضي الربّ تبارك وتعالى ، والحمد لله أولاً واخراً على نعمة الهداية إلى هؤلاء الأطهار ، وأسأله تعالى أن يهدي سواد الأمّة بالرجوع إلى الحقّ ، لأنّ الذي يهدي إلى الحق أحق أن يُتّبع. قال تعالى : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١).

_________________

(١) يونس : ٣٥.

٧٤

بعد أنْ أنهى بكّار كلامه ، قلت له : لدي دليل آخر متعلق بالأئمة الاثني عشر ، ويُشير إلى أنّ العدد قد ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ أعداء خطّ الإمامة محوه من كتبهم الروائية ; تجنباً لانهيار فكرتهم الباطلة ، وافتضاح أكذوبتهم في خصوص شورى السقيفة.

فقال : ما هو هذا الدليل ؟

قلت : لقد نقل الشيخان « البخاري ومسلم » رواية مهمة تقول :

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلّما هلك نبي خلفه نبي ، وإنّه لا نبيّ بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون ، قالوا فما تأمرنا. قال : فوا ببيعة الأول فالأول اعطوهم حقّهم فإن الله سائلهم عمّا استرعاهم (١).

وهذه الرواية اشتملت في متنها على ذكر الحكومة التي كانت على عهد بني إسرائيل ، وهي حكومة أنبياء في عمومها ، وإنّ حكومة المسلمين هي حكومة خلافة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « إمامة بالمصطلح القرآني ». وخلفاؤه الذين تحدّث عنهم كان قد حدّد عددهم باثني عشر شخصاً ، وتساءل من حضر من الصحابة عن تكليفهم اتجاه هؤلاء الخلفاء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فوا ببيعة الأول فالأول ».

وفي كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله دليل على ترتيب هؤلاء الخلفاء ، ومبايعة الناس لهم تكون بحسب ذلك الترتيب الذي تحدث عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحثّ على اتّباعه ، وهذا الإيحاء بالترتيب الذي جاءت به الرواية ، دليل نضيفه إلى العدد في الرواية التي أرشدتك إلى اتّباع أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، لتزداد يقينا في أنّ مسألة حفظ الدين ليست من شؤون الناس بل هي من شؤون الباري تعالى كما هو الشأن بالتنزيل ، والحمد لله رب العالمين.

_________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٤٤ ، صحيح مسلم ٦ : ١٧.

٧٥

الحلقة السادسة

حديث انقسام الأمة والفرقة الناجية هو الذي شيّعني

عبد الوهاب ، صديق ربطتنا به علاقة زمالة ، هو من الجنوب الغربي للبلاد ، والجنوب معروف عندنا بالأصالة ، والتمسك بالقيم والمبادئ ، إذا ذكُر أهل الجنوب وكنت منهم ، نظر إليك السامع نظرة إكبار واحترام.

الصدفة هي إلتي جاءت به إلى مجلسنا ، فهو قد انتقل من المدينة منذ مدّة ، لظروف خاصة به ، فسررت لرؤيته وحمدت الله على لقائه من جديد ، ويقال رُبَّ صدفة خير من ألف ميعاد.

لم يتمالك عبد الوهاب نفسه ، فتحرّك من كرسيّه ، وطلب أن يُفسح له المجال في الكلام ، ولمّا مكنّاه من ذلك قال : كانت المالكية هي الطابع الذي ألبس به إسلام الجهة بأكملها ، فلا حديث إلّا عن مالك وما جاء عنه ، ولا كتب بعد كتاب الله تعالى إلّا الموطأ أو المدوّنة الكبرى ، حتى رسخت فكرة أنّ الإسلام لا يكون غير مالكي ، ولم يلتفت أتباع هذا المذهب إلى غيره من المذاهب ، إلّا باعتباره بعيداً عن الإسلام الحقّ ، تلك النظرة الاستعلائية جعلتني لا أعير اهتماماً بالبحث خارج الإطار المذهبي ، ولا أهتمّ بغير مطالعة ما يتعلق بالمذهب ، الذي اتبعته وراثياً دون نظر ولا تحقيق.

تعرّفت على الأخ محمّد في الشغل ، وكان لي معه فسحتان ، واحدة عند وقت الراحة في العمل ، والثانية قرْب سكناه من سكناي الذي تسوغته ، ممّا أتاح لي فرصة التعرف عليه عن قرب ، في البداية كانت العلاقة سطحية وبسيطة ، وعدم عمق العلاقة معه مردّه حداثة عهدها ، فلم ألاحظ عليه أية بادرة أو مظهر أو

٧٦

علامة ، تدفع إلى التساؤل عنها ، وبمرور الأيام تمتنت العلاقة ، وتوطدت الصداقة حتّى أصبحت من أفضل أصدقائه لديه وأقربهم إليه ، وحزت على حبه وثقته.

في أحد الأيّام وكان يوم عطلة ، وصادف يوم جمعة ( العطلة الأسبوعيّة عندنا ما زالت يوم الأحد ، حتّى بعد رحيل الاستعمار الفرنسي المسيحي ) ، فتهيّأت إلى صلاة الجمعة بالمسجد ، وذهبت إليه لأصطحبه ، لكنّه لم يُبد تحمّساً للذهاب وقال لي : إنّه لا يحبّذ الصلاة وراء أئمة يُعيّنون من طرف من لا أهليّة له ، ولا ضابط ، اعتذر إليّ برفق ، لكنّني لم اقتنع بكلامه ، ولمّا ضاق الوقت عليّ ، ذهبت على أساس أنْ أعود إليه لنتحاور في الموضوع.

من عجيب الصدف ، أنّ خطيب الجمعة قد تحدث يومها عن انقسام الأمّة وتشرذمها ، وجاء بحديث الانقسام الذي أخبر عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كالآتي : « أخرج ابن ماجة بسنده ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، فواحدة في الجنّة ، وسبعون في النار ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، فإحدى وسبعون في النار ، وواحدة في الجنّة ، والذي نفس محمد بيده ، لتفترقنّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة في الجنّة ، واثنتان وسبعون في النار ، قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : الجماعة » (١). مؤكّداً على أنّ الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة ، ودعا إلى التمسك بالمذهب المالكي لأنّه يُمثّل سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشريعته.

عدتُ من الصلاة وفي خاطري ما كان دار بيني وبين صديقي وزميلي محمد من كلام حول إمامة الجمعة ، ودفعني إلى مواصلة الحديث ، حماسي وما كنت أشعر به من الحزن والأسى على ضياع الأمة التي يوجد بين يديها أعظم دستور أنزله الله تعالى على عباده ، وفي اعتقادي ، أن صاحبي مختلف معي فقط في

_________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٢٢.

٧٧

مسألة واحدة ، أو مسائل لا تدفع إلى الخروج عن دائرة المذهب ، فقلت في نفسي : لعلّني بإقناعه إلى عدم مفارقة الجماعة ، أكون قد ربحت أجراً وثواباً كبيرين.

ذهبت إليه على ذلك الأساس ، وشعوراً منّي بواجب الرابطة التي تجمعني به ، فاستقبلني كعادته والابتسامة تعلو محيّاه ، وأدخلني بيته. وما أنْ جلست ، حتّى توجهت إليه بكلامي معاتباً : أيُعقل منك هذا التصرّف يا محمد ، وقد عرفتك ذو عاطفة وغيرة على الدين ؟ ماذا لو صليت وراء أيّ إمام ؟ المهم أن تكون قد أديت ما عليك ، وربحت أجر الجماعة وهي ٢٧ درجة فوق صلاة المنفرد ، ووزر الإمامة يتحمله الإمام ومن عينه ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، ألا ترى واقع المسلمين اليوم وحالهم ؟ ألا يستوجب ذلك أنْ نغضّ الطرف على كثير من المسائل الخلافية ، ونلتفت إلى الوحدة لنجمع بها هذا الشتات ؟

فقال لي : يا أخي ، إنّني بقناعتي هذه لم أكن قاصداً تكريس المزيد من الفرقة ، بل على العكس تماماً ، فأنا من الذين يدعون إلى الوحدة ، وينادون للمّ الشمل ، بتعقل وعلى أساس صحيح وليس عشوائيّاً ، وإنّ أكثر ما يقلقني حال الأمّة الذي شمّت فينا الأعداء.

فقلت له : طالما أنت كذلك فلماذا لا تذهب إلى الصلاة بالمسجد ؟

فقال : إن الله سبحانه وتعالى لمّا شرّع دينه الخاتم ، كما هو شأن بقيّة الأديان التي سبقته ، جعل للأحكام التي أنزلها واجبات وسنن أمر باتّباعها ، وكلّ من يتجاوز تلك الأحكام خاصّة منها الواجبة ، لا تقبل عبادته ويذهب جهده أدراج الرياح ، والصلاة شعيرة من الشعائر المهمة في الدنيا والآخرة ، لها أحكام لإقامتها من طهارات ، وآداب ، وفرائض ، وسنن تخصّ أوقات الصلاة ومكانها والمصلي ، سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً ، ولباسه ، وأنا تصرّفت بناء على تلك الأحكام.

٧٨

فقلت له : عن أيّة أحكام تتحدث ؟ ألسنا في المالكية نجيز الصلاة وراء السلطان ، حتّى لو كان ظالما ؟ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلوا وراء كل بر وفاجر. وصدمني صديقي بقوله : لم أعد مالكيّا ، ولا من الجماعة التي تتحدث عنها ، لقد تشيّعت لأهل البيت عليهم‌السلام.

فقلت له : أتغير وجهتك من الفرقة الناجية إلى أصحاب الأهواء والبدع من أهل النار ، ألم تقرأ يوماً حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن انقسام الأمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة منها فقط هي الناجية ، وهي جماعتنا أهل السنة.

فقال : وما أدراك أن تلك الفرقة هي الناجية ؟

فقلت : إتباعهم لسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واجتماعهم على رأي واحد ، وكثرة عددهم في العالم اليوم ، أليس هذا كافياً ليكونوا هم الفرقة الناجية.

قال : أمّا إتباعهم لسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالمسألة تحتاج إلى دليل يُطمأنُّ إليه ، وأمّا اجتماعهم على رأي واحد ، فذلك ليس صحيحاً ; لأنّ ما يسمى بأهل السنة والجماعة ، أربع مذاهب هي : الحنفية ـ والمالكية ـ والشافعية ـ والحنابلة ، وهم مختلفون اختلافاً كبيراً في عديد من الأحكام ، وهذا وحده يكفي للقول بأنّ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينطبق عليهم لأنّهم أربعة ، وهو قد حدّد الفرقة الناجية بواحدة وليس أربعة ، وحتّى الأربعة تفرّقوا وتفرعوا إلى عدد من الطرق مثل السلفيّة والوهابيّة الذين تفرّعا من الحنابلة ، والمتصوّفة تفرّعت من بقيّة المذاهب ، وأمّا كثرة عدد هؤلاء فلا يفيد شيئاً ، بل أقول إنّها كثرة بلا بركة ، ولا أرى التقييم القرآني للعدد يصب لفائدتهم ، لأنّه طالما مدح الباري تعالى في محكم تنزيله القلّة وأثنى عليهم ، فقال : ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ) (١). وقال :

_________________

(١) البقرة : ٢٤٩.

٧٩

( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (١). وقال : ( وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ) (٢) ، وقال : ( ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ ) (٣). ومقابل مدحه للقلة القليلة ، ذم الكثرة الكثيرة ، فقال : و ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) (٤). وقال : ( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (٥).

قلت : إذاً فبماذا تفسر حديث انقسام الأمّة ؟

قال : أفسره بكلام الإمام علي عليه‌السلام ، وكلامه كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه باب مدينة علمه ومستحفظ دينه ، إذ يقول في هذا الخصوص وقد سأله رجل عن السنّة والبدعة ، والفرقة والجماعة ، فقال عليه‌السلام : « أمّا السنّة فسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا البدعة فمن خالفها ، وأمّا الفرقة فأهل الباطل وإن كثروا ، وأمّا الجماعة فأهل الحقّ وإنْ قلّوا » (٦).

قلت : لكنّ الشيعة أنفسهم مختلفون ، وهم منقسمون إلى عدّة فرق ، منها ما اندثر ولم يعد له وجود ، ومنها ما يزال قائماً إلى الآن كالزيديّة والإسماعيليّة والجعفريّة ، فكيف تدّعي أنّهم الفرقة الناجية ؟

_________________

(١) سبأ : ١٣.

(٢) سورة (ص) : ٢٤.

(٣) الواقعة : ٢٤.

(٤) الزخرف : ٧٨.

(٥) الأنعام : ١١٦.

(٦) تحف العقول لابن شعبة الحرّاني : ٢١١.

وفي كنز العمّال للمتقي الهندي : عن يحيى بن عبد الله بن الحسن عن أبيه قال : كان عليٌ يخطب فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين : أخبرني من أهل الجماعة ؟ ومن أهل الفرقة ؟ ومن أهل السنة ؟ ومن أهل البدعة ؟ فقال : ويحك ! أما إذا سألتني فافهم عنّي ، ولا عليك أنْ لا تسأل عنها أحداً بعدي ، فأمّا أهل الجماعة فأنا ومن اتّبعني وإنْ قلّوا ، وذلك الحقّ عن أمر الله وأمر رسوله ، فأمّا أهل الفرقة فالمخالفون لي ومن اتبعني وإن كثروا ، وأمّا أهل السنّة المتمسّكون بما سنّة الله لهم ورسوله وإنْ قلّوا وإنْ قلّوا ، وأمّا أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا ، وقد مضى منهم الفوج الأول وبقيت أفواج ، وعلى الله قصمها واستئصالها عن جدبة الأرض... [ كنز العمال مجلد ٨ ، ٤٠ ٤١٦ : ٧٧ ، حديث رقم ٤٤٢٠٩ ]

٨٠