نعم لقد تشيّعت

محمّد الرصافي المقداد

نعم لقد تشيّعت

المؤلف:

محمّد الرصافي المقداد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قال : أنا لم أدّع أنّ جميع فرق الشيعة ناجون ، بل لم يدّع ذلك أحد من علماء الأمّة ، غير أنّي سأبين لك أمراً قد يكون خفي عليك ثمّ أعود لبيان مَن هي الفرقة الناجيّة ، وهذا الأمر يتعلّق بتتمة الحديث السابق الذي بُتر وغُيّر من طرف له مصلحة في ذلك ، فإنّ السائل عن الفرقة الناجية لم يكن غير أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيثُ روى الشيخ الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي في كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر ، رواية طويلة جاء في آخرها : « يا أبا الحسن ! إنّ أمّة موسى افترقت أحد وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار ، وإنّ أُمّة عيسى افترقت على اثنين وسبعين فرقة ، فرقة ناجيّة والباقون في النار ، وإنّ اُمّتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار. فقال : يا رسول الله ! من الناجية ؟ قال : المتمسك بما أنت عليه وأصحابك » (١).

إذن ، فعليٌ هو المجسّد لمنهج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الهادي والقبس الذي أضاء الظلمة بعده. ولذلك نرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يُشير إلى عمار بن ياسر بهذه الحقيقة قائلاً : « يا عمار ابن ياسر إنْ رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي فإنّه لن يدليك في ردى ، ولن يخرجك من هدى... » (٢).

أمّا انقسام الشيعة إلى فرق شأنها شأن بقيّة المذاهب ، فذلك مردّه إلى اختلاف الناس ، وليس إلى الدين الذي جاء موحّدا ومؤلّفا ولم يأت مفرّقاً ، وأنا لم ألتزم في تشيعي إلّا بما وصلتْ إليه قناعتي ، حسب النصوص التي قرأتها ، ودرستها متناً وسنداً ، وتتبعت أقوال العلماء الأعلام فيها ، كما لم أقل لك : إنّ كلّ الشيعة هم

_________________

(١) نقل الرواية كاملة السيّد ابن طاووس في « الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف » : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، وانظر موضع الشاهد في « الشيعة في أحاديث الفريقين » للسيد مرتضى الأبطحي : ٢٣٦ ، نقلاً عن « السيف اليماني الصقيل للسيد محمد بن يوسف التونسي الشهير بالكافي : ١٦٩.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ١٨٨.

٨١

الناجون يوم القيامة ، لأنّنا بصدد الحديث عن فرقة ناجية واحدة.

قلت له : كل ما قلته معقول ، ولكن أخبرني عن الفرقة التي أخذت معتقداتها ؟

قال : الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سيكون عليكم اثنا عشر إماما ».

قلت : الحديث يقول اثنا عشر خليفة (١).

قال : ليس هنالك فرق ، المهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي خلّفهم بأمر ربّه ، ليكونوا قادة الدولة الحديثة العهد ، وهداة الأجيال القادمة ، وليس الخلفاء المزيفون الذين ادعوا كذباً أنّهم خلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو لم يخلّفهم ، وهم بأنفسهم قالوا : إنّه لم يخلّف ، لإزاحة الخلفاء الحقيقيين ، فلماذا إدّعوا أنّهم خلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس لهم بيّنة واحدة على دعواهم تلك.

قلت : والسنة النبوية عند مَنْ إذاً ؟

قال : هل تعتقد أنّ هذا الخالق الحكيم الخبير ، الذي أتقن كلّ شي صنعه ، قد أنزل تشريعاً متكاملاً ; ليحكم الناس ، ثمّ لا يأخذ بعين الاعتبار مسألة حفظ دينه ، وهو الذي أشار إليها في ثلاث آيات : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٢). وقوله : ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) (٣). وفي الثالثة : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٤). إنّ السنّة النبوية التي هي تفسير ما جاء في الكتاب العزيز ، هي عند الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، أهلُ بيته عليهم‌السلام الذين هم أوعى الناس بما جاء به سيّدهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليست السنّة عند كلّ من هبّ ودبّ من أمثال أبي هريرة ، والمغيرة بن شعبة ،

_________________

(١) انظر مثلا صحيح مسلم ٦ : ٣ ومسند أحمد ٥ : ٨٩.

(٢) الحجر : ٩.

(٣) المائدة : ٤٤.

(٤) فاطر : ٣٢.

٨٢

وعمرو بن العاص ، وسمرة بن جندب ، والوليد بن عقبة ، وكعب الأحبار ، ومن لفّ لفّهم من عبيد الدنيا ، وتُبّع الأهواء والشهوات ، والتاريخ حافل بمخازيهم ، وجرائمهم في حقّ الدين وأهله.

سكتّ لحظة متسائلاً في قرارة نفسي ، ومستعرضاً من جديد حديث انقسام الأمّة ، فتبيّن لي أنّ صاحبي على حقّ ، التفت إليّ محمد فرأى وجومي ، واستغراقي في الفكر ، وقال : وأزيدك على ذلك أنّ الشافعي ـ أحد أصحاب المذاهب الأربعة ، والذين عاشوا في القرنين الثاني والثالث ، ولم يجمعهم في منظومة واحدة سُميّت بأهل السنة والجماعة ، غير حُكّام البغي والظلم الذين أوقفوا المذاهب على أربعة فقط ، وذلك في القرن الخامس ، وحكموا على البقيّة بالخروج على السلطان ـ قد خرج من فقهه الأول ، إلى فقهه الثاني لمّا انتقل إلى مصر ، وقال قصيدته الشهيرة بخصوص ذلك :

ولمّا رأيت الناس قد ذهبت بهم

مذاهبهم في أبحر الغيّ والجهل

ركبت على اسم الله في سفن النجا

وهم أهل المصطفى خاتم الرسل

وأمسكتُ حبل الله وهو ولاؤهم

كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل (١)

إذا افترقت في الدين سبعون فرقة

ونيفاً على ما جاء في واضح النقل

ولـم يك ناج منهـا غير فرقة

فقل لي بها يا ذا الرجاحة والعقل

أفي الفرقة الهلاك آل محـمد

أم الفرقة التي نجت منهم قُل لي

فإنْ قلت في الناجين فالقول واحد

وإنْ قلت في الهلاك حفت عن العدل

إلى أن قال أخيراً :

رضيتُ علياً لي اماماً ونسله

وأنت من الباقين في أوسع الحلّ (٢)

_________________

(١) رشفة الصادي ، شهاب الدين الحضري : ٥٧.

(٢) نقلها النقوي في خلاصة عبقات الأنوار ٤ : ٢٩ ، عن العجيلي في ذخيرة المآل.

٨٣

ثُمّ هل لي أنْ أسألك ، بماذا كان يتعبد أصحاب القرون الثلاثة الأولى ؟ ولم تظهر المذاهب الأربعة إلّا من بعدهم ؟ وهي القرون التي عاش فيها الأئمة الهداة من أهل البيت عليهم‌السلام.

قلت له : حكى بعض الجهلة عندنا ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى حنفيّاً ومالكيّاً وشافعيّاً وحنبليّاً ، هذا ما وصل إليه التردي في هوّة الجهل السحيقة. أمّا عن الشيعة فمن الذي سماهم هكذا إذاً ؟

قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي سمّاهم شيعة ; لأنّ معناه لا يتعدى الاتباع والاقتداء والموالاة ، محاكياً القرآن في تسمية إبراهيم عليه‌السلام من شيعة نوح عليه‌السلام ، قال تعالى في سورة الصافات : ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ) (١). فقال مخاطبا عليا عليه‌السلام عند نزول آية ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (٢) : « هو أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، ويأتى عدوّك غضابي مقمحين » (٣).

ثمّ أخيراً ، يُعدُّ إسلام أهل البيت عليهم‌السلام الخطّ الوحيد المتصل بعصر النبوّة ، فعليّ إمامنا الأوّل عاش مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما غيره من الفرق والمذاهب قد عاش أفضلها حالا في الثلث الأوّل من القرن الثاني وهو أبو حنيفة.

شكرت صاحبي على ما أبداه من رحابة صدر ، وعلى ما قدّمه لي من معلومات ، نوّرت لي درب الهداية إلى خط أهل البيت عليهم‌السلام ، وانصرفت عاقداً العزم على مزيد الالتزام بذلك الصديق ، حتّى آخذ عنه بقيّة معالم ديني ، وأركان عقيدتي ، ولم يفرّق بيننا غير مغادرتي مدينة قابس التونسية إلى مدينة توزر بالجنوب الغربي التونسي.

_________________

(١) الصافات : ٨٣.

(٢) البيّنة : ٧.

(٣) شواهد التنزيل ٢ : ٤٦١ ، ونظم درر السمطين للحافظ الزرندي : ٩٢.

٨٤

الحلقة السابعة

الكذب على الشيعة هو الذي شيّعني

أمّا محمد فقد قال : كنت إمرئاً متمنطقاً ومتعقلاً ، لا أُثبّتُ شيئاً ولا أنفيه إلّا بالدليل الحقيقي والحجّة التي تدحض الشكّ ، وتحوله إلى يقين ، ذلك لم أكن أعتبر نفسي منذ أن دخلت سنّ التكليف أنّني مالكيّ المذهب ، بل على العكس ، كنت أرى ذلك ترجيحاً بلا مرجح ، لأنّ الانتماء إلى فكرة تحتاج إلى إثباتها علميّاً وعمليّاً ، وهو أمر غير متوفّر في أغلب المتدينين بالوراثة ، وأنا أرفض هذا المنحى وأستهجنه ، فكان انتمائي إلى الإسلام بمفهومه العام ، وليس إلى مذهب معين من المذاهب المتداولة بين المسلمين.

وفوق ذلك ألزمت نفسي بأنْ أدرس التاريخ الإسلامي ، من أيّ مصدر إسلامي ، لعلّني أجد بين طيّاتها ما يرشدني إلى إتّباع الحقّ ، وكان تاريخ الأمم والملوك للطبري وتاريخ ابن الأثير ( الكامل ) وكتابه النهاية أيضاً ، ومروج الذّهب للمسعودي ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ، باعتبارها أقدم الكتب التي اعتمد رواياتها القدامى والمتأخرون فقررت تتبع وقراءة تلك الكتب لعليّ أحصلُ على مبتغاي.

كان اهتمامي منحصراً في أحداث القرن الأول من الهجرة المباركة من بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى نهاية القرن الأول ، وكانت مسألة الحكومة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة لي محسومة بمبدأ الشورى ، فقد كنت أراها تتماشى وعقلية العصر في التنفر من كلّ ما يرمز من قريب أو بعيد لمبدأ الوراثة والملك ، ولأنّني لم أكن مطّلعاً على النصوص التي وردت في ديننا الإسلامي ، والتي كانت تخصّ الوصيّة والتعيين ،

٨٥

وكلّ ما استقرّ في ذهني منها مُأوّل تأويلاً خاطئاً من طرف علماء خطّ الشورى والخلافة ، كحديث منزلة علي عليه‌السلام من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي حصروها في الخلافة في الأهل فقط.

استمررت في الدراسة والبحث إلى أن عثرتُ على ضالتي ، وحيث وجدتُ وثيقة هامة ، احتوت في مضمونها على الدليل الذي كشف التزييف والكذب في دين الله تعالى ، تقول الوثيقة :

« كتب معاوية بن أبي سفيان إلى عمّاله بعد عام الجماعة ( سُمّي ذلك العام بعام الجماعة لاستتباب الأمر إلى بني أمية بعد مقتل الإمام علي عليه‌السلام ، وخذلان الناس لابنه الحسن عليه‌السلام إلى درجة أجبرته على الصلح ) : أنْ برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كل منبر يلعنون عليّاً ، ويبرأون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ... وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق : ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة كتب إليهم : أنْ انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم. ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات.. ثم كتب إلى عمّاله : إنّ الحديث في عثمان قد كثُر وفشا في كل مصر وفي كلّ وجه وناحيّة ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحبُّ إليّ وأقرُّ ليني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله ، فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى ، حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وأُلقي إلى معلمي

٨٦

الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله » (١).

الكذب كما نعرف جميعا ، أسلوب بذيء قذر وخسيس ، حذّر منه النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وشدّد على خطورته ، معتبراً أنّ المؤمن لا يكذب أبداً ، وإنّما هي ظاهرة كامنة في فئة المنافقين ، الذين ليس لهم همّ يحملونه غير قلب الحقائق ، وباعتبار أنّ المؤمن لا يكذب كما صرّح بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد حكم الكاذب على نفسه بنفسه ، ونقلها من حالة الإيمان المرجو ، إلى مرض النفاق الذي لا دواء منه.

هالني الأمر ، وصدمت منه صدمةً شديدةً ، ليس ممّا اقترفه معاوية وحزبه من طلقاء بني أميّة ، فأولئك لا يجهل حالهم إلّا من كان مثلهم ، ولكن صدمتي جاءت من الأمّة ، التي انساقت وراء باطل صنعه أعداءها ، ومضت على السكوت عليه وقبوله ، وشخصُ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما زال عالقاً في أذهان من بقي من الصحابة في ذلك العصر ، وصوته المبارك ما زال يتردّد صداه في آذانهم وحوافظهم. فأين هؤلاء في تلك الفترة ؟ ولماذا لم يفعلوا مثل ما فعل عمّار بن ياسر ، عندما قاتل معاوية وهو ابن تسعين سنة ، إلى أن استشهد ؟ أين أبناءهم الذين يفترض أنّهم تربّوا على أيد لامست براهين الوحي ، وعانقت قيم الدين الحنيف بدون واسطة ؟ أين التابعون لهم الذين عايشوا الظلم والظالمين ، وركُن من ركُن منهم إليه ، وسكت من سكت عنه ؟ لماذا ركنوا إلى زيف معاوية ؟ ولماذا سكتوا على ظلمه ؟ ولماذا نصروا باطله ولم يحاربوه ؟ لماذا تزلّف منهم متزلّف لمعاوية ؟ ولماذا وصل الأمر بعبيد الله بن عمر إلى أنْ قُتل في صفّ الذين أخبر عنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهم بغاة على

_________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٤.

٨٧

علي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وما قام به عمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وسمرة بن جندب ، وأبو هريرة ، لا يبعد عن ذلك الولاء الأعمى. ولماذا بلغت هشاشة العقيدة في ذلك العصر وما تلاه ، إلى أنْ يُسبّ علي عليه‌السلام وأهل بيته على منابر الإسلام ، والسابّ لعلي عليه‌السلام كالسابّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد احتجّت أمّ المؤمنين أمّ سلمة على ذلك بقولها لأبي عبد الله الجدلي : « أيسبُّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكم ؟ قلت معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول من سبّ علياً فقد سبني » (١).

ولماذا بلغ الحال بالأمّة إلى ذلك المستوى من التنكّر لعلي عليه‌السلام وحال علي عليه‌السلام من أوضح الواضحات عند من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان ؟

أسئلة تقاطرت عليّ من كلّ جانب ، وألحّت في الإجابة التي لم تكن بالطبع عند أولئك المؤرخين الذين نقلوا جملة من الأخبار المتراوحة بين الصحيحة والمحرّفة ، والواقعة والموهومة ، والثابتة والواهية. هذا ولم يكن همّهم غير نقل الروايات التي مثلت انتماءهم الفكري والعقائدي ، وشحن كتبهم بها مهما كانت نسبة صحتها ، وقد أساء الطبريّ إلى نفسه ومن تبعه في اعتماد رواياته المتعلقة بأحداث ما اصطلح عليه بالردّة إلى ما بعد شهادة الإمام علي عليه السلام ، فقد كان عمدته في تلك الروايات ، عدد من الكذابين والوضاعين من المشهورين والمجهولين ، منهم سيف ابن عمر الضبيّ ، الذي أجمع علماء الجرح على أنّه كذّاب.

ثم انتقلت لمزيد من التأكد إلى الكتب الروائية ( البخاري ، مسلم ، الترمذي ، النسائي ، أبو داود ، ابن ماجة ) فحصلت عندي قناعة بعد ذلك ، بأن أرفض كلّ الكتب الروائية التي أُنزلت منزلة القداسة ، ووُصفت بأنّها أصحّ الكتب بعد كتاب

_________________

(١) مسند أحمد ٦ : ٣٢٣. وانظر سنن النسائي ٥ : ١٣٣ ، والمستدرك ٣ : ١٢١.

٨٨

الله ، وقالوا بأنّ الأمّة قد تقبّلتها بالرضا والقبول ، وأتهمها جميعاً بنقل التحريف والترويج له ، والكذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ ناقل الكذب ومتبنية كقائله ، خاصّة المفضوح منه ، الذي يمسّ من مقام الخالق سبحانه وتعالى ، ويحطّ من منزلة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويشين الدين الإسلامي عقيدة وشريعة.

أمّا الأمثلة التي تشير بوضوح إلى بصمات تحريف معاوية ومَنْ جاء بَعده من بني أُميّة ، شجرة التحريف الملعونة في القرآن ، كثيرة لكنني سأقتصر على البعض منها إثباتاً للحجّة ، وطلباً للاختصار :

الصحيح : عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما » (١).

المكذوب عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي بكر وعمر : « هذان سيدا كهول أهل الجنّة من الأولين والآخرين إلّا النبيين والمرسلين » (٢).

الصحيح : عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بسد الأبواب إلّا باب علي (٣).

المكذوب : عن عروة عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بسد الأبواب إلا باب أبي بكر (٤).

الصحيح : عن ابن بريدة عن أبيه قال : « كان أحب النساء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة ، ومن الرجال علي » (٥).

المكذوب : عن أنس قال : قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك ؟ قال : عائشة. قيل : من الرجال ؟ قال : أبوها (٦).

_________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٦٧.

(٢) ضعفاء العقيلي ٢ : ٣٤٥.

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٣٠٥ ، وعدّه الكتاني من الاحاديث المتواترة في نظم المتناثر من الحديث المتواتر : ١٩١.

(٤) سنن الترمذي ٥ : ٢٧٨.

(٥) سنن الترمذي ٥ : ٣٦٠ والمستدرك ٣ : ١٥٥.

(٦) سنن الترمذي ٥ : ٣٦٦.

٨٩

يضيف محمد : إنّ من لم يقرأ ما أقدم عليه حزب الطلقاء الذي استولى على زمام الحكومة الإسلامية ، بعد تمهيد من أصحاب السقيفة ، من تحريف وكذب وتشويه للدين ، لا يمكنه أن يقف على حقيقة منشأ التحريف ، ففي النص الذي نقلته نجد أنّ معاوية من أجل أنْ يستتب له الأمر ، أقدم في مرحلة أولى على إشاعة ظاهرة سبّ علي عليه‌السلام وأهل بيته ، والساب لعلي هو ساب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتمّ له ذلك ، ثمّ أقدم على خلط النصوص الصحيحة بالوهم الذي شجّع عليه بالأموال ، ثمّ سعى في مرحلة ثالثة إلى منع النصوص الصحيحة التي كانت متعلقة بالإمام علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، وفي مرحلة أخيرة إلى التنكيل بمن ثبت لدى السلطة أنّه من أهل بيت الإمام علي عليه‌السلام أو من شيعته ، في عصر لم يكن هناك سوى فريقين يسعيان إلى تحقيق غاياتيهما المتباينتين ، علي وشيعته ، ومعاوية وشيعته ، ولا اعتبار للفريق الثالث الذي لم يكن يمثّل شيئاً ، ولا وزن له ; لأنّ أفراده قّلة قليلة أسكنها الخوف واللامبالاة فتبنت السكوت والانطواء ، بل نجد إلى الآن في معسكر الشورى والخلافة ، من لا يزال رافعاً شعار العن يزيد ولا تزيد (١) ، وهو مستمر في اعتماد معاوية بن أبي سفيان صحابياً جليلاً يطلب له من الله الرضا ، وهو المحارب والساب والقاتل لقربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومواليهم.

أثناء بحثي عن الحقيقة ، التقيت بأحد زملاء الدراسة ، وكان معه كرّاس دفعني الفضول إلى سؤاله عنه ، فقال : هو كتاب قد سحبه أحد الأصدقاء من الانترنيت لأحد الكتاب ، فرجوته رجاءً حاراً أنْ يعيرني إيّاه ، ولمّا رأى اهتمامي وتشبثي بالكُرّاس ، لم يمانع من ذلك ، على شريطة أنْ لا أتأخر في قراءته ، فوافقته وأخذت منه الكرّاس شاكراً ، وانصرفت إلى البيت استعجل الخطى.

وفي البيت بدأت في تصفح الكُرّاس ، فذُهلت للمستوى التعيس الذي وصل

_________________

(١) بل نجد من يرفض لعن يزيد ويصفه بأمرة المؤمنين مع وضوح حاله.

٩٠

إليه الكاتب والناقل من الانترنيت ، الكتاب عنوانه « الرافضة أو الإماميّة الاثني عشريّة أو الجعفريّة » ، لم يكن ذا منهجية محدّدة في تعامله مع أكثر الموضوعات التي تناولها ، ولا روعي فيه تثبيت المصادر الواردة فيه ; لأنّ كلّ صفحاته قد ذكرت مصادرها من (١) إلى (٥) تقريباً ، واشتركت تلك الترقيمات في فهرست المصادر ، فلم تعد تستطيع تمييز مصدر من غيره. هذا من الناحية الفنية ، أمّا من حيث المحتوى فلم أقرأ في حياتي مهزلة سُميّت كتاب غير ذلك الكرّاس.

للكراس سبعة مباحث ، ظاهرها يوحي بأنّ الكاتب وكتابه من أهل الاختصاص ، لكنّك عندما تقرأه لا تخرج بانطباع حسن عنهما ، لأنّك ستكتشف تهافت الكاتب على إثبات أنّ عقيدة المسلمين الشيعة ، هي إلى اليهود أقرب منها إلى الإسلام ، ومن أجل إضفاء التقوى وخشية الله تعالى على نفسه وعلى كتابه ، بثّ الكاتب عددا من الآيات القرآنية التي يستشفُّ القارئ منها بشكل إيحائي أنّ الكاتب على حقٍّ في جميع أقواله ، وأنّ من كتب عنهم على الباطل مطلقاً ، وكأنّ الآيات القرآنية التي ذكرها لا تعنيهم ، أو هي ليست في مصاحفهم.

سعى الكاتب إلى التأثير في محصّلة القارئ ، وجعلها تنساق معه في قناعاته ، التي ظهرت من كلامه أنها لا تتزحزح قيد أنملة ، فرأيه المسبق في تكفير المسلمين الشيعة ، لم يكن ليسمح له بأخذ آراء من ينتمون حتّى إلى مذهبه الأشعري ، فلا الدكتور طه حسين ، ولا الدكتور علي الوردي ، ولا الدكتور مصطفى كامل الشيبي ، ولا الدكتور علي النشّار ، ولا الدكتور حامد حفني داود ، ولا عبد الله فيّاض ، أقنعوه برأيهم الذي استقرّ على أنّ شخصيّة عبد الله بن سبأ اليهودي ، لا يمكن أنّ تكون حقيقيّة ، وقد اختلقها معاوية وحزب الطلقاء ، لتكون أكبر تشنيع على علي عليه‌السلام وشيعته ، وتشبّث المتشبثين بها إلى الآن ، وهي تحكي حالة الغريق الذي يسعى للنجاة بأيّ شكل ، ويروم الخلاص بأيّ طريق.

٩١

قلت له : لماذا تأنس في مطالعتك لكاتب مجهول لم يذكر صاحبه اسمه على الكتاب ؟

فقال لي : إنّ الموقع الذي سُحب منه الكتاب ، إسلامي فيه ما يحتاجه المسلم من تفاسير وتلاوات للقرآن ومصادر للسنّة النبوية.

قلت له : ومع ذلك فلا بد من أن تأنس إلى مصدرك بمعرفة هويّة الكاتب ، على الأقل ليطمئنّ قلبك وتعرف عمّن تقرأ.

التفت محمد إلى نصيحتي فوجدها منطقيّة فقال : كلامك صحيح مائة بالمائة ، أنا لم ألتفت إلى هذه الجزئية رغم أهميتها ، لقد أسهبتني المظاهر الإسلاميّة التي عليها الموقع على الانترنيت ، فنقلت الكتاب معتقداً أنّ فيه فائدة.

قلت له : لكنّك وقعت من حيث لا تعلم في شبكة من أدعياء العلم ، هدفها نشر الكذب بين أفراد الأمة الإسلامية ، وتعميق الهوّة الاعتقادية بينهم ، والتحريض على التكفير ، وأكثر من ذلك فقد صدرت فتاوى تبيح قتل المسلمين الشيعة باعتبارهم كفاراً ومشركين.

قال محمد : فبماذا تنصحني يا أخي ؟

قلت له : أنصحك وأنصح نفسي ، بأن نعطي لهؤلاء الذين اضطهدوا (١٥) قرناً فرصة ليَعبّروا عن فكرهم بمنتهى الحريّة ، فموائدهم في هذا المجال مفتوحة لكلّ من يروم الحقيقة ، نحن الآن في عصر العلوم والتكنولوجيا ، والقرآن الذي هو دستورنا الأصل ، يحثُّ على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، وليس بالتي هي أخشن ، فلنستمع إليهم ، ولنقرأ عن تواريخهم وكتاباتهم من علمائهم ، وليس من أعدائهم ، ولنشاهد ما يُقدّمونه اليوم من أمثلة ونماذج قد تكون النواة لعودة الدين من غربته ، لنقول كلمة الحق والعدل فيهم.

وأضفت إليه قائلا : إنّ الكذب ، والادّعاء بالباطل على الشيعة هما اللذان أخذا

٩٢

بيدي إلى التشيّع ، ودعاوى الافتراء هذه قد استند عليها أغلب المحاربين لشيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهي في مضامينها لا تستند إلى دليل منطقيّ ، ولا تقف بحجّة ثابتة ، كلّ ما تشتمل عليه هي جملة من الأباطيل الواهية ، والظنون التي لا ترقى إلى الحقيقة مهما خلصت ، والكذب الذي ينمّ عن نفاق دفين لا علاج له.

لعل أكبر أكاذيب هؤلاء الأدعياء ، التي يراد بها صرف المسلمين عن حقيقة التشيّع لأهل البيت عليهم‌السلام ، وإبعادهم نهائيّاً عن البحث والتساؤل والنظر ، في منهج أهل البيت عليهم‌السلام ـ والذي كان محلّ سخط وتبرّم ونقمة ، من قبل الطغاة والظالمين على مرّ العصور ـ كذبتان كبيرتان ، واحدة موجهة إلى البسطاء من قليلي الثقافة والعلم ، وترتكز على الادّعاء بأنّ جبريل أخطأ في الوحي ، وعوض أنْ ينزل على عليّ ، نزل على محمّد. نعوذ بالله تعالى من هذا البهتان ، ونبرأ إليه من مخترعه الأفّاك ، ولا أخاله إلّا شيطاناً إنسيّاً مقرّباً من إبليس لعنه الله ، جاء بهذه الفرية ليُنفّرَ الناس من موالاة أهل البيت عليهم‌السلام والتشيّع لهم.

أمّا الأخرى فهي موجّهة إلى الذين لهم ثقافة وعلم ، وتقول : إنّ عبد الله بن سبأ اليهوديّ هو الذي اخترع التشيّع عقيدة ، وإنّ ذلك حصل في عصر الإمام علي عليه‌السلام.

والظاهر أنّ أصحاب هذه الأكاذيب ومن يقف معهم فيها ، ليس لهم دين ولا عقل ; لأنّ الذي دفع الإمام عليّ عليه‌السلام إلى حمل السلاح ، والوقوف في وجه ثلاث فرق ، هو التحريف الذي بدأ يدبُّ في جسد الإسلام ، وينتقل إلى عقول المسلمين بكلّ خبث ودهاء ، فالناكثون وهم طلحة والزبير ، الذين بايعوا عليّاً عليه‌السلام ، ثمّ نكثوا بيعتهم ، واصطحبوا معهم في خروجهم على الإمام عليه‌السلام عائشة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليوهموا الناس بأنّهم على الحقّ ، وقد استطاعوا أنْ يخدعوا كثيراً من الأعراب ، ويستميلوهم إلى صفّهم في حربهم القذرة ، من أجل الاستيلاء على السلطة ،

٩٣

والقاسطون وهم أصحاب معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم وحزبهم لعنهم الله ، الذين قلبوا الحقائق ، واستبدلوا الفضائل الحقيقيّة للصفوة الطاهرة من أهل البيت عليهم‌السلام ، بفضائل زائفة لبعض الصحابة ، ليلبسوا على الناس دينهم فلا يهتدون سبيلا ، والمارقون هم أصحاب ذي الثدية من الخوارج ، الذين رأوا رأياً في الحكومة لم يكن صائباً ، ثمّ حمّلوه علياً عليه‌السلام وانقلبوا وحاسبوه عليه ، ليسوا أكثر جرماً من عبد الله بن سبا ، الذي ادعى مختلقوه أنّه دعا إلى عقيدة هي خليط من اليهوديّة والمجوسيّة ، على أساس أنّها الدين الحقّ ، على مرأى ومسمع من علي عليه‌السلام ، ولو كان ذلك الرجل الأسطورة موجوداً لاشتدّ في طلبه الإمام علي عليه‌السلام ،

ولقد قرأتُ بعد ذلك كتاب عبد الله بن سبا ، للباحث والمحقّق السيّد الجليل مرتضى العسكري ، فأثلج صدري بتحقيقه وبراهينه واستدلالاته ، وأتى على تلك الأسطورة فجعلها خاوية على عروشها. والكتاب متوفر ومتداول بين الناس اليوم.

أمّا ما قيل من أنّ الشيعة يسبّون الصحابة ، فهو مهزلة كمهزلة إخوة يوسف عليه‌السلام ، عندما جاؤوا أباهم بقميص أخيهم وعليه دم كذب زاعمين أنّ الذئب قد أكله ، أو كالذين رفعوا قميص الخليفة الثالث طالبين القصاص من قتلته ، وهم من حرّض عليه ، وسكت عن نصرته إلى أنْ قضى.

وإنّي أعجب من الذين يقرؤون القرآن آناء الليل وأطراف النهار ، فيمرّون بعديد من الآيات التي تفضح حال الكثير من الصحابة ، ولا يقولون إنّ القرآن يسبّ عدداً من الصحابة. وأزداد عجباً من الذين يمرّون على أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المتعلقة بالحوض ، والتي جاء في بعضها أنّ عدداً كبيراً من الصحابة سيكون مآلهم النار يوم القيامة ، ولا يقولون إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يسبّ الصحابة ويضع من

٩٤

مقامهم (١).

وأكثر من ذلك أقول لهؤلاء الذين جاؤوا بهذه الفرية والصقوها بالشيعة ، أيّهما أعظم جرماً ، وأكبر ذنباً ، سبّ صحابي أم سبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

بالطبع سيقولون لك سبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم ، لكنّك عندما تُذكّرهم بأنّ عليّاً سُبّ على منابر المساجد الإسلامية دهراً طويلاً ، بتخطيط وتنفيذ من عدد ممن يسمونهم صحابة ، وسبّ علي عليه‌السلام ، هو سبّ للنبيّ بلا فرق حسب النصّ الذي ذكرته (٢) ، والسابّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خارج عن ملّة الإسلام بلا شكّ ، فلماذا تتهمون الشيعة بسبّ الصحابة ، وأنتم تأوون وتباركون وتقدّسون وتطلبون الرضا من الله إلى البارزين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته بالسبّ والحرب ؟

وإذا الذين أرادوا بالشيعة كيداً ، قد رُدّت مكائدهم إلى نحورهم ، وخابت جميع مساعيهم الباطلة ، كالزبد الذي يذهب دائماً جفاء ، وأمّا عليّ وشيعته فيمكثون في الأرض رواسي ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير ، جيلاً بعد جيل ، وعصراً بعد عصر ، يُثبّتون للناس مقامات العزّة والشرف والتضحية والإباء ، تأصيلاً للقيم الإسلاميّة العليا ، وتحقيقاً لأمر الله تعالى في الثلّة المؤمنة ، التي ستبقى دوماً ظاهرة إلى أنْ يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.

أبدى صديقي رغبة في اقتفاء اثري في البحث عن الحقيقة ، وأُعجب بالأدلة التي عرضتها عليه ، فزودته بكتاب الفصول المهمة في تأليف الأمة ; ليكون منطلقا له في معرفة الحقيقة ، والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً.

_________________

(١) انظر مثلا صحيح البخاري ٤ : ١١٠ ، ٧ : ٢٠٧ ، وصحيح مسلم ٧ : ٦٧ ـ ٦٨.

(٢) كما تقدم وهو في مسند أحمد ٦ : ٣٢٣ ، وسنن النسائي ٥ : ١٣٣ ، وغيرها.

٩٥

الحلقة الثامنة

شيّعتني آية الوضوء

حمد أحد الأصدقاء القدامى ، الذين تربطني بهم أواصر أخوّة وصداقة ، لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى ، تعرّفت عليه هو أيضا في العمل ، فكان بالنسبة لي ، الإنسان الذي يستطيع المرء أنْ يفضي إليه بمكنون سرّه ، دون أنْ يخشى شيئاً ، صراحته التامة زادت في تفرّد شخصيته ، وثقته بنفسه رفعته بين المحيطين به ، فزادته احتراما وتقديراً ، كان على الموعد معنا ، وأراد أنْ يدلي بشهادته عن تشيّعه ، ويتحدّث عن السبب الذي دفعه إلى ترك مذهب أسرته ومجتمعه ، والانتقال منه إلى خطٍّ آخر وفكر آخر ، فقال :

منذ نعومة أظافري ، كنت مغرماً بمشاهدة صورة أمير المؤمنين عليه‌السلام المعلّقة في بيتنا ، تلك الصورة التي انتشرت في عدد من بيوت القرية ، والتي ظهر فيها فارسان قد أهوى الأوّل بسيف ذو ذبابتين على الفارس الثاني فقدّه نصفين ، كتب على الأوّل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والثاني رأس الغول ، كناية عن عمرو بن ود. وعلى الرغم من أنّ الصورة لا تتميز بالدقّة والإتقان في التصوير ، إلّا أنّها كانت تمثّل رمزاً إسلاميّاً ، وقمّة من قمم البطولة ظلّ باقياً على مدى قرون عديدة ، متحديّاً كافة الأساليب التي واجهته لمحو آثاره.

كان والدي وخالي من خريجي الزيتونة ، وقد درسا المذهب المالكي باعتباره المذهب الوحيد المتداول في البلاد ، وتحت إشراف ورعاية وعناية سلطة الباي ، الذي يعتبر نائب الخليفة العثماني ، حتّى أواخر عهد الاستعمار الفرنسي ، وكنت تبعاً لذلك الانتماء متعبداً وفق التربية والتعليم الذي تلقيته من والدي ، تابعاً له في

٩٦

تقريره نظراً لصغر سنّي ، ولمّا كبرت ، بدأت الكثير من الاسئلة والاستفسارات تتوارد عليّ حسب الحدث والظرف.

من ذلك مثلاً ، أنّني كلّما مررت بآية الوضوء في سورة المائدة ، تساءلت عن حقيقة تفسيرها ، إنْ كانت تحتاج إلى تفسير ؟ حتّى قلت في نفسي يوماً : تُرى هل كانت الغاية من قوله تعالى ( وَامْسَحُوا ) هي قوله ( اغْسِلُوا ) ، وطالما أنّ الآية في ظاهرها تفيد مسح الرجلين فلماذا نغسل أرجلنا ؟ ومن أين فهم الأوائل حكم غسل الرجلين ، والآية لا تفيد ذلك أبداً ؟ بل هي تفيد المسح ، وعلمْ النحو والإعراب جاءا متأخرين جدّاً عن تلك الفترة ؟ وحتّى الإعراب الذي ذكره الرازي في تفسيره الكبير ، وفصلّ فيه القول على القراءتين النصب والجرّ لآية الوضوء ، خرج بنتيجة أنّهما يفيدان المسح.

بقيت على ذلك الترقّبُ والتردّد ، إلى أنْ عدت يوماً إلى بيت العائلة في قرية من قرى الجنوب التونسي ، فوجدت والدتي بصدد البحث عن وثائق تخصّ والدي المتوفى رحمه‌الله فرأيت كُتباً مخطوطة كان والدي يحتفظ بها في عناية تامّة بأحد الصناديق المقفلة ، تناولت تلك المخطوطات فوجدت من بينها كتاب موطأ مالك صاحب المذهب الذي كنت أنتمي إليه ، ودفعني الحرص على اكتشاف خيط من الحقيقة أنْ أبحث فيه عن شي يمكن أن يفيدني في تساؤلي ، ويرفع عنّي حيرتي بخصوص حكم مسح الرجلين في الوضوء ، وبعسر شديد بدأت أبحث فيه نظراً لصعوبة قراءة الكتابة التي كانت جميلة ولكنّها غير واضحة بالنسبة لي ، إضافة إلى حرصي على عدم الإضرار بأوراق الكتاب القديمة أثناء تصفحي لها ، بعد المقدمة وصلتُ إلى كتاب الطهارة ، وكان متصدّراً للكتاب ، وكانت المفاجأة متمثلة في عثوري على تعليق لا أدري من كتبه ، يقول : بأنّ الغسل هو حكم الرجلين في الوضوء ، وأنّ النبي قد غسل رجليه في الوضوء ، والذين يقولون

٩٧

بمسح الرجلين في الوضوء ، هم قلة قليلة من الروافض ، والملقّبون أيضاً بالشيعة. تنفست الصعداء ، وشكرتُ من أعماقي صاحب التعليق ، الذي أرجو أنْ يكون والدي المرحوم ، أنا الذي كنت معتقدا أنّني وحدي في اعتقادي بصحة ظاهر آية الوضوء ، ولا تحتمل الفلسفة والتأويل ، ومنذ ذلك الحين بدأت ألتفتُ إلى كل شي له علاقة بالرفض والتشيّع ، فكانت الثورة الإسلاميّة في إيران إحدى اهتماماتي ، فوجدت فيها مخزوناً مختلفاً عن الذي كنت أعيش وسطه ، وزادني تحقّقاً ويقيناً معرفة الأخ محمد الذي تحادث معي ، وبيّن لي عدداً من المسائل التي كنت متحيّراً فيها ، ومدّني بكتب زادتني بصيرة في اتّباع خطّ أهل البيت عليهم‌السلام ، فآية الوضوء مثلاً ، التزم فيها الشيعة بالمسح ، امتثالا لأمر الله تعالى في حكم الرجلين في الوضوء ، وإتّباعاً لتطبيق النبيّ الأكرم ، وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام الذين أخذوا عنه ذلك الحكم ، ويؤيده أنّ التّيمم الذي هو بديل للوضوء يفيد المسح ، وبمقارنته بآية الوضوء كما صرّحت الأخبار بذلك ، نجد أنّ المغسول في الوضوء يمسح في التيمّم ، والممسوح في الوضوء يسقط في التيمّم (١) ، فسقط بذلك الرأس والرجلان ، هذا مضافاً إلى أنّ عليّاً وأهل بيته عليهم‌السلام ، كانوا يمسحون أرجلهم في الوضوء ، ولم يثبت غسل الرجلين إلّا عبر طغاة بني أميّة ، وجلوازهم الحجّاج بن يوسف الثقفي ، الذي أخرج الطبري في تفسيره للآية ، ما يفيد تورطه في إجبار الناس على غسل الرجلين في الوضوء ، إمعاناً في إبطال آثار علي عليه‌السلام ، كأنّما آثار علي عليه‌السلام مخالفة للإسلام.

فقد أخرج الطبري بسنده إلى حميد قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ، إنّ الحجّاج خطبنا الأهواز ونحنُ معه ، فذكر الطهور ، فقال : « اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، إنّه ليس شيء من

_________________

(١) تفسير الطبري ٥ : ١٥٦.

٩٨

ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما ». فقال أنس : صدق الله وكذب الحجّاج ، قال الله : « وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ».

ولا شك في أنّ الجماعة حين كانوا بالأهواز قد استرابوا من كلام الحجّاج ، لأنّ الرجل ممّا لا يخفى على أحد في الظلم والدموية ، يأخذ المشتبه بالظن والريب ، وعانى منه الشيعة الويلات ، فمثّل بمن مثّل منهم ، سمر وسمل العيون ، وقطع الأيدي والأرجل وصلب على جذوع النخل ، وقطع الرؤوس ، وقتل من قتل ، وسجن من سجن ، وعذب من عذب ، فجلا من شرّه من استطاع أنْ لا تطاله يده.

وفي أثناء عودة أولئك الرجال من الأهواز إلى البصرة ، مرّوا على أنس بن مالك الصحابي ، الذي كان حيّاً وقتها ، وحدّثوه بما قاله الحجاج في خطبته ، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجّاج.

ومع أنّ المالكية قد أثبتوا في وضوءهم حكم غسل الرجلين في الوضوء ، إلّا أنّهم قالوا بخلافه في السفر ، فأجازوا مسح الرجلين ثلاثة أيّام ، وقالوا أيضاً بجواز المسح على الخفين والجوارب ، فتراهم لا يقرّون بالمسح مباشرة على الرجلين ، ثمّ ينقضون ذلك بالقول بالمسح على الحائل.

أما ما أخرجوه من أنّ حمران مولى عثمان بن عفان ، هو الذي أراهم الوضوء الذي رأى عثمان يفعله (١) ، أو ما نقلوه عن عبد الله بن زيد كيف أراهم وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، فذلك لا يعني بالضرورة وضوءه ، طالما أنّ الروايتين مخالفتين للآية ، ومتعارضتين مع ما وافق الكتاب العزيز ممّا جاء عن العترة الطاهرة ـ التي هي ثقله وعدله في الحفظ والبيان والتطبيق.

_________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٤٨.

(٢) صحيح مسلم ١ : ١٤٥.

٩٩

عموماً فإنّ لجوء الناس إلى كلّ من هبّ ودبّ في اخذ دينهم ، دلّ على حالة الحصار والتضييق والحرب التي عانى منها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وحالة الخوف التي عاشها المسلمون من جرّاء بطش بني أميّة لكلّ من يقصد بيوت آل محمد الأطهار ، فذهبوا في طلب الحقيقة بعيداً ، ممّا باعد بينهم وبينها ، وحال الاستنجاد بمَن لا أهليّة ولا علم له دونهم وبلوغ مرامهم.

تعددت بعد ذلك لقاءاتي بالأخ محمّد الذي استفدت منه أيّما استفادة ، باعتباره سبقني إلى اتّباع خطّ أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد أعلمني ذات يوم بأنّه سيذهب إلى العاصمة ، التي تبعد حوالي ٤٠٠ كلم عن بوابة الجنوب ، مدينة قابس ; لاقتناء كتب من معرض الكتاب الدولي ، الذي يقام بالعاصمة ربيع كلّ سنة ، فرجوته أنْ يقتني لي كتباً بمعرفته ، فأبدى استعداده لذلك بكلّ سرور.

بدأت إذاً في تأسيس مكتبة خاصّة بي وكان نواتها مجموعة الكتب التي اختارها لي الأخ محمّد ، والتي كانت متنوعة ومنتقاة حسب احتياجاتي ، أذكر من بينها كتاب المراجعات للسيد الجليل عبد الحسين شرف الدين الموسوي رضوان الله تعالى عليه ، والذي عمّق من شعوري بالطمأنينة والارتياح ، وزاد في قناعتي بصحّة الانتماء إلى إسلام أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفهمت منه أنّ مسألة الحكومة الإسلامية تندرج في خصوصيات المولى سبحانه وتعالى ، باعتبار أنّ الحكم عائد له تقنيناً وحفظاً ، وذلك يستوجب آليات لإقامتها ، كإرسال الرسل ، وتنزيل الوحي عبر الملائكة ، وحفظ الشرائع بواسطة الأئمة الهداة ، الموكلون برعاية الدين والقيام عليه ، والمعبر عنه في إطاره العام باللطف الإلهي. بينما تناولت بقيّة الكتب ، العقائد ، والفقه ، والسيرة العطرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام.

إنّ مسألة تشيعي لأهل البيت عليهم‌السلام ، لم تكن متعلقة بالشرح الذي وجدته على هامش الموطّأ فقط ، فذلك لم يكن سوى نقطة تحوّل ، وسبب قويّ دفعني إلى

١٠٠