محمّد الرصافي المقداد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
جدّية تقصي الحقيقة التي ظلت غائبة عنّي فترة من الزمن ، فحُبّي وعشقي للإمام علي عليهالسلام ، عنصر آخر لا يمكن إهماله ، وإحساس يراود عقلي بأنّني قد أكون من سلالة أولئك الذين نذروا أنفسهم لأهل البيت عليهمالسلام ، والدين الحق الذي احتضنوه واحتضنهم ، وفادوه بأنفسهم وفاداهم بأنْ خصّص لهم حيّزاً من الاعتبار والمحبّة عند الله تعالى وعند رسوله صلىاللهعليهوآله ، وعند المؤمنين.
ولو اتبع المسلمون على مدى القرون الماضية خطّ أهل البيت عليهمالسلام الذي يمثّل الإسلام المحمديّ بكلّ أبعاده وحقائقه ، لما ضلّوا طريقهم ، وانحرفوا عن جادّة الطاعة ، ولكانت عباداتهم سليمة بكلّ أجزائها وشرائطها ; لذلك فإنّني أنصح المسلمين الذين لا يزالون بعيدين عن خطّ أهل البيت عليهمالسلام ، أنْ لا يأنسوا لمسألة ، ولا يتقبلوا حكماً من الأحكام المشكوك في صحة ورودها عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، خصوصاً إذا ما اتضح جليّاً تهافت القنوات التي ورد عليهم منها الدين على تحريف عدد من الأحكام كآية الوضوء مثلاً ، والتسبب في ضلال أجيال كثرة تعبدت بغسل الرجلين في الوضوء على أساس أنّه الحكم الصحيح.
أقول لكم لا تتسرعوا في الحكم على المسلمين الشيعة حتّى تقرؤوا كتبهم ، لا كتب أعدائهم الذين لم يتركوا شائنة ولا سوءاً إلّا ألصقوه بهم. فالحمد لله الذي هداني إلى اتّباع أوليائه الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ليكونوا وعاء دينه وحملة شريعته وأمناء وحي نبيه صلىاللهعليهوآله ، سادة الدنيا وسادة الآخرة وقادة الدنيا وقادة الآخرة ، اللهمّ احشرني في زمرتهم ، واجعلني من حزبهم وطائفتهم ، والحقني بهم مؤمناً لا مُبدلاً ولا مغيّراً ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
الحلقة التاسعة
شيّعتني الصلاة البتراء
وتدخّل عبد الله ليقول : إنّ الصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله الكاملة ، هي التي أحدثت في داخلي التحوّل الكامل نحو الحقّ ، الذي عليه المسلمون الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة ، فالصلاة التي أمر الله تعالى بها عندما نزلت الآية : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (١).
والتي بيّن النبي صلىاللهعليهوآله كيفيتها في الرواية المشهورة :
عن أبي مسعود الأنصاري أنّه قال : « أتانا رسول الله صلىاللهعليهوآله في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أنْ نصلّي عليك يا رسول الله ، فكيف نصلي عليك ؟ قال فسكت رسول الله صلىاللهعليهوآله حتّى تمنينا أنّه لم يسأله ، ثمّ قال : قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنّك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم » (٢). فهذه الصلاة هي الصلاة الصحيحة الواجب ذكرها تماماً كما وردت ، دون إحداث أيّ تغيير فيها ، لأنّ تغيير أيّ شي ورد فيه نص من الباري تعالى ، أو جاء فيه حديث صحيح من النبيّ صلىاللهعليهوآله ، يعتبر تحريفاً وتغييراً للشريعة المقدسة ، بمعنى أنّنا إذا أردنا أنْ نصلّي على النبيّ صلىاللهعليهوآله ، لا بدّ أنْ نتّبع تعاليم الوحي وصاحبه ، فنقول : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، وعندما يذكر النبيّ في حضرتنا ، أو نسمع اسمه حتّى من بعيد نقول : صلى الله عليه وآله وسلم ; لأنّ هذه الصيغة هي الصلاة الصحيحة الكاملة.
_________________
(١) الأحزاب : ٥٦.
(٢) صحيح مسلم ٢ : ١٦ ، مسند أحمد ٥ : ٢٧٤ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٨ ، واللفظ لأحمد.
ومع التشديد على عدم تجاوز النصّ ، حصل التجاوز بخصوص عدد من الأحكام من بينها الصلاة على النبي صلىاللهعليهوآله ، ومع تحذير النبيّ صلىاللهعليهوآله بعدم التصرّف في الصلاة عليه بالنقصان أو الزيادة قائلاً : لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء ؟ ورغم حرص النبيّ صلىاللهعليهوآله على أن تكون فريضة الصلاة عليه تامّة الأركان ومستوفية الشروط ، فقد حصل المحظور ، ووقع ما تخوّفَ منه النبيّ صلىاللهعليهوآله.
كنت أصلّي الصبح وبقيّة الصلوات بحسب الظروف في المسجد الجامع الذي لا يبعد عن مقرّ إقامتي غير بضع مئات من الأمتار ، وبعد الصلاة يبدأ المؤذّنُ في قراءة ما تيسّر من التعقيبات ، وكان من بينها الصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فكان يردّدها صحيحة ، ويردّد معه المصلون الراغبون في التعقيب ، فالتفتُّ إلى تلك النقطة ، وتساءلتُ لماذا يُصلّي الناس على النبيّ صلىاللهعليهوآله صلاة كاملة في تعقيبات الصلوات ، وعند الصلاة عليه خارج ذلك الإطار يُسقطون الصلاة على آله الكرام البررة ؟ ومن لا يسقط آل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، يدخل معهم من لا تشملهم تلك الصلاة الخاصّة بالنبيّ وآله ، كأزواجه وأصحابه.
وطالما أنّه أمرٌ نزل فيه الوحي ، وفصّلَه النبيّ صلىاللهعليهوآله بحيث لم يترك فيه مجالاً للتأويل ، فلماذا يتعامل حياله المسلمون بهذا الأسلوب المقصّر ؟ وفهمت أنّ الأمر جاء تبعاً لتداعيات الحرب ، التي أعلنت على أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، والتي كانت غير معلنة بشكل واضح في العقد الأول الذي أعقب وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ثم استفحل الأمر بعد شهادة الإمام عليّ عليهالسلام ، واشتدّ الأمر على أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم. وكانت شعيرة الصلاة على آل محمّد إحدى ضحايا تلك الحرب ، التي لم تراع قيمة من القيم التي جاء الإسلام من أجل إعلائها ، فسعت بكلّ ما أوتيت من دهاء وخبث إلى محقها ومحوها.
أنا لا أقول بأنّ تحريف الصلاة المسمّاة عندنا بالصلاة الإبراهيميّة قد تقبّله المسلمون من أتباع خطّ السقيفة بالرضا والتطبيق ، بقدر ما أجزم أنّ الذي أسّس ذلك التحريف هم أدعياء العلم من أتباع الأنظمة الظالمة ، التي أسّست أساس التحريف ، وأجرته مجرى التنفيذ بواسطة أولئك العلماء.
الرواية المحرّفة ، عثرت عليها أثناء تصفُّحي لموطّأ مالك ، محاكية للصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله الصحيحة ، ومكتوبة جنباً إلى جنب معها ، تقول : عن أبي حميد الساعدي أنّهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلّي عليك ؟ فقال : « قولوا اللهمّ صلّ على محمّد وأزواجه وذريته ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد » (١).
وبمجرّد قراءتها تكتشف عدم تناسق ألفاظ الرواية ، ممّا يوحي إليك من الوهلة الأولى أنّ هناك من استبدل ألفاظ : « وآل محمّد » ، وأحلّ محلّها : « وأزواجه وذريته » ، في محاولة يائسة لإقناع المسلمين بأنّ آل محمّد هم أزواجه وذريّته فقط ، وبذلك يُخرجون عليّاً عليهالسلام من حساب آل محمّد صلّى الله عليهم أجمعين.
إنّ الصلاة التي نحن بصددها ، هي صلاة الصفوة الطاهرة ، ليس لنا الحقّ في أنْ نُسقط منها ونضيف ; لأنّنا لسنا طرفاً في التشريع. المشرّع الوحيد هو الله تعالى ، ومن سوّلت له نفسه دخول ذلك الباب تحت أي عنوان ، فقد برز لله بالمعصية ، ومن فعل ذلك فقد ضمن لنفسه دخول جهنّم وبئس المصير ، ولا أخال عاقلاً يرغب في البروز إلى الله تعالى بمعصية التحريف ، وعذاب يوم القيامة ودخول النار وبئس القرار.
لكنّني وفي بداية اكتشافي لتحريف الصلاة على محمد وآل محمد ، لم أتبيّن
_________________
(١) الموطأ ١ : ١٦٥.
السبب الذي دعا بأصحابه إلى القيام بذلك العمل المشين ، الذي حَرّم كثيراً من أتباع ذلك الخطّ من أجر كانوا سيجنونه من الصلاة لو بقي الحديث كما قاله النبي صلىاللهعليهوآله غير محرّف ، لذلك لم أجد جواباً في تلك الفترة من الزمن ، وبقي السؤال عالقاً بدون إجابة ، إلى أن وقع في يدي يوماً كتاب تاريخي ، تناول الأحداث التاريخية للعصر الأموي ، فقرأت عن محدثات معاوية لعنه الله ، وجناياته على أهل البيت عليهمالسلام من سبّ ، وقتل ، وتحريف ، ثمّ مررت على تمرّد عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان واستيلاءه على مكّة حوالي السنتين ، واستوقفني تصرّفه الذي أظهر ضغينة وبغضاً وعداء لا يمكن وصفه لأهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقد بقي الرجل أربعين جمعة ، لا يُصلّي في خطبتيها على النبي صلىاللهعليهوآله ، ولما سُئل عن ذلك قال : إنّ له أُهيل سوء ، ينغضون رؤوسهم عند ذكره (١).
ساءني ذلك الأمر أيّما إساءة ، وحزّ في نفسي أنْ يتطاول المتطاولون على الإسلام وأهله ، مفضوحي النوايا ، قد انكشفت عورات سرائرهم ، ومع ذلك ما زال الناس ينظرون إليهم نظر المؤمنين المجاهدين في سبيل الله ، خصوصاً ونحن أمام نصّ صريح من الله تعالى يأمرنا فيه بمودّة أهل البيت عليهمالسلام أجراً على ما بذله النبيّ من أجل تبليغه رسالة الإسلام إلينا ، فقال جلّ من قائل : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ... ) (٢) ثم ثنى حرصا وتشجيعا في نفس الآية بقوله : ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ). والمودّة محبّة تتطلب الالتفات إلى كلّ ما يتعلق بأحوال أهل البيت عليهمالسلام من تقديم واحترام وتبجيل وطاعة وموالاة ، وتعهد لأمرهم ، ومحبّة من يُحبّهم ، وبغض من يبغضهم ،
_________________
(١) ورد قول ابن الزبير بألفاظ متفاوتة كلّها تعطي معنى واحد ، فانظر شرح نهج البلاغة ( ٤ : ٦٢ ) و ( ٢٠ : ١٢٧ ) ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦١ ، مقاتل الطالبيين : ٣١٥ ، وغيرها.
(٢) الشورى : ٢٣.
ومحاربة من يحاربهم ، ومسالمة من يسالمهم ، تلك هي المودّة الحقيقية ، أمّا القول الذي لا فعل معه فلا معنى له ولا وزن.
أمّا من جانب النبيّ صلىاللهعليهوآله فقد أكّد على أنّ محبّة عليّ عليهالسلام إيمان ، وبغضه نفاق ، في حديثه الذي تناقله الحفاظ بقوله « يا علي لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق » (١) وكان الصحابة يقولون : « ما كنّا نعرف المنافقين إلّا ببغض عليّ بن أبي طالب » (٢) فكلّ من أعلن بغض علي عليهالسلام كائناً من كان فهو منافق بالنصّ النبوي ، وكلّ من أعلن حبّ عليّ عليهالسلام فهو مؤمن بالنصّ النبوي أيضاً.
إنّ المتتبع لسيره عبد الله بن الزبير ، يمكنه بدون عناء أنْ يستجلي حقيقته من خلال مواقفه التي كان يريد من خلالها أنْ يكون له حظُّ في السلطة ومسك زمام الأمّة ، فهو الذي أخرج أباه الزبير بن العوام ، الذي قال عنه الإمام علي عليهالسلام : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتّى نشأ له عبد الله (٣).
ولم يكن عبد الله بن الزبير في هذا الشأن ، غير مقلّد لأثر معاوية ابن أبي سفيان ، الذي لم يمنع الصلاة على النبي صلىاللهعليهوآله فقط ، بل ابتدع لعن الطاهرين من أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ومنع أحكاماً ، وحرّف سنناً ، وعطّل حدوداً ، وارتكب جرائم تقشعرّ منها نفوس البشر ، والتي منها التحريض على قتل سبط النبيّ صلىاللهعليهوآله بدسّ السمّ له ، وقتل فضلاء الصحابة كحجر بن عدي ومن معه في مرج عذراء.
ولقد رأيت من إصرار الناس طيلة هذه القرون على التمسك بالصلاة البتراء تصغيراً من شأن أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ما يدعو إلى النظر في تعبّد هؤلاء وأحوالهم ، مع أنّ الذين أسّسوا أساس التحريف والحرب والمنع ، قد ذهبوا
_________________
(١) انظر مثلا : صحيح مسلم ١ : ٦٠ ـ ٦١.
(٢) الاستيعاب لابن عبد البر ٣ : ١١١٠ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٩ واللفظ للأول.
(٣) تاريخ دمشق ١٨ : ٤٠٤ ، أُسدُ الغابة ٣ : ٢٤٤.
بجرائرهم وجرائمهم ، فقد بقيت آثارهم السيّئة بين المسلمين ، يتقربون بها إلى الله ، ولا ملتفت إلى ذلك إلّا القلّة القليلة من الذين فتح الله تعالى بصائرهم على الحقّ ، فاتبعوه ، ونفضوا أيديهم من باطل بني أميّة وزيفهم.
وبظهور الوهابيّة والسلفيّة ، ظهرت طريقة أخرى للصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله ، زيد فيها السلف من الصحابة ، كالآتي : اللهمّ صلّ على محمّد وآله وصحبه وسلم.
مع أنّ بقيّة الناس بما فيهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، إلى هذا العصر لهم صلاتهم الخاصّة بهم من الله تعالى ، وهي في قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (١).
الإشكال الآخر تمثّل في تعوّد أتباع خطّ الخلافة على عدم الصلاة على أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله عندما يُذكر النبيّ صلىاللهعليهوآله في حضورهم ، حتّى عُرفوا وتميّزوا عن بقيّة المسلمين بعدم الصلاة عليهم ، فيقولون ويكتبون ( صلى الله عليه وسلم ) والأولى الأصح أن يقولوا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تطبيقاً للصلاة الكاملة التي أمرهم رسول الله صلىاللهعليهوآله بها ، وبذلك فهمت أنّ الناس يتعبّدون ليس بالنصّ ، بقدر ما يتعبّدون وراثة ، وبلا أدنى نظر ، ولو كان هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم في معسكر المحاربين لأهل بيت النبوة يقيمون ما ورد إليهم ، وألزموا أنفسهم به ، لعادوا إلى الحقّ ، وعملوا بمقتضاه ، ووالوا قلباً وقالباً الصفوة الطاهرة ، وعملوا بذلك على إرضاء الله ورسوله صلىاللهعليهوآله.
بعد ذلك تعرّفت على أحد الإخوة الشيعة ، فتحدثت معه ، فوجدته إنساناً متكامل العقل والعقيدة ، وصاحب حجّة وبرهان ، وكانت إطلالتي على درر أهل البيت عليهمالسلام عن طريقه ، فالتزمته وتتبعت طيفه ، واقتفيت أثره ، ناسجاً على منواله بما حباه الله تعالى من بصيرة وعقل رداء الموالاة الصادق علماً وعملاً ، ومن
_________________
(١) الأحزاب : ٤٣.
حديث الغدير (١) ، إلى حديث الثقلين (٢) ، إلى حديث المنزلة (٣) ، إلى حديث السفينة (٤) ، إلى آية التطهير (٥) ، وآية الولاية (٦) ، وغيرها من النصوص ، والتي رجعت بعد كلّ لقاء معه إلى المراجع التي استدلّ بها العلماء على أحقيّة أهل البيت عليهمالسلام بالاتّباع وقيادة الأمّة ، لأجد كلّ ما احتجّ به عليّ في كتبي المعتمدة ، فاقتنعت بأنّ اتّباع أهل البيت عليهمالسلام ، هو المنجى الوحيد من طوفان التحريف والجهل الذي عليه بقيّة المسلمين ، نسأل الله أنْ ينقذهم منه.
_________________
(١) إشارة إلى قوله صلىاللهعليهوآله : « من كنتُ مولاه ، فهذا عليّ مولاه » ، وسيأتي في حلقه لاحقة.
(٢) إشارة إلى قوله صلىاللهعليهوآله : « إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي ... ». وسيأتي في حلقة لاحقة.
(٣) إشارة إلىٰ قوله صلىاللهعليهوآله : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسىٰ ... » وسيأتي فيما بعد.
(٤) إشارة إلى قوله صلىاللهعليهوآله : « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » ، انظر الحديث في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ٢ : ٧٨ ، المستدرك على الصحيحين ٢ : ٣٤٣ ، ٣ : ١٥١ : المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٠٣ ، وغيرها.
(٥) وهي الآية الشريفة : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، ( الأحزاب : ٣٣ ).
(٦) وهي الآية الشريفة : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، ( المائدة : ٥٥ ).
الحلقة العاشرة
شيّعتني البسملة
من بين الحضور ، شابٌ في مقتبل العمر يتّقد إيماناً وحيوية ، بدأ حياته مع أخيه في التجارة ، وكان في ذلك مجالا للتعرف على مختلف طبقات الناس أفكاراً وسلوكاً ، جاء دوره في الكلام ، ورغم شدّة حيائه ، وعدم تعوّده على الحديث ، وسط مجموعة كبيرة من الناس ، إلّا أنّه تماسك متحدّياً الحرج الذي بدا على ملامح وجهه.
يقول زهير : لم أكن مُدركاً قيمة البسملة إلّا بعد أن قرأت روايات عظيمة في فضلها منها ما ورد عن ابن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر ، فليقرأ « بسم الله الرحمٰن الرحيم فإنّ فيها تسعة عشر حرفاً ، ليجعل الله له بكلّ حرف منها جُنّة من كل واحد » (١).
ومع إدراكي لقيمتها وفضلها ، لم أفهم السبب الذي دعا ما يُسمّى بأهل السُنّة والجماعة إلى ترك البسملة ، وعدم قراءتها في صلواتهم المفروضة ، والتمادي في الإصرار على ذلك التعامل.
آية بتلك القيمة والعظمة والمكانة ، تعزف عنها شريحة كبرى من المسلمين ، ويتجنّبها من يتجنّبها منهم ، ويتنفّر منها من يتنفّر ، وزاد في حيرتي عثوري على نصوص من الخط الذي كنت فيه تقول :
« سئل أنس كيف كانت قراءة النبي صلىاللهعليهوآله ؟ فقال كانت مدّاً ، ثمّ قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) يمدّ ببسم الله ويمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم » (٢).
_________________
(١) تفسير الثعلبي ١ : ٩١ ، وانظر الدر المنثور ١ : ٣٠.
(٢) صحيح البخاري ٦ : ١١٢.
ويضيف زهير : فلم أجد مُبرّراً يسوّغ للمالكية وللحنابلة وللحنفيّة إسقاط قراءة البسملة في فاتحة الكتاب ، وفي مفتتح السور في صلاة الفريضة ، ولم أرى مُبرّراً واحداً يسمح بذلك الترك ، ولا يعطي الحريّة لأيّ كان في إضافة أو حذف أيّ شأن من الشؤون العباديّة. وزاد في عجبي الأشرطة التي تُباع في الأسواق ، والتي تحتوي على تلاوات متنوعة من القُرّاء ، وأخصّ بالذكر منهم أمثال الحُذيفي والسديسي وغيرهما ، تسمع منها قراءات متقنة وأصواتاً جميلة ، لكنّك تصطدم بأنّ هؤلاء جميعاً مضربون عن قراءة البسملة ، فيستنجد طابع الشريط إلى صوت آخر يقرأ البسملة ، كأنّ الآية ليست من القرآن ، أو بها مانع يحول دون قراءتها ، أو هي ناقض من نواقض القراءة يفرّون منه بعدم تلاوته.
لكن الأعجبُ من ذلك ، أنّ هؤلاء
المساكين المتعبدون بالتقليد والوراثة ، يقرؤون البسملة في نوافل شهر رمضان والمسماة بالتراويح ، كأنّما النوافل عندهم تحتمل ما لا تحتمله الفرائض ، أو أنّ النوافل هي أقلّ درجة أو قيمة من الفرائض. ولم أجد طيلة فترة تساءلي عن علّة إهمال البسملة من يقدّم لي الجواب الشافي ، إلى أنْ التقيت بصديق معروف بتشيعه لأهل البيت عليهمالسلام
، فكانت له المبادرة إلى طرح هذا الإشكال ، فما كان مني إلّا أنْ استوقفته متسائلاً : وهل هناك من يقرأ البسملة في الفرائض ؟ فقال : نعم ، إنّ الأئمة الأطهار من أهل بيت النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله
، وأتباعهم من الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة يوجبون قراءة البسملة في كلّ الصلوات ، مفروضة كانت أم مسنونة ، وذلك اتّباعاً لما ورثوه من أبيهم الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام
، وهو بدوره أخذ ذلك عن أخيه وابن عمّه رسول الله صلىاللهعليهوآله
، بل لعلّ الشافعي وهو واحد من المذاهب الأربعة ، بعدم مجاراته لمنع البسملة ، قد يكون أخذ وجوبها من علماء الشيعة ، لأنّ غيرهم قد اتّبع أمر معاوية في منع البسملة ، ورفع اليدين في التكبير ، سعياً إلى إبطال آثار علي بن
أبي طالب عليهالسلام ، كأنّ معاوية ومن تبعه لا يدركون ، أنّ تلك الآثار التي حاولوا منعها ، هي دين الله تعالى وآثار رسوله صلىاللهعليهوآله.
فقلت له : إذاً فإنّ المعضلة التي حالت دون قراءة البسملة في الصلوات المفروضة هي سياسة معاوية بن أبي سفيان.
قال صديقي : نعم ، إن التحريف الذي أشاعه بنو أميّة وحزب الطلقاء عموماً ، قد أضرّ بأكثر التفاصيل العبادية التي كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام يطبّقها ، فسعوا إلى محو تلك الآثار على أساس أنّها متعلقة بعدوّهم علي عليهالسلام ، فمنعوا على سبيل المثال طريقة الوضوء الصحيحة ، ومنعوا الصلاة على آل محمد ، وحجروا قراءة البسملة في الصلاة ، وغيرها من المسائل المتعلقة بأهل البيت عليهمالسلام.
وهذا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام أستاذ مالك بن أنس وأبي حنيفة ، قال : « مالهم قاتلهم الله ، عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله ، فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها ، وهي بسم الله الرحمٰن الرحيم » (١).
والإمام عليهالسلام يقصد أنّ الذين منعوا البسملة هم بنو أميّة وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.
قلت له : أنا إلى الآن لم افهم الداعي الذي ألجأ بنو أميّة إلى تتبّع هذه المسائل الفقهيّة بالرغم من أنّها لا تشكّل أيّ خطر على سلطانهم.
فقال لي : قد يظهر لك أنّ في الإجراء الذي اتّخذه معاوية وسيّر به بنو أميّة أجيالاً عديدة من أبناء القرنين الأول والثاني يكتسي غرابة ، ولكن إذا اطلعت على الأوامر التي أطلقها في البلاد طولاً وعرضاً شرقاً وغرباً تستطيع أنْ تفهم القصد والغاية التي خطّط لها طلقاء بني أميّة وأرادوا الوصول إليها ، وهي إجراء
_________________
(١) مستدرك الوسائل ٤ : ١٦٦.
التحريف في مختلف مجالات وأوجه الدين مجرى الدم من العروق ، وإنفاذ كلّ البدع التي اختلقت في ذلك الزمن لتتحوّل فيما بعد سُنّة نبوية أو حكماً واجباً أو شخصيّة ذات قداسة تفوق كلّ التصورات ، كما اختلق لأهل بدر قوله صلىاللهعليهوآله : لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم (١).
فقلت له : البسملة كما نعرف ، ليست ترقيماً حتّى يتجاوزه الناس ، وإنّما هي آية لها من الشأن ما يندر أن تضاهيه فيها آية أخرى ، فهي تستفتح بذكر ثلاثة من أسماء الله ، وهي : الله ـ الرحمان ـ الرحيم.
قد جعلها الله تعالى مفتتحا ل ١١٣ سورة عدا سورة براءة ، والمسمّاة بالتوبة أيضاً ، لكنّه تعالى ثنّاها في سورة النمل ، فهي السورة الوحيدة التي فيها البسملة مرتين ، واحدة في مفتتح السورة ، والثانية في الآية ٣٠ منها : ( إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ). فهل عميت أعين علماء المالكيّة ومن حذا حذوهم إلى درجة جحدها والقول بأنّها ليست آية كما هو الشأن بالنسبة لأبي بكر الباقلاني وأبي بكر ابن العربي المالكيان اللذان أكّدا أنّها ليست من القرآن (٢).
فقال لي : لقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع » (٣). وقد أخرج الدارقطني عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه قال : « إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم إنّها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحداها » (٤). وكان الصحابة لا يعرفون انتهاء سورة وابتداء أخرى إلّا ببسم الله الرحمٰن الرحيم. ومع ذلك تراهم عمدوا إلى تركها وعدم قراءتها في الصلاة.
_________________
(١) صحيح البخاري ٤ : ١٩ وصحيح مسلم ٧ : ١٦٨.
(٢) انظر احكام القرآن لابن العربي ١ : ٥ ـ ٦ ، ونكت الانتصار لنقل القرآن الباقلاني : ٧١.
(٣) الدر المنثور ١ : ٣١.
(٤) سنن الدارقطني ١ : ٣١٠. المستدرك على الصحيحين ١ : ٢٣١.
قلت له : لقد تبين لي الآن أنّ بني أميّة قد أدخلوا في الدين أشياء ليست منه ، واختلقوا سننا وأحكاماً ليست من الإسلام في شي ، من أجل تغيير ما اتخذه أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ديناً وأحكاماً ، لكن أودُّ أنْ أسألك عن لفظ آمين في آخر الفاتحة هل له أساس ؟
فقال : لم يصحّ حديث عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال آمين بعد قراءته لفاتحة الكتاب ; لأنّ الفاتحة تدخل في مقام القراءة ، والدعاء مخصّص بالقنوت ، فهل يعقل أنْ نسقط أعظم آية لنختمها بما يختتم به النصارى في كنائسهم وهي آمين Amen. وأهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله لم يتعبدوا بنصّ إلّا ومعهم بيانه وفي حوزتهم نصوصه ، وبين أيديهم علّته وأسبابه فهم النبع الصافي الذي استقى معينه من النبيّ محمّد صلىاللهعليهوآله.
فقلت له : الآن اطمأنّ قلبي ، وعرفت العلّة التي حدت بهؤلاء القوم إلى ترك البسملة ، وأحمد الله تعالى الذي استنقذني من الانحراف وراء تُبّع بني أمية الذين يتصورون أنّهم يتّبعون سنّة النبي صلىاللهعليهوآله ، وما هم إلّا عابدون بالوراثة التي لا تستند إلى حجّة ويقين ، ومتّبعون لمحدثات معاوية اعتقاداً منهم أنّها سنّة النبي صلىاللهعليهوآله.
هذا ما دار بيني وبين صديقي من حوار ذكرته لكم ، لتقفوا عن كثب على القناعة التي حصلت لي ، وتتعرفوا على السبب الذي جعلني أتخلى عن المذهب المالكي وأعتنق إسلام الطاهرين من أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله ، وأفتخر أنّني من شيعتهم وفي صفّهم ، ثبتني الله على ذلك في الدنيا والآخرة ، وأبعدني عن مذاهب الضلالة التي كنت منغمساً فيها ، والحمد لله أولاً وأخيراً.
الحلقة الحادية عشر
شيّعني حديث الطائفة الظاهرة على الحق
علي كهلٌ تجاوز الخمسين من عمره ، مع ذلك لم يمنعه تقدّمه في السنّ من أنْ ينافس الشباب المؤمن في حيويته ونشاطه ، ومقاسمته آمالا عريضة في الغد المشرق للدين وأهله.
ورغم التوعّك الصحي الذي ألّم به قبل موعد الجلسة ، فإنّه أبى إلّا أنْ يكون حاضراً ، مساهماً معنا في الإدلاء بشهادته ، عن السبب الذي أقنعه بترك مذهب آبائه وأجداده ، واعتناق مذهب أهل البيت عليهمالسلام ، والمعروف بالشيعة الاماميّة الاثني عشريّة.
فُسح المجال لعلي في الكلام فقال : كنت من المتحمسين للدين الإسلامي ، ومهتما بكلّ متعلقاته ، حاملاً هموم الأمّة وآمالها ، شأني في ذلك شأن الطلائع المؤمنة التي كتب عليها أن تتحمل مسؤوليات ثقيلة في توعية القاعدة وإرشادها ، خاصّة نحن نعيش في عصر كشّر فيه أعداء الدين عن أنيابهم ، وأبدوا من العداوة والحرب للدين وأهله ما لم يظهر منهم في السابق ، وبمعنى آخر كانت الحرب على الإسلام في ما مضى تحاك بسريّة وتخفٍّ ، بينما ظهرت على بعض المسارح اليوم بكلّ جلاء تفاصيل مؤامرات ما كان لها أنْ تطفو على الواجهة لو تمسّكت الأمة بدينها ، ولعلّ أحبولة الدنيا ومتاعها هي التي أوقعت الناس في مطبّ إهمال الدين وتركه ، ففارقوا معتصمهم ومنجاتهم في الدنيا والآخرة ، إلى متاع لا قيمة له في الميزان الأخروي ، واتّبعوا مسلك الشيطان الذي أفضى بهم إلى الذلّة والهوان ، فخسروا المطلبين.
كنت من عشّاق قراءة القرآن الكريم ، وتلاوته ، وتعهده صباحاً ومساءً ، لا يمنعني من ذلك طارىء أو عارض ، وإنْ تخلّفت عن حصصه حصة تداركتها سريعاً ، فتربّت روحي على روحيّة الوحي ، وتشبّع عقلي بآياته العظيمة ، من خلال تدبري لها أثناء التلاوة والترتيل.
من بين المصطلحات اللافتة في القرآن ، والتي أخذت من اهتمامي مأخذه ، الآيات التي تحدثت عن نسبيّة الفهم والإيمان عند الناس ، فعدد منها أشار إلى حقيقة أفادت بأنّ أهل الحقّ قلّة ، وأنّ أصحاب الإيمان قلّة أيضاً ، وأنّ الوعاة والعارفين وأصحاب الخصال الرفيعة قلّة أيضاً ، حتّى أنّ أتباع الأنبياء الصادقين قلّة ، والصفوة من بيوتات الأنبياء عليهمالسلام هم قلّة القلّة ، ففهمت من خلال القرآن الكريم أنّ أتباع الصراط السويّ الذي جعله الله تعالى منهجاً آمناً للناس قلّة مقارنة بغيرهم ، فقال جلّ من قائل : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (١).
( وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ) (٢).
( ... مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) (٣).
( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (٤).
ومقابل الثلّة المؤمنة التي حصرها الله تعالى في عدد صغير من الناس ، أظهر لنا الكتاب العزيز معادلة أخرى تمثّلت في أنّ أتباع الباطل كثرة لا تقاس مقارنة بالثلّة المحقّة :
( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (٥).
_________________
(١) سبأ : ١٣.
(٢) ص : ٢٤.
(٣) الكهف : ٢٢.
(٤) البقرة : ٢٤٩.
(٥) وردت في آيات عديدة منها آية (١٨٧) من سورة الأعراف والآيات ( ٢١ و ٤٠ و ٦٨ ) من سورة يوسف وآية (٣٨) من سورة النحل ، وغيرها.
( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) (١).
( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) (٢).
( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (٣).
( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) (٤).
( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (٥).
فحصلت لدي قناعة بأنّ تلك المعادلة القرآنية مفادها : أنّ أتباع الدين الحقّ أقليّة ، وأنّ أتباع مسالك الانحراف عن الدين الحقّ أكثريّة ، فعرفت حينها أنّ المتمسكين بالدين الحقّ والمعبر عنه بالدين القيّم ، هم قلّة قليلة ، وطائفة من وسط الأمّة الإسلاميّة ، ذلك لأنّ المفهوم القرآني قد اعتمد على ترجيح القلّة من أتباع الحقّ على الكثرة ، ثمّ اتجهت إلى كتب السيرة والحديث ، فوجدت أنّ أتباع الأنبياء والرسل عليهمالسلام بما فيهم الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآله ، قلّة مستضعفون ليس لهم ثقل في مجتمعاتهم ..
وبتعدد قراءتي بدأتْ تظهر لي معان ومفاهيم متنوعة ، وكان تركيزي على الأحاديث الإخباريّة المتعلقة بمستقبل الأمّة الإسلاميّة ، فعثرت على أهم رواية جعلتني بعد الاطلاع عليها وإنزالها على أرض الواقع الإسلامي قديما وحديثاً ، اقتنع أنّ الحق لا يمكنه أن يتخطى أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله إلى غيرهم ، والدليل قائم خفّاق الراية دالاً على أحقيّة ذلك الخطّ في أنْ يكون ممثلاً وحيداً للإسلام
_________________
(١) العنكبوت : ٦٣.
(٢) الأنعام : ١١٦.
(٣) الزخرف : ٧٨.
(٤) يوسف : ١٠٦.
(٥) يوسف : ١٠٣.
الصافي الذي جاء به جدّهم صلىاللهعليهوآله ، الرواية تقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خالفهم حتّى يأتي أمر الله وهم كذلك ». أخرج الحديث مسلم والبخاري وغيرهم (١) ، متفقين على صحة صدوره عن النبي صلىاللهعليهوآله ، وبذلك ينقطع سبب الطعن فيه.
وبالنظر إلى متن الحديث ، نرى أنّ في كلام رسول الله صلىاللهعليهوآله ، إخبار بأنّ الدين الذي جاء به ، والذي عبّر عنه بالحقّ ، سيكون ملاكه طائفة من أمّته ، دون بقيّتها ، وهم في حال من الظهور والبروز ، بشكل جليّ في حاضرة الساحة الإسلامية ، وفي وسط مجتمعاتها على مرّ العصور ، دون انقطاع من عصر النبوة إلى أنْ يأتي أمر الله تعالى ، لا يلحقهم ضرر من مخالفيهم مهما أوتوا من فنون التمويه والمكر والخداع والتزوير ، لأنّ الدين الذي تبنوه هو دين الله ، والكلمة التي ألزموا بها أنفسهم هي كلمته سبحانه وتعالى.
ونظرت في دائرة النبي صلىاللهعليهوآله ، فلم أجد غير عليّ عليهالسلام عنصراً يحمل عنوان تلك الطائفة ، ورمزاً يؤكّد ذلك الظهور غير المنفك عن العصر النبوي ، رافعاً شعار أحقيته في قيادة الأمة الإسلامية ، مدللاً على ذلك بجملة من الأفعال التي اقرّ بها المخالفون له ، اعترافاً منهم بالعجز عن حلّ المعضلات التي ليس لها أبو الحسن (٢).
وورث النهج العلويّ أبناء عليّ عليهالسلام ، إماما الرحمة ، وسبطا الهدى ، وسيدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين عليهماالسلام ، ومن بعدهما جاء بقيّة أسباط الأمّة من النسل الطاهر عليهمالسلام ، وتبعهم شيعتهم البررة في كلّ العصور ، متحدين كلّ عوامل
_________________
(١) انظر الحديث بالفاظه المتفاوتة في : صحيح مسلم ٦ : ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤ وصحيح البخاري ٨ : ١٤٩ وسنن الترمذي ٣ : ٣٤٢ ، وغير ذلك من المصادر.
(٢) انظر الطبقات الكبرى ٢ : ٣٢٩ والاستيعاب في معرفة الاصحاب ٣ : ١١٠٢ ـ ١١٠٣.
إعاقة بقاء نهجهم المحمدي ظاهرين على من خالفهم ، متمسكين بالقيم الإسلامية الصافية ، باذلين من أجلها النفس والمال والولد.
لم يكن من السهل عليّ أنْ أجدَ هذا الدليل إلّا من بعد جهد ومعاناة طالت سنوات وأشهراً ، وقفت فيها أيضاً على أنّ بقيّة الخطوط الإسلاميّة كانت على صنفين :
الصنف الأول : المذاهب التي تأسست بعد وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله بأجيال عديدة ، لم يتحقق لهم فيها ظهور ، بقي منها من بقي بسبب دعم الحكّام لبعضها خدمة لأغراضه ، ومناوئة لأهل الحقّ من المحاربين لسياسات أولئك الحكام الظلمة ، اُذكر منها : المذاهب الأربعة في الفروع ومذهب الأشعريّ في الأصول ، والتي تناسل منها عدد آخر من الفرق كالوهابيّة والجماعات التكفيريّة كتنظيم القاعدة ، وجماعات التكفير والهجرة المنضوية تحت مظلّة السلفيّة.
الصنف الثاني : المذاهب التي تأسّست أيضاً بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآله ، منقطعة عن عصره ، واندثرت بسبب عدم دعم الحكّام لها ، فأفِلت ولم يعد لها وجود ، لانتهائها بانتهاء أصحابها والأمثلة عديدة أسوق منها : مذهب الليث ، والأوزاعي وسفيان الثوري وابن عيينة وابن حزم. وتيقنت أنّ المذهب الذي كنت أعتنقه ، وهو مذهب مالك ابن أنس ، لم يكن ليجد سبيلاً إلى الوجود لولا أبو جعفر المنصور العباسي ، الذي أمر مالكاً أن يكتب له كتاباً يواطىء عليه الناس ، في مسعى منه لصفّهم عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، أستاذه الذي درس على يديه باتّفاق أهل العلم ، ولم يسطع نجم مالك هذا إلّا بعد الدعم المتواصل للعباسيين له ، حيث كان ينادى « لا يفتى ومالك في المدينة ». والحال أنّ المدينة تعجُّ بشيوخ وأساتذة مالك ممّن لا يرضون بالركون إلى الظالمين.
ولم يكن لجوء المنصور إلى مالك إلّا بعد
أنْ أسقط من يديه محاولة تقريب
الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام إلى بلاطه ، تلك المحاولة التي سجّلها التاريخ بأحرف من عزّة وإباء :
أرسل المنصور العباسي إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام متوددا : لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟ فأجابه : « ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ولا أنت في نعمة فنهنيك ، ولا تراها نقمة فنعزيك بها ، فما نصنع عندك ؟ ».
فرد عليه المنصور : تصحبنا لتنصحنا ؟ فأجابه الإمام الصادق عليهالسلام بقوله : « من أراد الدنيا لاينصحك ومن أراد الآخرة لايصحبك » (١).
في عصر تزلّف به المتزلفون ، وتقرّب تجّار الدين بالدنيا إلى سلاطين الظلم وأئمة الجور ، كمالك بن أنس وغيره ممن كانوا يتردّدون على حكّام شهد لهم التاريخ بفظائع تكرّرت مع حلول كلّ واحد منهم على هرم السلطة في الأمّة.
ولم يكن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام مؤسس جامعة العلوم الإسلامية في المدينة ، والتي تخرج منها أربعة آلاف عالم في مختلف العلوم والفنون متبعاً غير منهج آبائه وأجداده في الالتزام بالإسلام المحمدي الأصيل ، الذي لم تشبه شائبة ، ولم يخالط كيانه دخيل من دخائل المتسلطين على رقاب المسلمين من بني أمية وبني العباس ، الذين لم يكن همّهم رعاية الدين ، بقدر ما كانوا يبحثون عمّن يمرّر مصالحهم ، ويحقّق مطامحهم ، ويكرّس رغبتهم في ترويض الأمة ، وإخضاعها لإرادتهم ، وقد نجحوا في ذلك من خلال غرس عقيدة تحريم الخروج على أولئك الحكام ، بدعوى محاربة الظلم ، ناسبين إلى النبي صلىاللهعليهوآله نهيه عن ذلك بقوله : « ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع. قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : لا ما صلوا » (٢).
_________________
(١) كشف الغمة للاربلي ٢ : ٤٢٧. مستدرك الوسائل ١٢ : ٣٠٧.
(٢) صحيح مسلم ٦ : ٢٣.
وبعد اطلاعي على تسلسل ظهور خطّ إسلام أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، والمعروف بالشيعة الامامية الاثني عشرية ، وكما يحلو للبعض تسميته بالرافضة ، وقوفاً دون إدراك لمعنى الرفض الذي ألبسوهم جلبابه ، وأدخلوهم بابه ، وهو رفض الأدعياء والظالمين الذين تسلّطوا على رقاب المسلمين ممّن لا أهليّة لهم في قيادة الأمة ، خرجت من استنتاجاتي واطلاعاتي على أحقيّة ذلك المنهج ، وموافقته للنصوص التي جاء بها القرآن والسنّة المطهرة.
لذلك كلّه أقول جازماً : إنّ الطائفة التي أخبرنا عنها النبي صلىاللهعليهوآله ، لم تكن غير طائفة المؤمنين الذين شايعوا عليّاً وأهل بيته عليهمالسلام ، من أمثال سلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والمقداد ابن الأسود ، وغيرهم من صلحاء الأمّة ، الذين عرفوا الحقّ ، وتبعاً لذلك عرفوا أهله ، وبقوا منذ أن وجدوا حول النبي صلىاللهعليهوآله وأهل بيته عليهمالسلام ، ظاهرين علماً وعملاً إلى يوم الناس هذا ، والحمد لله رب العالمين.