نعم لقد تشيّعت

محمّد الرصافي المقداد

نعم لقد تشيّعت

المؤلف:

محمّد الرصافي المقداد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قال : « نعم ، سوف أعطيك بعض الكتب التي تستطيع منها أنْ تقف على أحقيّة أئمة أهل البيت الاثني عشر ، الذين نصّ عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أئمّة وقادة وسادة بعده ، وإنّي متأكّد من أنّك إذا درستها بتمعّن ورويّة ، بعيداً عن التعصّب ، فإنّك ستصل إلى قمّة الحقيقة.

وتواعدنا على أن يسلّمني بعض الكتب التي تحوي تراث أهل البيت عليهم‌السلام. وفي الموعد المحدّد جاء صديقي يحمل معه كتاب نهج الحقّ وكشف الصدق للعلّامة الحلّي ، وفدك في التاريخ للشهيد محمّد باقر الصدر ، والصحيفة السجّادية التي تحوي أدعية رابع أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، فسلّم لي تلك الكتب ، ووعدني بالمزيد منها إذا قرأتها.

ولم يدم تصفّحي لتلك الكتب غير أسبوع واحد ، أمكنني من خلاله الوقوف على قوّة الدليل الذي يمتلكه الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة ، عقيدة وشريعة وتاريخاً ، ومدى انسجام كلّ تلك البراهين مع العقل والمنطق ، فأقررت بالحقّ الذي عليه آل طه ، وواليتهم امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى فيهم ، ثمّ التزمت ذلك المنقذ الذي حرّرني من ظلمات الوهم ، ورؤى السراب ، فكان يمدّني في كلّ مرة بما أحتاجه للإجابة على سؤال ، أو لحلّ معضلة ، إلى أنْ تمكنتُ من أنْ أجمع المزيد من الأدلّة في عقلي ، وأشتري عدداً من الكتب التي تلزمني في معرفة ديني الحقّ ، الذي تركه خاتم الأنبياء والمرسلين لأهل بيته ، باعتبارهم ورثة علومه والقادرين أكثر من غيرهم على تحمّل مسؤولية أداء ذلك لمن سيأتي بعد من الناس ، والحمد لله ربّ العالمين.

١٨١

الحلقة الثامنة عشر

مسألة الاصطفاء في القرآن هي التي شيّعتني

زهير ، صديقُ الطفولة وشريك في ذكرياتها اللطيفة والممتعة ، كان ولا يزال متحليّاً بروح مرحة عالية التربية ، حسن المعاشرة ، لطيف الطباع ، قويّ البنية ، لكنّني لم أذكر أنّه استعملها في الاعتداء على أحد مهما كان تطاوله عليه ، لكن ليس معنى ذلك أنّه يقبل أنْ يُظلم ، لقد تعلّم كيف ينال حقّه بفضل تعقله ومنطقه ، جاء إلى الجلسة ملبيّاً الدعوة التي كنت وجهتها إليه ، مدفوعاً بحماسة إظهار الحقّ ، ونصرة أهله الكرام عليهم الصلاة والسلام ، وعند إعطائه الكلمة قال :

نشأت في وسط متسامح لا يعرف التعصّب ، منفتح على الثقافة والعلم ، فلم يكن لديّ إشكال في التواصل مع كافّة الشرائح التي تتعايش معي في المجتمع ، ومن الثانوية إلى الجامعة تعدّدت علاقاتي مع مختلف التوجّهات الفكريّة ، إسلاميّة وعلمانيّة ، مع الحرص الكامل الذي كنت أظهره في الحوار والنقاش مع هؤلاء ، عاملاً بقول الله سبحانه وتعالى : ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١).

أولى ملاحظاتي التي أفضت بي إلى التمسّك بحبل أهل البيت عليهم‌السلام ، تتعلّق بمسألة الاصطفاء التي تحدّث عنها القرآن الكريم ، موضحاً أنّها سنّة إلهيّة مترابطة ومتسلسلة عبر الزمن ، غير موقوفة على أمّة دون أخرى ، ويعتبر الاصطفاء الإلهي في القرآن ، ثابتة من الثوابت التي لا تتغيّر ، وقد مثّلت على مدى مسيرة البشرية في هذه الحياة ، الملاذ الذي يستطيع به الهارب من الانحراف والزيغ ، اتّباع السبيل

_________________

(١) النحل : ١٢٥.

١٨٢

القويم والصراط المستقيم ، الذي انتهجه المصطفون عليهم الصلاة والسلام ، وجعله الله سبحانه وتعالى عنوان التوفيق والفلاح ، وبارك سعي من اتخذه وجهة حاثّاً على العمل بمقتضى ذلك الهدي ، والسير في الحياة طبق ذلك النهج.

ومع وقوفي على هذه الحقيقة التي لا تقبل الشكّ ، ولا تحتمل الطعن ، لاحظت أنّ المجتمع الإسلامي الذي أعيش فيه ، لم يكن يعر هذه المسألة أهميّة تستحقّ الذكر ، بحيث أسقط من عقيدته وثقافته معنى الاصطفاء وغاياته ، فقررت أنْ استقرىء كتاب الله تدبّراً وتفسيراً ، اعتماداً على أمّهات المصادر الإسلاميّة.

وبعودتي إلى كتاب الله وتدبّر آياته ، وجدت أنّ فيه سنناً كونية لا تتبدل مطلقاً ، تتعلق بالوسائط التي جعلها الله سبحانه وتعالى بينه وبين عباده ، والمعبّر عنها بصفوة الخلق ، أولئك الذين تمكّنوا من نيل المكانة والحظوة والرضا من الله سبحانه وتعالى ، بفضل سرعة استجابتهم لأوامره ونواهيه ، وانسجامهم مع أحكامه وعلومه ، وتفوّقهم في عبادته علماً وعملاً ، قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١). فتقبّلهم الخالق سبحانه وتعالى بقبول حسن ، وأنبتهم نباتاً حسناً ، أهلّهم لأنْ يكونوا عناصر تبليغ عنه ، وهداية الناس لصالح الأعمال وعقبى الدار.

استوقفتني الآية التي في سورة آل عمران ، لما تضمنته من مفردات ، فقد كنت متصوّراً قبل ذلك أنّ الاصطفاء مخصوص بالأنبياء والمرسلين والملائكة ، ولم ألتفت إلى أنّ المسألة تتعدّاهم إلى غيرهم من عناصر التبليغ والهداية ، وتذهب بعيداً حتّى تشمل كلّ هذا الكون من حيث اختيار الأنسب والأصلح.

المفردات التي أشرتُ إليها تتعلق بآل الأنبياء عليهم‌السلام الذين ذكرتهم الآية ، وأدرجتهم ضمن قائمة المصطفين ، وتساءلت : هل أنّ آل الأنبياء هم أنفسهم

_________________

(١) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤.

١٨٣

أنبياء ، أم أنّ لهم مقاماً آخر لا يقل أهميّة عن مقام النبوّة ؟

ووجدت الجواب في قوله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (١). بمعنى أنّي جاعلك قدوة وهادياً في الناس ، يتّبعون أثرك ، ويأتمرون بأمرك ، ويقتدون بك ، ويسلكون طريقك. وفرح إبراهيم الخليل عليه‌السلام بالإمامة وسأل الله سبحانه وتعالى أنْ تكون في ذريته ، لكن الله تعالى اشترط فيها شروطاً ، منها : أنّ الظالم لا يمكن أنْ يكون إماماً ، والظلم كما هو معروف ليس محصوراً في عمل ما ، أو خاصّ بصفة ما ، بل يصطلح على كلّ عمل أو صفة خارجة عن الأوامر والنواهي الإلهية ، والتي من بينها الشرك بالله ، قال تعالى : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (٢).

ولمّا تبينت مقام الإمامة ، تساءلت عن دورها في المجتمع وخلافتها لمرحلة النبوّة ؟

وجدت قوله تعالى مفسّراً لذلك السؤال : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (٣). وظهر من الآية أنّ الدور الموكل للإمامة ، والعمل المناط بالأئمّة عليهم‌السلام ، هو هداية الناس بعد الأنبياء ، وإرشادهم إلى العمل الصالح ، والنهج القويم ، وحثّهم على المبادرة إلى عمل كلّ خير من شأنه أنْ يُرغّب الناس في القرب من الله ، فكانوا بهداية الله تعالى أمثلة تحقّق مصداق تشريعاته ، قال تعالى : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (٤). وأمر عباده المؤمنين باتّباعهم ، وكانت إرادته في أن يكون هؤلاء الأخيار حججه على خلقه في الدنيا والشهداء بالحقّ عليهم في الآخرة ، قال

_________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) لقمان : ١٣.

(٣) الأنبياء : ٧٣.

(٤) الأنعام : ٩٠.

١٨٤

تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (١).

والأمّة الوسط هنا : هم أئمّة أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين خصّهم الله تعالى في الدنيا بهداية الناس وإرشادهم ، والسلوك بهم سبيل الرشاد ، وأعطاهم في الآخرة مقام الشهادة على الناس ، وشهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم بما استرعاهم من مقاليد الأمّة.

وفهمت أنّ للوسائط التي جعلها الله تعالى بينه وبين خلقه منازل ومراتب ، تقتضيها كلّ مرحلة من مراحل التبليغ عنه ، فاصطفى من خلقه أنبياء ، وجعل منهم رسلاً ، وحمّلهم شرائعه إلى الناس ، وخصّهم بالإمامة ، وأذن لهم في أنْ يكونوا قدوة ظاهرين ، وحكّاماً بتعاليمه ، وكانت الوصية في نقل ذلك وإمراره بين الصفوة واجباً لم يهمله أحد منهم ، قال تعالى : ( وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (٢). واستلزمت الوصية في أنْ يكون هناك من يقوم مقام الرسل في إمامة الناس وقيادتهم إلى توفيق الطاعة ، وبناء المجتمع الواعي بدوره وتكليفه ، والوصول بالإنسان إلى مرتبة التوحيد الصحيح والعبوديّة الحقّة ، والبلوغ به إلى مستوى خليفة الله في الأرض ، وضمير الهاء في الآية عائد إلى الإمامة التي تقلّدها إبراهيم عليه‌السلام بأمر واختيار من الله تعالى ، فهي أولى المسائل التي تستلزم الوصية. قال تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٣). وحدّدت الآية أنّ علوم الرسل عليهم‌السلام ، لا تكون إلّا في الصفوة من الخلق ، تلك الفئة التي تعتبر امتداداً لحركتهم ، ومن نفس معدنهم

_________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) البقرة : ١٣٢.

(٣) فاطر : ٣٢.

١٨٥

المتفوّق على بقيّة الخلق ، بما أشرت إليه من استعدادات ذاتية ، يزيدها الباري تعالى من فيضه ورحمته ، كما جاء في شأن طالوت عليه‌السلام عندما نصّ عليه نبيّ من أنبياء بني إسرائيل ، فقوبل تعيينه بالاحتجاج ، غير أنّ نبيهم ردّ عليهم في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (١) ; لذلك تحمّلت تلك السلسلة الطاهرة من الناس ، مسؤولية إلهية في حفظ شرائع أنبيائها ، بعد ما أتمّ لها الخالق تعالى إمكانيات تحمّل تلك المسؤولية الجسيمة.

إذاً ، نستطيع أنْ نجزم ، بأنّ اللطف الإلهي شاء أنْ تتواصل حلقاته ، وتتوالى إفاضاته على العالمين رحمة وخيراً ، فلم تعدم منه أمّة من الأمم ، ولا كان مخصوصا بعصر دون آخر ، فكان باباً من العطاء المتواصل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومن هنا فهمت أنّ معنى قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٢). يتّفق تماماً مع قوله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) (٣). فالآية الأولى جاءت مجملة للسبب الذي جعله الله تعالى بينه وبين خلقه ، وجاءت الآية الثانية شارحة له ، فقسمت المرحلتين ، وأعني بهما مرحلة التنزيل ومرحلة الحفظ إلى مراتب ووظائف هي كالآتي :

أمّا فيما يخصّ مرحلة التنزيل ، فقد جعل الأنبياء والرسل أدواة تبليغ عنه ، وعناصر نشر تعاليمه وبثّها في المجتمعات التي يراد بناءها على أسس الانقياد لله تعالى وطاعته وفق أحكامه المنزلة.

_________________

(١) البقرة : ٢٤٧.

(٢) الحجر : ٩.

(٣) المائدة : ٤٤.

١٨٦

أمّا فيما يخصّ مرحلة الحفظ ، فقد جعل الربانيين يتسلمون دور الإمامة من أولئك المرسلين ، ومنحهم من تزكيته وتأييده وعلومه ما أمكنهم إعداد مرحلة جديدة ودور يستطيع أنْ يخلف الإمامة الربانيّة الهادية ، وهو دور العلماء الرّبانيين ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (١). واقتنعت بذلك أنّه ليس هناك تنزيل بدون واسطة من الله تعالى ، كما أنّه ليس هناك حفظ دون واسطة أيضا ، وتساءلت بعد ذلك : إذا كان الاصطفاء كذلك ، فأين يوجد في الأمّة الإسلاميّة ؟

كان حديث الثقلين هو الذي أرشدني إلى الصفوة الطاهرة من أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعد الغيبة التي أخضعوا لها قسراً في وجداني ووجدان الأمة الإسلامية ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما » (٢) واصطدم الحديث برواية مالك : كتاب الله وسنّتي (٣). لكنّ رواية مالك لم تصمد أمام تعدّد طرق حديث الثقلين وصحّة أسانيده ، مقابل رواية منقطعة ، لا سند لها ، وفوق ذلك ، فالخلاف ليس في اعتماد السنّة النبويّة كمصدر من مصادر التشريع من عدمه ، فإنّ السنة النبوية لم يقل أحد بإلغائها سوى ما صدر من عمر بن الخطاب عند منعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتابة وصيته ، وقال : « حسبنا كتاب الله (٤) ، وكلّ من قال بعده بذلك الرأي فهو مستند إليه. بل إنّ الخلاف وقع في المصدر الذي تؤخذ منه تلك السنّة ، ويؤمن معه عليها من الضياع والتحريف.

_________________

(١) فاطر : ٢٨.

(٢) تقدم في حلقة سابقة.

(٣) تقدم في حلقة سابقة.

(٤) صحيح البخاري ٥ : ١٣٨ و ٧ : ٩ وصحيح مسلم ٥ : ٧٦ وغيرها الكثير من المصادر.

١٨٧

لذلك أعتقدُ جازماً بخصوص رواية مالك ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يحلنا إلى مصدرين من مصادر الشريعة ، ليس لهما وجود على أرض الواقع ، كلاهما مبثوثان في المسلمين ، لا يملكان لنفسيهما دفع الضرّ وسط خليط من الناس يتحرّك أغلبهم وفق مصلحته ، فوجب لذلك تعيين أناس لهم من المكانة والأهليّة والقدرة ، على أداء علوم الوحي إلى الأجيال المتتابعة ، حتّى يمكن للدين أن يستمر في دوره.

وجاءت آية التطهير ، لتظهر لي إمكانيّات الأئمّة الهداة ، التي ميّزتهم عن بقيّة المسلمين علماً وعملاً ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) فأظهرت عصمتهم بشكل واضح وجليّ ، لأنّ من أذهب الله تعالى عنهم رجس الشيطان ، وطهّرهم تطهيراً ، لا يمكن أن يكونوا غير معصومين ، فإذهاب الشيطان عنهم برجسه ، وكلّ خبائثه ، وشدّة تطهيرهم ، عاملان من عوامل الاصطفاء ، ومن اصطفاه خالقه ، فهو معصوم من الخطأ حتماً فأهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله معصومون من الخطأ.

ثمّ بحثت عن أهل البيت عليهم‌السلام ، من يكونون ؟ فوجدت عند المسلمين قولين :

القول الأول يقول : إنّهم عامّة نسائه وأبنائه ومعهم الإمام عليّ عليه‌السلام.

القول الثاني : يخصّ منهم عليّاً وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين عليهم‌السلام.

بحثت في القول الأول ، فوجدته لا يستند على حجّة أو دليل يُبقي نساء النبيّ في دائرة اختصاص الأهل ، لأنّه لم ترد رواية تفيد ذلك القصد ، ولا ادّعت واحدة من النساء شمولها ، بل لقد وجدت أنّ اثنتين من نساء النبيّ قد رويتا نزول الآية في الخمسة الطاهرين ، وهم : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن

_________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

١٨٨

والحسين عليهم‌السلام (١) ، زيادة على أنّه لم يقل بعصمة نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد ، بينما ثبتت عصمة أصحاب الكساء علماً وعملاً ، أما كون الآية نازلة ضمن سلسلة آيات تخاطب نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوحدة السياق تقتضي نسبة الآية لهنّ ، فجوابه أنّ وحدة السياق ليست محصّلة في هذه الآية ، لأنّ الخطاب تغيّر فيها من ضمير مؤنث قبلها وبعدها ، إلى ضمير مذكّر فيها ، وفي القرآن مثال يطابق الصياغة ، قال تعالى : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) (٢) كما لم أجد من يقول بنزول الآية في نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط غير عكرمة الخارجي مولى ابن عباس ، الذي اتّهمه علماء الجرح بالكذب كما اتّهمه عليّ ابن عبد الله ابن عباس ، الذي كان يوثقه تارة على الكنيف ، وتارة أخرى يُشّهر به فيقول : إنّه يكذب على أبي (٣) ، مقاتل الجوزجاني الذي لم يُوثقه أحد من العلماء ، هذان فقط هما من ادّعى تلك الدعوى الباطلة ، ومن دون بيّنة ولا حتّى رواية واحدة تؤيّد دعواهما ، وعليه فلا وزن عند العقلاء لما تفوّها به من زيف ، ومن اعتبر كلامهما حجّة ، فقد حاد عن الحقّ ودخل في ظلمات الباطل الذي لا يدوم.

واقتنعت في نهاية المطاف بأحقيّة أهل البيت عليهم‌السلام في إمامة الأمّة الإسلاميّة ، وقيادتها ، وفهمت معنى التشيّع لهم وموالاتهم ، على الرغم من الحرب التي أعلنت عليهم ، وتواصلت قرون عديدة ، مورست فيها كافّة أنواع الأسلحة في مواجهتهم ، بدءاً من الدعاية المغرضة التي كان يراد منها تشويه صورتهم في أعين المسلمين ، وانتهاء بحملات السجن والتشريد والقتل والتعذيب والتنكيل ، ولو وقع معشار ما وقع لهم لغيرهم لاندرست معالمهم ، وذهبت ريحهم ، ولم يَعُد لهم أثر ، لكنّ الله

_________________

(١) وهنّ عائشة وأمُ سلمة ، انظر صحيح مسلم ٧ : ١٣٠ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٦١.

(٢) يوسف : ٢٩.

(٣) انظر الكلمات في تضعيف عكرمة في تهذيب التهذيب ٥ : ٦٣٤ ـ ٦٣٥.

١٨٩

أبى إلّا أنْ يتمّ نوره ، وهو ولي المؤمنين ، والمدافع عنهم ، لأنّ دينه مستودع عندهم ، هم أهله وحملته إلى بقيّة الناس ، فواليتهم وواليت أولياءهم ، وعاديت وتبرأت من أعدائهم ، لله تعالى وابتغاء مرضاته ، وامتثالاً لأمره في اتّباع الطاهرين ، فله الحمد والمنّة والشكر.

١٩٠

الحلقة التاسعة عشر

شيّعني كتاب علل الشرائع

عادل ، رجل عرف الالتزام بشعائر الدين منذ نعومة أظفاره ، إلى أنْ تقدّمت به السنّ لم يتغير في أداء تكاليفه ، ولا انقطع عنها يوماً ، عُرف بين أقرانه بحماسته الكبيرة ، وغيرته على الدين ، فكان مرجع دائرته فيما يخصّ أخبار المسلمين ، فاشتغل بذلك الأمر حتّى نسي نفسه ، وزاده تنامي الصحوة الإسلامية في ربوع العالم الإسلامي تمسّكاً ومضيّاً من أجل إعلاء كلمة الله ، ونبذ ما دونها من باطل وأراجيف.

لم يكن متعصبا في مناقشاته وحديثه ، ولا كانت مسلماته تلجئه إلى ذلك ، كان يعتمد الأساليب المنطقيّة في استكشاف الحقيقة ، فعقله عنده ميزان أودعه الله تعالى في رأسه ليزن به الأشياء.

ولمّا عزمت على عقد جلسة الإفادة ، دعوته ليقدّم كيفيّة تشيّعه ، فجاء رغم كثرة مشاغله واضعاً تلك الجلسة موضع الأولويّة ، ولمّا جاء دوره قال : « توفيّ أحد الأقارب ، وكنت ضمن المودّعين ، كان يوماً قائظاً من أيّام الصيف ، وكان المكان صحراويّا تلفح حرارته الجسم ، من أخمص القدمين إلى الرأس ، ولم يكن هناك بدّ من الإسراع في إقامة صلاة الجنازة عليه ، ومواراته التراب أثناء أداء صلاة الجنازة وفي مختتمها سمعت أحدهم يكبّر تكبيرةً زائدة على المعروف والمعمول به عندنا ، فقلت في نفسي لعلّ الرجل نسي نفسه فكبّر دون أنْ يلتفت إلى ذلك.

ورغم حرارة الطقس العالية ، فقد أبى المشيّعون وخاصّة كبار السنّ ومن تبعهم

١٩١

من الشباب إلّا أنْ يقيموا السنّة الحميدة ، ويقرؤوا ما تيسّر من سور الكتاب العزيز ، كسورة يس ، وقصار السور ، في الوقت الذي يودّع فيه الميت مثواه الأخير ، وعند انتهاء القرّاء من القراءة ، والدفانين من الدفن ، تقدّم إمام القرية للدعاء ، وأمّن عليه الحاضرون قبل قراءة سورة الفاتحة ، وبعد تقديم التعازي ، التفتّ إلى وجود رجل يريد الاقتراب منّي ، لاحظت أنّ الرجل ليس من أهل القرية ، تقدّم منّي وقدّم تعازيه ، فشكرت له سعيه.

وجرت العادة أنْ يتّجه أغلب الحاضرين في التشييع إلى البيت الذي خُصّص لاستقبال الوافدين للتعزية ، للقيام على خدمتهم ، وتهيئة أسباب الراحة لهم ، وطلباً لمواساة أهل الميّت ، حانت منّي التفاتة فوجدت ذلك المعزّي جالساً مع من حضر ، وبعد تناول العشاء ، بدأ الحضور في مسامراتهم وأحاديثهم كلّ حسب اهتماماته ، لكنّ الحديث في عمومه كان منحصراً في المسائل الدينية ، وخصوصاً ما تعلق منه بعالم ما بعد الموت ، ووجد الرجل فرصة للحديث فابتدر قائلاً : « مَن منكم يخبرني عن عدد تكبيرات الصلاة على الميّت ، وماذا تعني تلك التكبيرات ؟ »

استغرب عدد من الحضور من سؤال الرجل ، لكن مع ذلك أجابه أحد الحضور بأنّ عدد التكبيرات هو أربع تكبيرات ، ولكن لا يعلم الغاية منها ، ولا يوجد في الفقه المالكي ، ولا السنّي عموماً ما يفيد في شأنها.

وقال آخر وكان أستاذاً في التربية الإسلاميّة : « لقد حدث اختلاف في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بخصوص هذه المسألة ، لمّا أشكل عليهم عدد تكبيراتها ، ففريق قال بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كبّر أربعاً على الجنازة ، وفريق آخر قال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كبر خمساً ، ومنهم من قال غير ذلك ، ولم يحسم الأمر بين الفريقين ، فما كان من الخليفة إلّا أنْ أمضى أمر الصلاة على موتى المسلمين ، فجعلها أربع

١٩٢

تكبيرات (١) ، ولم يذكر المؤرّخون السبب الذي جعل عمر يُرجّح أمر التكبيرات الأربع على الخمس.

فما كان منّي عند ذلك أنْ قلت له : « إذاً أنت الذي كبّر تلك التكبيرة الزائدة ، وقد كنت أظنّك نطقتها سهواً ؟ »

فقال الرجل : « لم أكن ساهياً ، وإنّما كبّرت خمساً ، لأنّ الخمس تكبيرات على الميت أصح من الأربع. »

فانبرى أحد الحضور ، وقال مغضباً : هل أنت أعلم من عمر بن الخطاب حتّى ترى أنّ قولك أصحّ من قوله ؟

فقال الرجل : ليست المسألة بهذا المنطق ، لأنّني لم أرَ الدين برأيي ، ولم أقسه بعقلي ، حتّى تقول لي هذا الكلام ، لأنّ الدين لا يؤخذ إلّا من أبوابه التي أمر الله سبحانه وتعالى أنْ يدخل منها ، وهي أبواب أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، ليحملوا الدين ، كتاباً وسنّة وعبادات ومعاملات ، إلى الناس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقاطعه الرجل مدفوعاً بحماسة زائدة : « إذاً ، من أين جئت بالتكبيرة الخامسة التي لم يلتفت إليها عمر بن الخطاب ؟ »

فقال الرجل : « لقد أشار الأخ المتدخّل إلى أنّ التاريخ قد سجّل الخلاف بشأن التكبيرات على الميّت في عهد الخليفة عمر ، وأنا قد أخذت ذلك من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الاثني عشر الذين أجمعوا كلّهم على أنّ عدد التكبيرات على الميّت هي خمسة ».

قال المتحمّس : « لماذا لا تكون أربع تكبيرات ؟ وما الفرق بينهما ؟ »

_________________

(١) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي ١ : ٤٩٦ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٤ : ٣٧.

١٩٣

فقال الرجل : « لقد ثبت عند أهل البيت عليهم‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلّي على موتى المسلمين صلاتين ، صلاة بخمس تكبيرات على المسلمين الذين لم يظهر منهم نفاق ، وصلاة بأربع تكبيرات على المنافقين (١) قبل أنّ ينزل فيهم أمر النهي بعدم الصلاة عليهم والوقوف على قبورهم مطلقا ».

أمّا الفرق بين الصلاتين فهو يحتاج إلى خزّان الدين ، وحفظة علومه ، ليبيّنوه لنا ، هؤلاء كما كنت أشرت في بداية كلامي هم أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الصفوة من الخلق ، الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى ، ليتحملوا مسؤوليّة حفظ الدين ، والإمام جعفر ابن محمد الصادق عليه‌السلام هذا الإمام الجليل الذي درس عنده مالك بن انس وأبو حنيفة وهو سادس أئمّة أهل البيت ، قد فسّر ذلك نقلاً عن آبائه ، عن أبيه الأكبر محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأنّ الصلاة على الميّت هي خمس تكبيرات ، بعدد أركان الدين الخمس ، وبعدد الصلوات الخمس ، دلالة على تمام وكمال دين الميت ، وأما الصلاة بأربع تكبيرات ، فهي إشارة إلى نقص في دين الميت (٢) ، وقد اقتضت الضرورة ، في بداية استقرار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، الصلاة على موتى المنافقين لتأليف أهلهم ، وعدم بثّ الفرقة والبلبلة في نفوس الوافدين الجدد ، الذين ما زالوا لم يميّزوا أبسط الأحكام ، فضلا عن التمييز بين المؤمن والمنافق ، والذي قد لا يكون متاحاً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه ، كما في قوله تعالى : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) (٣).

لاذ جميع الحاضرين بالصمت ، كأنّ على رؤوسهم الطير ، أمّا المتحمّس الذي

_________________

(١) المقنعة للمفيد : ٢٣٠ ، علل الشرايع ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، وسائل الشيعة ٣ : ٧٢ ـ ٧٩.

(٢) علل الشرائع ١ : ٣٠٣ ، وسائل الشيعة ٣ : ٧٧.

(٣) التوبة : ١٠١.

١٩٤

كان يقاطع الرجل فقد هدأت نبرته ، ولاحت على محياه المفاجأة.

أمّا أنا فلم أتمالك من أن أتحرك صوب الرجل ، فجلست قبالته ، وتوجّهت إليه بالحديث قائلا : لقد وقع بيانك في قلبي موقع القبول والرضا ، وقد رأيت أنّ حجّتك لا تقبل الشكّ والطعن ، وظهر لي أنا شخصيّاً أنّ الصلاة على الميّت بخمس تكبيرات أصحّ من تلك التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا بأربع تكبيرات ، لا ندري لها معنى ولا كيفيّة ، لكنّني مع ذلك أتساءل لماذا أقدم عمر على ذلك الاختيار غير الصائب ؟

فقال الرجل : « لم تكن هذه هي المحدثِة الوحيدة التي أقدم عمر على وضعها في أوساط المسلمين موضع النفاذ والإمضاء ، فقد زاد في آذان صلاة الصبح « الصلاة خير من النوم » (١) ولم تكن موجودة على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما حذف من الآذان الحيعلة الثالثة ، وهي « حي على خير العمل » (٢) وأحدث بدعة صلاة التراويح جماعة بالمسجد (٣) ونهى كذلك عن حجّ التمتع (٤) ، التي تعتبر حجّة الإسلام الأساسية لمن هم خارج مكة ، ولم يعمل بحج التمتع منذ منعه ، فلما مات عاد إليه الناس ، وأقدم على قطع شجرة بيعة الرضوان بدعوى الخوف من أن يعبدها الناس (٥) ، وليس الأمر كذلك ، لأنّها كانت تذكّره بما أحدثه يومها من تمرّد

_________________

(١) انظر المصنّف لابن أبي شيبة ١ : ٢٣٦ ، حيث أخرج خبراً جاء فيه : « جاء المؤذن عمر بصلاة الصبح فقال : « الصلاة خير من النوم « فأعجب به عمر ، وقال للمؤذّن : أقرّها في أذانك » وانظر موّطأ مالك ١ : ٧٢.

(٢) حيث ورد عنه قوله : « ثلاث كنّ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنا أنهى عنهنّ وأحرمهنّ ، وهي متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحيّ على خير العمل » ، انظر شرح المقاصد في علم الكلام للتفتزاني ٢ : ٢٩٤.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ٢٥٢.

(٤) صحيح مسلم ٤ : ٤٩ ، مسند أحمد ٣ : ٣٢٥ ، ٣٦٣ ، شرح معاني الآثار ٢ : ٤٦.

(٥) عمدة القاري ، شرح صحيح البخاري ١٩ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

١٩٥

على أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعصية له (١) ، إلى غير ذلك من المحدثات التي ابتدعها ، وكانت مخالفة لما كان عليه الحال في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن اجل تفادي سوء فهم الدين والاختلاف فيه ، ومنع إمكان التحريف عن أحكامه ، كانت الحاجة إلى من يقوم مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حفظ الشريعة وعلومها ، فكان تكليف الأئمّة بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام. للاضطلاع بذلك الدور للرسالي ».

قلت للرجل : « لقد أقنعتني تماماً بعلّة التكبيرات على الميّت ، فهل لجميع الشعائر التي أمر بها الباري تعالى علل ؟ وهل ذكرها أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ؟ »

فقال الرجل : « نعم ، إنّ لكلّ شعيرة من الشعائر علّة من العلل التي جاءت شارحة لسبب وجودها ، أو لمعنى القيام بها ، وبفضل الأئمة الأطهار من ذريّة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله أمكن جمع تلك العلل ، فانفرد المسلمون الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة بامتلاكهم لها ، دون غيرهم من الفرق الأخرى ، مما أعطى لمن ورد حياض الطاهرين عليهم‌السلام ، انطباعاً راسخاً بأنّ الإسلام المحمّدي الأصيل هو الذي عند أهل البيت عليهم‌السلام ، ومن بين المصنّفات التي عنيت بتلك العلل ، كتاب علل الشرائع للصدوق رحمه‌الله وهو من علماء القرن الرابع الهجري ».

قلت له : « فهل يوجد هذا الكتاب في المكتبات الآن ؟ »

قال : « لا ، لأنّ المجتمعات التي اتّخذت من المذهبية العمياء منهجاً ، أدارت ظهرها لتلك الكتب ، وحصرت أتباعها في كتب مؤيّدة لتوجّهاتها المذهبيّة ، دون تلك المصنّفات النفيسة ، فحرمت أفرادها من الاطّلاع عليها ، خشية اتّباعها ، لكن توجد عندي نسخة منه سأعيرها لك ، بشرط أنْ تحافظ عليها ، ولا تتأخر في إرجاعها ».

_________________

(١) انظر الحادثة في صحيح البخاري ٣ : ١٨٢.

١٩٦

فقبلت شرط الرجل ، ومن الغد عاد إليّ ومعه ذلك المجلّد النفيس ، فتسلمته منه في شوق ، وحملته معي إلى البيت لأطالعه.

لقد كان ذلك الكتاب بحقّ ، الوسيلة التي عرّفتني بقيمة الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، وبحقيقة الإسلام الذي تبنوه ، والذي يعرف بالإسلام الشيعي الاثني عشري ، نسبة إلى عدد أئمّة أهل البيت الاثنى عشر ، ووقفت على مدى ما يختزنونه من علوم إسلاميّة صافية ، لا درن عليها ولا بدع ، ولا محدثات فيها ، فقرّرت أن اعتنق الإسلام الشيعيّ الذي رأيته الأكمل والأصح ، خاصّة وهو لم يهمل جانب الحكومة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا على مستوى النصح ولا على مستوى التعيين الإلهيين ، وجاءت علل الأحكام التي نقلها الشيخ الصدوق عقليّة ومنطقيّة ومتّفقة مع ذلك التشريع ومتجانسة معه ، دالّة على أنّ الناطق بها لم يختلقها من عنده ، وإنّما جاء بها من مصدرها الذي خرجت منه ، لسان الصدق ومنطق الحقّ الذي تركه النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل بيته الطاهرين من بعده ، وفهمت تبعاً لذلك ، أنّ بقيّة الفرق ما هي إلّا اجتهادات من طرف أصحابها ، لا ترقى إلى الدور الإلهي في الحفظ ، أو هي من صنيعة الطواغيت والظلمة ، لصرف الناس عن أحقيّة أهل البيت عليهم‌السلام وحقيقتهم.

١٩٧

الحلقة العشرون

إهمال السنّة النبويّة المطهّرة ، وإفراغ القرآن الكريم من معانيه ، هما اللذان شيّعاني

عبد الحفيظ ، شابّ ربى على العشرين من عمره ، لكنّك عندما تراه لأول وهلة ، تعتقد جازماً بأنّك أمام كهل ودّع شبابه ، وأدار ظهره عنه إلى غير رجعة ، فقد غزا الشيب رأسه حتّى لم يعد لشعره الأسود الذي عادة ما يكون رمزاً للصبى والشباب مكاناً يقيم فيه ، باستثناء بعض شعرات بقيت صامدة أمام غزو شيب وراثي لا دخل لعمره فيه ، ومع ذلك فقد زانه الشيب ، فبدا أكثر جاذبية ورجولة من غيره ، تعرّفت عليه هو أيضا بالجامعة ، ولم أتّخذه صديقاً إلّا بعد أنْ لمستُ منه فهماً وتقديراً واحتراماً لمعاني الصداقة ، دعوته إلى جلسة الإفادة ليفصح عن سبب تشيّعه ، فقال :

لم أكن في دراستي الثانوية مهتمّاً بالبحث خارج إطار الدروس ، التي كانت تقدّم إليّ في مادّة التربية الإسلاميّة ، فلم التفت إلى البحث عن متعلقات تلك المادّة من تاريخ وسيرة ، إلّا بعد أنْ انتقلت إلى الجامعة ، وتحديداً إلى كليّة الشريعة وأصول الدين.

كنت على وشك أنْ أنخرط في الطريق الوراثي ، الذي اعتمد على التبرير المذهبيّ للأحداث التي أعقبت وفاة النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لولا شخص وضعه القدر في طريقي ، كأنّما أرسله ليخرجني من غيابة تيه لم أتبيّنه إلّا بعد أنْ انتشلت منه.

تعرّفت عليه في إحدى التظاهرات التي كان الطلبة ينظمونها أو يشاركون فيها ، عندما تكلّم في مداخلة بمناسبة يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني المعروف

١٩٨

بيوم الأرض ، تعرّض فيها إلى تحليل الحالة التي آلت إليها الأمّة الإسلاميّة ، كان فصيح اللسان جريئاً ، في وسط طلابي كانت الصحوة الإسلامية فيه تشقّ خطواتها الأولى ، وقد ركزّ مداخلته على الأحداث التي أعقبت وفاة النبيّ ، ونظام الحكم الذي تمخّض عنها ، ورغم منطقيّة كلامه ، فقد جوبه الشاب بمقاطعات متعدّدة ، واستنكاراً من قبل بعض الحضور ، الذين كانوا يمثلون تيّاراً سياسيّاً إسلاميّاً معروفاً وقتها ، لم أخف إعجابي بمنطق الرجل ، وعند انتهاء التجمّع الطلابي ، ذهبت إليه وسلّمت عليه معرّفاً بنفسي ، فبادلني السلام والتعريف ، ثمّ قلت له : لا أُخفي عليك إعجابي بما تفضلت بقوله في مداخلتك ، غير أنّ لي بعض الاستفسارات التي ما تزال تحتاج إلى بيان بالنسبة لي ، بخصوص عصر الصحابة ، وعلاقته بأدوات التشريع ، ونظام الحكم في الإسلام.

فقال : هذه مواضيع ليست بالهيّنة ، وتحتاج إلى ترتيب واستفاضة ، وتتطلب كثيراً من الوقت والجهد الفكريّ ، لبيانها واستجلاء الحقيقة من أشباهها.

قلت له : لقد ألقيت باللائمة على الخلفاء الثلاثة الأوائل ، وحمّلتهم مسؤوليّة التفريط في مصدري التشريع الإسلاميّ ، وأعني بهما الكتاب والسنّة النبويّة المطهّرة ، فهل أنت واع لما كنت تقول ؟

قال : إنّ سياسة التعسّف على مصدَرَي التشريع الإسلاميّ ، وتغييب إحداها وهي السنّة النبوية ، وتعطيل القرآن بفصل التفسير عنه ، وإقالة أوعيته ومستحفظيه ، قد أدّت إلى فقدان الأمّة الإسلاميّة أسباب معرفة الدين وتحقيق مكاسبه التي أنزل من أجلها.

قلت له : أعتقد أنّك تتكلّم عن فترة ما بعد سقوط الخلافة الإسلاميّة ; لأنّ الدين لم يفقد إشعاعه وتأثيره وفاعليته إلّا بعد تلك الفترة المزدهرة.

قال : بل إنّني أتكلّم عن الفترة التي أعقبت وفاة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحديداً

١٩٩

عن جيل الصحابة ودور الصحابة.

قلت له : لكن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم قد امتنعوا عن تدوين السنّة النبويّة خشية اختلاطها بالقرآن الكريم ، ولمّا انتهوا من تدوين القرآن ، انصرفوا إلى السنّة النبويّة فأعطوها حقّها.

فقال : كلامك لا يخلو من غرابة ، كأنّي بك تتحدّث دون التفات إلى ما تقوله عن مسألة لا علاقة لها بالدين.

قلت : ذلك ما تعلّمناه من مادّة التربية الإسلاميّة ، التي كنت أدرسها في المرحلة الثانوية ، وقد تكون عموميّة المعلومات فيها ، وسطحيّة تناولها ، عاملَين مانعين من الوقوف على الحقيقة كاملة فيما تعلق بالتدوين.

قال : إنّ الذي امتنع عن تدوين السنّة النبوية المطهرة ليس جميع الصحابة ، بل هم نزر يسير ، وقلّة قليلة منهم ، لا يتجاوز أفرادها عدد اليدين ، وذلك الامتناع وضع تحت عنوان تبريري مفاده : الخشية من اختلاط السنّة بالقرآن ، وهي دعوى عارية عن الصحة تماماً ، وتتعارض مع الإعجاز الذي أطلقه المولى سبحانه وتعالى بخصوص القرآن الكريم ، فقوله جلّ شأنه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (١). ثمّ تدرّج في تحدّيه نزولا إلى عشر سور ، ثمّ إلى سورة واحدة ، تأكيداً على أنّ البشر لا يستطيعون أنْ يأتوا بنزر يسير منه.

وقوله تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) (٢).

قال أيضا : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) (٣).

_________________

(١) الإسراء : ٨٨.

(٢) هود : ١٣.

(٣) البقرة : ٢٣.

٢٠٠