نعم لقد تشيّعت

محمّد الرصافي المقداد

نعم لقد تشيّعت

المؤلف:

محمّد الرصافي المقداد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الحلقة الثانية عشر

مودّة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الشيعة هي التي شيّعتني

بشير ، هو واحد من الأصدقاء الذين عرفتهم كثيراً ، وتوطدت علاقتي به بعد تجربة أكدّت أنّه من طينة الأخلّاء الذين يندر وجودهم ، كان يتابع المتدخّلين في الجلسة بنظراته المتقدة بريقاً والدالّة على نباهة وبصيرة قلّما يتحلى بها الكثيرون من الناس ، كان يريد أن يسمع أكثر من أن يتكلم ، تابع باهتمام بالغ إفادات الحاضرين ، وكان يودَّ أنْ يكون آخر المتكلمين ، وإفادته خاتمة الإفادات ـ كذلك أسرّ إليّ قبل مجيئه إلى الجلسة ـ لكنّني فاجأته بإعطائه الكلمة ، طلباً لأولوية السبب الذي دعاه إلى التشيّع ، فلم يمانع من ذلك.

قال بشير : لم أكنْ ملتفتا إلى المعاني الحقيقيّة لفريضة مودة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا بعد أنْ وقفت على لزومها من خلال النصوص العديدة التي أشار إليها المولى سبحانه وتعالى في محكم كتابه ، فقال جلّ من قائل : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) وبيّنها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما نزلت الآية الكريمة ، ردّاً على سؤال وجه إليه من طرف بعض الصحابة : « يا رسول الله ! مَن قرابتك هؤلاء من الذين وجبت علينا مودتهم يا رسول الله ؟ » فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « عليّ وفاطمه وابناوهما » (٢). وحث صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك على تلك المودّة في أكثر من مناسبة ، ولم أتساءل قبل ذلك عن الغاية التي كانت تراد منها تلك المودّة ، فقط كنت أتصور أنّها محبّة مجرّدة ، خالية من المقاصد الحقيقيّة المراد تحقيقها منها. بل لعل المتداول والمعمول به بين

_________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) المعجم الكبير ، الطبراني ١١ : ٣٥١.

١٢١

بني عقيدتي ، ممّن تسمّوا بأهل السنّة والجماعة ، هو تقديم الخلفاء الثلاثة على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وتقديم عائشة على فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، رغم النصوص الصريحة التي تأبى عليهم ذلك الحيف والإجحاف بمن اصطفاهم الله سبحانه وتعالى ، وخصّهم منه بفضل لم يتسنّى لغيرهم ، مضافاً إلى سيرتيهما العطرة بالأعمال الجليلة والمثل النبيلة ، والقيم المجسّدة للإسلام في أبهى مظاهره ، وبلغ الأمر في هذا الإطار إلى أنْ أصبح عنوان التسنّن حبَّ الشيخين وتقديمهما على غيرهما ، وعنوان التشيّع حبّ عليّ عليه‌السلام وتقديمه على غيره.

بدأت التفاتتي إلى مسألة مودّة أهل البيت عليهم‌السلام ، عندما عثرت على رواية أخرجها الترمذي تقدّمُ الخليفة الأوّل وابنته على الصفوة الطاهرة ، تقول : عن أنس قال : « قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك ؟ قال : عائشة قيل : من الرجال ؟ قال : أبوها » (١).

لم أستسغ الحديث في نفسي على الرغم من مذهبي الذي كان أحد أبرز سماته ذلك الاعتقاد في المفاضلة ، ولم أتلقّاه كعادتي عندما كنت أتقبل حديثاً مرويّاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانبنى بيني وبينه حائل يتمثّل في مكانة عليّ وفاطمة الزهراء عليها‌السلام من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والى جانب هذه الرواية أخرج الترمذي أيضا رواية أخرى مناقضة للرواية الأولى تقول : عن ابن بريدة عن أبيه قال : « كان أحب النساء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة ومن الرجال علي » (٢).

فاستغربت من إقدام حفّاظ الحديث عند الخطّ السنّي على نقل المتناقضات في كتبهم ، ولم أفهم السبب الذي دفع بهم إلى سلوك ذلك الأسلوب ، الذي لا يتيح

_________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٦٥.

(٢) المصدر نفسه ٥ : ٣٦٠.

١٢٢

للبسطاء إمكانيّة التمييز بين الحقّ والباطل ، والصحيح والمكذوب.

فقد كان من اليسير على الترمذي مثلاً أنْ يعترف بأنّ أهل البيت عليهم‌السلام هم معدن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يجب أن يقاس بهم أحد ، لأنّ الله تعالى اصطفاهم على العالمين ، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً كما صرّحت بذلك الآية الكريمة : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) لكنّ الرجل كان متّبعاً لمنهج المناوئين لأهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنساقاً وراء تيار المتنكرين لمكانتهم في الأمّة.

فمقايسة الخليفة الأوّل بعليّ عليه‌السلام بالنسبة لي هي من باب محاكاة التبر بالتراب ، وتقديم ابنته على أساس أنّها زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووضعها في مقام سابق لفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين عليها‌السلام جرأة على الله ورسوله لا يقدم عليها غير من عميت بصيرته ، وهان عليه دينه.

ولم أكن أعرف أنّ بتفضيلي لعليّ وفاطمة عليهما‌السلام على غيرهما ، أنّني نسبت نفسي إلى التشيّع لأهل البيت عليهم‌السلام دون أن أشعر ، لأنّ المسلم المتسنّن عرفاً واصطلاحاً لا يقدّم غير الخليفة الأول وابنته ، وهكذا كانوا يُميّزون بين من هو تابع لهذا الخطّ أو ذاك في علم الرجال ، وما يسمى أيضاً بعلم الجرح والتعديل ، وكم من حافظ أو راو للحديث ردّت روايته ، وطعن في حفظه ; لمجرّد تقديمه لعليّ عليه‌السلام على غيره ممّن عاصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكم من راو أو حافظ وُثق وعدّل لمجرّد تقديمه للخليفة الأوّل والثاني ، دونما التفات إلى مسألة مودّة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي لا تجيز تقديم المفضول على الفاضل ، وترى أنّ مجرّد المقايسة بين من اصطفاه المولى سبحانه وتعالى ورفع ذكره مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو تجاهل لإرادة الباري تعالى في تفضيله وتقديمه واختياره.

_________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

١٢٣

لقد كانت بداية اكتشافي لحقيقة مودّة أهل البيت عليهم‌السلام عند الشيعة ، الذين كنت معتقداً فيما مضى أنّهم فرقة خارجة عن الإسلام ، بحسب ما حصلته من الخطّ السنّي الذي كنت من بين أفراده ، عندما شاهدت صدفة محاضرة إسلاميّة لأحد علماء الشيعة في إحدى الفضائيات ، لقد كانت محاضرة قيّمة وقفت من خلالها على القيمة العلمية التي يختزنها ذلك العالم الشيعي ، إلّا أنّني سرعان ما اصطدمت بخاتمة المحاضرة التي أثار فيها المحاضر فاجعة كربلاء ، فأبكى الناس من حوله ، وأبكاني معهم بكاءً شديداً لم أبك مثله من قبل ; لأنّني كنت مغيّباً عن تفاصيل واقعة « الطف » ، شأني في ذلك شأنُ بقيّة المسلمين المخالفين لخطّ أهل البيت عليهم‌السلام ، وكان تأثري بما سمعته من سرد لبعض لقطات ومشاهد الواقعة كبيراً ، فقررت بعد ذلك أنْ أبحث عن حقيقة الأمر بخصوص مودّة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أيّها الحقيقية ؟ ما يدّعيه هذا الطرف ؟ أو ما يتشبّث به الطرف الآخر ؟ وبناءً على ذلك أتّخذ قراري في اتّباع الأولى والأقرب إلى الله ورسوله في الطاعة.

وجدت في عدد من التفاسير التي اعتمد أصحابها المدرسة السنيّة مذهباً ومنهجاً ، نصوصاً تؤكد على ثبوت نزول الآية في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وكان الإجماع على تلك الفريضة ممّا لم يختلف فيه اثنان.

وزاد في حيرتي أنْ عثرت يوماً في إحدى المكتبات على كتاب « مقاتل الطالبيين » لأبي الفرج الأصفهاني ، جمع فيه مؤلفه أسماء المشهورين من آل أبي طالب ممّن قتل في العهدين الأموي والعباسي ، بسبب انتمائه الفكري والعقائدي إلى أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهالني وأنا أتصفح الكتاب ذلك العدد من الشهداء الذين قضوا دفاعاً عن الإسلام وليس دفاعاً عن شرفهم وانتسابهم ، فقد كان قاتلوهم يرون فيهم خطراً محدقاً بعروشهم ، بسبب أحقيّتهم في قيادة الأمّة الإسلاميّة ،

١٢٤

وتساءلت في نفسي : أهذه هي مودّة القربى التي حثّ عليها المولى سبحانه وتعالى ، وجعلها فريضة من الفرائض التي لا مفرّ للمسلم من التقيد بها ؟ أهكذا أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأهل بيته ، وحثّ المسلمين على أدائها ؟ وما السبب الذي دعا بأغلب الأمة إلى التنكّر لتلك المودّة ، بل وعكسها تماماً لتصبح تجاهلاً ثمّ حرباً لا هوادة فيها ؟ ولماذا مورس ضدّ هؤلاء الأطهار كلّ ذلك العنف والإرهاب ، من قتل وتعذيب وسجن ؟

بقيت الإجابة عالقة تحتاج إلى مزيد من البحث والتمحيص ، وبقيت أستجلي أثر الحقيقة من غبار الوهم وحبائل الزيف.

في أحد الأيّام التقيت واحداً من المسلمين الشيعة الذين كنت أعرف عدداً منهم ، ولم تسمح لي فرصة الاقتراب منهم ومحادثتهم ، لعدة أسباب لعل أهمها الشائعات التي تجند أعداؤهم لبثّها في المجتمع ، من أجل إقصائهم ، وحصر حججهم وأفكارهم في أضيق الأطر ، بحيث لا يمكن لها أنْ تجد آذانا صاغية وسط المجتمع.

بدأتُ حديثي معه عندما وجدته في مجلس ختم قرآن لأحد معارفي ، فانتهزت الفرصة لأعرف منه حقيقة مودّة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الشيعة.

فقلت له : وما تقول في مغالاة الشيعة في حبّ أهل البيت رضي الله عنهم ، إلى الإفراط في ذلك والبكاء عليهم ، وإظهار الحزن والجزع على مصائبهم ، إلى درجة إسالة الدماء وتعريض الأنفس إلى الهلاك ؟

فقال لي : إنّ فريضة حبّ أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مما اتفق جميع المسلمين على وجوبها ، لكنهم تباينوا في العمل بها وتطبيقها ، وجوب مودّة أهل البيت عليهم‌السلام كما دلت عليه الآية الكريمة : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) لا

_________________

(١) الشورى : ٢٣.

١٢٥

يختلف فيها اثنان ، والآية المحكمة التي فرضت هذه الشعيرة واضحة الدلالة على مقصدها ، وفوق ذلك جاءت الأحاديث مفسرة لها ، وقد نقلها القاصي والداني ، واتّفق الجميع إلّا من شذّ ، والشاذّ يحفظ ولا يقاس عليه ، في أنّ الذين وجبت مودّتهم هم : عليّ وفاطمة والحسن والحسين والخلف من ذريتهم عليهم‌السلام. وقد أجهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه ، في بيان وتوضيح معاني المودّة التي أوجبها الله تعالى على الأمّة الإسلاميّة ، حتّى لم يعد هناك مجال للتأويل والريبة ، بخصوص هذه الشعيرة العظيمة ، إلّا أنّ الغاصبين لنظام الحكم في الإسلام ، ومن تبعهم على ظلمهم ، سعوا إلى تجاهل ذلك الواجب ، فأداروا ظهورهم لأهل البيت عليهم‌السلام ، وعملوا جهدهم على إبطال آثارهم وإلغاء مآثرهم ، في مسعى من الظالمين لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لمحو ذكرهم ، وتسويتهم بعامّة الناس ، حتّى لا يبقى هناك مجال للحديث عن الاصطفاء الذي خصّه الله تعالى نخبة خلقه. من خلال ترك هذه الشعيرة وإهمالها من جهة ، وادّعاء المهملين لها بأنّهم يحبّون أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويُجلّونهم ويُكبرونهم على غير حقيقة ولا تطبيق يظهر من خلاله التزام المحبّ بحبيبه ، ذلك لأنّ المحبّة تستوجب الاتّباع وبذل الودّ للمحبوب لقوله تعالى : ( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (١) ودعوى المحبّة بدون اتّباع عارية من الصحة ، ولا علاقة لها بمفهوم المحبّة الذي يفيد دائماً الاتّباع والموالاة والاقتداء والتفضيل والتقديم.

وإذا سألت الذين يدّعون محبّة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قولاً بلا عمل ، أهكذا تكون محبّة الطاهرين من صفوة الله تعالى ؟ أجابوك باستنكار المقصّر والجاهل وكيف ترون الحب إذاً ؟

وبما أنّ المودّة التي وجبت على كلّ مكلّف منذ نزول الآية إلى أنْ يرث الله

_________________

(١) آل عمران : ٣١.

١٢٦

سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها ، فعلى كل مسلم إزاء ذلك التكليف ، أن يبرهن على ذلك بإحياء تلك المودّة وإظهارها قربة لله تعالى ، وسعياً لنيل رضاه ، وإظهار الحزن في أحزان أهل البيت عليهم‌السلام مودّة لهم ، وإظهار الفرح في أفراحهم مودّة لهم أيضا ، والبكاء من أرقى تعابير الحزن في المصيبة ، كما أنّه من أرفع درجات الخشوع في العبادة ، فهو إحساس قلبي وجداني لا يستطيع تحصيله غير الذي صلحت سريرته وصفا قلبه ، وسمت نفسه ، وهو مستعص على القاسية قلوبهم ، ومصيبة الأمّة الإسلاميّة ما تزال تلقي بظلالها على عموم الأمة.

في ماضي الأيام كنت متصوراً أنّ ما يقال عن الشيعة من نسب باطلة صحيحٌ ، خصوصاً وأسباب التواصل بين الطائفتين شبه معدوم ، ولكن وبعد أن توفرت أسباب المعرفة من كتب وفضائيات وانترنيت ، بدأ اللبس يرتفع عنّي.

فهمت أنّ محبّة أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تتطلّب وضع الصفوة الطاهرة موضعها في الأمّة من تفضيل وتقديم وتبجيل ، فلا يكون هناك أحد أفضل من الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ومحبّة أهل البيت عليهم‌السلام واجبة على جميع المسلمين ، ويراد منها أن نضع هؤلاء الذين اصطفاهم الله تعالى موضعهم من قيادة الأمّة ، وليس مجرّد أنْ نكنّ لهم حبّاً لا معنى له على صعيد الواقع. ذلك الحبّ الذي تراه أنت من خلال قناعاتك مفرط أو مبالغ فيه ، ليس إلّا امتثالاً صحيحاً لأمر إلهي نطق به القرآن وصدع به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يزد القائمون به عليه شيئا من عندهم.

فقلت له : لكن ألا تعتبر هذه المراسم التي يحييها الشيعة لأهل البيت عليهم‌السلام ، وتلك المقامات التي شيّدوها على أضرحة أئمتهم نوعاً من الإفراط والتهويل ؟

فقال لي : قد تشاطرني الرأي عندما أقول لك أن للحبّ والمودّة مقدّمات ومقامات يتوزّع بينها الناس ، وتكون ذات أهميّة أكبر لو كانت تلك المودّة نابعة

١٢٧

من أمر الهي ، كالذي نحن بصدده ، وقد تشبّث الشيعة بهذه الشعيرة ، وجعلوها عنواناً لنهجهم ، وسمة ظاهرة من سمات تدينهم ، ليقينهم بأنّ مودّة أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هي البراءة الفعلية من غضب الله سبحانه وتعالى ، والخلاص الحقيقي من ناره وعذابه ; لذلك اهتمّ الشيعة بإحياء مراسم أهل البيت عليهم‌السلام في كلّ سنة ، ولم يفتر ساعدهم ، ولا ضعفت همّتهم ، عن إحياء تلك المناسبات العظيمة ، وتشييد المقامات والإنفاق عليها بكلّ سخاء ، إيماناً منهم بأنّها من أيام الله سبحانه وتعالى ، ومن شعائره ، ومن يعظم أيّامه وشعائره فقد نال أجراً عظيماً.

فقلت له : ألا ترى أنّ فريضة مودّة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يراد منها محبّة أهل البيت عليهم‌السلام وتقديرهم فقط ، دون ما ذهب إليه الشيعة من تقديم وتفضيل واتّباع وموالاة ؟

فقال لي : على عكس ما تعتقده ، فقد كانت الغاية من تشريع مودّة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منحصرة في كونهم قدوة الأمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتجسيد الحيّ لكتاب الله وأحكامه ، فالمولى سبحانه وتعالى عندما قال : ( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (١). قد جعل محبّته متمثّلة في اتّباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخصوصة به ، فلا يصح حبّ المولى دون اتّباع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كذلك محبّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يمكن أن تتحقق إلّا بإتباع أهل بيته الأئمة الهداة من بعده عليهم‌السلام.

ثمّ ألم تعلم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد فرح بإسلام عليّ عليه‌السلام كما فرح بولادة الزهراء عليها‌السلام ، وما تبع ذلك من فرحه بولادة الحسن والحسين وزينب عليهم‌السلام ، وانتصارات علي عليه‌السلام التي هي انتصارات للدين الخاتم ، فكانت كلّ أفراحه تلك سنّة وجب علينا إحياءها لأنّ النبيّ منطلقها ومؤسسها ، والشيعة يتعبدون بتلك الأفراح انطلاقاً من تأسيس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لها.

_________________

(١) آل عمران : ٣١.

١٢٨

ولا أراك تجهل حزن النبي الكبير على موت خديجة سيّدة النساء عليها‌السلام ، وموت عمّه أبي طالب عليه‌السلام ، وموت ابنه إبراهيم عليه‌السلام ، وموت ربيبته رقيّة رضي الله عنها ، وكان حزنه أكبر على ولده الحسين عليه‌السلام عندما أخبره جبريل عليه‌السلام بمقتله ، وحكى له ما سيحصل له من أمّته ، والشيعة يظهرون الحزن على مصائب أهل البيت عليهم‌السلام ويتعبدون بإقامتها تأسّياً بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يبتدعوا شيئاً من عندهم حتّى يتّهمهم بقيّة المسلمين بالتطرّف والخروج على الدين ، بل إنّني أرى عدم الفرح بأفراح أهل البيت عليهم‌السلام ، وعدم الحزن بأحزانهم هو التطرّف والتنكّر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وللدين في صوره الحقيقية.

قلت له : وما مشروعيّة البناء ، وقد وجد عندنا أنّ بني إسرائيل قد لعنوا على لسان نبيّهم لأنّهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ؟

فقال لي : الرواية التي ذكرتها لا أساس لها من الصحّة ; لأنّها خلاف الواقع والعرف ، الذي درج عليه الناس منذ آدم ، والبناء على قبور الأنبياء عليهم‌السلام يراد به حفظ الضريح ، وحصر مكانه ; لأنّه يحتوي على صفوة الله تعالى وخاصّته من خلقه ، فزيارته واجبة ، والصلاة فيه والدعاء عنده مدعاة لقبول الأعمال ، فمسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة المنورة ، وضريحه ومثواه ، قد اتخذه الناس مقصداً وشدّوا إليه الرحال ، ليجدّدوا فيه العهد مع نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويتّخذوا منه سبباً ووسيلة للتقرّب منه ومن ربّه ، أمر قد درج عليه المسلمون منذ غابر الأزمنة ، ولم يشذّ عن تلك السنّة غير الضالين من أتباع الوهابيّة ، والبيت الحرام الذي أمر الله سبحانه وتعالى سيدنا إبراهيم ببنائه ; ليكون قياما للناس ، ليس بيتا لله على وجه الحقيقة ، بل قَصد به الله سبحانه وتعالى رمزيّة البيت لا حقيقة البناء ، ليكون للناس سبباً من أسباب المغفرة والتوبة والإنابة. وقصة أصحاب الكهف عليهم‌السلام خير دليل على ما يقوله الشيعة ، ويحتجّون به على مشروعيّة البناء على قبور الصالحين ; لتكون

١٢٩

ملاذاً إلى الله تعالى ، ومقامات طاهرة يقصدونها تبرّكاً وتحبّباً إليه ، قال تعالى : ( إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) (١).

ولو كان هنالك مانع أو مخالفة للتكليف الإلهي في بناء البنيان واتّخاذ المساجد على قبور الصالحين لنهى الله عنه أولياءه ، وحسم الأمر فيه إلّا أنّ الآية جاءت مجوّزة لذلك العمل غير معترضة عليه.

لقد كانت حجّة المسلمين الشيعة قويّة في جميع المجالات ، مدعومة بالبراهين العقليّة والنقلية ، فلم يتعبّدوا في يوم من الأيام تبعاً لأئمتهم بالشكّ والظنّ ، مثلما وقع لبقيّة الفرق ، التي تاهت وانحرفت عن الجادّة في عدد من الأحكام ، وانغمست في تطبيقها بالعاطفة والوراثة ، لا بالعقل والدليل.

أحمد الله تعالى أنْ يسّر لي معرفة أوليائه ، وجنّبني سبل الضلال ، وجعلني ممّن اعتصم بحبله المتين ، وتمسّك بعروته الوثقى التي لا انفصام لها ، وهي موالاة محمّد وآله الكرام البررة ، قادة الأمّة بعد النبيّ بلا فصل ، وسفن نجاتها من ظلمات الغيّ والجهل ، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين.

_________________

(١) الكهف : ٢١.

١٣٠

الحلقة الثالثة عشر

شيّعتني الحجج التي في كتب السنّة المعتمدة

كان حسن قبل أنْ يعتنق خطّ الشيعة الإمامية الاثني عشريّة مثلي ومثل بقيّة الإخوة المؤمنين مالكيّاً أشعريّاً ، لم يكن معتقداً إسلاماً آخر صحيحاً غير الذي كان يعتنقه ، وقد عمّقت قناعاته ما كان يتلقّاه من معلومات عن بقيّة الفرق والمذاهب خلال الدرس في مادة التربية الإسلاميّة ، والتي كتبت بأقلام جرى فيها حبر التعصّب الأعمى ، وتلوّنت بشتّى الافتراءات والأكاذيب التي لفّقت من أجل إطفاء نور الإسلام الحقّ ، مضافاً إلى التربية التي تلقّاها على ذلك الأساس ، والتي لم تسمح له بالالتفات إلى بقيّة الاتجاهات الإسلاميّة والتمييز بينها.

في إحدى التظاهرات التي كانت تقام هنا وهناك على الساحة التونسيّة ، بمناسبة يوم الأرض ، واليوم العالمي لحقوق الإنسان ، وغيرها من المناسبات التي يتجنّد المثقفون التونسيون لإحيائها داخل أسوار الجامعة ، من أجل الإبقاء على نفس المبادىء ، داخل وجدان الطلائع المؤمنة بها ، التقينا على مائدة الحوار الإسلاميّ ، إسلاميّاً ، باحتشام ومداراة شديدين ، ولولا علاقة الجيرة التي كانت تربطنا ببعض ، لما أمكن لنا أن نلتقي في ذلك الحوار الذي وقف في وجهه قياديّو النهضة ، وشدّدوا على منع عناصرهم من الانخراط فيه ، أو حتّى الاقتراب منه بأيّ شكل من الأشكال.

أتذكر أنّه في تلك الفترة التي بدأت الدعوة إلى التشيّع تظهر على الساحة ، وفي أماكن معدودة ، ومن طرف عناصر لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ، بدأت قيادات النهضة في ترويج كتب إحسان إلهي ظهير ، التي كان يراد بها تكفير الشيعة ،

١٣١

وإخراجهم عن الإسلام ، وتنفير المسلمين منهم ، في محاولة لنسف أسس الدعوة إلى فكرهم ، وغلق الطرق المؤدية إليهم أمام عناصرها الإسلاميّة ، وذلك لمّا رأوا أنّ أعناق بعض منتسبيها بدأت أياديها تمتدّ إلى كلّ ظاهرة إسلاميّة ، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

بحكم تواجدي داخل أسوار الجامعة ، وفي كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة ، حضرت في أحد الأيّام مناقشة بين زميلين ، أحدهما شيعيّ وكان داعية إلى التشيّع ، والآخر سنيّ من خطّ النهضة ، وبقدر ما كان النقاش محتدما وحامياً بين الطرفين ، بقدر ما كان غير متكافىء ، وقفت فيه على حقيقة قلبت مجرى اعتقادي رأساً على عقب.

في البداية كنت مأخوذاً بالتهم التي ساقها السنيّ النهضوي ، ليضع التشيّع بما اشتمل عليه وأهله في موضع المتجنّي على الإسلام ، لكنّني وبمرور الوقت ، بدأت أشعر أنّ هناك منطقاً آخر وحجّة تغازلان عقلي ، وتدفعانه نحو اكتشاف الحقيقة والوقوف عليها.

لم أكن أعلم أنّ الشيعيّ كان من حركة النهضة ، ولما التقى بأحد الدعاة الشيعة اقتنع بالطرح الذي قُدِّم له ، واعتنق الفكر الشيعيّ الاثني عشري ، وطبعاً لم يكن ذلك ممكناً من لقاء واحد ، أو من خلال بحث واحد.

كانت أولى مقالات الزميل السنّي متعلقة بتحريف القرآن ، فقال : إنّ من أقوى البراهين التي استُدلّ بها على بطلان مذهب الشيعة هو قولُهم بتحريف القرآن ، وجلّ علمائهم يدينون بذلك ، وكتبهم ملآى بالروايات التي تقرّ بالتحريف.

فقال الزميل الشيعي : أظنّك قد استقيت ذلك من كتاب إحسان إلهي ظهير « الشيعة والقرآن » ، ومن بعض الأقلام المشبوهة التي لا يعرف لها أصل من فصل ، لأنّني لم أعثر على مفسّر واحد من مفسري الشيعة يعتقد بتحريف القرآن ، ويدين

١٣٢

به ، ناهيك أنّه خلاف قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١) والقرآن الذي تعرفه وتتلوه وتصلي بسوره وآياته ، ويباع في المكتبات ، ويلقن في الكتاتيب ، هو نفسه القرآن الذي يدين به الشيعة منذ أن وجدوا ، ولم يخرج على الناس مفسر واحد منهم بغير ما هو متعارف عند جميع المسلمين ، ولو كان الأمر كما تدّعي ، لانتهى أمر الشيعة بهذا الادّعاء المنحرف.

قال السنّي : إحسان إلهي ظهير تحدّث عن أكبر حُفّاظ الشيعة ، ورأس رواياتهم الشيخ الكليني ، الذي أخرج عدداً من روايات التحريف.

قال الشيعيّ : إنّ الشيخ الكلينيّ أخرج تلك الروايات لسبب واحد ، هو الأمانة العلمية التي حتّمت عليه نقل تلك الروايات ، لكنّه من الجهة الاعتقاديّة لم يكن مطمئنا لها ، فأفرد لها باب في كتابه الكافي سماه باب النوادر ، وقد درج الشيخ الجليل على تخصيص باب للنوادر في كلّ أبواب الفقه ، وهي خاصيّة تميّز بها عن غيره من علماء ( السنّة ) كالبخاري ومسلم وغيرهما ممّن أخرج روايات التحريف في القرآن ، وأدرجوها في أبواب الفقه دون حيّز ولا فصل ، والاعتقاد بالزيادة أو النقيصة في القرآن اعتقاد واحد ، وأزيدك أكثر ، عندما نرى في عصرنا الحاضر أنّ الله تعالى دافع عن الشيعة في مسألة تحريف القرآن ، وكيف لا يفعل وهو الذي يقول : ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) (٢) فقد ظهر من أبناء الشيعة هذه السنوات أطفال صغار السنّ حفظوا القرآن حفظاً عجيباً لم يأت الزمان بمثله ، فمن إيران الإسلاميّة إلى العراق ، خرج علينا براعم في عمر الزهور ذكوراً وإناثاً بعجيب حفظ ، أذهل العقول وأثار الغرابة ، وألقم الذين نسبوا إلى الشيعة تحريف القرآن حجرا لو كانوا يعقلون ، فإذا كان الشيعة يعتقدون بتحريف

_________________

(١) الحجر : ٩.

(٢) الحج : ٣٨.

١٣٣

القرآن فلماذا يتعهدونه ويحفظونه لناشئتهم ؟ ولماذا يزيدهم الله تعالى من فضل رحمته بحفظ لم يعهده أحد من الناس ؟

قال السنّي : إذاً ، فمن أين جاءت تهمة التحريف التي رُمي بها الشيعة ؟

قال الشيعي : إنّ نسبة التحريف التي جاء بها أهل الافتراء والكذب على الشيعة ، لا أصل لها في حقيقة الأمر ، كلّ ما يمكنني أنْ أفيدك به في هذا المجال ، هي كلمة قالها الإمام الباقر عن المخالفين لخطّ الإمامة بخصوص القرآن : ( وأقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ) (١). بمعنى أنّ التحريف لم يقع في لفظ القرآن ، وإنّما وقع في معانيه وتأويله وتفسيره ، والشيعة الاماميّة الاثني عشريّة مُبرّؤون من تحريف القرآن لفظاً ومعنى ; لأنّ ما عنيه خامس أئمة أهل البيت عليهم‌السلام غير متعلّق بشيعته ، باعتبار أنّهم ملتزمون بأئمتهم ، علماً وعملاً ، وأمراً ونهيا ، طيلة القرون الثلاثة التي وجدوا فيها ، بينما تفرّقت بغيرهم السبل ، واتّبعوا أثر كلّ ناعق ، لذلك أجزم بأنّ مصدر التهمة جاء من أنظمة الحكم التي كانت تعتبر التشيع لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خطراً يُهدّد كيانها ، وينذر بذهاب سلطانها ، فلفّقت لهم عدداً من التهم ، وأحاطتهم بهالة من الإشاعات الكاذبة ، من اجل الحد من إشعاع ذلك البيت الطاهر وتأثر أنصاره في المجتمعات التي يعيشون بينها.

قال السنّي : كيف تريدني أنْ اقتنع برؤيتك التي تدّعي أنّها إسلاميّة ، وكتبك لا أعرف عنها شيئاً ، وهي غير معتمدة عندنا نحنُ أهل السنّة ؟

قال الشيعي : أنا لا أريد أنْ ألزمك بما في كتبي فذلك يحتاج إلى مجال وجهد ووقت آخر ، لكنّني ألزمك بما ألزمت به نفسك من كتب نعتموها بالصحاح ، وكتب قدّرتم جهود أصحابها ، فصدح بها أئمة المنابر ، وأخذ منها الباحثون ومؤلفوا الإسلام في الأصول والفروع ، وغياب كتب الشيعة عن الناس لم يكن

_________________

(١) الكافي ، الكليني ٨ : ٥٣.

١٣٤

بسبب أئمة الشيعة ولا أتباعهم ، وإنّما كان السبب فيه الأنظمة التي حكمت رقاب المسلمين بالقهر والحديد والنار ، فلم يُزكّوا غير مواليهم وأتباع سلطانهم ، بينما عُدّ الشيعة من المعارضة ، وطلب رؤساؤهم للقتل أو السجن بسبب ذلك.

فلم أتمالك عندما وصل الحديث عند هذا القول من التدخل فقلت : وأي حجّة أعظم من أنْ تلزمنا بما نحن ملزمون به ، إنّها قمّة الاستدلال ، وغاية إقامة الحجّة ، وهل ترى غير ذلك يا زميلنا العزيز ؟

قال السنّي : لا أجد ما أقوله لك بعد الذي قلت ، فهات ما عندك من براهين.

قال الشيعيّ : لسوف أقتصر في البداية على الأحاديث النبوية ; نظراً لكونها المفسّر الأساس للقرآن ، وسأختتم بمتعلقها من الآيات زيادة في إظهار الدليل :

أخرج حفاظ خطّك عدداً من الأحاديث ، التي يستشف منها أحقيّةُ عليّ عليه‌السلام في قيادة الأمّة الإسلامية ، منها ما فيه إفادة مباشرة على ذلك ، ومنها ما هو دون ذلك ، لكنّه يتضافر ويقوي ويعاضد جانب الإفادة الأولى.

وتعدّد الأحاديث ، جاء ليكشف عن حرص شديد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من أجل بيان مقام أهل بيته عليهم‌السلام ، كمعتصم من بعده للمسلمين ، وقادة يسلكون بهم سبل السلام. فقد أخرج البخاري ومسلم حديث المنزلة ، الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » (١).

وحديث المنزلة هذا من أحد الحجج على أحقيّة عليّ عليه‌السلام في قيادة الأمّة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نظراً لأنّ القرآن الكريم قد احتوى على عناصره من خلال سياق الآيات المتعلقة بهارون وموسى عليهما‌السلام ، فقد جاء في سورة طه قوله تعالى : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ

_________________

(١) انظر حديث المنزلة في صحيح البخاري ٤ : ٢٠٨ ، ٥ : ٢٩ ، صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ ، وغيرها من المصادر.

١٣٥

نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ) (١). فلعليّ من خلال هذه الآية : أخوّته من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تمّت بالمؤاخاة في مكّة والمدينة باتّفاق أهل العلم ، ولو كان لغير عليّ عليه‌السلام من القربة والمكانة ما يمكنه أن يكون أخاً للنبيّ أو خليلا كما يحاول ترويجه الأدعياء ، لما صرف عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجهه إلى غيره. ولعليّ عليه‌السلام الوزارة وشدّ الأزر والإشراك في الأمر ، والسيرة شاهدة على ما قدّمه علي عليه‌السلام بالدليل والبرهان وليس بالكذب والبهتان ، وأضغاث الأحلام التي طفحت بها كتب الحديث المسمّاة بالصحاح ، وإذا غاب الأمير حضر الوزير.

وجاء في قوله تعالى : ( قَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (٢).

فهذه الآية تؤكّد خلافة عليّ عليه‌السلام لمنصب الحكم الذي كان يشغله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب الحديث المتقدّم ، لأنّها تؤكّد بأنّ إحدى منازل هارون من موسى هي منزلة الخلافة.

قال الزميل السنّي : لكنّ كبار علماء السنّة قالوا بأنّ خلافة عليّ هي في الأهل وليست في الأمّة ، فالنووي مثلا في شرح صحيح مسلم ، لم يعترف بغير خلافة علي رضي‌الله‌عنه في أهله دون الأمّة ، وبذلك قال من المتأخرين أبو الأعلى المودودي في كتابه الخلافة والملك.

قال الشيعي : لقد بلغ التقليد الأعمى بأهله إلى التعمية على حديث المنزلة بالادّعاء الباطل بأنّ منزلة علي عليه‌السلام التي أشار إليها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هي مخصوصة في أهله فقط دون أمتّه ، سعياً من المحرّفين إلى صرف المسلمين عن حقيقة منزلة عليّ عليه‌السلام ، دون إشارة إلى كون المنزلة المشار إليها قد فصّل القرآن فيها القول

_________________

(١) طه : ٢٩ ـ ٣٥.

(٢) الأعراف : ١٤٢.

١٣٦

بشكل جليّ ، لا يلتبس إلّا على منافق خبيث الولادة ، فوصاية عليّ عليه‌السلام على أهل بيته ، لا تستوجب ذكراً ، ولا إشارة ، ولا تلميحا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّها من تحصيل حاصل ، ولا تحتاج إلى تأكيد أو توثيق ; لأنّها ممّا لا يمكن عقلاً وعرفاً أنْ ينازعه عليها أحد.

إذاً فقوله تعالى : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) دليل على أنّ خلافة هارون كانت في قومه وهم بنو إسرائيل ، فتكون خلافة علي عليه‌السلام في الأمة الإسلامية ، ولا يحتاج بيانها إلى أكثر من إشارة وتلميح.

قلت وقد صدع تفسير الشيعي الثوابت التي كنت أعتقدها بشأن الخلافة ، وهزّ أسسها هزّاً تهيّأت فيه للتداعي والسقوط ، فليس بعد هذا الدليل حجّة يستطيع منصف ردّها : إذاً فمسألة الخلافة قد حسمها حديث المنزلة ، الذي توضّحت أركانه من خلال آيات القرآن التي بيّنت منزلة هارون من موسى عليهما‌السلام ، وظهرت بذلك منازل علي عليه‌السلام من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسوف لن أكون مفرطا في اعترافي بحقيقة أنّ علياً رضي‌الله‌عنه قد ظُلم باغتصاب حقّه في خلافة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونُكبت الأمّة وحرمت من قيادة رشيدة هادية مهديّة اختزلت كلّ قيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجمعت كافّة الخصائص الممكنة لشخص له أهليّة الحلول محلّ خاتم الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله في قيادة الأمّة الإسلاميّة.

فقال الزميل السنّي : لكن كيف يمكن أنْ يجتمع الصحابة كلّهم رضوان الله عليهم على باطل التنكّر لعليّ عليه‌السلام ، وهم الذين قال عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (١) ، كما أنّه قال : « إنّ الله لا يجمع أُمّتي ـ أو قال أمّة محمّد ـ على ضلالة ... » (٢).

_________________

(١) انظر الحديث وتخريجاته في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ١ : ١٤٤ ، حديث رقم (٥٨).

(٢) سنن الترمذي ٣ : ٣١٥.

١٣٧

قال الشيعي : لو تتبّعنا الحقبة التاريخيّة التي سبقت وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما تبعها من أحداث كحادثة السقيفة ، فإنّنا نجد أنّ الروايات في معظمها قد دوّنت بأسانيد تضمنت أشخاصاً قد طعن في صدقيتهم ، فكذّب علماء الجرح من كذّبوا منهم وضعّفوا من ضعّفوا ، ومع ذلك مرّت رواياتهم التي كانت في معظمها بعيدة عن حقيقة ما وقع في تلك الفترة ، واعتمدها أكثر رواة التاريخ دون بحث وتمحيص ، ولعل محمّد بن جرير الطبري الذي يُعتبر من أقدم مصادرها ، قد دوّنها في تاريخه ، والفاصل الزمني بينه وبين تلك الأحداث يناهز الثلاثة قرون دون تحقيق ، ولو بذل جهداً بسيطا في ذلك المجال لردّها كلّها. وسيأتيك أنّ حديث النجوم باطل وموضوع.

أمّا قولك بأنّ الصحابة لا يجتمعون على باطل ، فإنّهم لم يجتمعوا كلّهم على موالاة الخليفة الأوّل ; لأنّ بيعته قد تمّت في غياب كافّة بني هاشم الذين كانوا منشغلين في تجهيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مضافاً إلى ذلك غياب عدد من المهاجرين كالزبير وطلحة وأبي ذر وعمار وآخرون كالمقداد وسلمان.

أمّا ما نسبته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من حديث بأنّ أصحابه كالنجوم بأيّهم نقتدي نهتدي ، فالحديث مردود من طرف عدد من أرباب علم الحديث عند مذاهبكم ، كابن حزم وابن حنبل وابن عبد البر ، كما حكم الألباني بوضعه (١) ، وفي حقيقة الأمر ، فإنّ الحديث المزعوم لا يستقيم مع القرآن وواقع الصحابة أنفسهم ; لأنّهم كانوا طبقات متفاوتة في التديّن والتقوى ، فهنالك الصحابي المؤمن ، والذي في قلبه مرض ، والمنافق الذي أظهر الولاء وأبطن العداء ، وقد جاء في عدد من الآيات ما يُفنّد عدالتهم جميعاً لاختلافهم مع بعضهم ، وافتراقهم عن بعضهم ، ومحاربتهم بعضهم بعضاً ، ولم تتضمن آية من القرآن ما يفيد عصمتهم حتّى يكون

_________________

(١) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ١ : ١٤٤ ـ ١٤٥ ، حديث رقم (٥٨).

١٣٨

اقتداؤنا بأحدهم هداية ومنجاة ، ناهيك أنّ في القرآن آيات جاءت فاضحة لسرائر وخفايا عدد منهم ، وقد بيّن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أحاديث الحوض التي أجمع على إخراجها كبار الحفّاظ ، أنّ عدداً من صحابته سيدخلون النار ، فبطل الاقتداء بهم لانتفاء العصمة وسقوط العدالة عنهم ، ودخول أكثرهم النار ، وسقطت تبعاً لذلك رواية أصحابي كالنجوم ، لعدم ملاءمتها لكلّ ذلك الواقع ، ودخول عدد من الصحابة النار بما اقترفت أيديهم ، ليس أمراً مستحيل الوقوع ; لأنّ الصحابة ليسوا شركاء في نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا جاء في القرآن والسنة النبوية المطهرة ما يفيد براءتهم ونجاتهم من النار يوم القيامة ، هم أناس مكلّفون مثلنا ، جرى عليهم من الأحكام والقضاء والقدر ما جري ويجري على كلّ الأجيال الإسلاميّة ، وكلّ فضل حصّله أحد الصحابة أو اكتسبه فلنفسه وليس لأحد ، رضي الله تعالى في كتابه عن صلحائهم ، ولعن وتوعّد وفضح طلحاءهم ومرضى القلوب منهم.

ثمّ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بيّن مرجعيّة الأُمّة في حالة الاختلاف في مواطن عديدة منها ما قاله لعمّار : « يا عمار بن ياسر رأيت عليّاً قد سلك وادياً ، وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى » (١). فتبيّن أنّ حجّة اجتماع الأمّة من دون علي عليه‌السلام لا تدلّ على أنّ الحقّ مع الأمّة ، بينما يدلّ شخص عليّ عليه‌السلام ، ومواقف عليّ عليه‌السلام ، أنّه مع الحق دائماً وأبداً ، ولا أدلُّ على ما أقول من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « عليّ مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة » (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : « علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (٣).

_________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ : ١٨٨.

(٢) المصدر نفسه ١٤ : ٣٢٣ ، تاريخ ابن عساكر ٤٢ : ٤٤٩.

(٣) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٤.

١٣٩

قال السنّي : فلماذا وقع تقديم الصحابة عند أهل السنّة وتفضيلهم بهذا الشكل ؟

قال الشيعي : إنّ الاعتقاد بتفضيل الخلفاء الأوائل على أهل البيت عليهم‌السلام ، لم تكن له صلة بعهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تظهر محاولة التقديم إلّا في عهد طلقاء بني أميّة ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان وحزبه ، سياسة زرع الباطل ومحاولة إحلاله محل الحقيقة من طرفه وطرف عصابته التي أسّست لفتنة كبرى لا نزال نعاني من آثارها الخطيرة إلى اليوم ، وجاء بنو أميّة من بعده فامضوا خطّته ، وعملوا بمقتضاها ما ناهز الثلاثة أجيال ، فنشأ عليها الصغير وهرم الكبير ، واستقرّت بعد ذلك في عقول الناس ، ومحصّلات أفكارهم ، على أنّها الدين الذي لا تشوبه شائبة ، والعقيدة التي لا يعتريها شك ، وذلك لتثبيت الانحراف عن منهج الإمامة الإلهي ، وإيهام الناس بأنّ تفضيل الصحابة كان على عهد النبيّ مطابقاً لما أفرزه ترتيب الحكومة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والروايات التي أخرجها البخاري وغيره عن ابن عمر مثلا في تقديم الخلفاء الثلاثة وتساوي الناس بعدهما ، وهمٌ لا يعكس واقع الأمر ; لأنّ عليّاً عليه‌السلام شخص لا يمكن أنْ يقدّم عليه أحد سوى النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضلاً عن أن يقدم عليه الخلفاء الثلاثة ، أو أن يساوى مع بقيّة الصحابة ، والذي لم يُنقّب عن خبايا صفحات التاريخ الإسلامي بعد التخلّي عن آليّة التفضيل في تقديم الكتب أيضاً يستطيع أن يجد دلائل كثيرة على أنّ التفضيل الذي تمسّك به المنحرفون عن منهج أهل البيت عليهم‌السلام مفتعل ، ووُضع لأغراض سياسية تعلّقت بنظام الحكم.

قال السنّي : فهل هناك نصوص أخرى ترجّح كفّة علي رضي‌الله‌عنه في الخلافة على غيره من الصحابة ؟

قال الشيعي : النصوص التي تعطي لعليّ عليه‌السلام أحقيّة قيادة الأمّة الإسلاميّة بعد النبيّ كثيرة ، وتصبُّ كلّها في ذلك المعنى الذي تجاهله سواد الأمّة ، وانصرف عنه

١٤٠