محمّد الرصافي المقداد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
تراثنا ، رغم أنّه منسوب إلى سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآله ؟
فقال : لعلّ ذلك راجع إلى الإهمال الذي لاقاه فكر أهل البيت عليهمالسلام ، من أتباع خطّ الأنظمة التي حمت رقاب أسلافنا.
وأومأت إليه برأسي موافقاً على عزوه ، وواصلت البحث عن الكتب من خلال ما توحي به عناوينها ، ومن خلال تصفّحي لتلك المؤلّفات ، وقفت على شدة اهتمام أصحابها بتدوين كلّ الأدعية التي سُمعت من بيت مهبط الوحي ومختلف الملائكة.
ولقد تتبّع ، هؤلاء العلماء الأفذاذ وغيرهم كلّ تلك الكنوز العظيمة ، واستطاعوا أنْ يخرجوا ذلك كلّه في كتب تحتوي على أعمال وعبادات وآداب حَوْل كامل ، من مسنونات ومستحبات وتعقيبات ، تسهيلاً وتمكيناً للراغبين في اتّباع آثار النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآله.
قفز إلى ذاكرتي حديث النبيّ صلىاللهعليهوآله : « الدعاء مخّ العبادة ». ووقفت على حقيقة أطلّت عليّ من خلال صفحات الأدعية التي كنت أتأمّل فيها تقول : إنّني كنتُ أعبدُ الله سبحانه وتعالى بلا مخّ وبلا روح أيضا.
والتفتّ إلى كتاب آخر استدرجني عنوانه ، كأنّما ينادي أعماق روحي : للإمام الخميني الراحل رضياللهعنه وطيّب ثراه ، تركتُ ما في يدي وانهمكت فيه تصفّحا وقراءة سريعة في فهرسه وبعض أبوابه ، فتملّكتني حيرة ، وأخذتني دهشة ، ربّاه .. ما هذا ؟ أيّ دين هذا ؟ وأيّ نوع من الناس هؤلاء ..؟ ولماذا حال حائل بيننا وبين هذه الخيرات والنعم العميمة ؟
أهكذا كان يصلّي النبي صلىاللهعليهوآله ، وأهل بيته الكرام ؟
أهذه هي فعلاً أدعية أئمة أهل البيت عليهمالسلام
لا شكّ أنّ الذي دعاه النبيّ صلىاللهعليهوآله
بباب مدينة علومه وأهل بيته عليهمالسلام
، أقدر على استيعاب الدين الإسلاميّ ، وتقديم شعائره بالشكل الصحيح
من غيرهم ، وانتقلت تلك المعارف ، والتطبيقات إلى ذريتهم وشيعتهم من بعدهم.
سألت عن اللغة التي كتب بها الإمام الخميني كتابه. فقيل لي : إنّها لغة العرفان ، ومنطق العارفين ، وكلامه هو تعبير عن تجلّيات للروح من مقام القرب ، ليست متاحة إلّا للذين أناخوا رحالهم في فناء الزهد والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ، وقد رأيت أنْ أنقل إليكم نبذة من كلامه ، ( ثمّ أخرج من بين طيّات ثيابه ورقة ) ، يقول قدسسره في بيان المعاني الروحيّة والأسرار العرفانيّة لسنن التكبيرات الست التي تسبق تكبيرة الإحرام عند سفر العبد إلى ملكوت العزة وفناء الطاعة :
« فأنت يا أيّها السالك إلى الله ، والمجاهد في سبيل الله ، إذا أقمت الصلب في محضر القرب ، وأخلصت النيّة في جانب العزلة ، وصفيّت قلبك ودخلت زمرة أهل الوفاء ، فهيىء نفسك لدخول الباب ، واطلب إجازة فتح الأبواب ، وتحرّك من منزل الطبيعة ، وارفع حجابها الغليظ ، بالتمسّك بمقام الكبرياء ، وارمه وراء ظهرك ، وكبّر وادخل الحجاب ، وارفعه إلى الوراء ، وارفع الحجاب الثالث ، فقد وصلت إلى منزل القلب ، فقف واقرأ الدعاء المأثور « اللهمّ أنت الملك الحقّ المبين ، لا إله إلّا أنت ، سبحانك وبحمدك ، عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي ، إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت » (١) ، واسلب المالكيّة عن غير الحقّ ، واحصر مطلق التصرّفات بتلك الآيات المقدّسة ، كي لا تحسب نفسك رافعا للحجاب ، ولائقا لتكبير الحقّ ، فإنّه أكبر منْ أن يوصف.
ثمّ اقصر الألوهيّة على الحقّ ، واطلب غفران ذنوبك ، ثمّ ارفع الحجاب الرابع والخامس وارمه إلى الخلف ، وكرّر التكبير ، وافتح عين قلبك حتّى تسمع النداء ، فإنْ ظهر في قلبك حلاوة المحضر ، ولذّة الورود أو هيبة الحضور وعظمته ، فاعلم أنّه قد صدرت رخصة الورود من جانب الغيب ، فقل في مجال الخوف والرجاء
_________________
(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٠٤.
والابتهال والتبتل والتذرّع « لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهديّ من هديت ، عبدك وابن عبدك بين يديك ، منك وبك ولك وإليك ، لا ملجأ ولامنجاً ولا مفرّ منك إلّا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك وحنانيك سبحانك ربّ البيت الحرام » (١). وتفكّر في حقائق هذه الأذكار الشريفة ، فإنّ فيها أبوابا من المعارف ، وفي نفس الوقت فيها أدب الحضور. وبعد تسبيح الحقّ ، وتنزيه مقامه المقدّس ، عن جواز التوصيف ، ارفع الحجاب السادس وكبّر ، فإنّ رأيتك لائقاً ، فارفع الحجاب السابع ، وهو اللطيفة السابعة ، وإلّا فقف واقرع باب إحسان الحقّ ، واعترف عن القلب بإساءتك وقل « يا محسن قد أتاك المسىء » وتوجه بأن تكون صادقا حقيقة ، وإلّا فكن حذرا وخائفا من النفاق في محضر ذي الجلال ، ثمّ بعد ذلك ارفع الحجاب السابع ، وارمه وراءك برفع اليد ، وقل تكبيرة الإحرام ، واعرف نفسك محرومة عن الغير ، فقد دخلت حرم الكبرياء ، فقل : « وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ... » (٢) واعلم بأنّك على خطر عظيم ، وهو النفاق في أوّل العبادة ، في محضر عالم السرّ والخفيّات. وإذا رأيت نفسك عارياً عن هذه المقامات ، فالكاتب المحجوب عن كلّ كمال ومعرفة ، والمقيّد بعلائق الدنيا ، وحبّ النفس والمشغول بالشهوة والغضب ، فلا تفضح نفسك في محضر الحقّ والملائكة المقرّبين ، واعترف بنقصك وعجزك ، وكن على خجل من قصورك واحتجابك ، وادخل بانكسار القلب والانفعال والخجلة واقرأ الأذكار على لسان الأولياء فإنّك لست لائقاً لها ، لأنّه ما لم تترك نفسك والعالمين ، لم تكن صادقاً في هذه الأقوال ، وما لم تُسلّم تسليماً حقيقيّاً بين يدي الله ، لم تكن مسلماً ، وما دمت رائياً نفسك ، لم تخرج عن حدود الشرك ، وما لم تكن فانياً مطلقاً في جناب الحقّ
_________________
(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٠٤.
(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٠٤.
لم تستطع أنْ تقول : « إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين » (١) ، فإن لم تجد نفسك بطل هذا الميدان ، فلا تدخل في صفّ أهل المعرفة أصلاً ، ولا توجب خجلتك عند الأحرار ، فعن الصادق عليهالسلام قال : « فإذا كبّرت فاستصغر ما بين السموات العلا والثرى دون كبريائه ، فإنّ الله تعالى إذا اطّلع على قلب العبد وهو يكبّر ، وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره ، قال : يا كاذب أتخدعني ؟ وعزّتي وجلالي لأحرمنّك حلاوة ذكري ، ولأحجبنّك عن قربي ، والمسارّة بمناجاتي » (٢).
اختبر أنت قلبك حين صلاتك ، فإنْ كنت تجد حلاوتها ، وفي نفسك سرورها وبهجتها ، وقلبك مسرور بمناجاته ، وملتذّ بمخاطباته ، فاعلم أنّه قد صدقك في تكبيرك له ، وإلّا فقد عرفت من سلب لذّة المناجاة ، وحرمان حلاوة العبادة ، إنّه دليل على تكذيب الله لك وطردك من بابه » (٣). وهكذا أخذت أتتبع الدرر التي حرمنا منها سنين عديدة فكانت تهزّ أعماقي واستوقفني كلام بليغ ، قاله الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهالسلام ، لرجل حجّ البيت الحرام ، رأى منه عُجباً في نفسه ، ويقيناً بقبول حجّه فسأله الإمام عليهالسلام : « أحججت يا شبلي ؟.
قال : نعم ، يا ابن رسول الله.
فقال عليهالسلام : أنزلت الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت ؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : فحين نزلت الميقات ، نويت أنّك خلعت ثوب المعصية ، ولبست ثوب الطاعة ؟
_________________
(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٠٤.
(٢) مستدرك الوسائل ٤ : ٩٦.
(٣) سرّ الصلاة : ١٢٣ ـ ١٢٧.
قال : لا.
قال عليهالسلام : فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك ، نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فحين اغتسلت ، نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فما نزلت الميقات ، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب ، ولا اغتسلت.
ثمّ قال عليهالسلام : تنظفت وأحرمت ، وعقدت بالحجّ ؟
قال : نعم.
قال : فحين تنظّفت وأحرمت ، وعقدت الحجّ ، نويت أنّك تنظفت بنور التوبة الخالصة لله تعالى ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فحين أحرمت ، نويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ محرّم حرّمه الله عزّ وجلّ.
قال : لا.
قال عليهالسلام : فحين عقدت الحجّ ، نويت أنّك قد حللت كلّ عقد لغير الله ؟
قال : لا.
قال له عليهالسلام : ما تنظفت ، ولا أحرمت ولا عقدت الحجّ.
قال عليهالسلام له : أَدَخلت الميقات ، وصلّيت ركعتي الإحرام ولبّيت ؟؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : فحين دخلت الميقات ، نويت أنّك بنيّة الزيارة ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فحين صليت الركعتين ، نويت أنّك تقرّبت إلى الله بخير الأعمال من الصلاة ، وأكبر حسنات العباد ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فحين لبّيت ، نويت أنّك نطقت لله سبحانه بكلّ طاعة ، وصمتَ عن كلّ معصية ؟
قال : لا.
قال له عليهالسلام : ما دخلت الميقات ، ولا لبّيت ، ثمّ قال عليهالسلام له : أَدخلت الحرم ، ورأيت الكعبة وصلّيت ؟.
قال : نعم.
قال عليهالسلام : فحين دخلت الحرم ، نويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ غيبة تستغيبها المسلمين ، من أهل ملّة الإسلام ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فحين وصلت مكّة ، نويت بقلبك أنّك قصدت الله ؟.
قال : لا.
قال عليهالسلام : فما دخلت الحرم ، ولا رأيت الكعبة ، ولا صليت.
ثمّ قال عليهالسلام : طفت بالبيت ، ومسست الأركان وسعيت ؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : فحين سعيت نويت أنّك هربت إلى الله ، وعرف منك ذلك علّام الغيوب ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فما طفت بالبيت ، ولا مسست الأركان ، ولا سعيت.
ثمّ قال عليهالسلام له : صافحت الحجر ، ووقفت بمقام إبراهيم عليهالسلام ، وصلّيت به ركعتين ؟
قال : نعم.
فصاح عليهالسلام صيحة كاد يفارق الدنيا ، ثمّ قال : آه ، آه. ثمّ قال عليهالسلام : من صافح الحجر الأسود فقد صافح الله تعالى ، فانظر يا مسكين ، ولا تضيّع أجر ما عظم حرمته ، وتنقض المصافحة بالمخالفة ، وقبض الحرام ، نظير أهل الآثام.
ثمّ قال عليهالسلام : نويت حين وقفت عند مقام إبراهيم عليهالسلام ، أنّك وقفت على كلّ طاعة ، وتخلّفت عن كلّ معصية ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فحين صلّيت ركعتين ، نويت أنّك بصلاة إبراهيم عليهالسلام ، وأرغمت بصوتك أنف الشيطان ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فما صافحت الحجر الأسود ، ولا وقفت عند المقام ، ولا صلّيت فيه الركعتين.
ثمّ قال عليهالسلام له : أأشرفت على بئر زمزم ، وشربت من مائها ؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : نويت أنّك أشرفت على الطاعة ، وغضضت طرفك عن المعصية ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فما أشرفت عليها ، ولا شربت مائها.
قال : أسعيت بين الصفا والمروة ، ومشيت وتردّدت بينهما ؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : نويت أنّك بين الرجاء والخوف ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فما سعيت ولا مشيت ، ولا تردّدت بين الصفا والمروة.
ثمّ قال عليهالسلام : خرجت إلى منى ؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : نويت أنّك أمنت الناس من لسانك وقلبك ويدك ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فما خرجت إلى منى.
ثمّ قال له : أوقفت الوقفة بعرفة ؟ وطلعت جبل الرحمة ، وعرفت وادي نمرة ، ودعوت الله سبحانه عند الميل والحجرات ؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : هل عرفت بموقفك بعرفة ، معرفة الله سبحانه أمر العارف والعلوم ، وعرفت قبض الله على صحيفتك ، واطّلاعه على سريرتك وقلبك ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : نويت بطلوعك جبل الرحمة ، أن الله يرحم كلّ مؤمن ومؤمنة ، ويتولى كلّ مسلم ومسلمة ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فنويت عند نمرة أنّك لا تأمر حتّى تأتمر ، ولا تزجر حتّى تنزجر ، قال : لا.
قال عليهالسلام : فعندما وقفت عند العلم والنمرات نويت أنّها شاهدة لك على الطاعات ، حافظة لك مع الحفظة بأمر السماوات ؟.
قال : لا.
قال عليهالسلام : فما وقفت بعرفة ، ولا طلعت جبل الرحمة ، ولا عرفت نمرة ، ولا دعوت ، ولا وقفت عند النمرات.
ثمّ قال عليهالسلام
: مررت بين العلمين ، وصلّيت قبل مرورك ركعتين ، ومشيت
بمزدلفة ، ولقطت فيها الحصى ، ومررت بالمشعر الحرام ؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : فحين صلّيت ركعتين ، نويت أنّها صلاة شكر في ليلة عشر تنفي كلّ عسر ، وتيسّر كلّ يسر ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فعندما مشيت بين العلمين ، ولم تعدل عنهما يميناً وشمالاً ، نويت أن لاتعدل عن دين الحقّ يميناً وشمالاً ، لا بقلبك ، ولا بلسانك ، ولا بجوارحك ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فعندما مشيت بمزدلفة ، ولقطت منها الحصى ، نويت أنّك رفعت عنك كلّ معصية وجهل ، وثبت كلّ علم وعمل ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فعندما مررت بالمشعر الحرام ، نويت أنّك أشعرت قلبك إشعار أهل التقوى ، والخوف لله عزّ وجلّ ؟
قال : لا.
قال عليهماالسلام : فما مررت بالعلمين ، ولا صلّيت ركعتين ، ولا مشيت بالمزدلفة ، ولا رفعت منها الحصى ، ولا مررت بالمشعر الحرام.
ثمّ قال عليهالسلام : وصلت منى ورميت الجمرة ، وحلقت رأسك ، وذبحت هديك ، وصلّيت في مسجد الخيف ، ورجعت إلى مكّة ، وطفت طواف الإفاضة ؟
قال : نعم.
قال عليهالسلام : فنويت عندما وصلت منى ، ورميت الجمار ، أنّك بلغت إلى مطلبك ، وقد قضى ربّك لك كلّ حاجتك ؟
قال : لا.
قال : فعندما رميت الجمار نويت أنّك رميت عدوّك إبليس ، وغضبته بتمام حجّك النفيس ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فعندما حلقت رأسك ، نويت أنّك تطهّرت من الأدناس ، ومن تبعة بني آدم ، وخرجت من الذنوب كما ولدتك أمّك ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فعندما صلّيت في مسجد الخيف ، نويت أنّك لا تخاف إلّا الله عزّ وجلّ وذنبك ، ولا ترجو إلّا رحمة الله تعالى ؟
قال : لا.
قال عليهالسلام : فعندما ذبحت هديك ، نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع ، بما تمسّكت به من حقيقة الورع ، وأنّك اتّبعت سنّة إبراهيم عليهالسلام ، بذبح ولده ، وثمرة فؤاده ، وريحانة قلبه.
قال : لا.
قال عليهالسلام : فعندما رجعت إلى مكّة ، وطفت طواف الإفاضة ، نويت أنّك أفضت من رحمة الله تعالى ، ورجعت إلى طاعته ، وتمسّكت بودّه ، وأدّيت فرائضه ، وتقرّبت إلى الله تعالى ؟
قال : لا.
قال له زين العابدين عليهالسلام : فما وصلت منى ، ولا رميت الجمار ، ولا حلقت رأسك ، ولا أدّيت نسكك ، ولا صلّيت في مسجد الخيف ، ولا طفت طواف الإفاضة ، ولا تقرّبت ، فإنّك لم تحجّ ، فطفق الشبليّ يبكي على ما فرّطه في حجّه ، وما زال يتعلم حتّى حجّ من قابل بمعرفة ويقين » (١)
_________________
(١) مستدرك الوسائل ١٠ : ١٦٧.
فالعبادة عند صفوة الله وأحبّائه ، ليست وسيلة للتواصل مع الخالق ، وأداء شكره على نِعَمه فقط ، بل هي جوهر وجودهم وأساس خلقتهم ; لذلك يستحيل علينا تقليد الأطهار تقليداً باطنياً ، بل قد يصعب علينا تقليدهم حتّى في الظاهر ; لأنّهم أرواح زكيّة وطينة طيّبة ، تفوقنا تلبية واستجابة.
وتوجّه أهل البيت عليهمالسلام وأدعيتهم وصلواتهم في محاريب العبادة إلى الله تعالى لم يكن مسبوقاً من أحد ، سوى معلّمهم الأكبر ، سيّد بيتهم ، وعلم هداهم ، النبيّ محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله ، فتح لهم الباري تعالى باب رحمته في خمس صلوات مفروضة ، جملة ركعاتها ١٧ ركعة ، فعظّموه بضعفها نوافل ، جملة ركعاتها ٣٤ ركعة ، وإذا مجموع عدد ركعات صلواتهم المفروضة والمسنونة قد أربى على ٥١ ركعة ، زادتها رونقاً وتقوى ، تأملاتهم ، واعتكافاتهم ، وتوجّهاتهم ، ومناجاتهم للباري تعالى ، خالقهم والمنعم عليهم.
قررت أنْ اشتري كلّ تلك العناوين وآخذها معي ، ولمّا لم يكن معي المال الكافي ، استقرضت صديقي ، فأقرضني لإتمام بقيّة حساب كتبي المقتناة.
وعدت إلى بيتي بتلك الكنوز التي لا
تقدّر بثمن ، ثمّ عكفت عليها قراءة وتمحيصاً ، ولم يمرّ يوم وأنا بين تلك الكتب الثمينة التي اقتنيتها ، أتنقل من
كتاب إلى آخر من معين إلى سلسبيل ، ومن ماء روي إلى ماء فرات ، تبيّنت حقيقة أئمّة أهل البيت عليهمالسلام
، ومقامهم ومكانتهم وعلومهم ، فوجدت أنّ العبادة قد أناخت برحلهم ، وحطّت في رباطهم ، ووطّنت نفسها على التسليم لهم ببلوغ منتهى رضا الربّ تبارك وتعالى فيها ، ووقفت على أنّ الإسلام الذي قدّمه أهل البيت عليهمالسلام للأمّة الإسلاميّة ، نقلاً عن جدّهم الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله
، هو الإسلام الصافي الذي لم تشبه شائبة التحريف ، ولا مسّته أيدي المزوّرين ، الدين الخاتم الحقّ الذي جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين صلىاللهعليهوآله
، وتركه لأهل بيته الطاهرين ، باعتبارهم وعاته
وحفظته والقائمين به صدقاً وعدلاً ، فلم أتردّد في موالاتهم ، واتّباعهم ، ومحبّتهم ، والإيمان إيماناً جازماً بأنّهم الأئمّة الهداة ، الذين بفضلهم حافظ الدين على نقاوته ، وتواصل عطائه رغم كلّ المحاولات التي أرادت القضاء عليه ، وذلك دليل آخر على ربّانيّة هؤلاء الأطهار ، وشيطانيّة محاربيهم ، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين.
الحلقة الثامنة والعشرون والأخيرة
شيّعتني فطرتي وكتاب المراجعات
ما إن أتمّ عمار إفادته ، وأدلى بشهادته ، حتّى أخذت الكلمة ، فشكرت جميع من حضر من الإخوة ، على ما أبدوه من شهادات لله تعالى ، ولرسوله صلىاللهعليهوآله ، ولأهل البيت عليهمالسلام ، وللمسلمين الذين ما يزالون بعيدين عن منهاج أهل البيت عليهمالسلام ، وللتاريخ الذي لم يرق إليه الدنس ، متوّجاً جملة الإفادات بإفادتي أنا أيضاً فقلت :
عرفت الإسلام صغيراً في كنف عائلتي المحافظة ، القادمة من تخوم شطّ الجريد ، ومن فطناسة ، إحدى القرى الصحراويّة النائية من ولاية قبلي ، فكنت أُصلّي وأصوم بأمر وإرشاد وتوجيه من أبي وأمّي.
منذ أنْ بدأتُ أدرك ، وفي سنواتي الأولى في المدرسة الابتدائيّة ، كنت أتردّد على بيت أحد رفاق الدراسة ، الذي كانت تشدّني إلى بيت أسرته ، صورة ملكت عليّ جميع أحاسيسي ، وشدّتني إلى عالم من الخيال والتأمّل ، فكنت أسرح معها بعيداً في عالم ذلك الفارس العظيم الذي كُتب إلى جانب صورته ، عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، على فرس أبيض قد نطّ برجليه الأماميّتين في الفضاء وهو يوجّه ضربته القاضية إلى فارس آخر ، كتب عليه رأس الغول ، وقد سالت الدماء منه.
انطبعت تلك الصورة في أعماق نفسي ; لأنّني قد وجدت أخيراً ما يلامس الحكايات التي كانت جدّتي لأمّي رحمها الله تحكيها لي ، ولأخوتي ، عن سيّدنا عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ومعاركه الحاسمة مع رأس الغول ـ وقد علمت فيما بعد أنّه عمرو بن ودّ ، وأن المعركة كانت غزوة الخندق ـ
جدّتي كانت تُكبر الإمام عليهالسلام وتصفه بحيدرة الأحمر ـ نسبة إلى ندرة مثيله ، كندرة الكبريت الأحمر ـ وحكاياتها كلّ ليلة من ليالي الصيف أو الشتاء لا تنتهي ، وكنّا نأوي إليها بعد العشاء ، فتحكي لنا عن ذلك الرجل العظيم ، وتروي قصصاً من بطولاته ، فنرهف لها السمع ، ونسكن حولها كأنّنا كبار عاقلون ، وكأنّ البيت لم يعد يحوي أطفالاً لا يهدؤون من اللهو واللعب والعبث.
يمكن اعتبار أنّ جدتي هي التي عرّفتني بالإمام عليّ عليهالسلام ، وتحديداً عرّفتني بجانب الرجولة والبطولة فيه ، وكانت الصورة التي شاهدتها متزامنة مع فترة الحكايات عنه ، فكنت أستغلّ الفرصة كلّما قصدت بيت رفيق الدراسة ، لأمكث أكبر وقت ممكن أمام تلك الصورة المعبّرة.
كبرتُ وكبرت معي أحلامي وآمالي ، ولم يكبر تديّني لسبب لم أفهمه إلّا بعد أنْ تشيّعت لأئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، واعتنقت إسلامهم ، وهو أنّ التديّن الوراثي قاصر عن تقديم الحجج والأدلّة والبراهين المؤيّدة لهذه العقيدة ، أو تلك الشعيرة ، ممّا أثّر سلباً على المتدينين بالوراثة ، فعجزوا عن الدفاع عن عقائدهم أمام ادّعاءات خصومهم من أتباع الأفكار الماديّة والعلمانيّة.
ومع انتمائي العقائديّ الذي غلب عليه الطابع الوراثيّ ، أخذت عن والدي الكريم ، أعزّه الله وأبقاه ، روحيّة الثورة والحماسة والشجاعة والرجولة والكرم ، وهي خصال شهد له بها القريب والبعيد ، حتّى أصبح مضرب مثل من عايشه عن قرب.
وقد كانت تلك الخصال دافعاً لوالدي ـ الذي
ترّبى يتيماً ـ في مقاومة الاستعمار الفرنسي ، والانخراط في سلك الثوّار ، وحمل السلاح دفاعاً عن البلاد والقيم والمبادىء التي تربى عليها ، فعن والدي أخذت تلك الخصال ، وبه اقتديت ، وكانت بذرة رفض الظلم وعدم الخضوع والاستكانة له ، هي التي ميّزت
شخصيّتي ، وهي التي كان لها الأثر البالغ في نموّ الحس الإنساني في داخلي ، وتحوّلت البذرة إلى شجرة مورقة ضاربة العروق في أعماق عقلي وقلبي وكياني ، وأينعت ثمارها في ضميري قناعة لا تتزحزح أبداً من أنّ الظلم والظالمين ليس لهم مكان في شخصي وفي حياتي ; لذلك فإنّني أتقرّب إلى الله تعالى بكرههم وبغضهم والبراءة منهم ، ومقارعتهم لو أجد لهم قوّة.
ومرّت الأيام وفارقت مدينة قابس سنين طويلة ، وعصفت بي ظروف عديدة ، يطول المقام بذكرها وشرحها ; إذا إنّها كانت تتعلّق برفض الظلم ، ومقارعة الظالمين.
عدت إلى مدينة قابس سنة ١٩٨٠ بعد أن فارقتها سنة ١٩٦٣ ، كأنّما قُدّر لي أنْ أعود إلى أجواء الصورة التي كنت شاهدتها في صغري ، وأجواء حكايات جدّتي رحمها الله عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، وكأنّما قدّر لتلك البقعة أنْ تكون ، منطلق الرؤية والتصوّر الجديد عن الإمام عليهالسلام.
كنتُ أعرف جيّداً أنّ لي بها ابن عمّ ، وكان أوّل عمل قمت به عند وصولي ، التوجّه إليه ، فاستقبلني ورحّب بي ، وأعلمته بأنّني جئت أبحث عن عمل يناسب اختصاصي ، ولم يدم بحثي طويلاً ، إذ سرعان ما وجدت عملاً في إحدى شركاتها الكبرى.
باشرت عملي بحمد الله تعالى ، وكان عليّ أن أتزوّج سريعاً ، فقد بلغت من العمر ٢٧ سنة ، وتزوّجت في صيف تلك السنة مودّعاً العزوبيّة ، واستقررت في بيت مستقلّ أنا وزوجتي ، تقاسمت فيه معها تقلّبات الزمن وابتلاءات قضاء وقدر الله تعالى ، ورزقنا ذرية طيبة ، والحمد له على نعمائه التي لا تحصى.
في أحد الأيّام ، قصدت بيت ابن عمّي ،
ولمّا انتهيت إليه ، حدّثني قائلاً : هل تعرف شيئاً عن الشيعة ؟ فأجبته بالنفي. فقال : لقد كنت ذهبت منذ مدة إلى مدينة
قفصة ( مدينة تقع غرب مدينة قابس ، وتبعد عنها ١٤٦ كلم ، تمتاز بمناخ جبليّ صحراويّ يغلب عليه البرد الشديد في الشتاء ، والحرارة المرتفعة في الصيف ) لمقابلة الشيخ التيجاني السماوي ، والتعرّف على المذهب الشيعيّ الذي اعتنقه منذ سنوات ، عن طريق أحد الإخوة العراقيين ، وعاد إلى تونس وهو يدعو الناس إليه.
فقلت له : وهل أخذت فكرة جيّدة عن التشيّع منه ؟
فقال : لقد تناقشت معه حول عدد من المسائل ، ولكنّني لم أقتنع بكلامه ، فعدت منه مشوّش الفكر متشكّكاً ، على أمل البحث.
قلت : وكيف يتسنّى لك ذلك وكتب الشيعة غير موجودة عندنا ؟
قال : القضيّة ليست متعلّقة بكتب الشيعة ; لأنّ ما احتجّ به الشيخ التيجاني عليّ لم يخرج من دائرة السنّة التي أنتمي إليها ، فكتب الصحاح والمدوّنات الروائية السنيّة الأخرى هي المصادر التي كان يحتجّ بها عليّ ( سكت قليلا ثمّ قال ) : لقد أرسل إليّ الشيخ التيجاني السماوي منذ أيام كتابين ، الأوّل : هو كتاب المراجعات للسيّد عبد الحسين شرف الدين الموسوي رضياللهعنه ، والثاني : كتاب دلائل الصدق للشيخ المظفر رضياللهعنه ، ولدي الآن رغبة في مطالعتهما ، فهل ترافقني في التعرّف على هذا الفكر ؟ فوافقته على الفور ، وجرت إجابتي على لساني كأنّما هناك شيء يدفعها إلى الموافقة دفعاً.
بدأت جلسات مطالعة كتاب المراجعات ،
فإذا هو كتاب يحتوي على لقاءات ومراسلات جرت بين السيّد عبد الحسين وشيخ جامع الأزهر في تلك الفترة ، والمدعو بالشيخ سليم البشري ، يعني أنّه حوار ونقاش بين عالمين : الأوّل : شيعيّ عراقيّ المولد ، لبناني النشأة ، ينحدر نسبه إلى الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق عليهماالسلام
، والثاني : مصريُّ النشأة والمولد ، قُلّد مشيخة الأزهر الشريف في
تلك الفترة من الزمن ، كان لقاءهما الأوّل في القاهرة ، وتعدّدت للودّ الذي نشأ بينهما ، والرابطة التي اتفقت رغبتهما على إنشائها فيما بعد للتقريب بين المدارس الفقهيّة الإسلاميّة ; والتأسيس لروح الأخوّة الإسلاميّة في شكل رابطة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة ، هذه التي نتمنى أنْ تعمّ كافّة علماء الأمّة الإسلاميّة ; لتجني من ورائها وحدة الكلمة والصف.
كان الحوار علميّاً إلى أبعد الحدود ، وكان الشرط الذي وضعه شيخ الأزهر ، هو الاستدلال على أحقيّة الإمام عليّ عليهالسلام على إمامته العامّة ، وولايته لأمور المسلمين التي قلّده النبيّ صلىاللهعليهوآله إياها ، من خلال اعتماد النصوص الصحيحة المدوّنة عند أهل السنّة في كتبهم المشهورة ، باعتبار أنّ قراءة نفس تلك النصوص من المنظور السنّي ، لم تسفر إلّا على نتيجة مخالفة تماماً لما وصل إليه أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم.
بدأنا في قراءة المراجعات ، مراجعة مراجعة ، فكنت كلّما انقضى الزمن المخصّص للمطالعة ، إلّا وغادرت بيت ابن عمّي متلهّفاً إلى الموعد القادم ، ورأيتني في تلك الأيّام أكثر تحفّزاً وأشدّ حماسة ، وأدقّ موعداً ، وأرهف حسّاً من قبل ، ولم نأتِ على آخر صفحات كتاب المراجعات ، إلّا وتيقنت تمام اليقين ، بأحقيّة الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام في قيادة الأمّة الإسلاميّة ، بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله.
استطاع صاحب كتاب المراجعات ، أنْ يثبت
من خلال النصوص التي استدلّ عليها من مصادر أهل السنّة ، أحقيّة الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام في الإمامة العامّة ، باعتباره المؤهّل الأوحد لقيادة الأمّة الإسلاميّة ، وليكون المرجع
للأول ، في ما يتعلق بالأحكام الشرعيّة ، ممّا دفع بشيخ جامع الأزهر ، إلى الاعتراف بتوضيحات السيّد ، والإقرار بنتيجة البحث المتداول بينهما في مسألة الإمامة ، من حيث كون الإمامة رديف النبوّة ، ودورها يتجاوز إطار الحكومة ، ليشمل مقام
حفظ التشريع الإسلاميّ ، ووجوب التعيين فيها على الله تعالى ، ضرورة تطلبتها مرحلة ما بعد النبوّة ، وبيان ذلك على النبيّ صلىاللهعليهوآله واجب ، يندرج في إطار التبليغ الموكّل به ، وقد نصّ المولى على ذلك ، وبلّغ نبيّه صلىاللهعليهوآله الأمّة ، ونصّب عليّاً عليهالسلام في منصرفه من حجّته المعروفة بحجّة الوداع ، يوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة ، في موضع يسمّى غدير خمّ ، قبل أسابيع قليلة من وفاته صلىاللهعليهوآله ، وقد قام قبل ذلك بنفسه بتهيئة وإعداد الإمام عليّ عليهالسلام لتلك المهمّة الجسيمة ، فربّاه وعلّمه ورعاه وأحاطه بعنايته الفائقة ، ممّا أثار حفيظة المناوئين ، وأشعل حسد وبغض عدد من الصحابة لعليّ عليهالسلام ، ولمّا رأى النبيّ صلىاللهعليهوآله على وجوه الناس ومن خلال أفعالهم ما قذف به صدأ قلوبهم من كراهيّة وحسد وحقد على عليّ وأهل بيته عليهمالسلام ، حذّرهم تحذيراً شديداً في أكثر من مناسبة ، وبعد كلّ ظهور لذلك الإحساس البغيض ، من ذلك أنّه قال لبريدة الأسلمي : « لا تقع في عليّ ، فإنّه منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي ، وإنّه منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي » (١) وزوّجه سيّدة نساء العالمين عليهاالسلام ، بعد أنْ ردّ كلّ من طلبها للزواج ، عندما جاءه أمر الوحي بذلك ، وقال صلىاللهعليهوآله : « لو لم يكن عليّ ، لما كان لفاطمة كفؤ » (٢) وهو الوحيد الذي لم يتأمّر عليه أحد عدا النبيّ صلىاللهعليهوآله ، بينما تأمّر هو عليهالسلام على البقيّة من الصحابة في مواطن عديدة ، وأمر صلىاللهعليهوآله بغلق كافّة الأبواب المشرّعة على المسجد إلّا بابه وباب عليّ وفاطمة ، وقد احتجّ منهم من احتجّ على ذلك القرار لكنّه أجابهم بأن الله سبحانه وتعالى أمره بذلك (٣) ، وعزل ابن أبي قحافة من إمارة الحجّ وإرسال عليّ عليهالسلام بدله أميراً دليل على أنّ مسألة الإمارة لا يصلح لها أحد
_________________
(١) مسند أحمد ٥ : ٣٥٦ ، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ٥ : ٢٦٢.
(٢) مقتل الحسين للخوارزمي : ١٠٧ ، ينابيع المودّة ٢ : ٢٨٦ ، واللفظ للأوّل.
(٣) سنن النسائي ٥ : ١١٨ ، مسند أحمد ١ : ١٧٥ و ٤ : ٣٦٩ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٥.
وعليّ عليهالسلام موجود (١) ، فكانت كلّ تلك الأعمال والإشارات والبيانات ، تعريفاً بمقام عليّ عليهالسلام ، وتهيئة للمسلمين بقبوله إماماً وقائداً وعَلَماً عليهم ، يسلك بهم طريق الرشاد ، ويهديهم سواء السبيل.
ومهّد صلىاللهعليهوآله لعملية تسليم السلطة لعلّي عليهالسلام من بعده ، بشكل يُهيىء الأمة لتقبل ذلك ، بالنصّ على أفضليته ، وأحقيّته بمنصب الإمامة ، ولياقته بموضع القيادة ، على رأس هرم السلطة ، وخصائصه التي يتميز بها عن غيره ، في عدد من الأحاديث المتّفق على صحّتها ، ومنها قوله صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام : « أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، غير أنّه لا نبيّ بعدي » لمّا تركه خليفة له على المدينة ، وخرج لغزوة تبوك ، تحسّباً من مؤامرة المنافقين.
لكنّ الأمّة أبت أن تسمع وتطيع ، وحصل لها ما حصل لبني إسرائيل ، عندما تجاهلوا تعيين موسى لهارون أخاه خليفة له عليهم ، واستضعفوه وكادوا يقتلونه كما صرّح بذلك القرآن الكريم.
ومن المراجعات انتقلنا إلى مطالعة كتاب دلائل الصدق ، للشيخ المظفر قدسسره ، فترسّخت قناعاتي ، وتجذّر إيماني بحقيقة أهل البيت عليهمالسلام ، وصحّة عقيدتهم ، ونقاوة أركانها ، وسلامة بناءها ، ودقّة تحليلها للمسائل ، وإجاباتها المنطقيّة على الإشكالات المطروحة ، وردودها المفحمة على الطاعنين ، فأعلنت تشيّعي ، وأظهرت عقيدتي في الوسط الذي كنت أعيش فيه ، وتحملت المسؤوليّة في نشر الإسلام المحمّدي ، الذي نقله أئمّة أهل البيت عليهمالسلام الاثني عشر ، عن جدّهم النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ، فكان ذلك منطلقاً فعليّاً وبداية مثمرة للدعوة إلى التشيّع الإمامي الاثني عشري ، فلم تمرّ سنوات قليلة حتّى أصبح التشيّع متواجداً داخل أسوار الجامعة التونسيّة ، ومنه إلى الأُسر والقرى والمدن ، رغم قلّة الموارد ، وضيق ذات
_________________
(١) انظر سنن الترمذي ٤ : ٣٣٩ ، سنن النسائي ٥ : ١٢٨ ، مسند أحمد ١ : ١٥١.
اليد ، من أن تفي بكلّ متطلّبات الدعوة ، من تنقل وشراء للكتب ، وطبع للدراسات وتوزيعها على الراغبين في مطالعة الفكر النيّر ، لمن أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ...
خاتمة المطاف
الآن وبعد أن انتهينا من جميع إفادات الإخوة الكرام ، يمكننا أنْ نلخّص الأسباب التي دعت الإخوة الحاضرين إلى اعتماد إسلام أهل البيت عليهمالسلام ، والتشيّع لهم ، وترك ما دونه من أسلام منسوب إلى الصحابة ، وما هو في حقيقته ، غير خليط من حقّ وباطل أسّسه الطغاة من بني أميّة على مدى أكثر من قرن ، سهر على غرسه حكّامهم في أجيال الأمّة ، فنشأ سوادهم على ذلك ، والناس على دين ملوكهم.
وبتتبعنا للحجج التي دفعت بهؤلاء الباحثين إلى اعتبار أنّ الإسلام الشيعيّ الاماميّ الاثني عشري هو الإسلام المحمّدي الصحيح ، الذي لم تشبه شائبة التحريف ، ولا أصابه نزق الظالمين ، نجد أنّ تلك الحجج قد انقسمت في مجموعها إلى محورين أساسيّين : المحور النقلي والمعبّر عنه بالروائي ، حيث اعتمد علماء المسلمين الشيعة فيه على النصوص التي هي عند مخالفيهم ، كأساس أوّل في الاحتجاج ، وهي مقسّمة بدورها إلى قسمين :
القسم العقائدي
وقد أعطى للتوحيد حقيقته ، من حيث ذات الله تعالى المقدسة وصفاته ووضعها موضعها ، وقد سلك مسلكاً تنزيهيّاً واضحاً ، نفى عنه كلّ ما ادّعاه غيرهم من تحقّق رؤيته في الدنيا والآخرة ، ومصاحبته إلى الجنّة ، وأعطوه حقّه في العدل ، بينما نسبه غيرهم إلى الظلم.